الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

ولا يقدر أحد أن يحتجّ على ارتفاع هذا الواجب عنهم بأنّ الحجّاج يؤدون ما عليهم للمطوّفين ، ويؤدّون رسوما أخرى لإدارة الصحة وغيرها ، وأنّ هذا جائز لأجل إصلاح أحوال الحجاز ، كاف لشفاء النفس من هذه الأمنية ، فإنّ الأجور التي يؤديها الحجاج للمطوّفين لا تكاد تقوم بأود هؤلاء ، وأنّ الرسوم الأخرى التي يذكرونها إن هي إلا سداد من عوز ، وأنّ على الحكومة الحجازية من الواجبات الضرورية ما لا يتيسّر معه التوفّر على الأمور الكمالية (١). ولا بدّ لمن ضاقت ذات يده من تقديم الأهم على المهم ، وماذا يتطلب المسلمون من حكومة الحجاز ، ودخل هذه الحكومة لا يزيد على جزء واحد من أربعين من دخل الحكومة المصرية مثلا.

فالمسلمون يقدرون أن يقوموا بهذا الواجب ، بدون أن يضطروا إلى جمع إعانات ، واستتدار أكفّ ، مما لو كانوا فعلوه لكان بهم قمينا ، وذلك بأن يسلّموا ما في ديارهم من مال الحرمين للحرمين ، فكلّ أحد يعلم أنّه لا تكاد توجد بلدة من بلاد المسلمين كبيرة أو صغيرة إلا وفيها أوقاف للحرمين الشريفين.

ولا نبالغ إذا قلنا : إنه لو اجتمع ريع العقارات الموقوفة على الحرمين الشريفين ، بعد ردّ جميع هذه العقارات إلى أصلها ، واستغلالها على حقها ، لكانت تضاهي دخل مملكة عصرية من الدرجة الثالثة ، وكانت تكفي لإزاحة جميع علل الحجاز وأصارته (٢) من الجهة العمرانية إلى درجة لا يقل فيها عن أيّ قطر من الأقطار المجهزة بجميع أسباب المدنية.

__________________

(١) [قد قامت الحكومة في الحجاز بما يتمناه كل حاج من وسائل الراحة بفضل الله سبحانه].

(٢) [أعبائه].

١٤١

فبدلا من أن يوفّر المسلمون هذه الحقوق لأهلها ، وأن يجنوا حاصلات هذه الأوقاف الدّارّة ، ويقدموها إلى محلها ، بحسب شروط واقفيها ومرصديها ، لا نجدهم عنوا في شيء من الأشياء عنايتهم في محو هذه الحبوس (١) ، التي منذ ثلاثة عشر قرنا يجود بها الآباء ، ويخيس بها الأبناء ، إنّ شرط الواقف كنص الشارع هي جملة كادت تذهب من أذهان المسلمين قاطبة ، إلا من رحم ربك.

فبعض هذه الأوقاف درست تماما بأيدي النظّار الخائنين ، وبإغضاء القضاة المواطئين ، على مشهد من العلماء المدلّسين ، وبعضها تحوّل عن أصله ، وأجري في غير مصالح الحرمين ، وخولف به شرط الواقف ، بدون عذر ولا مسوّغ شرعيّ ، وجميع هؤلاء ساكتون ، وبعضها بقي باسم الحرمين الشريفين ، ولكنّه يرفع منه إلى الحرمين من الجمل أذنه ـ كما يقال.

وياليت شعري من يفعل هذا ، أو من يقرّ على هذا ، فلا أدري كيف يصلّي! وكيف يصوم! وكيف يحجّ! وكيف يظن أنّه قام بفرائض الإسلام؟ ولا أقول : كيف يزكّي؟ فقد قلّ اليوم من يفكّر بفرض الزكاة؟ فالزكاة وتأدية حقوق الأوقاف هما من الأمور التي كادت ألا توجد إلا في الكتب الفقهية ، يتعلّمها النّاس من قبيل العلم بالشيء ، لا من أجل العمل بهذا العلم.

وإذا جرى شيء من العمل بشروط الحابسين ، فلا يكون إلا في نفس البلاد التي فيها الحبوس ، وهذا من خوف النظّار والقضاة أن تنتقض عليهم العامة ويسقطوهم ، فأما إذا أمنوا خوف ثورة العامة فالوقف إلى الدثور أسرع من الماء إلى الحدور ، وعلى كلّ حال شرط الواقف كاد يفقد كلّ حرمة.

__________________

(١) [الأقاف].

١٤٢

وأغرب من هذا أنّه لم يكف تلاعب النظّار بالأوقاف ـ ولا سيما بأوقاف الحرمين ـ وإغضاء القضاة والعلماء على هذه العظيمة ، حتى صارت الحكومات الإسلامية هي أنفسها تستبدّ بأوقاف الحرمين ، وتمنع إيصال ريعها إلى الحرمين ، غير مراقبة شرط واقف ، ولا نصّ شارع ، ولا رضى خالق ، ولا لسان مخلوق.

هذه هي الحكومات الإسلامية ، التي هي أجيرات المسلمين في مهامهم العامة ، وليس في أيديها شيء إلا من فضلهم ، وليست هي بأجمعها شيئا لولاهم ، وإنما كان وجودها لأجل صيانة مصالحهم الدينية والدنيوية معا ، لا مصالحهم الدنيوية فحسب.

فهذه الحكومات بلعت جانبا من هذه الأوقاف ، ومحت رسومه ، وجعلت شروط واقفيه كأمس الدابر ، وأكلت ريع الجانب الآخر ، وحولته إلى مهالك معلومة ، ليس لها تعلق بالحرمين الشريفين ، ولم تبال ما عملت ، وكانت إذا رفعت إلى الحرمين صرة دراهم ، أو شحنت سفينة حبوب ظنّت أنّها تتصدّق على أهل الحجاز من مال أبيها (١) :

وقد فشت هذه العادة الذميمة في الحكومات الإسلامية بفشو الاستخفاف بالدين ، وبحمل الواجبات الدينية على المبادىء القومية ، والحال أنّ الدين لا علاقة له بالقومية ، وكلّ منهما له حدود غير موقوفة على حدود الأخر ، ونحن نجد أنّ الفاتيكان مرجع ديني لأربعمئة مليون كاثوليكي ، وهم من أجناس لا يحصى عديدها ، ونجد أنّ خزانة البابا كخزانة دولة من الدول ، ولم يمنع كاثوليك الدنيا أن يرفعوا إليه إعاناتهم وصدقاتهم ـ كونه طليانيا ، وكون الفاتيكان في إيطالية.

__________________

(١) [انظر ما قاله المؤلف ص (٩٧)].

١٤٣

طمس الدول المستعمرة أوقاف المسلمين

اقتداء بحكوماتهم في الاعتداء عليها

ولما غلبت الدول المستعمرة على القسم الأكبر من العالم الإسلامي ، ووجدت من صنيع الحكومات الإسلامية التي ورثتها ما وجدته في الأوقاف عموما ، وأوقاف الحرمين خصوصا ، حمدت غبّ هذه المفسدة ، واتخذت منا حجة تستظهر بها في طمس الأوقاف الإسلامية ، وإخفاء معالمها ، فإنّها تقول للمسلمين : إنّي لم أفعل شيئا إلا ما كانت حكوماتكم تفعله .. وأجدر بما كان يفعله المسلم بوقفه أن يفعله المسيحي ، وهو لا يعتقد من حرمة مسّ هذا الوقف ما يعتقده المسلم.

إذا ، فالتلاعب بالأوقاف والحبوس كان مبدؤه من المسلمين أنفسهم ، فلما غلب على بلادهم الإفرنج قلّدوهم فيه ، ولم يكن فرق بين الفريقين إلا في أنّ المسلمين كانوا يتملّكون الأوقاف بمرور الزمن ، أو يحولونها عما حبست عليه ، أو يبقونها على اسم الحرمين ، أو أسماء الجهات الخيرية الأخرى ، ويأكلون أكثر ارتفاقاتها ، وأنّ الإفرنج عند ما غلبوا على بلاد الإسلام استولوا على كثير من هذه الأوقاف ، ووهبوها إلى الكنائس ، وإلى جمعيات المبشّرين ، وإلى الرّهبان ، ورأوا بذلك الجمع بين غرضين مهمين :

أما الغرض الأول : فهو طمس هذه الأوقاف من أصلها ، لأنّ الإفرنج

١٤٤

لا يكرهون في الدنيا شيئا كرههم للأوقاف الإسلامية ، ولا يخافون في مستعمراتهم من شيء كمخافتهم منها ، لأنّهم يعتقدون أنّ المسلمين إذا أحسنوا إدارتها وضبط حاصلاتها ، كان لهم منها منبع إمداد عظيم في أمورهم السياسية ، فلذلك تراهم يسعون بقدر طاقتهم في محو رسومها.

وأما الغرض الثاني : فهو إمداد المبشرين والرهبان ، وتوطيد أقدامهم في بلاد الإسلام ، ليتمكّنوا من بثّ دعايتهم بين المسلمين ، مما لم يبق خافيا على أحد ، ومما لم يبق أدنى سبيل للمكابرة فيه ، فبدلا من أنّ هذه الحكومات المستعمرة تشتري لهؤلاء المبشرين والدعاة عقارات وأراض من مالها ، تجد الأقصد والأوفق أن تصرّفهم في أوقاف المسلمين ، فتكون أغنتهم من كيس غيرها ، وتكون جمعت بين دفع ما تعتقده ضررا ، وجرّ ما تعتقده منفعة.

والمجلّية في هذه الحلبة ـ والحق يقال ـ من بين جميع الحكومات المستعمرة هي الحكومة الإفرنسية ، فلم نعهد حكومة استطابت طعم أوقاف المسلمين مثلها ، ولا استحلّت طعمتها للرهبان والمبشرين بدرجة استحلالها ، ولقد تمكنت منها عادة التسلّط على أوقاف المسلمين في المغرب إلى حد أنّها حاولت مثل ذلك في المشرق ، فهي تأبى إلا أن تسيطر على أوقاف المسلمين في سورية ، برغم أنّ النصارى واليهود فيها متصرّفون في أوقافهم بتمام حريتهم.

وقد راجعنا في هذا الأمر جمعية [عصبة] الأمم ، وأوضحنا لها كيف أنّ الدولة المنتدبة في سورية تترك النصارى واليهود أحرارا في أوقافهم ، وتتعرّض لأوقاف المسلمين خاصة؟ وكيف أنّها وهبت الرهبان وقفا عظيما من أوقاف المسلمين في اللاذقية وغير ذلك ، ووجدنا لجنة الانتدابات الدائمة تؤيّد رأينا في هذه المسألة ، وتقترح على فرنسة ترك مسلمي سورية أحرارا في أوقافهم ، كما هم مسلمو فلسطين ، التي هي تحت انتداب إنكلترة ، ولكنّ الحكومة الإفرنسية لا تبرح تماطل وتتعلل

١٤٥

في هذا الأمر ، برغم ميل لجنة الانتدابات إلى إنصاف المسلمين فيه.

وإذا رجعنا إلى أصل البلية وجدناها من المسلمين أنفسهم ، لأنّ حكوماتهم لما كانت مستقلة ، ولأنّ حكوماتهم المستقلة الباقية إلى اليوم ـ تصرّفت بالأوقاف تصرفا سيئا مخالفا للشريعة ، منافيا للأمانة ، فمهّدت للدول المستعمرة العذر في طمسها لهذه الأوقاف أصلا ، وفي هبتها منها للرهبان ، وسيطرتها التامة على ما أرادت إبقاءه منها للإنفاق من ريعه على المساجد.

ولا يزال حتى اليوم في بلاد الإسلام أوقاف لا تحصى محبوسة على الحرمين الشريفين ، كان يجب على حكومات هذه البلدان من إسلامية أو أجنبية أن تحسن إدارتها ، ولا تحتجن شيئا من حاصلاتها لإنفاقها في حاجات أخر ، بل ترفعها كلها إلى الحرمين بحسب شروط الواقفين.

وإذا قدّرنا أنّها لا تثق بحكومة الحجاز أو بأعيان أهالي الحجاز في قضية توزيع هذه الصدقات ، أو إنفاق هذه الأموال في وجوه الخير ، فليس عليها أكثر من الإشراف أو الاشتراك مع حكومة الحجاز في التوزيع أو الإنفاق على المشروعات الخيرية التي بإحيائها يعمر الحجاز.

ولعمري إنّ الأولى بهذه الحاصلات الورادة من الآفاق إلى الحجاز إذا وردت أن ينفق جلّها ـ إن لم ينفق كلّها ـ على تأسيس ملاجىء للفقراء وللأيتام ، حتى لا يبقوا عالة على الناس ، ووقرا على الحكومة ، وفي بناء مستشفيات ومصاحّ للمرضى والضعفاء ، الذين يكثر عددهم في الحجاز بكثرة الغرباء ، ولو كان هواء الحجاز بحدّ ذاته نقيا ـ وكذلك في تشييد مدارس صناعية ، ومشاغل يحشد إليها العاطلون من العمل ، والعائشون من التسول ، وعلى مشروعات أخرى خيرية عامة ، لا ينحرف فيها البرّ عن أصله ، ولا يخرج الوقف عما ربط عليه ، مع التباعد فيه عما يغري الأهالي بالكسل ، ويعوّدهم البطالة ، ويوجد عندهم عقيدة

١٤٦

معناها أنّ أهل الحجاز أو أهل الحرمين الشريفين لا يجب عليهم الكسب من عرق جبينهم ، ولا الاشتغال بصناعة أو تجارة أو زراعة ، وإنما وجدوا ليعيشوا من مجرّد الصدقات والمبرات وهدايا العالم الإسلامي ، مما لا يليق بهم ، ولا ينفعهم ، ولا يكفيهم ، مهما كثر ، لأنّ الإنسان الذي لا يعيش من كسب يده يجد نفسه دائما في ضيق ، وقد شاهدنا ذوي الثروة والحاصلين على الكفاية من أهل مكة والمدينة إنما هم من أصحاب الأشغال والمتاجر ، لا من أصحاب الرواتب والمعاشات ، التي لا يبرح عائلا من اعتمد عليها.

* * *

١٤٧

مرضي في مكة المكرمة وأسبابه

وتأثيره فيّ أثناء أداء فريضة الحج

إذا كان الأجر على قدر المشقة ، فقد كتب الله لهذا العبد أجرا عظيما ، فإنه لم تمض على مقامي بقرب المقام أكثر من تسعة أيام ، حتى انحلّت قواي ، والتاث مزاجي ، وأصبحت مريضا ، تتصاعد بي الحمّى إلى أن بلغت درجة الأربعين ، وذلك أنّي من أبناء جبل لبنان ، ولم تألف أجسامنا الحرّ الشديد الذي ألفته أجسام إخواننا أهالي جزيرة العرب ، لا سيما سكان التهائم منهم ، كنت من أصل فطرتي أكره الحرّ وأفرّ منه ، ولم أكن أيام القيظ أفارق الصرود ، وهذا كان سبب اصطيافي في عين صوفر مدة تزيد على عشرين سنة ، وقد نشأ عن شدة رغبتي في ذلك المكان أنّي اقتنيت فيه الكروم والعقارات ، وتأثّلت ما يقارب ثلثمئة ألف ذراع مربع من الأرض ، ولم تكن درجة الحرارة في صوفر تزداد بميزان سنتيغراد على (٢٣) إلا نادرا ، وكذلك كنت أقيم أحيانا بعاليه ، وحرارتها لا تعلو فوق (٢٦) أو (٢٧) إلا نادرا.

ومنذ اثنتي عشرة سنة أنا في أوروبة ، وليست هذه القارة بالتي يشكو فيها الإنسان شدّة الحر ، وما أذكر أنّي لقيت في أوروبة شيئا يستحقّ اسم الحرّ ، إلا في رومة ، إذ صادف وجودي فيها إحدى المرار في شهر يوليو ـ تموز ، ومن المعلوم أنّي أقمت سنوات بألمانية ، وهي لا تعرف الحرّ إلا عابر سبيل.

وإنيّ منذ سنوات في سويسرة ، وهي لا تدري شيئا من حمّارة

١٤٨

القيظ ، وعدا ذلك تراني في سويسرة نفسها أقضى الصيف من قنة جبل إلى قنة جبل ، فتارة في القنة السمّاة روشة دونيه فوق مونترو وهي تعلو عن سطح البحر ألفين وخمسين مترا ، وطورا في شتانسر هورن فوق بحيرة لوسرن ، وهي قنة بيضية الشكل ، تعلو عن سطح البحر (١٩٥٠) مترا ، وأحيانا في القمم الشامخة التي تقابلها مثل بيلاتوس المشرفة على لوسرن إشراف المنارة على الجامع ، ومثل ريغي التي يطل منها الرائي على ثماني بحيرات في لمحة واحدة من شفير شاهق.

ومن شدة غرامي بهذه القنن ، التي قد كنت أصادف فيها الثلج أحيانا في شهر أغسطس ـ آب ، أتذكر أنّي تركت قنة غورتن كولم في برن ، وذهبت فانتجعت قنّة شتانسر هورن في لوسرن ، لأنّها أعلى من الأولى ، وأقمت هناك شهرا ، إلى أن جاءني كتاب من سعادة الأخ الشهم الهمام عبد الحميد بك سعيد ـ رئيس جمعية الشبان المسلمين الآن في مصر ـ امتع الله الإسلام بطول حياته ، وكان يسكن في غورتن كولم في الفندق الذي أنا فيه ، فكان يؤنبني في هذا الكتاب على تلك العزلة برأس جبل شتانسر هورن ، ويقول : لا يحلّ لك هذا.

والخلاصة أنّ برودة جو سويسرة كلّها لم تكن تقنعني ، وكنت أنتجع منها الشناخيب ، التي أستيقظ فيها صباحا ، فأرى الأرض التي حولنا بيضاء من الثلج ، وذلك في إبّان فصل القيظ ، وقبل ذلك لما كنت في جبلنا لبنان ، لم تكن عين صوفر ـ وهي في ارتفاع (١٣٥٠) مترا ـ تقنعني وتكفيني ، فطالما قصدت أبهل الباروك (١) ، وتوأمات نيحا ، وهي تعلو (١٨٠٠) متر (٢) وغير ذلك. فكيف بي الآن ، وقد صرت في إقليم

__________________

(١) الأبهل بفتح فسكون شجر الأرز ، وفي جنوبيّ لبنان يقولون أبهل ، وفي شماليه يقولون : أرز ، وكلاهما صحيح ، وهو على ارتفاع ألفي متر ا ه من الأصل.

(٢) سميت توأمات لأنّها عبارة عن قنتين متناوحتين متجاورتين ا ه من الأصل.

١٤٩

حرارته تقابل من (٤٠) درجة بميزان سنتيغراد إلى (٥٠) ، وذلك لأوّل مرة في حياتي.

لا جرم أنّي لم أتحمّل هذا الفرق الشاسع ، ورأيت نفسي هبطت هبطة واحدة كما يقع الزق عن الظهر لا متدرجا ولا متدحرجا.

وكان قد سبق أنّي لما مررت بمدينة السويس منتظرا باخرة البوسطة المصرية للركوب بها إلى جدة ، لم يشاؤوا أن يمهلوني يومين ، ريثما يأتي ميعاد سفر الباخرة ، بل صدر الأمر بتسفيري على باخرة هندية سيئة الحال ، مسلوبة جميع أسباب الراحة : في المنام ، والغذاء ، والجلوس ، وكل شيء ، وناهيك أنّه كان فيها نحو (١٥٠٠) حاج ، وأنّها كانت من البواخر الصغيرة ، فبعد هذا لا ينبغي لي أن أطيل الشرح ، وأن أقول : كيف مرضت؟ وإنما أقول : إني وطئت أرض جدة ملتاثا.

ثم إني لما وصلت إلى مكة ، نزلت في منزل سعادة ولدنا فؤاد بك حمزة ، وكيل الشؤون الخارجية ، فهيأ لي سريرا على السطح ، كما هي عادة أهل البلد الحرام في أيام الصيف ، ولكنّ هذا السطح لم يكن مفتوحا من جوانبه الأربعة ، كما هي بعض السطوح ، لأنّ الباني الأصلي لذلك البيت (١) كان قد حوّطه بجدران عالية فوق قامة الإنسان غيرة على الحرم أن ينظر أحد لهن شبحا ولو من بعيد ، فأصبح السطح مسدودا من كل جهاته إلا من الأعلى ، فلم يكن الإنسان ينظر منه إلا القبة الزرقاء.

ومن عادة الناس أن يفتحوا في الحيطان نوافذ لأجل الهواء ، أو للنظر عند اللزوم ، فأما هذا السطح فلم تكن في جدرانه العالية إلا قمريتان أو ثلاث ، مشبّكات بحجارة مستديرة ، بينها ثقوب ضيقة ،

__________________

(١) ليس هذا من عمل باني ذلك البيت وحده ، بل عامة البيوت هنالك مثله ، تترك فيها حجرة بغير سقف ولا نوافذ ، لأجل السهر والنوم فيها ، مع عدم كشف الجيران ونظرهم.

١٥٠

لا تكاد المسلّة تدخل في الواحد منها ، فكانت في حكم كأن لم يكن من جهة نفوذ الهواء ، هذا على فرض وجوده (١).

ولما جئت لأضطجع في السرير الوثير ، قيل لي : إنّه لا بدّ من الدخول تحت الكلّة بلباقة عظيمة ، حتى لا يتسنّى للبعوض أن يدخل ورائي ، فإنّ البعوض هناك تجب الوقاية منه ، فكنت أدخل تحت الكلّة وأنا أسترق السمع ، حتى إذا سمعت طنين بعوضة اجتهدت في محوها أو طردها ، وكنت طول الليل كأنّي تحت الحصار ، أحاذر أن تقع مني حركة يرتفع بها شيء من سجوف الكلة ، فيهجم من خلال ذلك البعوض ، وتسوء العاقبة. على أنّ قولي (طول الليل) صورة من صور التعبير ، فإني ما قدرت ولا ليلة أن أبقى تحت ذلك الحصار أكثر من ساعة ، لأنّ السرير ، كان مسدودا بالسجوف السابغة ، والسطح كان مسدودا بالجدران الإسكندرية العالية ، فلم يبق من سطحيته إلا الاسم ، والحر كان شديدا ، وبالاختصار كدت أختنق ، وصبرت إلى أن غرق مضيفي الشاب في لجة الكرى ، ونزلت إلى سطح آخر مفتوح من كلّ الجوانب ، يرقد عليه الخدم بدون أغطية ، ولا سجوف مسدولة ، ولا خشية بعوض ، ولا اتقاء جراثيم ، وقلت في نفسي : ليفعل البعوض ما شاء ، فإنّي تحت تلك الكلة لا أستطيع الغمض ولا دقيقة ، والنوم سلطان لا يغالب ، فلا بدّ من طاعته ، ورحم الله القائل :

إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا

فما حيلة المضّطرّ إلا ركوبها

فوجدت على ذلك السطح خشبة عارية عن الفرش اضطجعت عليها ، وكنت أمشي على رؤوس أصابعي حتى لا يستيقظ أحد ، لا فؤاد حمزة ولا خدمه ، فإنّي لا أحبّ أن أزعج أحدا ، ولا أن أسلب راحة النّاس لأجل راحة نفسي ، على أنّي لو أيقظتهم وأزعجتهم وسلبت

__________________

(١) كذا في الأصل المطبوع في جريدة «الشورى» وهو كما ترى ، ولعلّه قد سقط منه شيء ، وذهل الأمير عنه عند قراءته. [قلت : المعنى تامّ ولا سقط فيه].

١٥١

راحتهم ، فلا أعلم ماذا كانوا يقدرون أن يصنعوا لي ، وجميع تلك العلل التي وقفت في طريق رقادي لم يكن مصدرها إعواز أسباب الرفاهة ، وإنما كان مصدرها الجو ، وما حيلتي وما حيلتهم هم في الفلك؟

فارتميت على تلك الخشبة بدون وطاء سواها ، ولا غطاء سوى القميص ، وهكذا أمكنني قبيل الفجر أن أهّوم تهويما أشبه باليقظة منه بالمنام ، ولكن لم يصبح الصباح حتى قامت القيامة ، إذ استيقظ الجميع ، فرأوني على تلك الحالة ، فأخذوا يدوكون في الطريقة التي تلزم لأجل تمكيني من الرقاد ، وبهذه المذاكرات أطاروا ما كان بدأ من تهويمي ، ولأجل توفير راحتي سلبوا تلك البقية الباقية من راحتي ، وفي هذه الأثناء طلعت الشمس ، ليس من دونها حجاب ، لأنّي كنت على السطح كما قلنا ، وأنا لم أكن أقدر أن أنام في الظلّ ، ولا في العتمة ، فما ظنك في الشمس ، فنهضت برغم أنفي ، وأنا أقول : يا من يأتيني بخبر عن الكرى.

وأخذ فؤاد بك يفكّر في الاستعدادات لمعركة الليلة الآتية ، وصاروا ينظرون في وجوه الوسائل ، وفنون الذرائع ، حتى أتمكّن من الرّقاد ثاني ليلة ، ولكن لم يكن في الحقيقة من وسيلة تنفع ، ولا من ذريعة تنجع ، لأنّ العلة هي شدة الحر ، وعدم اعتيادي مثل هذا الجو ، وقد يقال : إنّ فؤاد بك حمزة هو لبناني مثلي ، وبلدته مصيف شهير وهي عبية ، ولم يتعوّد جسمه الحرارة ، ولكن بيني وبين فؤاد بك حمزة فرق ثلاثين سنة ، فقوة المقاومة التي عنده ليست عندي ، ولذلك لم يتمكّنوا في الليلة التالية برغم جميع الوسائل من أن يجعلوني أنام ، وخسر فؤاد بك المعركة ، والحقيقة أنّ الدائرة إنما كانت تدور عليّ وحدي ، لأنّي أنا الذي لم يكن ينام.

ولما وصل الخبر عما أعانيه إلى جلالة الملك [عبد العزيز] ـ بمكان ذلك الأسد من الجمع بين الأضداد ، من الصلابة والشمم ، والحنو

١٥٢

والتواضع ـ أشار بأن انتقل إلى محلة الشهداء بظاهر مكة ، رعيا لخفة حرارتها عن حرارة مكة ، فإنّ لجلالته هناك مقصفا بديعا أنيقا في وسطه صهريج ماء عظيم ، وأمامه بستان حديث الغراس ، فسيح الرقعة ، سيكون يوما من الجنان المشهورة ، فكان يدري أيّده الله أنّ بين الشهداء والبلدة فرقا كبيرا في الجو ، وأنّي لو بتّ في ذلك المقصف الذي لجلالته لما كنت أحرم طيب الرّقاد ، إلا أنّ مضيفي فؤاد بك لم يكن يرغب في أن أتحول إلى الشهداء ، خشية أن ينقصني شيء من أسباب الراحة ، التي لا يأمن على استكمالها إلا إذا كان هو قريبا مني ، والحال أنّ الشهداء هي ربض من أرباض مكة ، ومن هذه إليها مسافة ، أنا لم أكن أريد أن آتي ما لا يروق لفؤاد بك ، وكنت أقول في نفسي : هنّ ليال قلائل ، أقضي مناسك الحج ، ثم أصعد إلى الطائف ، فعلى فرض أنّي لم أنم هذه المديدة ، فلن تنفد بها قوة مقاومتي للطبيعة ؛ لذلك عصيت أمر الملك في هذه ، وندمت ولا ندامة العصاة الذين شاقّوه في السنة الماضية (١).

الكلام على الزاهر

الشهداء هو المكان الذي يقال له في التواريخ : الزاهر ، وهو اسم طابق مسمّاه ، بسيط أفيح ، تلعب فيه الرياح بدون معارض ، إلا من بعض آكام على جوانبه تزيده بهجة ، وأهاضيب وتلعات. إذا أقبل الربيع تكلّلت بالأزاهر ، فسمي من أجلها الزاهر ، وهو في إبان القيظ أخفّ حرارة من البلدة ، لا سيما بعد غروب الشمس ، وأنقى هواء وأنشط صقعا ، وفيه مياه تجري في قني تحت الأرض من قديم الدهر ، وبقايا قصور لأشراف البلد وسراته ، وفيه مقاه على الطريق للسابلين ، ومقاه

__________________

(١) [انظر تفصيل ذلك ص (٢٠٩)].

١٥٣

على نجوة من الطريق ينتابها الناس من مكة عند الغروب ، فيبيتون فيها ، ويغدون عند الصباح إلى أشغالهم بمكة ، ويكون مبيتهم على مقاعد مستطيلة في الخلاء ، فلا يضع الواحد منهم رأسه على مخدته إلا ثقلت أجفانه من لطف الهواء ، فينام إلى الفجر مستريحا ، ويقوم إلى صلاة الصبح أشدّ من الحديد.

وفي الزاهر مكان صغير لصديقنا الشيخ الشيبي الكبير ، سادن البيت المعظم ، الذي بسلامة ذوقه له في كلّ واد من الحجاز منتجع ، وفي كلّ جبل مصيف أو مرتبع.

ولما ودعت الحجاز بعد إيابي من الطائف ، تلطّف الشهم الكريم الشيخ عبد الله سليمان ناظر المالية ، فأدب لي في الزاهر مأدبة ، ودعا الجمّ الغفير من كل ما في البلد الأمين من سيادة تجرر أذيالها ، ومجادة تضرب بعروضها أطوالها ، وبلاغة تضرب أمثالها ، وفصاحة إذا نطقت يقال من ذا قالها ، فكانت ليلة ندر أن يعرف مثالها ، وقال فيها أحد الإخوان : إنها ليلة من قبيل قصص ألف ليلة وليلة ، لكثرة ما كان فيها من نمارق مصفوفة ، وزاربيّ مبثوثة ، ومصابيح منوّرة ، وأعلام منشّرة ، ومقاعد مجلّلة ، وجفان من الشيزى (١) مكلّلة ، وناهيك بالعربي القح ، الذي لا يعرف ـ إلا من القاموس ـ معنى الشح ، وبمن جمع بين الحجاز ونجد ، إذا ما ارتفعت راية المجد.

ومن بعد ذلك بقيت في أواخر مقامي بمكة أتردّد إلى الزاهر عصر النهار ، وأتندّم على فوتي إياه قبل الحج ، وكان ينشرح صدري في كل مرة أفيض فيها من وراء تلك الآكام إلى بسيط الزاهر.

وإذا وصلت إلى المقصف الملوكي ، جلست طويلا على حرف ذلك الصهريج الذي يخرّ مزرابه ، ويكاد يتلاطم عبابه ، وقد يشتدّ الحرّ ، فلا

__________________

(١) [الشّيزى : خشب الجوز تتخذ منه الجفان والقصاع ، ويسود من الدسم].

١٥٤

نأنف من النزول إلى الصهريج ، والخوض فيه ، لأجل التبرد ، ويكون معنا من الإخوان في هذا النزول من جلّ قدره ، وعلت منزلته ، وقد أمسكنا بادىء ذي بدء عن النزول إلى الماء ، تفاديا من أن ينسب إلينا اطراح الحشمة ، وتغلب الحرارة على الهمة ، إلا أني تذكرت أنّ قاضي الجماعة بقرطبة المنذر بن سعيد البلوطي بمكانه من العلم والورع وجلالة القدر ، ومشيخة الإسلام في ذلك القطر ، قد أشتدّ به الحر في أحد الأيام إلى حد أن أمره الخليفة الحكم المستنصر ابن الخليفة عبد الرحمن الناصر أن ينزل إلى صهريج كانا جالسين بجانبه في زهراء قرطبة ـ التي زرت أطلالها هذه المرة (١) ـ فنزل مولانا الأستاذ ولم يبال ، والحشمة والحرارة قلّما يجتمعان على الشروط المرعية في البلاد الباردة.

فلما كنت بقرطبة في شهر يوليو ـ تموز الفائت ، ولقيت فيها ما لقيته من شدة الحر ، عذرت قاضي الجماعة في خوضه صهريج الزهراء ، ولكنّ حرّ مكة المكرمة يزيد بعشر درجات على حر قرطبة ، فخوض صهريج الزاهر أقرب إلى العذر من خوض صهريج الزهراء ، وأنا أبعد عن المشيخة من القاضي منذر بن سعيد.

الصعود إلى عرفة في شدة المرض

ثم نعود إلى قضية التياثنا فنقول : إننا بعد قضاء بضع ليال على هذا المنوال بلغ منا النهك مبلغه ، ثم كان لا بدّ من أن نصعد إلى عرفة قبل الوقفة ، فأغمي علينا في الطريق ، وسار بنا اللذان كانا معنا في العربة فؤاد بك حمزة والسيد حسين العويني إلى منى ، فاسترحنا هناك إلى الصباح ، ولكنّه لم يكن بدّ من الذهاب تلك الساعة على عرفات ، فذهبنا إليها ، وأنا على ما أنا عليه من الإعياء ، ثم أفضنا مع الحجاج الكرام عائدين إلى منى ، حيث بتنا ليلتين لقضاء المناسك ، فما رجعت إلى

__________________

(١) كانت كتابتي لهذه السطور بعد سياحتي إلى الأندلس ا ه من الأصل.

١٥٥

مكة ، وقضيت المناسك ، إلا وكنت مريضا جدّ مريض ، ولم يثقل عليّ ذلك ، لأنّ الحج الشريف تطهير وتمحيص ، فرجوت أن يكون المولى سبحانه قد غفر لي ذنوبي الكثيرة ، التي يستحق تمحيصها أكثر من هذه الأوصاب ، والله غفور رحيم (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣].

الالتجاء إلى الطائف

ولما اشتدّ بي الضعف ، قلت لإخواني : لا ينقذني مما أنا فيه إلا الطائف ، فأنا أدرى بنفسي ، ومتى نشقت هواء الجبال لم يبق علي خوف ، فتردّد فؤاد بك قليلا ، خشية أن لا يكون قريبا مني ، وأنا على هذه الحال ، فقلت له : إن كنت تحبّني فدعني أصعد إلى الطائف بدون تأخير.

وقد كان هذا رأي سليمان شفيق باشا ، ناظر الحربية في تركية سابقا ، المقيم الآن بخدمة الملك ابن سعود ، فإنّه نهى عن أن أتريّث ساعة واحدة ، ولو لأجل إعطاء التواصي اللازمة لأمير الطائف بترفيه مقامي ، وتوثير مسكني ، ولمّا جيء بالسيارات لأصعد بها إلى الطائف ، شعرت من الفرح بنشاط غريب ممن هو على تلك الحالة ، ونهضت مسرعا أستقبل الحياة من بعد أن كنت على ثنية الهلاك ، فسرنا إلى محطة اسمها الشرائع ، على مسافة ساعتين بالسيارة من مكة.

ومن هناك رجع إلى مكة الإخوان السّراة الأفاضل ، الذين تلطّفوا بوداعنا : الدكتور محمود بك حمدي مدير الصحية ، وفؤاد بك حمزة وكيل الخارجية ، والسيد عبد الوهاب نائب الحرم عضو مجلس الشورى ، وبقي معي الأخ البطل المجاهد الشهير فوزي بك القاوقجي ، والأخ الفاضل الدكتور خيري القباني ، الذي صدرت الإرادة الملوكية بأن يلازمني إلى أن أنال الشفاء ، ونعم الأخ هو ، ونعم الطبيب الفاضل. وليس فيه من عيب سوى قلة الثرثرة والجعجعة ، وعدم إيهام العلم

١٥٦

الأوسع ، والشفاء الأسرع ، فإذا استطبّ العليل لديه ، ورأى صمته وقلقلة شفتيه ، قال : يظهر أنّ المسألة مقضية ، وزاده الخوف مرضا ، وقد فات الأخ القباني أنّ الجعجعة هي نصف الطب ، وأنّ المريض كلّما سمع ألفاظا لا يفهمها ، وكلمات فنية لم يسمعها ، ازدادت ثقته بالطبيب ، وقد يحصل على الشفاء بدون دواء ، لا سيّما إذا كان الطبيب يعرف أن يرصف تلك الألفاظ ، ويسير بها بسرعة كلية ، فلا يبقى شبهة عند عليله بأنّه أحذق الأطباء.

ثم إننا بعد أن رقدنا هزيعا من الليل قلنا للسائق : تقدّم بنا نحو الزيمة ، فسرنا إليها ، ولم يمض نصف ساعة حتى بلغناها ، وإذا بالزيمة عين ماء ثرّة ، لها خرير يسمع من بعيد ، فلما سمعت خرير الماء أخذ مني الطرب أن نفضت الضعف عني ، ونزلت من السيارة ، وذهبت إلى العين أتمتّع برؤية الماء ، بعد أن سمعت صوته الطرب ، ثم جاءنا شيخ قرية الزيمة يدعونا إلى فكّ الريق ـ لقمة الصباح ـ في بيته ، فذهب الإخوان ، ولم أستطع المشي لما كان النهك قد بلغ مني ، فجاءوا إلي بالشاي إلى السيارة ، ولم أنشط إلى الطعام كما نشطت إلى منظر الماء.

ومن ثم صعدنا بالسيارة في واد فيه كثير من شجر الطلح ، وسرنا ساعة من الزمن ، فبلغنا أعلى الوادي ، وهو المسمى بالسّيل ، وعنده مقهى بسيط جدا ، يقوم عليه بدويّ من عتيبة ، إلا أنّه ذو قيمة في تلك البرية ، والوادي هناك قريب الماء ، لا يحفر فيه الإنسان ثلاثة أشبار إلا أنبط ، ولذلك تجد فيه عدة مناقع عذبة.

وهذا هو المحلّ الذي كان في الجاهلية يسمّى بذات عرق ، وفيه يقول الشاعر :

ألا يا نخلة من ذات عرق

عليك ورحمة الله السلام

وأحسست في ذات عرق بنشاط سريع ، ومنها إلى الطائف مسافة ساعتين ، يمرّ فيها الإنسان على المكان الذي كانت فيه سوق عكاظ

١٥٧

بالجاهلية ، وكنت كلّما تقدمت صوب الطائف أشعر كأنّي آكل العافية أكلا ، فلم يخطىء ظنّي أني لما كنت من أبناء الجبال ، لم يكن يشفيني إلا هواء الجبال ، ولم تزل أهوية الصرود (١) ترمّم ما هدمته أهوية الجروم (٢).

الكلام على ذات عرق

جاء في «تاج العروس» عن ذات عرق ما يأتي : «وذات عرق موضع بالبادية كان يقال له قبل الإسلام عرق ، وهو ميقات العراقيين ، وهو الحدّ بين نجد وتهامة ، ومنه الحديث «إنّه وقّت لأهل العراق ذات عرق» وهو منزل من منازل الحاج ، يحرم أهل العراق بالحج منه ، سمّي به لأنّ فيه عرقا ، وهو الجبل الصغير ، وعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّهم يسلمون ويحجّون فبيّن ميقاتهم» انتهى.

وجاء في «معجم البلدان» : وذات عرق مهلّ (بتشديد اللام) أهل العراق ، وهو الحدّ بين نجد وتهامة ، وقيل : عرق جبل بطريق مكة ، ومنه ذات عرق.

وقال الأصمعي : ما ارتفع من بطن الرمة فهو نجد إلى ثنايا ذات عرق ، وعرق هو الجبل المشرف على ذات عرق ، إلى أن يقول ـ وقال ابن عيينة : إني سألت أهل ذات عرق أمتهمون أنتم أم منجدون؟ فقالوا : ما نحن بمتهمين ولا منجدين.

وقال ابن شبيب : ذات عرق من الغور ، والغور من ذات عرق إلى أوطاس ، وأوطاس على نفس الطريق ، ونجد من أوطاس إلى القريتين.

وقال قوم : أوّل تهامة من قبل نجد مدارج ذات عرق ا ه.

__________________

(١) [الأماكن الباردة].

(٢) [جمع جرم : الحر].

١٥٨

وبالفعل تجد نفسك إذا بلغت ذات عرق ، وأنت ذاهب من مكة إلى الطائف ، ـ قد ارتفعت ، ونشقت هواء نجد ، ثم إنّ الطريق من السّيل ـ الذي هو من ذات عرق ـ كلّه صعود إلى المكان الذي يقال له اليوم القهاوي ، والذي يقولون : إنّه كانت عنده سوق عكاظ ، حسبما سمعت من أهل مكة ، ومن أعرقهم وأعتقهم الشيخ عبد القادر الشيبي ، كبير بني شيبة ، وسادن البيت الحرام ، ومن ذات عرق إلى الطائف بالسيارة مسيرة ساعتين.

وبعد أن تفوت ذات عرق بنحو نصف ساعة بالسيارة تجد على يسارك مفرقا للطريق المؤدية إلى بلاد العارض من نجد ، ومن هذه الطريق يسير الملك عبد العزيز بن سعود عند ما يقصد الرياض ، وعليها تدرج سياراته التي تبلغ أحيانا مئة وسبعين سيارة ، فتصل إلى الرياض من مكة في أربعة أيام ، وهي على الجمل مسافة عشرين يوما ، ولو كانت الطريق معبدة كما يجب من مكة إلى ذات عرق ، ومن ذات عرق إلى الرياض ، لكان من الممكن الوصول في أقلّ من يومين ، إلا أنّ تعبيد طريق كهذه على مقتضى أصول هندسة الطرق ينبغي له أموال لا تطيقها حكومة الحجاز ونجد في الزمن الحاضر ، وهي التي لا يساعد واردها على مثل هذه الإنشاءات كلّها ، فإنّ الداخل قليل ، والحمل ثقيل ، والآمال متوجهة إلى تمهيد هذه الطرق تدريجا ، وأمّا الآن ، فإنّ درجة إصلاح هذه الطرق هي الدرجة التي يقال لها : على قدر الإمكان ، وتعبّدها السيارات بدواليبها ، والخيل بحوافرها ، والأباعر بأخفافها ، وهلم جرا.

* * *

١٥٩

١٦٠