الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

الكلام على سوق عكاظ

وأما سوق عكاظ التي لم يسمع أحد بشيء اسمه اللغة العربية إلا سمع بها ، فليس لها من أثر سوى الخبر ، وهو أنّها في هاتيك المظنة.

وأصل لفظة عكاظ ، هو من فعل : عكظ الشيء ، يعكظه ، أي : عركه.

وقال ابن دريد : عكظه : قهره ، وردّ عليه فخره ، وبه ـ كغراب ـ سوق بصحراء بين نخلة والطائف ، يريد أنّ عكاظ على وزن غراب.

وقال الأصمعي : عكاظ نخل في واد ، بينه وبين الطائف ليلة ، وبينه وبين مكة ثلاث ليال ، وبه كانت تقام سوق العرب.

وقال الزمخشري : عكاظ ماء بين نخلة والطائف ، إلى بلد يقال له : الفنق ، كانت موسما من مواسم الجاهلية ، تقوم هلال ذي القعدة ، وتستمرّ عشرين يوما.

قال ابن دريد : وكانت تجتمع فيها قبائل العرب ، فيتعاكظون ، أي يتفاخرون ويتناشدون.

قال في «تاج العروس» : زاد الزمخشريّ : كانت فيها وقائع وحروب ، وفي «الصحاح» : فيقيمون شهرا يتبايعون ويتفاخرون ، ويتناشدون ، شعرا ، فلما جاء الإسلام هدم ذلك.

وأنشد الجوهري لأبي ذؤيب :

إذا بني القباب على عكاظ

وقام البيع واجتمع الألوف

١٦١

وقال أمية بن خلف الخزاعي يهجو حسان بن ثابت الأنصاري :

ألا من مبلغ حسّان عنّي

مغلغلة تدبّ إلى عكاظ

أليس أبوك فينا كان قينا

لدى القينات فسلا في الحفاظ

يمانيّا يظلّ يشدّ كيرا

وينفخ دائما لهب الشّواظ

فأجابه حسان رضي‌الله‌عنه (١) ـ ولو لم يكن بالذي إذا سوجل لا يملأ الدلو إلى عقد الكرب ـ :

أتاني عن أميّة ثنا كلام

وما هو في المغيب بذي حفاظ

سأنشر إن بقيت له كلاما

يسير في المجامع من عكاظ

قواف كالسّلام إذا استمرّت

من الصّم المعجرفة الغلاظ

تزورك إن شتوت بكلّ أرض

وترضخ في محلّك بالمقاظ

بنيت لهنّ أبياتا صلابا

كأسر الوسق قعّص بالشّظاظ

مجلّلة تعمّمكم شنارا

مضرّمة تأجّح كالشّواظ

كهمزة ضيغم يحمي عرينا

شديد مغارز الأضلاع خاظي

تغضّ الطرف أن ألقاك دوني

وترمي حين أدبر باللّحاظ

(كأمر الوسق) أي كأمر حمل البعير ، و (قعص) مبنيا للمجهول معناه عطف ، و (الشظاظ) خشبه عقفاء محدّدة الطرف ، تجعل في عروتي الجواليق إذا عكما على البعير ، والأسد الخاظي المكتنز اللحم.

وقال طريف بن تميم :

أو كلّما وردت عكاظ قبيلة

بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم

وجاء في «معجم البلدان» : عكاظ بضم أوله ، وآخره ظاء معجمة. قال الليث : سمي عكاظ عكاظا ، لأن العرب كانت تجتمع فيه فيعكظ بعضهم بعضا بالفخار ، أي يدعك ، وعكظ فلان خصمه باللدد والحجج عكظا.

__________________

(١) [ديوانه : (١ : ١٥٣)].

١٦٢

وقال غيره : عكظ الرجل دابّته يعكظها عكظا إذا حبسها ، وتعكّظ القوم تعكّظا إذا تحبّسوا ينظرون في أمورهم ، قال : وبه سميت عكاظ.

وحكى السهيلي : كانوا يتفاخرون في سوق عكاظ إذا اجتمعوا ، ويقال : عاكظ الرجل صاحبه إذا فاخره ، وغلبه بالمفاخرة.

وقال الأصمعي : عكاظ نخل في واد ، بينه وبين الطائف ليلة ، وبينه وبين مكة ثلاث ليال ، وبه كانت تقام سوق العرب ، بموضع منه يقال له : الأثيداء ، وبه كانت أيام الفجار (١) ، وكان هناك صخور يطوفون بها ، ويحجون إليها.

قال الواقدي : عكاظ بين نخلة والطائف ، وذو المجاز خلف عرفة ، ومجنّة بمر الظهران ، وهذه أسواق قريش والعرب ، ولم يكن فيه أعظم من عكاظ ، قالوا ، كانت العرب تقيم بسوق عكاظ شهر شوال ، ثم تنتقل إلى سوق مجنّة ، فتقيم فيه عشرين يوما ، من ذي القعدة ، ثم تنتقل إلى سوق ذي المجاز ، فتقيم فيه إلى أيام الحج انتهى.

وقال في «المصباح المنير» : عكاظ وزان غراب ، سوق من أعظم أسواق الجاهلية ، وراء قرن المنازل ، بمرحلة من عمل الطائف على طريق اليمن.

وقال أبو عبيد : هي صحراء مستوية لا جبل بها ولا علم ، وهي بين نجد والطائف ، وكان يقام فيها السوق في ذي القعدة نحوا من نصف شهر ، ثم يأتون موضعا دونه إلى مكة ، يقال له : سوق مجنّة ، فيقام فيه السوق إلى آخر الشهر ، ثم يأتون موضعا قريبا منه يقال له : ذو المجاز ، فيقام فيه السوق إلى يوم التروية ، ثم يصدرون إلى منى.

والتأنيث لغة الحجاز ، والتذكير لغة تميم انتهى.

__________________

(١) [حرب في الجاهلية بين قريش وكنانة من جهة قيس عيلان من جهة أخرى انظر «أنساب الأشراف» للبلاذري ١ : ١١٥].

١٦٣

قلت : وقوله (وراء قرن المنازل بمرحلة) أي وراء الوادي الذي يقال له اليوم وادي محرم ـ بفتح فسكون ـ وسيأتي الكلام عليه ، وهو من أنزه أودية الحجاز ، وهو يمتدّ إلى ذات عرق.

وأما أنّ عكاظ صحراء مستوية لا جبل بها ولا علم فهو صحيح ، وإنما رأيت في ذلك الموضع صخورا كبارا ، ورأيت أيضا مسايل ماء شتوية ، وكثيرا من شجر السدر والطرفاء ، هذا إذا كانت عكاظ في المكان المسمى بالقهاوي.

* * *

١٦٤

١٦٥

ذكر أسواق العرب

لا ينبغي أن يظنّ أنّ أسواق العرب هي عكاظ ، ومجنة ، وذو المجاز ، فحسب ، بل كانت لهم أسواق عديدة غيرها. وقد جاءت في «صبح الأعشى» خلاصة هذه الأسواق ، قال : كانوا ينزلون دومة الجندل ـ هذه في الشمال على حدود الشام ، وتسمى الآن الجوف ، وهي من مملكة ابن سعود ـ أول يوم من ربيع الأول ، فيقيمون أسواقها بالبيع والشراء ، والأخذ والعطاء ، وكان يعشوهم فيها أكيدر دومة ـ وهو ملكها ـ وربما غلبت على السوق كلب (١) ، فيعشوهم (٢) بعض رؤساء كلب. فيقوم سوقهم هناك إلى آخر الشهر.

ثم ينتقلون إلى سوق هجر من البحرين ، في شهر ربيع الآخر ، فتكون أسواقهم بها ، وكان يعشوهم في هذا السوق المنذر بن ساوى ، أحد بني عبد الله بن دارم ، وهو ملك البحرين.

ثم يرتحلون نحو عمان من البحرين ، فتقوم سوقهم بها.

ثم يرتحلون ، فينزلون إرم وقرى الشّحر من اليمن ، فتقوم أسواقهم بها أياما.

__________________

(١) يقال : إن كلبا هم الذين يقال لهم اليوم الشرارات.

(٢) يعشوهم معناه يقصدهم ، أصله مخصوص بالقصد ليلا ثم عمّ ، قال في «المصباح» وعشّيته بالتثقيل وعشّوته أطعمته العشاء ـ يعني طعام العشاء بالفتح ـ وهو الذي يتعشى به وقت العشاء بالكسر.

١٦٦

ثم يرتحلون ، فينزلون عدن من اليمن أيضا ، فيشترون منه اللطائم (١) وأنواع الطيب.

ثم يرتحلون ، فينزلون حضرموت من بلاد اليمن ، ومنهم من يجوزها ، فيرد صنعاء ، فتقوم أسواقهم بها ، ويجلبون منها الخرز ، والأدم والبرود ، وكانت تجلب إليها من معافر ، (مخلاف من مخاليف اليمن ، تنسب إليه الثياب المعافرية).

ثم يرتحلون إلى عكاظ في الأشهر الحرم ، فتقوم أسواقهم ، ويتناشدون الأشعار ، ويتحاجون ، ومن له أسير سعى في فدائه ، ومن له حكومة ارتفع إلى من له الحكومة ، وكان الذي يقوم بأمر الحكومة فيها من بني تميم ، وكان آخر من قام بها منهم الأقرع بن حابس التميمي ، ثم يقفون بعرفة ، ويقضون مناسك الحج. ا ه.

فيظهر للقارىء من هنا أنّ العرب كانوا يقصدون جعل نصيب من هذه الأسواق لكلّ الجزيرة العربية ، مما يدلّ على الوحدة والاتصال ، فإنهم بدأوا بالشمال ، وهو دومة ، ثم انثنوا نحو الشرق ، وهو البحرين وعمان ، ثم انعطفوا إلى الجنوب ، وهو اليمن ، ثم جاءوا إلى الغرب ، وهو الحجاز. والمساوف (٢) لم تكن تطول عليهم مهما تراخت وتناءت ، ولو لم تكن يومئذ سيارات كهربائية ، فإنّه لا يوجد في البشر أقدر على طي المراحل وإنضاء الرواحل من العربي ، وهو بطبيعته يحتقر طول المسافات ، ولا يراها بالنسبة إلى همته شيئا.

على أنّي أرى صاحب «صبح الأعشى» أهمل المربد من أسواق العرب ، وهو سوق عظيم في البصرة ـ أو عظيمة (لأنّ السوق تذكّر

__________________

(١) [جمع لطيمة : وعاء المسك].

(٢) [المسافات].

١٦٧

وتؤنّث مثل الطريق (١)). ولعلّ إهماله ذكرها هنا هو من أجل أنّها سوق محدثة في صدر الإسلام ، ولم تكن في الجاهلية ، وأصله سوق للإبل ، ثم صار محلة عظيمة يسكنها الناس.

قال ياقوت : وبه كانت مفاخرات الشعراء ، ومجالس الخطباء ، وهو الآن بائن عن البصرة ، بينهما نحو ثلاثة أميال ، وكان ما بين ذلك كله عامرا ، وهو الآن خراب.

وعلى كلّ حال أشهر أسواق العرب عكاظ ، ومن محفوظي هذا الشعر للفرزدق (٢) :

نبئت زرعة والسفاهة كاسمها

يهدي إليّ غرائب الأشعار

فحلفت يا زرع بن عمرو إنني

رجل يشقّ على العدو خباري

أرأيت يوم عكاظ حين لقيتني

تحت العجاج فما شققت غباري

أنّا اقتسمنا خطّتينا بيننا

فحملت برة واحتملت فجار

وللأخ الفاضل المؤرخ ، والشاعر المبدع ، السيد خير الدين الزركلي رأي آخر في مكان عكاظ ، وإليك ما قاله في كتيبه «ما رأيت وما سمعت» الذي ألفه عن رحلته إلى الحجاز : وعلى ذكر طريق السيل أو اليمانية لا أرى أن تفوتني الإشارة إلى أشهر سوق من أسواق العرب ، أعني سوق عكاظ ، لوقوعها في تلك الطريق على مرحلتين من مكة للذاهب إلى الطائف في طريق السيل ، يميل قاصد عكاظ نحو اليمين ،

__________________

(١) في الصفحة التي قبل هذه التذكير والتأنيث في عبارة «صبح الأعشى» ، ولعلّها محرّفة ، وتذكير السوق لغة ضعيفة ، وقيل خطأ.

وأما الطريق فتذكيره لغة أهل نجد ، والتأنيث لغة الحجاز ، وكلاهما فصيح ، وقوله تعالى (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) [طه : ٧٧] يوافق اللغتين ، لأنّه وصف بالمصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وذهل عن هذا من قال : إنه جاء بلغة نجد.

(٢) [لم أجد الأبيات في «ديوان الفرزدق» طبعة الصاوي].

١٦٨

فيسير نحو نصف الساعة ، فإذا هو أمام نهر في باحة واسعة الجوانب ، يسمّونها القانس ، ـ بالكاف المعقودة ـ وهي موضع سوق عكاظ ، الذي لا تكاد تقرأ كتابا من كتب الأدب ، أو التاريخ العربي ، إلا وجدت له ذكرا فيه.

وهذه الباحة التي يسمونها القانس ، هي مجتمع الطرق إلى اليمن والعراق ومكة ، وهي مرتفعة ، تشرف على جبال اليمن ، وبينها وبين الطائف مرحلة واحدة.

كلّ ذلك يدلك على ما دعا العرب في الجاهلية لاختيار هذه البقعة المتوسطة من دون غيرها ، لتكون مجمعهم الأكبر ، ومعرضهم الأشهر ، ولم أجد فيما بين يديّ من مصنفات التاريخ تعليلا لاتفاق القبائل على الاجتماع في هذا المكان غير ما عرفته الآن.

والواقف في القانس ـ أو عكاظ ـ يرى على مقربة منه موضعين مرتفعين ، أحدهما يسمى الدمة ـ بكسر ففتح ـ والآخر البهيتة ـ بصيغة التصغير ـ وعكاظ هو الفاصل بين الدمة والوادي الموصل إلى الطريق التي يمرّ بها سالكو درب السيل اليمانية ، ثم نقل قول ياقوت عن عكاظ ـ وختم بقوله ـ : وسمعت كثيرا من أهل الطائف يقولون : إنّ عكاظا كان في مكان يعرف اليوم باسم القهاوي ، في وادي ليّة من الطائف ، غير أنّ الشيوع يؤيد ما قلناه آنفا من أنّه هو القانس نفسه ، وعليه أكثر العارفين من أهل هذه الديار (١) ا ه.

أفلا يحتمل أن يكونوا أقاموا السوق مرّة في القانس ، ومرة في المكان المسمى اليوم بالقهاوي؟ على أنّ قول الأخ الزركليّ (إنّ القهاوي هي في وادي لية) فيه نظر ، لأنّ القهاوي ليست في وادي ليّة ، ولا وادي لية قريب من هناك ، فقد عرفت وادي لية ، وسأتكلّم

__________________

(١) [«ما رأيت وما سمعت» : (١٢٢)].

١٦٩

عليه (١) ، وهو الذي فيه الروض النضير ، والماء الغزير ، والدوح الكبير ، والكروم التي ليس لها نظير ، والرمان الذي حبّه كحبّ اليواقيت ، والذي ذكره في البلاد يسير.

فأما مكان القهاوي الذي نعرفه جميعا ، فهو صحراء مستوية يابسة ، ليس فيها إلا سدر وطلح ، وما أشبه ذلك ، فلا إمكان للتأليف بين هذا القول الذي سمعه ، وهذ الذي أذكره أنا إلا على شرط واحد ، وهو أن يكون اسم وادي لية يطلق على كلّ هاتيك الأراضي.

ولقد رحم الله الحجاز بعدم دخول الإفرنج إليه ، وبعدم جوسهم خلاله ، وبعدم استطاعتهم الكتابة في جغرافيته وتاريخه ، إذ لو كان ذلك لرأينا العجائب والغرائب ، ولشهدنا النجوم طالعة في النهار ، والشمس طالعة في الليل ، ولكانت التعليلات على مظنة سوق عكاظ ، مما تضيق عن وصفه الألفاظ ، ولذهبوا فيها من المذاهب ، وأوردوا من الفكر ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

فواحد يقول مثلا : إنّ اختلاف هذه الروايات بين القانس والقهاوي قد يجعل ريبة في صحة كلّ منها ، ولو قدر أن بين المكانين مسافة نصف ساعة.

وآخر يقول : إنّ مكان سوق عكاظ الحقيقي محاط بالغموض ، بحيث لا يقدر أن يجزم أحد بشيء.

وآخر يذكر أنه توجد أسباب تدعو إلى الظنّ بأنّ قصة سوق عكاظ مخترعة ، لأجل أن تتّخذ دليلا على فصاحة العرب.

وآخر يقدح زناد الفكر فيقول : إنّ كون الأقرع بن حابس التميمي حكما في السوق دليل على أنّها لم تكن في الحجاز ، بل في نجد ، لأنّ بني تميم يسكنون في العارض لا في الطائف.

__________________

(١) [ص (٢٥٧)].

١٧٠

وإفرنجيّ أعرق في مذهب الشك من غيره يقول : من المعلوم أنّ محمدا كان دعا أصحابه إلى إلغاء عادات الجاهلية كلّها ، فأئمة الإسلام لأجل أن يؤكّدوا صحة إبطال هذه العادات اخترعوا من عقولهم قصة معناها أنّه كانت تقام بقرب الطائف في الجاهلية سوق يقال لها : سوق عكاظ ، تجري فيها المنافرات والمفاخرات والمساجلات بالشعر. وأنّ محمدا ألغاها! وأنّه يوجد أمارات كثيرة تدل على أن تلفيق قصة عكاظ هذه ، قد تقرّر بين الخليفة والأئمة في زمن المستنصر العباسي أبي جعفر مثلا ، أو في سنة (٦٢٢) للهجرة في أواخر خلافة أبيه الظاهر أبي نصر مثلا ، لأنّه كان قد ظهر في ذلك العهد فقهاء منعوا الحرية الفكرية ، وكانوا بمكان من التعصب الديني! فلا يبعد أن يكون هذا الوضع وقع في ذلك العصر!

وأخيرا تنتهي مسألة عكاظ هذه بأنّه لا وجود لعكاظ أصلا ، وأنّها موضوعة بعد الإسلام بكثير ، وأنّ روايات مؤرّخي العرب عنها هي خيالية ، وأنّ التواطؤ بين فقهاء الإسلام على اختراع قصص لأجل تأييد محّمد قد كان أكثر مما يظنّ ، وأنّ ثمة أسباب تدعونا أن نشتبه في كون الاشتباه الذي يتظاهر به مؤلفو الإسلام أحيانا هو من الاشتباه الذي يدعو إلى الشبهة.

ـ وما ماثل ذلك من التحقيقات أو التحليلات!! التي قراءتها تغني من أصابه تسمم في المعدة عن اتخاذ مقيّء.

ولقائل أن يقول : أهكذا تحقيقات الإفرنج ، وهم الذين بلغوا من العلم والعرفان ما بلغوا؟

فأقول : حاشا أن يؤخذ كلامي هذا على إطلاقه ، فمن الإفرنج العلماء المحققون (١) ، الذين يتنزّهون عن مثل هذه الأقاويل المقيّئة ،

__________________

(١) [مثل مورتيز الذي سيذكره المؤلف ص (٢٧٥)].

١٧١

ومن يعرفون أنّ شعر الجاهلية هو الشعر المعروف المنسوب إلى الجاهلية ، وأنّ سوق عكاظ هي التي كانت تقام في أرض الطائف المذكورة ، وأنّ الاشتباه في مثل هذه الأمور خطة جائرة ، وصفقة خاسرة ، ليست من العلم في قبيل ولا دبير.

ولكنّ من الإفرنج أيضا فئة متحذلقة ، متفلسفة في كلّ شيء ، مولعة بالنقض وهدم النظريات المقررة بدون داع إلى ذلك ، سوى الميل إلى الإطراف والإتيان بشيء جديد (١).

وفي الشرق أيضا متنطعون لا يعجبهم إلا تقليد هذه الفئة من الإفرنج (٢).

وإذا جاز أن يكون شعر الجاهلية غير صحيح ، لزم أن تلحق به سوق عكاظ في عدم الصحة ، لأنّها السوق التي كان العرب يتناشدون فيها ذلك الشعر ، الذي زعم بعضهم (٣) أنّه مخترع بعد الإسلام! وعلى هذا تكون سوق المخترع مخترعة أيضا ، لأنّه إن لم يكن المظروف صحيحا ، لم يكن الظرف صحيحا.

* * *

__________________

(١) [وعلى رأس هؤلاء مرغليوث ، وغولدزيهر ، وشاخت ، ورينان ، وماسينيون ، ومن هم على شاكتهم].

(٢) ذهل الأمير أو نسي هنا أنّ هؤلاء المتنطعين من الإفرنج ومقلّدتهم [كطه حسين ومدرسته]. يبنون جلّ فلسفتهم على الشك والتشكيك ، فيجعلون هذا الجهل والتجهيل أقوى وسائل العلم والتعليم ، وقد رد عليهم [الأمير] أحسن الردّ في مقدمته التي وضعها لكتاب «النقد التحليلي لكتاب في الادب الجاهلي» تأليف صديقه وصديقنا الأستاذ محمد أحمد الغمراوي. مصححه.

(٣) [هو د. طه حسين في كتابه «في الشعر الجاهلي» وقد رد عليه غير واحد من أعلام العصر ، ومن أجمع هذه الردود كتاب «مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية» للدكتور ناصر الدين الأسد].

١٧٢

الكلام على صخور تلك البلاد

مما اقتضى عجبي في الطائف شكلّ الصخور (١) ـ فإنّه غريب جدا من وجوه :

أولها : أن الصخور والجنادل هي بكثرة زائدة في كل هاتيك الجبال ، وفي السهوب التي تتخللها.

ثانيا : أنها قد توجد مجموعة في أمكنة معلومة ، متراصفة بعضها إلى بعض ، كأنما هي مجتمعة على ميعاد.

ثالثها : أنه تغلب عليها الملاسة بخلاف صخور جبالنا الشامية ، التي تغلب عليها الحرشة (٢) ، إلا ما كان منها في الأودية السائلة.

رابعها : أنّ أشكال بعضها غريبة جدا ، منها ما يشبه الشجر ، ومنها ما يشبه البشر ، ومنها ما تخال أنه ينظر بعيون ، ومنها ما تخاله مطرقا برأس ، ومنها ما هو مجوّف تجويفا يظنّه الرائي من صنع البشر ، أو مثقوب من مكان إلى آخر ، وإنّ كثيرا من هذه الجنادل تراه منضودا بعضه فوق بعض ، وفي أعلى الجميع صخرة رئيسة ، تشبه رأس المنارة.

والبدو يرون في هذا جميعه يد الباري تعالى ، التي جعلت هذه الأشكال لأجل العبرة في قدرته تعالى.

__________________

(١) [عامة الطائف تجمع صخرا على أصخار ، والحال أن فعلا بفتح أوله لا يجمع على أفعال ، إلا في ألفاظ معلومة].

(٢) [الخشونة].

١٧٣

ولا شكّ في يد الله تعالى في هذا وفي كلّ شيء ، ولكنّ الفرق بين العالم والجاهل هو في معرفة الأسباب المتوسطة ، فالعالم يرى ثمّة الأسباب ، وكلّما ازداد علما طالت معه السلسلة ، فلا يزال يرتقي من سبب إلى سبب ، ومن معلول إلى علة ، حتى يقف حماره في العقبة ، فيقول : لا أدري ، أو يقول : هكذا خلق الله.

وأما الجاهل فإنّه يصل إلى الله رأسا ، ويحذف السلسلة المتوسطة (١).

على أنّ العالم والجاهل مستويان في العجز عن معرفة الكنه.

فهذه الصخور التي في الحجاز لا بدّ من أن تكون لأوضاعها وأشكالها هذه أسباب طبيعية متولّدة عن أسباب سابقة ، والذي يراها أول وهلة يحكم أنّ هذه التجاويف والتقاعير ، وهذه الملوسة ، وهذا التدوّر ، وهذا الترأس ، وغير ذلك ـ إنما هي من عمل الريح والماء في ملايين من السنين. وأنّ هذه الصخور العالية المشرفة المنتصبة على رؤوس أكوام أشبه بالأنصاب ، كأنها التماثيل التي ينحتها البشر بأيديهم ، وينصبونها فوق مكان مرتفع ـ إن هي إلا بقايا صخور كانت كثيرة متلاصقة ، فلم تزل سحب الأمطار الغزيرة تجرف من حولها الأتربة اللازقة بها ، وتخلّ بموازنة بعضها ، فتهوي به من محله ، وتجرّه إلى الوادي ، وتعرّي القائم الباقي منها ، وتجرّده من التراب ، فيصير أملس مع شدة صلابته.

ولقد وجب الآن أن نذكر شيئا عن نظريات العلماء في شأن الصخور فنقول :

__________________

(١) أجدر بمن يعلم سلاسل الأسباب والنظام فيها أن يكون أعلم بكمال خالقها في علمه وحكمته ومشيئته وقدرته.

١٧٤

كيفية تشكل الصخور

أو سنة الله في تكوين الأرض وطبقاتها

كانت الأرض من قبل اليوم بمئات ملايين من السنين عرضة لهزاهز بركانية عنيفة ، وكانت يومئذ غير مولدة ولا منبتة ، وكانت سيول الأمطار تغسل الأرض بدون انقطاع ، والأنهار تجري فيّاضة إلى البحار ، وكانت تجرف كتلا عظيمة من الطين ، فتصير بعد صلصالا ، ويصير المرمل منها من نوع حجر المسنّ.

ولقد عرف علماء الجيولوجية هذه الكتل المتجمدة ، وما فيها من مواد ، وحكموا عليها بحسب طبقاتها ، لأنها ذات طبقات ، وعندهم أنّ أقدم الصخور هي التي تكوّنت قبل تكوّن الأبحر المعروفة اليوم ، فإنّ الأرض يومئذ كانت أسخن من أن تتحمّل بحرا منفصلا عن برّ ، وإنما كانت الكرة [الأرضية] في أول الأمر كلّها مائعة ، ومياه البحار الموجودة اليوم كانت بخارا مختلطا بالهواء ، وكانت الطبقات العليا من الهواء ملأى بالسحب المتكاثفة ، التي تمطر مياه حارّة فوق الصخور ، ثم تعود فتتبخر ثانية.

وبهذه الكيفية أخذت الأرض تجمد تدريجا ، وظهرت الكتل التي يقال لها صخور ، وكانت هذه ذات قشرة تحتوي مادة سائلة شبيهة بمقذوفات الأطمات النارية ، عندما تأخذ بالبرودة ، وهذه القشرة كانت على شكل رغوة ، وصارت تذوب ، ثم تجمد ، ثم تذوب ، ثم تجمد ، بدون أن يتسنّى لها صلابة مستمرة.

ثم مضت ألوف من القرون كان من عملها أنّ بخار الفضاء ازداد تكاثفا ، وصار يتساقط ماؤه على الأرض سيولا حارّة ، فيصيب الصخور ، ويملأ المنخفضات والأغواط ، فتكوّنت من امتلاء هذه الغيطان الأبحر والبحيرات والمستنقعات ، وكانت المياه تأتي إلى هذه

١٧٥

الصخور بالرواسب التي تكوّنت منها الأراضي ، ومن هذه الرواسب ما كان يتراكم في المنخفض من الأرض ، ولكنّ الهزاهز البركانية كانت لا تدع شيئا منها يطمئنّ ، وكانت المياه تعجّ ، ولا تزال تكنس القشرة الأرضية ، فهذه الصخور مضى عليها من صنوف الاضطراب ما لا يعلمه إلا صانع الجميع من العدم ، وبعضها جاء طبقا فوق طبق ، وبعضها قد قشّرته الاضطرابات ، وقد برز لا يحجبه حاجب ، ومنها ما انفلق ، ومنها ما انحطم بعوامل جديدة من حرارة صاهرة ، أو برودة مؤدية إلى الجمود.

ولم تكن هذه الصخور طبقات منتظمة لشدة ما مرت به من أدوار الاضطراب المختلفة ، فتعذّر على العلماء فهم تاريخها بسبب التبعثر ، وعدم الاطراد ، وفقد النسق ، وغاية ما عرفوا عنها وجود المواد المستحجرة ، مما كان نباتا أو حيوانا ، فهذا كان قد بدأ اليونانيون يعرفونه قبل المسيح بأربعة قرون ، فقد جرى البحث فيه بين فلاسفة الإسكندرية.

ويقول الكاتب الفيلسوف الإنكليزي ولز : إنّ العرب عرفوا أيضا هذه المباحث في القرن العاشر بعد المسيح (١) إلا أنّه لم يبدأ العلم الحقيقيّ بهذه المواد المستحجرة إلا من مئة وخمسين سنة فقط ، فصار الإنسان يحلّ شيئا فشيئا من سطورها التي كانت مستعجمة ، ولمّا يتفق الجيولوجيون على عمر هذه الصخور ، فإنّ أقدمها يقدّر له مليار وستمئة مليون سنة ، وأحدثها عشرات ملايين من السنين.

__________________

(١) قال الإمام الرازي : الأشبه أنّ هذه المعمورة كانت في سالف الزمان مغمورة في البحار ، فحصل فيها طين لزج كثير ، فتحجّر بعد الانكشاف ، وحصل الشهوق بحفر السيول والرياح ، ولذلك كثرت فيها الجبال.

ومما يؤكد هذا الظن أنّا نجد في كثير من الأحجار إذا كسرناها أجزاء الحيوانات المائية ، كالاصداف والحيتان ا ه من «شرح المواقف».

١٧٦

وقد كانت الأرض في آماد ـ لا يمكن أن يتصوّر العقل عددها ولا مددها ـ كتلة مشتعلة بدون حياة ، ثم مضى عليها آماد بقدر الأولى ، وهي جامدة غاية ما فيها من الحياة جراثيم في غاية الصغر ، تحتوي عليها أصغر نقطة من الماء ، ولكن بعد ذلك دبت الحياة في الأرض ، ووجدت المخلوقات الدابة ، بدليل أنّهم عثروا في هذه الصخور الأصلية الرسوبية على مواد رصاصية ، وعلى أكسيد الحديد الأحمر والأسود ، مما استنتجوا منه سبق خلائق حية ، إذ لا يمكن أن تكون هذه المواد إلا بقايا خلائق كهذه.

ونقول باختصار : إنّ تاريخ دبيب الحياة على الأرض مقترن بتاريخ تجمّد الصخور ، فالكرة [الأرضية] كانت سديما ، فصارت ماء ، إلى أن صارت جمادا ، إلى أن خرج من الجماد النبات فالحيوان ، وقد كان هذا التحوّل فيها يميلها من الحرارة إلى البرودة بتوالي الدهور.

والجيولوجيون يرون أنّ هذه البرودة ستزداد إلى حد أنّه ـ بعد ملايين وملايين من السنين ـ يموت كلّ ما على وجه الأرض من الخلائق الحيّة (١).

__________________

(١) هذا التقدير الذي يقدّرونه لحياة الأحياء على هذه الأرض هو من قبيل تقدير العمر الطبيعي لكلّ حي بحسب استعداده للحياة ، بمقتضى النظام الذي عرف بالاختبار في استكمال نمو جنسه ، وأطوار طفولته وشبابه وكهولته وشيخوخته.

ولكنّ العمر الطبيعي المقدّر في ذلك غير العمر الحقيقي ، الذي تحول دون وصوله إلى العمر الطبيعي بعض الأقدار الإلهية من قتل أو وباء أو مرض لا يوفّق لمعالجته ، بما يكون سبب الشفاء ، كما وفّق الأمير أطال الله حياته بالصحة والعافية.

كذلك الأرض ، يظهر من نصوص كتاب الله خالقها أنّ لها عمرا ينتهي بقيام الساعة التي قال فيها : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف : ١٨٧] ووردت آيات متعددة ناطقة بأنّ ذلك يكون بقارعة تقرعها ، وصاخّة تصخّها ، فتكون هباء

١٧٧

فلما كانت الحرارة زائدة على الأرض ، لم تحمل الأرض الحياة ، لأنّ الحياة لا تتحمل الحرارة الزائدة ، وعندما تنقص الحرارة نقصانا زائدا لا تحمل الأرض الحياة ، لأنّ الحياة لا تتحمل البرودة الزائدة ، كلّ ذلك يدلّ على ضرورة التوازن لأجل الحياة.

ولعلّ بعض القراء يشمئزون من هذه المباحث الكفرية ، ويرون هذه التعليلات مما لا يأتلف مع العقيدة ، وهذا خطأ محض ، لأنّ هذه الأدوار التي لا تحصى إلا بالملايين والمليارات من السنين ، هي أدلّ على قدرة الخّلاق الحكيم تعالى ، وهي ولو طالت أضعاف ما هي [عليه] ، لما أمكن أن يعلّل لها وجود إلا بواجب الوجود.

وأما أنّ الأرض وغيرها من الأجرام الفلكية كانت كلها كتلة واحدة من البخار ، ثم تفصّلت كرات شتى ، وأخذت كلّ منها تتجمّد شيئا فشيئا ، أو أنّ مبدأ الحياة كان في الماء ، فليس إلا وفقا للوحي النازل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠].

ولكنّ قصور مفسرينا في العلوم الطبيعية وقف بهم عن فهم المراد من قوله تعالى في أكثر الآي الكريمة التي من هذا الضرب ، وكانوا إذا قرأوا (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) [الدخان : ١٠]. أشكل عليهم فهم الدخان هنا ، فقالوا : إنّ مراده تعالى يوم تأتي السماء بجدب أو قحط ، لأنّ الجائع يرى بينه وبين السماء دخانا من شدة الجوع ، أو أنّ الجوع يقال له : الدخان ، لما في الأرض من اليبس في الجدب ، بحيث يرتفع منها الغبار الذي هو كالدخان ، وما أشبه ذلك من التفاسير ، التي هي

__________________

سديميا ، كما كانت قبل تكوينها (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا)][الواقعة : ٤ / ٦] وقد فصّلنا ذلك في «المنار» و «تفسيره» مصححه.

١٧٨

أبعد من السماء عن الأرض (١) والكتاب في محكم آياته قد تأيّد بظهور النظريات العلمية العصرية ، التي أجمعت على الرأي السديمي في مبدأ التكوين ، وأثبتت أنّ هناك كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنّه أشار بكلمات موجزات تلخّص فيها الرأي السديمي الذي أجمعوا عليه في هذا العصر ، على حين أنّه في زمن نزول القرآن لم يكن رأي سديمي ولا شيء من هذه النظريات ، وكان الذي أنزلت عليه هذه الآيات أميّا لا يقرأ ولا يكتب.

ومن أراد أن يعلم معجزات القرآن من جهة سبقه إلى ذكر النواميس الطبيعية التي عوّل عليها العلماء اليوم في أمر التكوين ، فليقرأ كتاب «سرائر القرآن» للغازي الفلكي الرياضي أحمد مختار باشا رحمه‌الله (٢).

__________________

(١) لقد كان للأمير مندوحة عن تخطئة هذا التفسير للآية بالاستدلال على الرأي السديمي في التكوين بقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] فهي نصّ في التكوين من الدخان ، الذي يطلق على بخار الماء ، وفسر به في الآية وعلى ما يشبهه.

[أما] الآية التي ذكرها [الدخان : ١٠] فموضوع الدخان أمر يرتقب حصوله في المستقبل ، وفيه قولان مشهوران مرويان لا رأيان للمفسرين.

الأول : ما ذكره الكاتب مجملا ، وهو مرويّ على أنّه سبب لنزول الآية في «الصحيحين» [خ (٤٥٤٨) م (٢٧٩٨)] عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه.

والثاني : أنّه دخان يكون من أشراط الساعة ، وفيه عدة أحاديث ، مصححه.

(٢) قد سبقنا أحمد مختار باشا إلى بيان كثير من هذ المسائل في «المنار» وفي «تفسيره» ، مصححه.

١٧٩

قرية لقيم وكرومها ومياهها

إنّ المسافة من المكان الذي كانت فيه سوق عكاظ إلى مدينة الطائف هي نحو من ساعة بسير الكهرباء ، وجميع المسافة من البلد الحرام إلى الطائف بالكهرباء نحو من خمس ساعات.

وأول ما يستقبل الإنسان في مسيره إلى الطائف هي قرية لقيم ـ بضم ففتح فسكون ـ وهي قرية لطيفة فسيحة الأرجاء ، لا يظنّها من رآها قرية واحدة ، وذلك لتفرّق بيوتها ، وتراخي ما بين حاراتها ، والسبب في هذا التفرّق أنّ أكثرها خاص بالأشراف ، وأكثرهم يسكنون في بيوت منفردة مسوّرة ، تحيط بها بساتينهم ومزارعهم ، فكلّ واحد منهم يريد أن يعيش مستقلا بنفسه في منزله وزرعه وضرعه وجميع مرافقه ، ومعظم هؤلاء الأشراف هناك من ذوي ناصر ، وأشهرهم لهذا العهد الشريف فطن ، فهو أطولهم يدا ، وأوسعهم كرما ، وأكثرهم كروم عنب ، ومما لا ينبغي أن ينسى أنّ عنب لقيم هو رأس عنب الطائف في اللذة والحلاوة ، وأنّ عنب وادي محرم ـ أي قرن المنازل ـ هو رأس عنب الطائف في كبر الحجم مع الحلاوة ، وتحسبه جوزا إذا رأيته ، وقد كنّا نضع منه الحبة في دورق الماء ، فتقف في عنقه وتسدّه.

وفي لقيم عدد غير قليل من السواني ، تحركها البقر ، لا بالدوران حول البئر ، كما هو الشأن في سورية مثلا ، بل بالنزول في منحدر من الأرض إلى جانب البئر ، ثم الصعود ثانية ، فإذا نزلت الدابة في ذلك المنحدر ، صعدت الظروف المعلقة بالأشطان من قعر البئر ، وقد

١٨٠