الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

امتلأت ماء ، ولم تزل تصعد إلى أن تصير على فم القناة التي ينصبّ فيها الماء جاريا إلى البركة ، فأفرغت الظروف ماءها ، ورجعت الدابّة من آخر المنحدر صاعدة نحو البئر ، فنزلت بتلك الظروف ثانية إلى قعرها ، لتمتلىء ماء وهلم جرا.

وإلى اليوم لم يعتمد أهل الطائف والقرى التي حولها على الآلات البخارية الرافعة ، ولا يزالون على عاداتهم القديمة في رفع المياه ، وقد رغّبتهم كثيرا في استعمال المحركات البخارية ، لما فيها من التوفير ، ومن زيادة الريّ ، وذكرت لهم كيف أنّ أهل المدينة المنورة قد عوّلوا عليها في السنين الأخيرة ، فوجدوا فرقا عظيما في كمية الماء الذي يستفيضونه ، واستخلصوا دوابّهم التي كانت تهلك في هذا الصعود وهذا النزول ، فاعتذروا بأنّ مياه المدينة [المنورة] أغزر من مياه الطائف ، وأنّه مهما رفعت الآلات منها فلا تنزحها ، بخلاف مياه الطائف وجوارها ، فإنّ الآلة البخارية إذا اشتغلت بضع ساعات فوق فم قليب نزحت كلّ ما فيه ، واضطر صاحب البئر أن يعطل الآلة مدة ساعات أخرى ، حتى تجتمع فيها كمية من الماء.

والحقيقة أنّ البداية ـ كما يقال ـ صعبة في كل عمل ، وإلا فإن آبار الطائف وقراها ـ وقد تحصى بالألوف ـ ليست جميعها سواء في النزارة ، ومنها آبار فائضة ، لا تنزحها الدلاء ، ولو تحركت آلاتها الرافعة ليلا ونهارا.

وقد اقتنع بهذه الحقيقة في أثناء وجودي في الطائف صيف سنة (١٣٤٨) صاحب السموّ الأمير فيصل ، نجل ذي الجلالة الملك عبد العزيز بن سعود ـ ونائبه في الحجاز عندما يكون الملك في نجد ـ فأراد أن يشرع هو بالعمل ، ليقتدي به أصحاب السواني ، وبعث إلى جدة ، فاستحضر آلة تدار بزيت الكاز ، وأمر بتركيبها على إحدى آبار شبرا في أول الطائف ، وما أظنّ أصحاب البساتين إلا مقتدين بعمله ،

١٨١

لأنّه إنما عمله لأجل أن يكون قدوة لا غير.

هذا وفي لقيم سدود كثيرة للمياه ، إذا شاهدها الغريب ، ولم يكن يعلم طبيعة الإقليم ، ظنّ أنّها أسوار للحصار ، وحقيقة الحال أنّ الماء في هذه البلاد عزيز ، فإذا جاءت سحابة ملأت السهل والوعر ، وأسالت الأودية ، وقد تكون السحابة لم تستمر أكثر من ساعة ، ثم تعود الأرض فتنشف كأن لم تصبها نقطة مطر. فأهالي جزيرة العرب من قديم الدهر احتاطوا للأمطار بالسدود والحواجز ، لتحويل المياه إلى أشجارهم وزروعهم ، ولعدم ذهاب الماء سدى ، ومن هذه السدود ما كان يضرب به المثل ، وما كانت تحيا به بلدان وقبائل ، مثل سد مأرب مثلا ، وكيفما تقلّب السائح في جزيرة العرب وجد السدود والحواجز والقني بين كبير وصغير ناطقة بلسان حالها أنّه يجب إحراز المياه بقدر الإمكان ، لأنّه لا يتيسّر هنا في كل وقت.

ولقد صادفنا في جوار الطائف كثيرا من السدود القديمة الخربة ، ولحظنا آثار عمران دارسة ، كانت في أصولها جنانا ناضرة ، ومما لا مرية فيه أنّ جزيرة العرب ملأى بهذه الآثار ، ولكن ليس لها كتب تفي بالتعريف بها إلا ما كان من كتب الهمداني (١).

ولقيم موصوفة بجودة الحنطة والحبوب ، ولذلك جاء في «تاج العروس». الحنطة اللقيمية الكبار السّروية ، التي يؤتى [بها] من السراة ، أو نسبة إلى لقيم ـ كزبير ـ بلدة بالطائف موصوفة بجودة البّر والشعير.

وفي «لسان العرب» : لقيم اسم رجل ، ولا أدري أسميت هذه القرية باسم رجل اسمه لقيم ، أم هي تصغير لقم بمعنى طريق؟

وقد جاء ذكر لقيم في تواريخ الطائف ، نقل ابن فهد الهاشمي المكي المتوفى سنة (٩٢٢) في كتابه «تحفة اللطائف ، في فضائل الحبر ابن

__________________

(١) [الحسن بن أحمد صاحب «الإكليل» و «صفة جزيرة العرب»].

١٨٢

عباس ووجّ والطائف» عن كتاب «زيارة الطائف» لابن أبي الصيف مفتي الحرمين : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد كتب إلى ثقيف كتابا يحرّم فيه صيد وجّ ، وكانت ثقيف تتوارث هذا الكتاب ، وتتبرّك به.

قال الشيخ أبو العباس الميورقي الأندلسيّ في كتابه «بهجة المهج» مايلي : قال لي تميم بن حمران الثقفي العوفي : قتل أبي رحمه‌الله تعالى في نوبة قتل الشريف قتادة الحسنيّ لمشايخ ثقيف أهل بني يسار ، من قرى الطائف ، وانتهاب الجيش البلاد ، ففقد الكتاب في جملة ما فقدناه ، وهو كان عند أبي ، لكونه شيخ قبيلته.

ثم قال الميورقي بعد ذلك : قال قاضي الطائف يحيى بن عيسى رحمه‌الله : قتل عيسى أبي في هذه النوبة في قرية لقيم لثلاث عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وستمئة ، وكان موت الميورقي رحمه‌الله تعالى بعد موت ابن أبي الصيف رحمه‌الله تعالى بقليل.

قال ابن فهد المذكور : وقد زرت هذه الآثار المباركة مع والدي رحمه‌الله ، وذلك في سنة خمس عشرة وتسعمئة خلا البئر والموقف اللذين بناحية ليّة ، فلم يتيسّر لي زيارتهما ، ورأيت المسجد الكبير الذي فيه قبر سيدنا عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما خربا ، بل سقطت بعض أروقته وجدرانه ، وعمّر بعضها عمارة ضعيفة ، وكذلك بناء الآثار النبوية التي في وسطه ، وأحدثت به قبور لجماعة صاحب مكة السيد الشريف جمال الدين محمد بن بركات بن حسن بن عجلان الحسني رحمه‌الله تعالى ، منهم أمّ ولده الفارس الشجاع السيد هزّاع ، وقاصده إلى الديار المصرية الشريف عنقا ووبير الحسني ، وليس بالمسجد جمعة ولا جماعة ، والظاهر أنّهما كانا فيه قديما لوجود المنبر فيه ، وكذلك جميع القرى المتصلة بالطائف ، فإني لما زرتها في المرة الأولى لم أر بها جمعة. ثم إنّ الجناب العالي القاضي نور الدين علي بن خالص المغربي المالكي النائب بجدة بعد المقر الحسامي الأمير حسين الكردي

١٨٣

الأشرفي لما توجه إلى جهات الهند لقتال الإفرنج المخذولين أمر أهل الطائف بصلاة الجمعة ، وذلك بإشارة سيدنا العلامة المفيد رئيس الحكماء نور الدين أحمد بن محمد بن خضر القرشي الكازروني الشافعي ، فجمعوها في سنة خمس عشرة وتسعمئة ، واستمرت إلى أن زرت الزيارة الثانية في السنة التي بعدها ، وهي موجودة بعد ذلك في غير المسجد الكبير ، الذي فيه قبر سيدنا عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما ، فإنّه منفرد عن القرى وسط التربة ، يصعب على أهل البلد التوجّه إليه لبعده عن بعضهم ، وكونهم لا يسمعون النداء منه ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ا ه.

قلت : هذا قد كان يوما من الأيام ، فأما الآن فالجماعة تقام في مسجد ابن عباس المعمور ، ويصلّي فيه أهل الطائف وقراها ، وفي أيام الصيف عندما يكون أهل مكة في الطائف يجتمع فيه نهار الجمعة ألوف مؤلّفة.

ثم جاء في كتاب «إهداء اللطائف من أخبار الطائف» للعجيمي المكي أنّ في لقيم قبور بعض الصحابة. والله أعلم.

وممّن ذكر لقيم الأخ الفاضل المؤرخ السيد خير الدين الزركلي الشاعر الشهير ، فقد أتى على ذكر قرى الطائف بأجمعها مما لم يرد مجموعا ولا في كتاب.

ويكفيه أنّ أبا محمد الحسن بن أحمد الهمداني ـ صاحب «صفة جزيرة العرب» الذي لم يؤلّف أحد في بابه مثله ، وصاحب كتاب «الإكليل» الشهير ـ قد ذكر طرفا من قرى الطائف ، لكنّه لم يوفّق إلى الاستقصاء الذي استقصاه الخير الزركلي ، فهو يقول عن لقيم مايلي : لقيم واد طويل خصيب ، يجتاز في أقل من ساعتين ، أوله مزارع الشدايين بعد المليساء ، وآخره قرية الصافة على ما يزعمون ، وعندي أن

١٨٤

آخره جبل رغاف ، وهو كثير القرى والمزارع ، وقد أتيت على أسمائها في مواضعها.

وفي كتاب العجيمي : أنّ لقيما قرية كبيرة مشتملة على بساتين ومزارع وآبار ـ ثم قال ـ وهي مسكن جماعة من ثقيف يقال لهم : الحمدة ، وقد قتل صناديدهم الشريف زيد بن محسن في حدود سنة (١٠٤٠) لخروجهم عن طاعته ا ه.

والذي صحّ عندي أنّ جماعة ثقيف يسكنون قرية المليساء ، وقد تدعى باسم الحمدة ، الذين ذكرهم العجيمي لسكناهم بها إلى الآن.

أما لقيم ففيه من ثقيف وغيرها من قبائل العرب عدد غير قليل منتشرون في مزارع هذا الوادي وقراه ، وأما اطلاق اسم القرية عليه فلا أعلم له وجها ، إلا إن كانت فيه قرية تدعى لقيما ، تغيّر اسمها بعد زمن العجيمي ، وأطلق الاسم على الوادي كله» ا ه (١).

قلت : المعروف الآن أنّ لقيما هي هذه البيوت التي تمر بها ، تارة تراها عن يمينك ، وتارة عن شمالك ، قبل دخولك إلى الطائف. فأما الحدود الأصلية للقيم فلم أستعلم عنها ، ولعلها كما قال الفاضل الزركلي.

وقرأت مرّة في أحد كتب الأدب أبياتا لرجل اسمه اللقيمي نظمها لتنقش على قبره ، وضمّنها بحساب الجمّل تاريخا يوافق سنة (١١٧٨) وآخر هذه الأبيات هو هذا :

فاذا ثوى قبر اللّقيمي أرّخوا

مستمنح للعفو أسعد مصطفى

هذا ما حضرني من أمر لقيم ، ولا بدّ لي من أن أردفه بهذه النادرة لوقوعها فيها :

__________________

(١) [ما رأيت وما سمعت ص (٩٥)].

١٨٥

الأمن الشامل في بلاد الملك العادل

الإمام عبد العزيز آل سعود

كنت صاعدا مرّة من مكة إلى الطائف ، وكانت معي عباءة إحسائية سوداء ، جعلتها وراء ظهري في السيارة ، فيظهر أنّها سقطت من السيارة في أرض لقيم ، ولم ننتبه لها ، فأخذ النّاس يمرّون ، فيرون هذه العباءة ملقاة على قارعة الطريق ، فلا يجرؤ أحد أن يمسّها ، بل شرعت القوافل تتنكّب عن طريق لقيم عمدا ، حتى لا تمرّ على العباءة ، خشية أنّه إذا أصاب هذه حادث يكون من مرّ من هناك مسؤولا ، فكانت هذه العباءة على الطريق أشبه بأفعى يفرّ النّاس منها ، بل لو كانت ثمّة أفعى ما تجنّبوها هذا التجنب كلّه؟ وأخيرا وصل خبرها إلى أمير الطائف محمد بن عبد العزيز ، من سلالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، فأرسل سيارة كهربائية من الطائف أتت بها ، وأخذ بالتحقيق عن صاحبها ، فقيل له : إنّنا نحن مررنا من هناك ، وإنّ الأرجح كونها سقطت من سيارتنا ، فجاء الأمير ثاني يوم يزورنا ، وسألنا : هل فقد لكم شيء من حوائجكم في أثناء مجيئكم من مكة؟ فأهبت برفاقي ليتفتقّدوا الحوائج ، فافتقدوها فإذا بالعباءة السوداء مفقودة ، وكنّا لم ننتبه لفقدانها ، فقلنا له : عباءة سوداء إحسائية قال : هي عندنا ، وقصّ علينا خبرها.

وقد أتيت على هذه النادرة هنا مثلا من أمثال لا تعدّ ولا تحصى من الأمن الشامل للقليل والكثير في أيام ابن سعود ، مما لم تحدّث عن مثله التواريخ حتى اليوم ، فالمكان الذي سقطت في العباءة كان في الماضي كثيرا ما تقع فيه وقائع السلب والقتل ، ولا يمر الناس فيه إلا مسلّحين ، فأصبح إذا وجدت لقطة هناك على قارعة الطريق تجنّب النّاس الطريق لئلا يتهموا بها إذا فقدت ، وكل يوم يأتي الشرطة والخفراء والعسس بلقط وحاجات ضائعة مما فقده السفار ، أو سقط بدون انتباه عن

١٨٦

الأكوار ، وذلك إلى دائرة الأمن العام ، فتبحث عن أصحاب هذه اللقطات ، وتردّها لهم بتمامها مما يقضي بالعجب.

وإنك لتجد هذا الأمن ممدود الرواق على جميع البلدان التي ارتفعت فيها راية ابن سعود من منجد ومتهم ومعرق ومشئم بدون استثناء ، وقد علّل بعضهم هذا التأمين البليغ للسوابل بأنّه من أركان عقيدة الوهابيين الذين يقولون :

وما الدّين إلا أن تقام شعائر

وتأمن سبل بيننا وشعاب

قلت : أيا كان السببّ في هذا الأمان فإنّه نعم العمل ، ولا يوجد معنى للحكومة إن لم تكن أول ثمراتها الأمن والعدل ، ولو لم يكن من مآثر الحكم السعودي سوى هذه الأمنة الشاملة الوارفة الظلال ، على الأرواح والأموال ، التي جعلت صحارى الحجاز ، وفيافي نجد آمن من شوارع الحواضر الأوربية ـ لكان ذلك كافيا في استجلاب القول إليه ، واستنطاق الألسن في الثناء عليه.

فاليوم نجد التاجر ، والفلاح ، والحادي ، والملاح ، والحاج القاصد على الضوامر ، أو على الجواري المنشآت بالدسر والألواح ، يتحدّثون بنعمة هذا الأمن ، الذي أنام الأنام بملء الأجفان ، وجعل الخلق يذهبون ويجيؤون في هاتيك الصحارى ، وقد يكون معهم الذهب الرنّان ، وهم بلا سلاح ولا سنان ، فلا نريد من هذه الجهة مزيدا ، وإنما نرجو لهذه النعمة الدوام ، فلا عمران للبلاد إلا بالأمان والاطمئنان.

ذكر أمير الطائف الملقّب بالصحابي

ليس أمير الطائف المشار إليه هو المنفرد بمزيّة الضبط والربط في الإمارة التي عهد بها إليه ، بل هذه الحلية عامة للإمارات والولايات ، التي يظلّها لواء ابن سعود كلها ، إلا أنّ أمير الطائف محمد بن عبد العزيز ... بن عبد بالوهاب ، وهم يقولون ابن الشيخ ـ هو نسيج

١٨٧

وحده في أخلاقه وتقواه وورعه ، ونقاء سريرته ، وزكاء سيرته ، فقد ندر أن ينعقد الإجماع على حبّ وال انعقاده على حبّ أمير الطائف ، الذي لم أسمع من أحد من أهالي هذه البلاد ـ حضرها ووبرها ـ إلا نغمة واحدة بحقه ، وهي الثناء الجميل ، ولحسن أخلاقه واستقامة طباعه يلقبونه بالصحابي ، وقد أقمت بالطائف زهاء أربعة أشهر ، وهي مدينة صغيرة ، لا يخفى فيها شيء ، فما عرفت عن هذا الملقب بالصحابي إلا ما يثبت لهذا الرجل مثل أخلاق الصحابة ، أكثر الله من أمثاله.

* * *

١٨٨

الكلام على الطائف

أول ما يدخل الإنسان إلى الطائف ، بل أول ما يطل على لقيم يشعر بالسرور ، وينشرح صدره انشراحا لا يعهده إلّا في النادر من البلدان.

نقل عن الأصمعيّ أنه قال : دخلنا الطائف ، فكأنّي كنت أبشّر ، وكأنّ قلبي ينضح بالسرور ، ولا أجد لذلك سببا إلا انفساح حدّها ، وطيب نسمتها.

قلت : أما انفساح حدّها فإنها في بسيط من الأرض أفيح ، يسرح فيه النظر ما شاء أن يسرح ، وحولها بعض جبال عالية ترى من بعيد ، وأهاضيب ترى من قريب ، وجميعها لا تغمّ الطائف في شيء ، وهي مع هذا الانفساح والانفراج والاستواء في الأرض تعلو نحو ألف وستمئة متر عن سطح البحر.

وأما طيب النسمة ، فإنّك تحسّ فيها من الانتعاش وسعة التنفس ما لا تشعر به في مكان.

وقد كان أصابني في سويسرة زكام في شعب الرئة ، لعلّ أصله من البرد ، فكان يضيق به نفسي كثيرا ، لا سيما إذا استطال الشغل ، فما مضى عليّ في الطائف إلا قليل حتى ذهب هذا الزكام بتمامه ، وصار الهواء يجري في رئتيّ كأنّه في صحراء ، ولما رجعت إلى أوربة قال لي الأطباء بعد المعاينة : إنه لم يبق هناك أثر لشيء يقال له زكام في شعب الرئة ، ولم يكن هذا بأوّل فضل للطائف علي ، بل هواء الطائف هو الذي

١٨٩

شفاني بإذن الله ـ بل الله هو الذي شفاني به ـ من الضعف الذي كنت منه على شفا ، فلا عجب فيما رواه ابن عرّاق من أنّهم كانوا يغبطون من يصيّف بالطائف.

وفيما يروى عن معاوية بن أبي سفيان من قوله : أنعم النّاس عيشا من يقيّظ بالطائف ، ويشتو بمكة ويربع بجدة.

وقال الفاكهي في «تاريخ مكة» : كان للطائف خطر عند الخلفاء فيما مضى ، وكان الخليفة يوليها رجلا من عنده ، ولا يجعل ولايتها إلى صاحب مكة.

ووجد بخط الشيخ أحمد العبدري الميورقي المتوفّى سنة (٦٧٨) أنّه وقع الكلام في ترجيح سكنى الحجاز على سائر الآفاق ، ثم وقع الترجيح بين نواحي الحجاز ومكة والمدينة ، فوقع الاتفاق على أنّ الطائف أقرب للسلامة والسنة ، لعدم مصاحبة أهل الأهواء ، ورؤية من يقسيّ القلب من ذوي الأطماع.

ولم تزل الطائف مصيفا لمكة جاهلية وإسلاما إلى يومنا هذا ، وهي في نظري حارة من مكة ، خاصة بأيام الصّيف ، ولا غنى لمكة عنها.

أول ما يستقبل الإنسان من الطائف هو قصر شبرا ، الذي يخصّ الأشراف ذوي عون ، وهو قصر شاهق ، حوله بستان طويل عريض ، هو أكبر بستان في الطائف ، وجميع الأراضي التي هناك على مسافة بعيدة هي من مضامّ القصر ، وقد بنى إلى جانبه الشريف علي باشا أمير مكة سابقا (وهو مقيم الآن بمصر ، وعهدي به يسكن بجوار قصر القبة بضاحية الزيتون من ضواحي القاهرة) قصرا بديعا ملوكيا ، أنفق عليه عشرات الألوف من الجنيهات ، فجاء أفخم بنية في الطائف ، بل في جميع الحجاز ، وفي هذا القصر نزل السلطان وحيد الدين محمد السادس ، آخر سلاطين بني عثمان عندما جاء إلى الحجاز بعد خلعه ، وذلك بدعوة الملك حسين بن علي ، الذي كان صاحب الحجاز وقتئذ.

١٩٠

وعندما يصيف في الطائف الملك عبد العزيز بن سعود صاحب الحجاز ونجد وملحقاتهما يكون نزول جلالته بهذا القصر.

ولقد سمّى الأشراف ذوو عون هذا القصر بشبرا على اسم شبرا الشهيرة بمصر (١) وذلك والله أعلم لأنّ أمراء مكة المشار إليهم أصدقاء من قديم الزمان لأسرة محمد علي الجالسين على سرير الكنانة.

وسبب هذه العلاقة القديمة هي أنه لما هاجم الوهابيون الحجاز في القرن الماضي ، واستولوا عليه ، كان يلي الأمر فيه الأشراف ذوو زيد ، وجميع هؤلاء الأشراف سواء من ذوي زيد ، أو من ذوي عون ، أو من ذوي ناصر ، أو من فروع أخرى عديدة يجتمعون في الحسن بن أبي نمي ، من ذرية الحسن بن علي رضي‌الله‌عنهما (٢) وقيل لي : إنّ عددهم في الحجاز يزيد على عشرة آلاف ، إلا أنّ فرعا منهم انفرد بالإمارة في خبر لو أردنا شرحه يطول جدا ، هو فرع ذي زيد ، نسبة للشريف زيد بن محسن أمير مكة في حدود سنة (١٠٤٠) وهؤلاء الذين منهم الأمير عبد المطلب ، الذي ولي إمارة مكة ثلاث مرات ، والذي حفيده الأمير علي حيدر باشا ، وقد ولّته الدولة الإمارة في أيام الحرب ، بعد أن ثار عليها الشريف حسين بن علي وتلقّب ملكا ، فصار هذا الفرع

__________________

(١) شبرى مصر تكتب بالألف [المضطجعة] قال في «القاموس» : وشبرى ككسرى ثلاثة وخمسون موضعا ، كلّها في مصر ، وقد بين شارحه الزبيدي مواضعها ، ولكنه كتبها الألف العمودية شبرا ، كما يكتبونها في مصر إلى اليوم.

(٢) هو الحسن بن أبي نمي محمد بن بركات بن محمد بن بركات بن حسن بن عجلان بن رميثة بن أبي نمي محمد بن أبي سعيد الحسن بن علي بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنهما وكانت وفاة الحسن بن أبي نمي سنة عشر بعد الألف ا ه من الأصل.

١٩١

الذي يقال له ذوو زيد أشبه بالبوربون ملوك فرنسة ، يجمعهم وآل أورليان نسب آل كابيت ، إلا أنّ الملك منحصر في آل بوربون ، وبقى الأمر كذلك في فرنسة إلى أن سقط شارل العاشر سنة (١٨٣٠) فتولى الملك بعد لويس فيليب من آل أورليان.

وهكذا كانت إمارة الحجاز منحصرة في ذوي زيد ، إلى أن استولى الوهابيون على الحجاز ، وعجزت الدولة عن إخراجهم منه ، فرمتهم بمحمد علي والي مصر ، الذي جرّد عليهم الجيوش ، ولبث يقاتلهم نحو عشر سنوات ، إلى أن أخرجهم من الحجاز ، فكان اقتراحه على الدولة إخراج إمارة الحجاز من ذوي زيد ، وتولية أمير من غيرهم من الأشراف ، فتلكّأت الدولة بادىء ذي بدء عن إجابة طلبه ، إلا أنّه مازال يلحّ بذلك ويبرم إلى أن تمكّن من تولية الشريف محمد بن عون أميرا على مكة ، ومن ذلك الوقت صارت الإمارة مداولة بين الفرعين ذوي زيد وذوي عون ، بعد أن كانت منحصرة في الفرع الأول.

وقد كان يحدثني في الآستانة بهذه الأمور التاريخية الشريف عبد الإله باشا ، أخو الشريف عون الرفيق باشا ، الذي كان تولّى إمارة مكة أكثر من (٢٠) سنة في أيام السلطان عبد الحميد ، وهو عم الملك حسين ، وقد تولاها الشريف عبد الإله نفسه أيضا عند وفاة أخيه ، لكنّه توفي إلى رحمة ربه قبل أن يبرح الآستانة ، وكان الشريف عبد الإله رحمه‌الله ذا مقام سام في عاصمة آل عثمان ، وكان على خلق عظيم ، لا يعرفه أحد إلا بالغ في إجلاله ، وقد كنت كثيرا أسمر عنده ، وكان له إليّ ميل أكيد ، وبي ثقة شديدة ، فقلّما كان يسترسل في الكلام لسياسيّ في مجالسه إلا أمامي ، وكان يحدّثني إذا خلا المجلس بقصص كثيرة ، ومن جملتها هذه القصة ، وهو أنّ محمد علي باشا جدّ الأسرة المالكة بمصر هو الذي نصّب والده محمد بن عون أميرا على الحجاز ، وهو الذي وهبه الأراضي التي لهم في مصر ، وهو الذي أولاهم تلك النعم الجسام.

١٩٢

ومنذ أصبحت إمارة الحجاز بين هذين الفرعين اشتدّ الخلاف بينهما ، كما هو بديهي ، وقد اختلفا في كلّ شيء إلا في شيء واحد ، وهو أنهم جميعا اتفقوا على الاستئثار بأحسن الأراضي ، وأجمل المواقع في ذلك القطر ، ولا سيّما الطائف ونواحيها ، وقد يكون ذلك خيرا للبلاد ، لأنّهم بمكانهم من الإمارة أقدر على العمارة ، والتأثيل من غيرهم.

ففي الطائف المياه كلّها ترفع بالسواني ، وليس في البساتين إلا آبار مركبة على أفواهها الدواليب ، والماء

الجاري من نفسه هناك إنما هو عينان غزيرتان لا غير ، إحداهما عين سلامة ، والأخرى عين المثناة.

فأما عين سلامة ، فهي تخرج في قرية بهذا الاسم ، هي الآن حارة من حارات الطائف ، واقعة على جانب الوادي ، الذي يقال له : وجّ ، قال الهمدانيّ في «صفة جزيرة العرب» : وفي قبلة الطائف حائط أمّ المقتدر ، الذي يدعى سلامة. ا ه. فيظهر أنّه كان لأمّ الخليفة المقتدر هناك بستان يسقى بهذه العين.

وقال ياقوت في «معجمه» : السلامة ـ بلفظ السلامة ضد العطب ـ قرية من قرى الطائف ، بها مسجد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي جانبه قبة فيها قبر ابن عباس وجماعة من أولاده ، ومشهد للصحابة رضي‌الله‌عنهم.

وقال الشيخ حسن العجيمي المكي في كتابه «إهداء اللطائف» : ومنها قرية السلامة ، وهي كثيرة البيوت والبساتين ، وبها عين ، ولا أعلم متى كان ابتداء عمارتها ، إلا أنّها كانت معمورة في أوائل القرن التاسع ، وبها كان ينزل أعيان مكة وفضلاؤها ، بل غالب أهلها ، ثم خربت في حدود الثمانين ، وتحوّل أهلها عنها ، ولم يبق منهم إلا القليل إلخ.

١٩٣

وقال الخير الزركلي حفظه الله في «ما رأيت وما سمعت» (١) : سلامة قرية محاذية للطائف من جهة باب ابن عباس ، كثيرة البيوت ، بعضها عامر ، وبعضها خرب ، سكانها قليلون ، من قريش وغيرها ، ثم قال : هي الآن في ظاهر البلدة ، يفصل السور بينها وبين قبة ابن عباس ، ثم قال : إنّ الشريف سرورا نزل بها سنة (١١٩٣) ، وهذا دليل على أنّها كانت عامرة لعهده. انتهى.

والشريف سرور هو جد الشريف عبد المطلب ، جد ذي السمو الأمير علي حيدر نزيل بيروت اليوم.

فعين سلامة هذه جرّها الأمراء ذوو عون إلى شبرا ، على مسافة نصف ساعة ، وتركوا منها مشارع لورود الأهالي ، وأحدثوا عليها هذا البستان البديع الذي حول ذلك القصر.

وأما المثناة ، فهي على مسافة ثلاثة أرباع الساعة من الطائف نحو الغرب ، وتعدّ أجمل مزرعة في الطائف : وادي وجّ الشهير على جانبيه البساتين والجنان الغناء مشتبكة اشتباك الغاب الأشبى ، وعين ماء مجرورة بقني تحت الأرض من مسافة ساعة ونصف من ناحية جبل برد ـ (بالتحريك) ـ أعلى جبل في أرض الطائف.

وهذه العين هي أغزر عيون تلك البلاد ، تصبّ في الثانية (٤٤) ليبرة ، ويسقى منها نحو (٤٠) بستانا في المثناة ، ثم تنحدر فضلة المياه صوب الطائف.

وجميع هذه البساتين وما فيها من قصور وأبراج تخصّ الأشراف ذوي زيد ، ومنها شيء لأشراف آخرين ، يقال لهم : الشنابرة.

وفي هذه المثناة من الفواكه من العنب والسّفرجل والخوخ ـ الذي

__________________

(١) [ما رأيت وما سمعت : (٩٠)].

١٩٤

يقال له في الشام : الدراقن ، ويقال له في اليمن والحجاز : (الفرسيق) ـ ما هو من الطبقة العليا في نوعه.

ويلفظون المثناة بالثاء المثلثة ، وكنت ظننتها من غلط العوام ، وأنّ أصلها المسنّاة بالسين المهملة ، وذلك أنه يقال : إنّ القوم يسنون لأنفسهم إذا استقوا ، ويقال السحابة تسنو الأرض أي تسقيها ، فقد تكون بمعنى مكان السقيا.

وأقرب من هذا أن تكون مخففة من المسنّاة ، وهي السد الذي يعترض الوادي حتى لا تطغى مياهه على الأرض ، وفي «لسان العرب» : المسنّاة ضفيرة تبنى للسيل لتردّ الماء ، سميت مسنّاة ، لأنّ فيها مفاتيح للماء بقدر ما تحتاج إليه ، مما لا يغلب ، مأخوذ من قولك سنّيت الشيء والأمر إذا فتحت وجهه.

وفي «فتوح البلدان» للبلاذري المتوفى سنة (٢٧٩) مايلي : فلما كان زمن قباذ بن فيروز ، انبثق في أسافل كسكر بثق عظيم ، فأغفل حتى غلب ماؤه ، وغرّق كثيرا من أرضين عامرة ، وكان قباذ واهنا قليل التفقّد لأمره ، فلما ولي أنو شروان ابنه ، أمر بذلك الماء فردم بالمسنّيات (جمع مسنّاة) حتى عاد بعض تلك الأرضين إلى عمارته. انتهى.

وفي أول المثناة من جهة جبل برد سدود على وجّ ، هي على هذه الصفة ، مما جعلني أفكّر في أنّ المسنّاة هي بالسين لا بالثاء. إلا أن أهل الحجاز بأجمعهم يقولون : المثناة ، وتواريخ الطائف كلّها تذكر المثناة بالثاء ، وإذا رجعنا إلى كتب اللغة لا نجد مناسبة بين معنى لفظة المثناة وهذا المكان ، فقد قالوا : المثناة الحبل من الصوف أو من الشعر مطلقا ، ونقلوا عن عبد الله بن عمر : من أشراط الساعة أن توضع الأخيار ، وترفع الأشرار ، وأن يقرأ فيهم بالمثناة على رؤوس النّاس ، ليس أحد

١٩٥

يغيّرها. قيل : وما المثناة؟ قال : ما استكتب من غير كتاب الله (١) كأنّهم جعلوا كتاب الله مبدأ ، وهذا مثنى : فأنت ترى أنّه لا هذا ولا هذا فيه شيء من ملابسة معنى بستان أو جنة ، أو واد ذي زرع.

وأما قولهم مثاني الوادي ، بمعنى معاطفه وأحنائه ، فهو جمع ثني ـ بكسر فسكون ـ لا جمع مثناة.

قال في «لسان العرب» : وفي «الصحاح» في تفسير المثناة قال : هي التي تسمى بالفارسية دوبيتي ، وهو الغناء (٢) وهذا أبعد عن ذلك المعنى أيضا.

وقد جاءت معان كثيرة للمثنى بالتذكير ، وكلّها أيضا بعيدة عن هذا المعنى.

وعلى كلّ حال ، فلسنا هنا في المثنى بفتح فسكون ، وإنما نحن في المثناة ، ولم يبق إلا أن نردّها إلى اسم مكان من فعل ثنى بمعنى عطف أو حنا ، كأن تكون بمعنى منحنى الوادي.

أو أن نردّها إلى اسم مكان من ثنّى بمعنى صيره ثانيا ، لأنّ النهر شق المزرعة نصفين اثنين.

__________________

(١) التحقيق أنّ المثناة هذه تعريب المشنا أو المشنة بالعبرية ، وهي الشريعة التي وضعها اليهود بعد السبي باجتهادهم أو ابتعادهم ، ويليها الجمارة ، وهي الشريعة الشفوية لهم ، والتقاليد العملية ، وهما أصل «التلمود» وفسرّها في «القاموس» : بقوله : كتاب فيه أخبار بني إسرائيل أحلّوا فيه وحرّموا ما شاؤوا.

(٢) دو بيتي في الفارسية معناه بيتان ، لا الغناء ، فإنّ (دو) اسم لعدد الإثنين ، قال شارح «القاموس» بعد ما تقدّم آنفا : وقوله : دو بيت بالفارسية ترجمة الإثنين ، والياء في بيتي للوحدة ، أو للنسبة ، وهو الذي يعرف في العجم بالمثنوي ، كأنّه نسبة إلى المثناة هذه.

١٩٦

أو أن يكون أصلها من الثناية بمعنى الفلاحة والزراعة ، ولكن الثناية بمعنى الفلاحة والزراعة لم يرد منها اسم مكان ، ثم إنها لم ترد بهذا المعنى إلا عند ابن الأثير في تفسير حديث قتادة : كان حميد بن هلال من العلماء ، فأضرّت به التناوة أو التناية.

والعامة عندنا في جبل لبنان تستعمل التناية بمعنى الفلاحة أيضا ، لكن لا مطلقا ، بل يقولون : تناية للوجه الثاني من حرث الأرض ، والأظهر أنّ أصل المثناة بالثاء لا بالتاء.

بقى علينا وجه تأويل آخر ، وهو أن تكون من (تنأ) أقام ، وقد سهّلوا الهمزة فصارت (تنا) ، وجاء منها اسم مكان (المتناة) أي محل الإقامة ـ ولعمري لنعم محلّ الإقامة هي ـ ثم إنّ العامة حرفتها من التاء إلى الثاء ، فهاذا كلّ ما يخطر لي من جهة هذه اللفظة.

ثم إني لما عزمت على الكتابة عن الطائف ـ وكان بلغني أنّ في المكتبة التيمورية بمصر بعض تآليف عن الطائف ووجّ ـ كتبت إلى ذلك العالم الفاضل الكبير ، الذي من أيّ الجهات اعتبرته فهو أمير ، أحمد باشا تيمور ، قدس الله روحه ، ونوّر ضريحه ، أرجو منه إذا كانت عنده كتب في هذا الموضوع أن يأمر لي باستنساخها على نفقتي ، فكان منه أنّه لم يمض على رجائي هذا خمسة عشر يوما حتى جاءني منه (٤) تآليف في هذا البحث ، مصورة بالفوتوغرافية بالمطبعة السلفية الشهيرة ، ومجلة تجليدا مذهبا ، وهذه الكتب هي :

١ ـ «إهداء اللطائف ، من أخبار الطائف» تأليف الشيخ حسن بن الشيخ علي العجيمي المكي الحنفي ، من علماء أواخر القرن الحادي عشر.

٢ ـ و «تحفة اللطائف ، في فضائل الحبر ابن عباس ووجّ والطائف» للشيخ محمد جار الله بن عبد العزيز بن عمر بن محمد ، الشهير بابن فهد ، المتوفى سنة (٩٢٢).

١٩٧

٣ ـ و «نشر اللطائف ، في قطر الطائف» لابن عرّاق من المتأخرين ، وهو الشيخ نور الدين علي بن محمد بن عرّاق الشامي.

٤ ـ و «رسالة في فضائل سيدنا ابن عباس والطائف» للشيخ محمد بن عبد الكريم القنوي ، الذي كان في أواسط القرن الثاني عشر.

وتكرّم رحمه‌الله بإرسال بطاقة أنيسة ، مع هذه الهدية النفيسة ، قابلته عليها بكتاب شكر طائل أودعته ما خطر ببالي من جهة لفظة (المثناة) أو (المسناة) فأجابني مستحسنا ما رأيته إلا أنّه قال : إنّ روايات الكتب المؤلّفة عن الطائف متفقة على كونها بالثاء ، فضلا عن تلفّظ أهالي الحجاز بها بالثاء أيضا ، وقد كان كتاب تيمور باشا هذا من آخر ما خطّه قلمه ، لأنّ المصاب بوفاته رحمه‌الله وقع بعد تاريخ المكتوب بخمسة عشر يوما.

ويمتد وقف الأشراف ذوي زيد من المثناة إلى نفس الطائف بجنان وبساتين منتظمة بلبة وجّ ، متابعة له إذا استوى أو إذا اعوجّ ، وهي من أنزه ضواحي تلك البلدة وألطفها ، وإن أشهرها سانية حوايا ذات الصهريج الكبير ، والروض النضير.

وبالاختصار كيفما توجه الإنسان في الطائف ، بل في الحجاز كله ، بين تهائمه ونجوده ، وبواديه وحواضره ، يجد الأماكن الشريفة للأشراف.

ففي لقيم أشرف الأماكن للأشراف ، وفي وادي ليّة أشرفها للأشراف ، وفي وادي وجّ أشرفها للأشراف ، وفي وادي فاطمة الذي بقرب مكة تمتد بساتينه (١٥) ساعة أحسن البقاع للأشراف. وهلم جرا.

أما أنّ الطائف هو قطعة من الشام جعلها الله في الحجاز ، وما ورد في ذلك من الآثار والأحاديث المنقولة في التواريخ التي اطّلعنا عليها ، وفي غيرها مما لم نطّلع عليه ، واطّلع عليه الأخ الزركلي ، ككتاب «عقود اللطائف في محاسن الطائف» للشيخ عبد القادر الفاكهي المكي ،

١٩٨

المتوفى في أواخر القرن العاشر ، وكتاريخ الشيخ أحمد بن علي العبدري الميورقي الأندلسي ، ثم الطائفي الوجّي مسكنا المتوفى سنة (٦٧٨) بعد ذهاب وطنه ميورقة بخمسين سنة ـ فكلّ هذا نحن نحمله على المجاز ، وذلك أننا إذا قلنا : زيد أسد ، فلا يكون المراد أنّه هو هذا الحيوان المفترس ، بل إنه في شجاعته كالأسد ، وإذا قلنا : زيد بحر ، فلا يكون المعنى أنّه هو هذا الماء الكثير المتلاطمة أمواجه ، وإنما هو كناية به عن الكرم ، أو العلم ، أو الحلم ، وإذا قلنا : زيد جبل ، فما يراد بذلك إلا المتانة ، والرصانة ، والثبات ، وإذ نظرنا إلى الحديث الشريف : «إنّ من البيان لسحرا وإنّ من الشعر حكمة» (١) لم يمكننا تأويل «إنّ من البيان لسحرا» إلا بالمعنى المجازي كما لا يخفى ، وذلك بأنّ من البيان ما يستولي على العقول ، ويأخذ بالألباب ، لا أنّه هو من السحر المحرم.

وهكذا حديث «إنّ الطائف قطعة من الشام جعلها الله في الحجاز» أو ما هو بمعناه ، لا أفهمه إلا على هذا الوجه ، وهو أنّ الطائف وأراضيها شامية في فواكهها ، وثمراتها ، وعذوبة مائها ، وبرودة هوائها.

ومن هنا لم يبق حاجة لإرخاء بعض المفسرين العنان لتخيّلاتهم في كيفية اقتلاع بلاد الطائف من أرض الشام ووضعها في الحجاز؟!

هذا زائدا إلى أنّ أكثر هذه الأقوال هي آثار وأخبار ليست من الأحاديث المقطوع بها.

ونحن نعلم أنّ الأحاديث المتواترة ، التي لا يتطرق الشكّ إلى صحة تلفّظ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، هي أحاديث معدودة ، وأنّ الأحاديث مهما جاءت على شروط الصحة والثبوت المعروفة عند المحدثين ، فلا يزال مجال للقول في أسانيدها واسع. لأنّ الكلام إذا نقله واحد فلا بدّ أن يتغيرّ فيه

__________________

(١) [حديثان صحيحان انظر «صحيح الجامع» رقم (٢٢١٦) و (٢٢١٩)].

١٩٩

شيء بالزيادة أو بالنقصان ، أو بتغير لفظة بلفظة ، مهما كان الناقل قويّ الذاكرة ، ولقد ثبت أنّ أكثر الأحاديث مرويّ بالمعنى.

ولقد ثبت أيضا أنّ سيدنا عمر رضي‌الله‌عنه كره كتابة الأحاديث (١) خوفا من الزيادات عليها ، واكتفاء بكتاب الله المنزل ، الذي حفظه الألوف من الصحابة واتفقوا عليه.

وقد ثبت أيضا أن جماعة من أكابر الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يحدّثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع طول صحبتهم له ، جاءت في «الطبقات الكبرى» لمحمد بن سعد رواية عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال (أي عبد الله بن الزبير) : قلت للزبير : ما لي لا أسمعك تحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يحدّث فلان وفلان؟

قال : أما إنّي لم أفارقه منذ أسلمت ، ولكنني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من كذب عليّ فليتبوأ مقعدا من النّار».

قال وهب بن جرير في حديثه عن الزبير ، والله ما قال «متعمدا» وأنتم تقولون : «متعمدا» أي أنّ بعض المحدثين زادوا لفظة «متعمدا» فانظر إلى هذا الحديث الشريف على قصره لم يخل من زيادة لفظة (٢).

__________________

(١) [جاء النهي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كتاب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة خوف الالتباس ، أما كتابة كل منهما مفردا فلا كراهة ، وهذا ما فعله الصحابة ، فقد كتب كثير منهم الأحاديث ، وكذلك التابعين ، ثم دونوا ذلك في مجموعات ، إلى أن جاء التدوين الرسمي في أواخر القرن الأول الهجري بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي‌الله‌عنه].

(٢) [الحديث] متواتر تواترا لفظا بهذه الزيادة [ودونها] ، وممن رواها عن الزبير نفسه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، فلا عبرة بإنكار وهب بن جرير لها عنه ، فالقاعدة أنّ من حفظ حجة على من لم يحفظ.

ووهب هذا قد تكلّم فيه بعض رجال الجرح والتعديل ، فقال ابن حبان : كان يخطىء ، وأنكر عبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد ما رواه عن شعبة الخ.

٢٠٠