الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

الصعود ، ولا ينبغي للمرء أن يكون عالما بالفن حتى ينشره ، ويحمل الناس عليه ، فمحمد علي كان أميّا تقريبا ، وقد كان رجلا عظيما ، وأسس مدنية مصر الحديثة (١).

وابن سعود البدوي ـ على رأي أعدائه ، الذين يقصدون غمزه بهذه الكلمة ـ لم تمنعه بداوته عن استعمال السيارات الكهربائية ، والمواصلات اللاسلكية ، وغيرهما من أسباب المدنية العصرية ، وقد وفّق لذلك في وقت قصير ، وقد بدأ به الانقلاب المادي المدني في جزيرة العرب ، ولو كان لمملكة ابن سعود دخل الحكومة المصرية أي (٤٢) مليون جنيه في السنة ، لأجرى من المشروعات العمرانية في الحجاز ونجد ما لا يخطر على قلب بشر (٢).

* * *

نعود الآن إلى الحجاز ، ونذكر ما كان فيه وما ابتدأ أن يكون فيه ، وما نرجو أن يكون فيه في المستقبل :

__________________

(١) [انظر كتاب «محمد علي وبناء دولة» للدكتور فؤاد شكري].

(٢) [وهذا ما حدث فعلا].

١٢١

خبر المطوفين في مكة المكرمة

والمزوّرين في المدينة المنورة

نعود إلى الموضوع المتعلّق بالحجاز خاصة ، ونطوف على مقام مقام منه ، فنبدأ بالمطوّفين والمزوّرين فنقول :

إنّ المطوّف يكون لازما ومتعديا :

فاللازم هو بمعنى الطائف ، لأنّ العرب تقول : طاف بالمكان ، وطوّف به ، فالمطوف قد يتضمّن معنى الطائف ، وقد يصدق على الحاجّ نفسه ، لأنه يطوّف (بالتشديد) بالبيت العتيق.

وقد يكون متعديا ، وهو من طوّفه مثل أطافه ، فالمطوّف هو الذي يطوّف بالحاج حول البيت ، وفي المقامات المباركة ، ومن الغريب أنّي لم أجد (المطوّف) في كتب اللغة ، ولكنّ القياس يقتضيه ، فهو اسم فاعل ، من طوّفه ، أو اسم فاعل من طوّف به.

وأما المزوّر فهو في اللغة من يكرم الزائر ، يقال : زرتهم فزوّروني ، أي أكرموني ، وأحسنوا إلي ، ولا شكّ أنّ هذه اللفظة تشعر عند سماعها شيئا من الكراهية ، لاشتراكها في معنى آخر ، وهو الآتي من الزور ، ولكنّ اللغة واسعة ، وكم من لفظ يدل على معاني كثيرة ، وليس هذا منحصرا في العربية ، بل هو في كل اللغات.

ولفظة المزوّر بمعنى الذي يقوم بخدمة الزائر لم يوجد مع الأسف سواها لهذا المعنى ، فلا بدّ من قبولها على علاتها ، ويجوز أن تقول :

١٢٢

المزير بضم أوله ـ وهو اسم فاعل من أزاره ، ولكنّ العاميّ يستثقل لفظة مزير وأن يقول : جاء المزيرون ، ورأيت المزيرين ، ومررت بالمزيرين ، فهو يفضل أن يقول : جاء المزوّرون ورأيت المزوّرين الخ وعدا هذا الاستثقال في اللفظ لا تتضمن لفظة مزير ما تتضمنه لفظة مزور ، لأن المزير اسم فاعل من أزار ، أي جعله يزور ، وأما المزور ، فهو الذي يخدم الزائر ويكرمه ، وهو أقرب إلى المعنى المراد ، برغم قبح اشتراكه في معنى آخر.

وبالاختصار نقول : إنّ في الحجاز الشريف حماه الله طائفتين لا بدّ لقاصد الحجاز أن يكون له علاقة معهما ، ولا يكاد يستغني أحد عنهما ، وهما المطوّفون بمكة ، والمزوّرون بالمدينة.

فالحاج يأتي غريبا ، لا يعرف أحدا ، والغريب أعمى ، ولو كان بصيرا ، فلا بدّ له من دليل يدلّه ، ويسعى بين يديه ، ويقضي حوائجه ، ويرتّب له قضية سفره ومبيته ، ويعلّمه مناسك الحج ، التي أكثر الحجّاج يجهلونها ، وإن كان منهم من يعلمها جملة ، فليس يعلمها تفصيلا ، وإن كان منهم من يعلمها جملة وتفصيلا ، فهو النادر الذي لا يبنى عليه حكم.

وزد على هذا أنّ الحجاج ليسوا جميعا من أبناء العرب ، فيمكنهم أن يسألوا عن الطرق ، والمنازل ، والمناسك ، والمناهل ، ويزيلوا عمى الغربة بطول السؤال ، لإمكان تفاهمهم مع الحجازيين ، بل حجّاج العرب لا يزيدون على خمس حجّاج المسلمين ، والأخماس الأربعة الباقية هي من أمم تجهل اللسان العربي ، فكيف يصنع حجّاج هذه الأمم إذا لم يكن المطوّفون؟ وكيف تصنع المزدارة (زوار المدينة المنورة) إذا لم يكن المزوّرون؟

وإني لأعلم أنّ كثيرا من الناس يطعنون في المطوفين والمزوّرين ، بل يبالغون في ذمهم ، أو في ذم العدد الكثير منهم ، ويقولون : إنّهم

١٢٣

ينهبون الحاج ، ويجورون عليهم ، ويتقاضونهم من الأجرة أضعاف حقوقهم ، وقد يخدعونهم ويغشونهم ، ويرتكبون في أمورهم كلّ محرّم ، ولقد كنت أسمع هذه القصص قبل أن حججت ، وقبل أن عرفت مكة والمطّوفين ، وقبل أن زرت المدينة وعرفت المزوّرين ، والمثل السائر عندنا يقول : الله يساعد من يتكلّم فيه الناس بالمليح ، فكيف بالقبيح؟ فالمطوّفون والمزوّرون ولا سيما الفريق الأول منهم ، قد وقعوا في ألسنة الناس من قديم الزمان ، ويجوز أن يكون بعضهم غير بريء بالمرة من هذه التهم ، أو من بعضها ، ويجوز أن تكون حصلت وقائع في وقت من الأوقات ، وغير معقول أنّ طائفة كهذه تعدّ بالمئات ، وتتجاوز المئات ، تكون بأجمعها من الفرقة الناجية ، ومن ذوي الأخلاق الفاضلة ، وأنّه لا يجوز أن يصدر عنها عمل سيء ، ولا تلوث بطماعية أو خديعة ، فالذين يطلبون الكمال عند المطوّفين والمزوّرين ينسون أنّهم بشر ، وينسون أنّهم مرتزقون ، وينسون أنّ أكثرهم عوام ، وينسون أنّ رزقهم إنما هو على حجّاج البيت الحرام.

ولو دقق الإنسان النظر في المطاعن التي توجّه إلى هؤلاء ، لوجد أنّ أكثرها مبنيّ على كون المطوّف أو المزوّر يتقاضى الحاج حقه ، أو يطمع في أن يأخذ منه بدلا من الجنيه الواحد جنيها ونصفا مثلا ، والحجاج أغنياؤهم عددهم قليل ، لأنّ الغني في أكثر الأحيان يميل إلى الرفه والترف ، وهذان لا ينتظمان مع الحج ومشاقّه ، ولا سيما إذا كان الفصل صيفا ، وأكثر فصول الحجاز صيف ، والقسم الأعظم من الحجاج هم من طبقة المساتير ، الذين ليسوا من ذوي الفضلة ، والذين لا يقدرون أن يعيشوا إلا ببودجة (١) مالية ، متوازن واردها مع نافدها ، والنفقات غير الملحوظة فيها زهيدة جدا ، فهؤلاء لا يقدرون أن ينفقوا كما شاؤوا ، وهؤلاء أكثرهم يبقى سنين من حياته وهو يوفر شيئا من رزقه ، ويقطع

__________________

(١) [كلمة فرنسية بمعنى الموازنة الفردية].

١٢٤

عن نفسه ، حتى يجتمع في يده خمسون جنيها ، يدّخرها للحج ، فهو يحسب مصروفه منها بالقرش الواحد ، وبديهي أن مثل هذا المستور لا يمكنه أن يغدق نعما على المطوّف أو المزوّر ، وأنّ حالة هذا أشبه بمثل قد سمعته من عامي ظريف في أيام الدولة العثمانية : مثل طاقم العسكري لا ينشقّ من محل إلا ظهر جلده.

ومما يؤسف له أنّ ثلاثين في المئة من الحجاج ـ وربما أزيد ـ فقراء معدمون ، لا يستطيعون في الحقيقة إلى البيت سبيلا ، وليست عليهم فريضة حجّ ، ولكنهم يحمّلون أنفسهم إصرا لا قبل لهم به ، فيعيشون من أكياس رفاقهم ، ومن أكياس أهل الحجاز ، وقد يصيرون عالة على المطوّفين أنفسهم.

فإذا صحّ من هذه المقالة بحقّ المطوفين قيراط أو قيراطان ، فالاثنان والعشرون قيراطا الباقية أقاويل تزييف على المطوفين ، وتزوير على المزورين.

المطوّف يكاد يكون كالجمل في الحج ، لا يستطاع الحجّ بدونه ، يأتي إلى السفينة بمجرد أن تلقي أنجرها في بحر جدة ، فيأخذ حاجّه بيده ، ويضع له حوائجه في الزورق ، ويأتي به إلى الميناء ، ويخرجه إلى البرّ ، ويخلّص له معاملة تذكرة المرور ، ومعاملة المكس ، وليستا بالشيء الهين ، نظرا للزحام ، ولما يجب على إدارة التذاكر وإدارة الجمرك من التدقيق.

ثم إذا أراد الحاج أن يستريح في جدة بيّته المطوّف فيها ، وأركبه ثاني يوم جملا في شقدف ، وسار به وبغيره من أمثاله ، وقد حمل لهم زادهم وماءهم وكلّ شيء يلزم لهم ، وأوصلهم إلى مكة وافرين آمنين ، وأنزلهم في منزله مكرّمين ، وقبل أن صارت الأمنة على ما هي عليه الآن بحول الله ، ثم بابن سعود (إخواننا النجديون لا يجيزون في مقام كهذا

١٢٥

إلا استعمال ثم ، وينكرن استعمال الواو فنحن لا نقول لهم إلا ثم (١)) كان المطوف يشاطر الحاجّ أخطار الطريق.

وبمجرد وصول الحاج إلى البلد الحرام ، يأخذ المطوف بيده إلى الحرم ، فيطوف به سبعا حول البيت العتيق ، ثم يسعى به سبعا بين الصفا والمروة ، يهرول فيه بين الميلين الأخضرين وفاقا للسنة ، ويعلّمه جميع أصول الحج ، ويلقنه جميع الكلمات والألفاظ التي ينبغي أن تقال في ذلك المطاف الكريم ، ويتلو أمامه الأدعية التي يبتهل بها عند مقام إبراهيم ، وبين زمزم والحطيم.

ولما كان أربعة أخماس الحاج هم من الهنود ، والجاويين ، والترك ، والأرناؤوط ، والبشناق ، والطاغستان ، والفرس ، والصينيين ، والزنج ـ كان على المطوّف في تلقين هؤلاء من أصناف الأمم الأعجمية صنوف الأدعية والابتهالات والجمل العربية الفصيحة التي تتشقق حلوقهم بقافاتها وحاآتها ، وتتلبّك ألسنتهم بضاداتها وثاآتها ، ما لا يقل عن تعب المعلمين للصبيان ، وما لا ينبغي أن يستخفّ بشأنه ولا يستهان ، وكم مرة يضطر أن يعيد له الكلمة أو الجملة ، وهو يقولها بعكسها ، ويلفظها بنكسها ، ويقلبها عن معناها ، ويجعلها عن المراد أبعد من الأرض عن سماها ، وربما أعادها له المطوّف ثلاثين مرة ، وهو لا يقيمها ، ولا يفتأ يغلط فيها (٢).

__________________

(١) هذا الأدب مأثور ، والمراد منه الفرق في المرتبة بين ما يسند إلى الربّ وما يسند إلى عباده ، وهو ما يدل عليه العطف بثم من التراخي ، وأما العطف بالواو فهو لمجرد الجمع ، فكأنّ ما يسند إلى الربّ وما يسند إلى العبد في مرتبة واحدة. مصححه

(٢) أكثر هذه الأدعية والأذكار التي يلقنونها للحاج غير واجب ولا مسنون ، والذي ينبغي لهم هو أن يعلّموا الحاج الأذكار المأثورة ، كالتلبية ، وبعض الأدعية ، وهي قليلة ، وأن يدعو الله فيما عداها بلغته ، سائلا إياه ما يشعر بحاجته إليه من

١٢٦

ولو لا أنّ الأعمال بالنيات ، لكان كثير من أدعية هؤلاء غير مقبول ، ولكن الله سميع الدعاء ، ناظر إلى الضمائر ، عالم بالمقاصد ، لا يحمل إصرا على الضعيف ، وليس بصحيح قول بعضهم : إنّ الدعاء يجب أن يكون معربا ، ليكون عند الله مقبولا ، إذا لكان سيبويه أنجح النّاس دعاء.

ولا يجب أن يظن أنّ المطوف ينحصر تلقينه هذه الأدعية وهذه الجمل بالهندي والسندي والجاوي والتركي الخ ، بل هو مضطر أن يلقنها أكثر الحجّاج ، حتى من العرب ، لا سيما العوام والنساء والأحداث ، ولا فرق بينهم وبين الحجاج الأعاجم ، إلا في كون العربي يعيد الكلمة من أول مرة على وجهها ، ولا يذيق المطوّف عرق القربة في تعليمه إياها كما هو شأن الأعجمي.

وقد صارت للمطوفين وطوافيهم عادة ، أنّهم بمجرد ما يرون طائفا يتطوّف بالبيت العتيق جاءوا إلى جانبه ، وجعلوا يلقنونه ما يحسن أن يقوله ، حتى لو كان الإمام الغزالي ، أو السيد محمد رشيد رضا من أئمة زماننا ، وذلك ناشىء عن أنّهم لا يعرفون الناس ، ولا يفرقون بين العالم والجاهل.

وقد جاءني واحد من هؤلاء وأنا أطوف ، وجعل يقول لي : قل اللهم كذا ، اللهم كذا ، حتى أعيدها من بعده ، فقلت له : أنا غير محتاج إلى من يعلّمني العربية ، ولا كيف يجب أن أخاطب بها ربي.

هذا والمطوّف هو الذي يكفل جميع حاجات الحاجّ وأغراضه ، منذ يطأ رصيف جدة ، إلى أن يطأ سلّم الباخرة قافلا ، فيحمله إلى مكة ثم

__________________

خير دنياه وآخرته ، وقد اقترحت على الملك أن يأمر بتعليم المرشّحين لهذه المهنة تعليما خاصا ، بحث يكونون من المتفقهين في الدين ، وقادرين على إتقان خدمتهم للحاج من كل وجه ، ولا بدّ أن يفعل إن شاء الله تعالى.

١٢٧

إلى عرفة ، ثم إلى المزدلفة ، ثم إلى منى ، ثم يعود به إلى مكة ، وإذا أراد الزيارة هيّأ له جميع أسباب السفر إلى المدينة ، وهناك سلّمه إلى المزوّر ، الذي هو صاحب هذه المصلحة في المدينة ، لا يتجاوز عليه غيره فيها.

وإذا سأل الحاج عن أي شيء من الفلك إلى الذرّة ، فلا بدّ من أن يجيبه المطوّف عليه ، وإذا احتاج إلى أيّ شيء من الجمل إلى البرغوث ، فلا بدّ من أن يأتيه به ، وإذا وقعت له واقعة مع إنسان تقتضي مراجعة الحكومة ، فعلى المطوف أن يرافق الحاج إلى صاحب الشرطة ، ويترجم له عنده.

ومما يدهش العقل أن المطوّفين والمزوّرين يعرفون جميع لغات العالم ، وأكثرهم يعرفون التركي ، ومطوفو العجم يعرفون الفارسي ، ومطوفو الهند يجيدون لسان الأوردو ، ومطوفو جاوة يعرفون لغة الملايو ، وإن كان أكثر مطوفي جاوة من الجاويين المقيمين بمكة ، ومطوفو البشناق يعرفون لغة الصرب ، ومطوفو الأرناؤوط يعرفون لغة هؤلاء.

وقد بلغني أنّ بعض المطوفين يعرفون لغة الصين ، ومنهم من يعرف لغة الفيلبين ، واللسان التكروري شائع بمكة كأنه العربي ، والسودانيون ليسوا فيها بغرباء ، زد على هذا اللغات الأوربية ، التي يعرفها المطوفون ، من روسي ، وإنكليزي ، وإفرنسي ، وغيرها.

فالمطوفون في هذا أشبه بمستخدمي الفنادق في أوربة ، يضطرون إلى معرفة لغات كثيرة لتنوع أجناس السياح ، الذين ينزلون بفنادقهم ، لكن دائرة علم المطوفين أوسع من جهة الكمية ، فالعمال في فنادق أوربة يتعلّمون بخاصة الإنكليزي مثلا لكثرة سياح الإنكليز والأمريكيين ، وقد يتعلّمون الإسبانيولي لكثرة سياح أمريكة الجنوبية ، ولا تجدهم يعرفون التركي والفارسي والأوردو والملايو ، فما ظنك بالصيني

١٢٨

والفليبيني ، فمكة أعظم معرض للأجناس واللغات.

ولو كان العرب على نمط الأوربيين في إتقان كلّ شيء ، والاستفادة من كلّ شيء ، والتفننّ في الاستثمار والاستغلال ، لوسّعوا دائرة تعلّم هذه اللغات على وجه الإتقان ، وزادوا بها تسهيلات فريضة الحج ، وكانت لهم من وراء ذلك أرباح مدهشة ، وكانت العربية أيضا تستفيد ، لأنّ القادمين إلى مكة من تلك الأمم ، إذا أطالوا بها المكث تعلّموا العربية واستعربوا ، ولكننا نحن معاشر العرب برغم ذكائنا الفطري ، الذي لا جدال فيه ، نحبّ البقاء على الفطرة ، ولا نرغب إلا فيما هو أقرب إلى الطبيعة ، وهذا جيد في الشعريات ، لا في الرياضيات ، ولا في الاقتصاديات.

وإذا مرض الحاجّ فالمطوف هو الذي يعلله ، ويأتي له بالطبيب وبالدواء ، ويسهر عليه ، وإذا مات فهو الذي يخبر بذلك الحكومة ، ويأتي بأناس من قبلها ، ويضبّ في حضورهم حوائجه ، ولو سمّي المطوف كافلا للحاج لما كان في هذه التسمية أدنى مبالغة ، ومع هذه الكفالة الشاملة الكاملة التي فيها من الركض ، والعناء ، وتعب الفكر ، والمسؤولية ما فيها ، يكون ـ آخر الأمر ـ جميع النحلان جنيها واحدا عن كل رقبة ، هذا هو النحلان المقرر ، فمن طابت نفسه بأن يزيد ، فذلك عائد إلى سماحة نفسه ، ولا شكّ في أنّ الحاج الذي يجشّم المطوّف جميع تكاليفه ، ويريد أن يتخذ منه دليلا ، وحارسا ، ومحاميا ، ومفتيا ، وطبيبا ، وصيدليا ، وممرضا ، ودلالا ، وغير ذلك ، في وقت واحد ، يكون ظالما إذا استكثر أن ينقد هذا المطوف في آخر السفرة جنيها واحدا.

ولا شبهة في أنّ من الحجاج من يؤدّي بدلا من الجنيه الواحد الجنيهات الكثيرة ، والمسلمون يغلب عليهم الخير ، وقد يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.

١٢٩

ولكن لا ينكر أيضا أنّ كثيرا من الحجاج قد يتعذّر عليه دفع الجنيه الواحد ، أو لا يبقى في يده شيء عند الأوبة إلا ما يكفيه لأجل الوصول إلى وطنه ، أو يقع العجز في بودجته (١) الضئيلة من أصلها ، فتجد المطوّف قد حرم مع حاجّ كهذا نتيجة تعبه ، ورضي بنصف جنيه بدلا من جنيه ، وقد يضطر إلى أن لا يأخذ من حاجّه شيئا.

وقد وقع لمطوفين أن أدّوا إلى حجّاج معدمين من صلب مالهم ، وكثير من أهل مكة من يضطرون إلى سدّ عوز بعض الحجاج ، ويؤدون إلى هذا ما كانوا استفادوه من ذلك ، وكان ينبغي للحكومات أن تمنع الفقراء من الحج (٢) ، وتأخذ من كلّ حاجّ رهائن كما يفعل بعضهم ، وذلك لأنّ غير المستطيع ليس عليه حجّ ، ولأنّ غير المستطيع يصير وقرا على غيره في الحج ، فيعجز الآخرين الذين رتبوا زادهم على قدر احتياجهم ، ولم يجعلوا فيه فسحة للطوارىء غير المنتظرة ، وكذلك لأنّ أهل مكة والمدينة أنفسهم يضطرون إلى غوث هؤلاء الفقراء ، ولا يقدرون أن يشاهدوهم يتضوّرون جوعا (٣).

__________________

(١) [موازنته].

(٢) [انظر تعليق السيد محمد رشيد رضا على هذا الاقتراح ص (١٦) ، وتعقيب الأمير عليه ص (٢١ ـ ٢٢)].

(٣) حيا الله الأمير ، وجزاه خيرا بما انفرد به من بيان حال المطوفين ، وجليل خدمتهم للحاج ، وقلّة ما يأخذون من الأجرة على هذه الخدمة ، واستغرابه ذمّ بعض الناس لهم ، ونبزهم بالطمع ، ومن بيان حال أهل الحرمين عامة في معايشهم ، وقد ذكر الفقهاء أنّ من آداب الحاج وعلامة قبول حجته أن لا يعدّ ما ينفقه في الحجاز مغرما ، كما وصف الله المنافقين ، وأن لا يتبجّح به ؛ وألا يؤذي جيران الله ورسوله بقول ولا فعل ، ولا يشكو مما يقاسي في الحرمين من تعب ومشقة ، وليعتبر المنافقون الذين لا يكتفون ببسط ألسنتهم البذيئة بهذه الشكاوى والمذام ، بل ينشرونها في الجرائد ، فيكون لها أسوأ الأثر في تثبيط الناس عن أداء هذه الفريضة ، فياليتهم لم يحجوا. مصححه

١٣٠

ولا حاجة إلى بيان أنّ وجود مثل هؤلاء في محشر كمحشر الحج هو خطر على الصحة العمومية ، لأنّهم لا يقدرون أن يعتنوا بنظافة أبدانهم ، ولا أن يغسلوا بالصابون ، ولا يملكون أسباب النظافة.

وقد فقد الحجاز بعد الحرب الكبرى موارد رزق عظيمة ، كانت تنصبّ إليه ، منها الصرة العثمانية ، ومنها الحج التركي ، الذي منعته [حكومة] أنقرة ، ومنها الصرة المصرية ، وصدقات الحبوب التي كانت ترسل من مصر ، فهذه كان يرتفق بها أهل الحجاز ، ويعيش بها فقراء الحجاج ، وأين هي الآن؟ فلا جرم أنّ الحجاز أصبح لا يتحمّل من الفقراء ما كان يتحمله في الأول.

اقتسام المطوّفين والمزوّرين لحجّاج الأقطار

لقد قسم المطوّفون والمزوّرون العالم الإسلامي فيما بينهم مقاطعات ، أشبه بما كانت عليه الممالك في الماضي ، فبلاد العرب لها مطوفون ، وبلاد الترك لها مطوفون ، وبلاد الفرس لها مطوفون ، وبلاد الأفغان لها مطوفون ، وبلاد الهند لها مطوفون ، وبلاد جاوة لها مطوفون. وهلم جرا ، وكذلك لكلّ من هذه مزوّرون.

وكلّ من هذه البلدان الكبار تنقسم أيضا بين المطوفين والمزورين إلى دوائر أشبه بالولايات ، التي تنقسم إلى متصرفيات ، وهذه تنقسم إلى أقضية كعهد الدولة العثمانية.

فمصر مثلا يتقاسمها مطوفون متعددون : أناس لهم القاهرة ، وأناس لهم الإسكندرية ، وأناس لهم دمياط والشرقية ، وأناس لهم المنيا وبني سويف والفيوم وهمل جرا.

والمغرب أيضا دوائر ، فمصراطة لها مطوفون ، وبني غازي لها مطوفون ، والقيروان لها مطوفون ، ووادي ميزاب له مطوفون ، ولكلّ من

١٣١

الريف وفاس مطوفون ، ولكل من مراكش والسوس الأقصى ، وتنبكتو مطوفون وهم جرا.

ودمشق ، وحمص ، وحماه ، وحلب ، وطرابلس ، وبيروت ، وصفد ، ونابلس ، والقدس ، والخليل الخ لكلّ بلدة ، أو بلدتين ، أو ثلاث منها مطوفون معلومون.

لا يتجاوز مطوّف على مطوّف ، ولا مزوّر على مزوّر ، إلا برضى الحاج نفسه ، فإذا اختار حاج أزمير أن ينزل عند مطوف حاج أماسية ، أو مطوف كوتاهية مثلا فله ذلك. وإذا راجع حاج شيراز مطوّف تبريز بدلا من مطوف شيراز ، فلا حرج عليه في ذلك ، وإذا وقع بين المطوّفين في مكة ، أو بين المزوّرين في المدينة خلاف ، فالمرجع هو شيخ المطوفين ، وشيخ المزورين ، والحكومة تراقب كلا منهم.

ولليمانيين أيضا مطوفون ، ولكن فائدة هؤلاء منهم لا تذكر ، وليس للحجازيين ولا للنجديين مطوّفون ، لأنّهم يعرفون المناسك كلها ، ولا يحتاجون إلى أدلاء. ولا يلزم لهم من يستأجر لهم الجمال ، لأنّ الجمال كلّها لهم ، وقلّما يستفيد منهم الحرمان الشريفان إلا بأكلهم وشربهم من السوق.

ومن مزايا المطوفين أنّهم يجوبون الأقطار ، ولا يستبعدون منها بعيدا ، وتجدهم حتى في الصّين ، وكاشغر ، وسيام ، وسومطرة ، وجزائر الفيلبين ، وكل بلد فيه مسلمون ، يرغّبونهم في الحج ، ويسهلونه عليهم ، ويصفون لهم اللذات الروحية ، التي يشعر بها المتطوفون بالبيت الحرام ، والقاصدون إلى عرفات والمشاعر العظام ، والزائرون لروضة الرّسول عليه الصلاة والسلام ، ولا يزالون بهم حثّا وترغيبا ، واستحثاثا للنفوس ، واستحلابا للعبرات ، إلى أن يأتوا بنفر منهم إلى الحج.

والمطوّفون أينما ذهبوا يكرمهم المسلمون ، ويقومون بضيافتهم تبركا بالبقاع التي صدروا عنها ، والبيت الذي يخدمون فيه ، وهم

١٣٢

يستفيدون بهذه الأسفار الطويلة معرفة واطلاعا ، ويتعلمون اللغات الأجنبية.

ولو كانت أمورنا على النسق الأوروبي الذي قاعدته استغلال كلّ شيء ، لكنّا أسسنا مدرسة خاصّة بالمطوّفين والمزوّرين ، يتعلّمون فيها إتقان التطواف ، وكيفية ترفيه الحجّاج والمزدارة ، وتوفير أسباب راحتهم ، وتلقينهم الأدعية والأذكار المأثورة بأيسر الطرق ، وبثّ الدعاية اللازمة بالأوصاف والصور ، حتى يزداد عدد الحجاج القادمين كلّ سنة ، وهكذا تزداد مكة وطيبة عمرانا ، ويزداد أهلوهما يسارا.

والحقيقة أنّ الحجّ لا يزداد ، ولا تزداد أرزاقه وخيراته إلا بأمرين : أحدهما : أمان الطرق : والثاني : أسباب الراحة.

أما الأمان ، فقد توافر في أيام ابن سعود ، إلى حدّ لا يتطلّع فيه متطلّع إلى مزيد ، وإنما يرجو دوام هذه النعمة.

وأما أسباب الراحة ، فقد كانت تعدّ أسباب راحة بالنسبة إلى الماضي ، ولا تعدّ كذلك بالنسبة إلى الحاضر ، بعد أن انتشرت الأساليب العصرية في النزول والركوب والمبيت ، وتوسيع الشوارع ، وتنظيفها ، وترصيفها ، وإنارتها بالمصابيح الكهربائية ليلا ، ونسق الحدائق في أوساط المدائن وحواشيها ، وبناء المقاهي الرائعة المزخرفة ، وسائر ما يلذّ الأعين ، ويشرح الصدور ، ولا يقدر أن يعيش بدونه المترفون ، ولا يتهيّأ لهم سرور ، فالحجّاج في الغابر ، كانوا يأتون من بلدان لا تفوق مكة والمدينة في درجة الرفاهية والانتظام ، أو تتفوّق قليلا ، فكان الحاجّ لا يشعر بالفرق بين المكانين ، ولا تتغيّر عليه البيئة.

وأما اليوم ، فقد صار أكثر العالم الإسلامي تحت حكم الإفرنج ، فشاهد الحجاج مدنية الإنكليز في الهند وزنجبار ، ومدنية هولاندة في جاوة ، ومدنية فرنسة في شمالي أفريقية ، ومدنية الروس في موسكو

١٣٣

وبتروغراد (١) وهلم جرا ، فتعوّد المترفون منهم رفاهة ورفاغة لا يطمعون أن يحصلوا على مثلهما في الحجاز إلا في قضية الطعام ، فإنّ طهاة مكة والمدينة لا يفوقهم طهاة تلك البلدان ، وربما لا يساوونهم في تطييب الطعام وتأنيقه ، ولكن ليس المأكل هو كلّ شيء ، فلا بدّ للمسلم المترف من أهل تلك البلدان ـ حتى من أهل مصر والشام والعراق ـ أن يؤمّن جهة راحته بحذافيرها ، حتى يقوم بفريضة الحجّ.

ومن المعلوم أنّ حج مترف واحد يعود على الحجاز بفائدة مادية أكثر من حجّ خمسين شخصا من المساتير أو المتوسطين.

أما الفوائد الروحية فلسنا في هذه الجملة بصددها ، وقد نتكلّم عنها في موضع آخر ، ونشرح ما يكفل الحج من جلائلها ، ولكن مع الأسف قد غلبت النزعة المادية الأوروبية على الناس ، وصار البدن هو معبود الإنسان العصري ، فأصبحت لا تقدر أن تقتصر في الدعاية إلى الحج على ذكر ما فيه من اللذة الوجدانية ، والراحة الروحية ، وأنّى لعبدة الأبدان أن يشعروا بمواجيد النفوس ، ولذائذ نعيم العرفان!!

وكلّ المدنية العصرية مبنية على مدنية أوربة ، وكل مدنية أوربة تقريبا هي مستغرقة في خدمة الحواس ، ولسان حالها ينادي : المادة المادة!!

ولا ينكر أنّ السيارة الكهربائية والتليفون واللاسلكي قد كفلت في الحجاز في السنوات الأخيرة راحات واختصارات لم يكن يعرفها من قبل ، وأنّ مكانها من الأهمية لا يخفى ، ولكن على الدولة السعودية أن تطرد مشروعاتها العمرانية في الحرمين الشريفين ، وجدة ، وينبع ، والطائف ، الذي هو مصيف الحجاز ، حتى يعرف أغنياء العالم الإسلامي أنّهم إذا قصدوا الحجاز ، لا يرهقون عسرا ، ولا يصادفون في شيء من اللذات التي يبيحها الشرع حرمانا.

__________________

(١) [بطرسبورغ].

١٣٤

فأما اللذائذ التي لا يبيحها الشرع ، فإنّ من فضائل الدولة العربية السعودية حظرها ، وسد الأبواب عليها ، والتصلّب في هذا الشأن.

ولقد حرم الحجاز منذ سنتين أو ثلاث حاجّ الأناضول ، لأنّ مصطفى كمال يأبى أن ينفق التركي شيئا من ماله في بلاد عربية ، فهو قد أراد هذا لأجل التوفير على الأتراك بزعمه ، ويا ليته احتاط للتوفير على أمته في الطرق التي ذهبت فيها الملايين من أموالهم إلى جيوب الإفرنج كالخمر والميسر ، والألبسة الإفرنجية ، وما أشبه ذلك ، مما كان السبب في هوي تركية الاقتصادي إلى ما هوت إليه ، ومما لم يعد سرا مخفيا. فمسألة نفقات الحج كانت نقطة من غدير بالنسبة إلى هذه!!.

وكذلك كان من أسباب الثورة النجدية التي استأصل الملك ابن سعود جرثومتها أنّ موقدي تلك الثورة زعموا أنّ الحجّاج الذين يأتون من طريق البحر مشركون ـ هكذا سمعنا عنهم والعهدة على الرواة ـ وطلبوا من ابن سعود أن يسدّ طريق الحج عليهم ، فجادلهم كثيرا في هذه المسألة ، فاصرّوا على غيهم ، فقال لهم أخيرا : وكيف يعيش أهل الحجاز إذا سددنا هذه الطريق عليهم؟ فقالوا له : يرزقنا الله وإياهم ـ وقد غاب عنهم أنّ الرزق له أسباب ، وأنّ الله جعل لكلّ شيء سببا ، وأنّ أعظم أسباب ارتزاق الحرمين هو الحجّ ، وأنّ الله تعالى أنزل في هذه الحقيقة قرآنا غير ذي عوج.

* * *

١٣٥

وجوب اعتناء حكومات الدنيا بأسرها بأمر الحج

ينبغي لحكومة الحجاز ولسائر الحكومات الإسلامية ، والحكومات غير الإسلامية ، التي غلبت على ديار المسلمين ، أن تعتني بقضية الحج إلى بيت مكة أشدّ الاعتناء.

أما الحكومات الإسلامية فتعتني به من جهة أنّه فرض ديني ، معدود من أركان الإسلام ، يقوم به كل سنة مئات ألوف من المؤمنين.

وأما الحكومات الأخرى ، فتعتني به من جهة ارتباط العالم بعضه ببعض ، وكونه ـ لا سيما في العصر الحاضر ـ أصبح جسما واحدا ، لا يشعر منه عضو بالتياث إلا التاث به سائر الأعضاء ، فورود مئتي ألف شخص ، أو ثلاثمئة ألف شخص من أقطار الكرة الأرضية كلّ سنة برا وبحرا ، مشاة وركبانا ، إلى بقعة من جزيرة العرب لزيارة بيت عتيق ، أسس على التقوى ـ ليس بحادث بسيط لا يستوجب الاعتناء ، وسيأتي يوم ينتقل فيه أكثر هذا الحاج إلى بيت مكة بالطيارات ، فتزداد السهولة ، وتتضاعف السرعة ، وقد يزداد بذلك عدد الحجيج زيادة هائلة (١) لا سيّما إذا جدّ في مكة من تسهيلات الحج ما هو غير متيسّر إلى حدّ اليوم.

ولا يزداد عدد الحجاج بالكمية فقط ، بل يزداد شأنهم من جهة

__________________

(١) [وهذا ما حصل ، حتى اضطرت حكومة المملكة العربية السعودية لتحديد عدد الحجاج من كل قطر إسلامي بنسبة ثابتة من عدد سكانه].

١٣٦

الكيفية ، فيقصد مكة ذوو الترف واليسار ، وأناس كانوا يتوقفون عن أداء هذه الفريضة بسبب ما كانوا يخشونه من الأمراض ، أو من فقد أسباب الراحة التي ألفوها.

ولا ينبغي أن يظنّ أنّ تقدّم المسلمين في المعارف ، ورقيهم في سلّم المدنية في المستقبل قد ينتهيان بتناقص عدد حجاج البيت الحرام ، فقد ترقت الأمم الأوربية كثيرا في المدنية ، وغلبت على قسم كبير منها الفلسفة واللادينية ، ولا يزال زوار القدس من المسيحيين كلّ سنة عددا كبيرا ، ولا يزال قصّاد رومة كلّ سنة من الكاثوليك عددا أكبر ، وما يقدر العلم أن يصنع شيئا مع الدين ، ما دام سرّ الكون النهائي لا يبرح مغلقا ، وما دام الإنسان عاجزا عن مكافحة الموت ، لا بدّ للخلق من الدين ، وما ثورات الإلحاد إلا غمرات ثم ينجلين.

فالنزعات اللادينية والنزعات الإلحادية التي تعرض على المجتمع الإنساني في [هذه] الأحايين ، إن هي إلا عوارض مؤقتة ، لا يمكن أن تكسب شكلا عاما ، ولا أن تقوم مقام العقائد الدينية الضرورية للبشر ، وقد سبقت لها أماثيل متعددة في تاريخ أكثر الأمم ، وعصفت ريح الإلحاد في بعض الحقب ، ثم لم تلبث أن هدأت واستقرّت ، وعاد الأمر كما بدأ.

وفي الثورة الفرنسوية الكبرى أقفلوا الكنائس ، وقتلوا القسيسين ، وشرّدوا جميع خدمة الدين ، واغتصبوا الأوقاف ، وأزالوا عنها صفة الوقف ، وجعلوا العبادة للعقل ، وظنّ النّاس أنّ الكنيسة الكاثوليكية في فرنسة دخلت في ذمة التاريخ ، وصارت أثرا بعد عين ، ولكن لم تمض بضع سنوات على هذا العمل حتى ركدت تلك الزوبعة ، وعادت العقيدة الدينية إلى نصابها (١).

__________________

(١) [وهذا ما حدث أيضا في الاتحاد السوفيتي سابقا].

١٣٧

ورأى نابليون أنّ عقلية الفرنسيس قد تراجعت إلى أصلها ، ففتح الكنائس ، وأعاد إلى العبادة كرامتها ، ورفع منار الدين الكاثوليكي ، وتتوّج إمبراطورا في كنيسة نوتردام في باريس ، ودعا البابا إلى حضور حفلة التتويج ، فجاء البابا بنفسه ، وكان يطوف بعربته في شوارع باريس ، والناس تخرّ أمامه جثيّا ، وهم هم الساجدون له الآن ، كانوا قبل ذلك بسنوات معدودات القوم الذين اتخذوا هواهم إلههم ، وأقفلوا الكنائس ، وأتوا بفتاة حسناء رعبوبة (١) ، فجلّوها على منصة رفيعة ، وخروا لها ساجدين.

فأنت ترى أنّ زعازع الإلحاد مصيرها غالبا إلى الركود ، وأنّ الدّين لن يبرح صاحب الكلمة العليا في الأرض ، ما دامت المادّة لا تقدر أن تبين عن ذات نفسها ، ولا أن تحدّث الإنسان بتاريخها ، وما دام الإنسان متشوّقا إلى جواب عن هذا الوجود ، لا يجده إلا في الإيمان بالغيب.

ولذلك أقول : إنّه مهما ترقّى الناس في العلوم والفنون لا يبرحون محتاجين إلى الديانة ، فازعين إلى الغيب ، وإنه لن تبرح أماكن العبادة ، وخصوصا مراكز انبعاث الأنبياء والرسل مثابا لأتباعهم ، يقصدونها من كلّ فجّ سحيق.

ومكة والمدينة وبيت المقدس ستبقى مقصدا للمؤمنين بمؤسسي الشرائع التي تأسست فيها ، ولو فرضنا أنّه اختلفت فيها مفاهيم السلائل البشرية الآتية عن السلائل الحاضرة.

وأقول : إنّ اختلاف هذه المفاهيم مهما تناهى فلا يتجاوز جوهر العقيدة الأصلي ، لأنّ جوهر العقيدة مبني على العقل البشري ، ولأنّه ليس للمرء مذهب وراء العقل البشري ، فهو أول الشرائع وآخرها ، وأقدمها وأحدثها.

__________________

(١) [بيضاء].

١٣٨

فتأويل الشرع ـ بعيدا ما بعد عن المفهوم الحالي ـ لا بدّ أن يبقى مربوطا بالعقل البشري ، وآيلا إليه ، وذلك لسبب بسيط ، هو أنّ الشرع والعقل متحدان ، وأنّ حدّهما يصحّ أن يكون مرادفا للآخر ، وأنّه لا يمكن للشرائع أن تأتي بما يستحيل في العقول ، إذ لو كان ذلك لهدمت نفسها بنفسها ، ولعطّلت الأداة الوحيدة التي يمكن فهمها بها.

وقد روي عن سيدنا علي رضي‌الله‌عنه ـ وسمعت روايته من أستاذنا الشيخ محمد عبده رحمه‌الله ـ ما معناه : أنّ الشرائع السماوية لم تأت بشيء جديد ، وإنما جاءت إثارة لدفائن القلوب ، فالعقل مضمون في صلب الشرع ، كما أنّ الشرع مضمون في صلب العقل ، وبناء على هذا المبدأ ، قرّر الإسلام أنّه خاتمة الشرائع ، وأنّه لا بدّ من أن يظهر على الدين كلّه ، كأنّه يقول : إنّ آخر ما يصل إليه الإنسان من الهدى هو دليل العقل ، وهذا الدليل هو الشرع بعينه ، لأنّ كلّ ما ناقض العقل هو مردود ، فلا عجب أن يكون الشرع المعقول هو الشرع الأخير (١).

فما دام العقل الإنساني هو هذا الذي نعرفه ، فالشرع قائم مؤيد ثابت في العقول ، سائغ في الأذهان ، لا يتجافى عنه إلا من حرم سلامة الحس الباطني ، وسلب أداة الإدراك.

وما دام الشرع قائما مؤيدا ، لا تزعزعه عواصف الأهواء ، ولا تميد به زعازع الشبهات ، حتى يعود أمتن مما كان ، ويعتصم به الجمهور ، فمناسك الدين وشعائره لا تبرح قائمة ، وأحكام الشرع لا تبرح جارية ، ومكة تبقى مكة ، وطيبة تبقى طيبة ، والمسجد الأقصى يبقى المسجد الأقصى.

* * *

__________________

(١) هذه العبارة فيها إجمال وغموض ، وهي مروية بالمعنى ، وموضوعها أنّ الإسلام دين الفطرة ، المبني على دلائل العقل ، والمسألة مفصّلة مبيّنة في «رسالة التوحيد» ص (٧) للأستاذ الإمام ، بما لا غموض فيه ولا إبهام. مصححه

١٣٩

اعتداء الحكومات الإسلامية

على أوقاف الحرمين الشريفين

من حيث قد قررنا أنّ الأماكن المقدسة في الحجاز لن تبرح مقصدا للمؤمنين من جميع الفجاج ، ومركزا يجذبهم إليه بجاذبيته المعنوية من بين مطلع الشمس ومغربها ، فقد تحتّم على الحكومات والجماعات الإسلامية ـ أحمرها وأسودها ـ أن توجّه العناية إلى إصلاح أحوال هذه البقاع المباركة ، وإجراء المقاصد التي تتحقق بها المناسبة بين طهارتها المادية وقدسيتها المعنوية.

وبديهي أنّ هذه الأمكنة ، وإن كان جيرانها وأصحاب الحلّ والعقد فيها هم من العرب وحدهم ، من جهة أنّها جزء من البلاد العربية ، فليس عمّارها وقصّادها وزوراها من العرب وحدهم ، بل هم من أمم لا يقل عددها عن ثلاثمئة وخمسين مليون نسمة (١) ، فليس من العدل أن تنحصر مهمة تنظيمها وتنظيفها وتوفير وسائل الرفاهة والفراهة فيها بأهاليها الأصليين ، الذين لا يزيد عددهم على مليون نسمة ، والذين لا يتكون منهم إلا جزء من ثلاثمئة وخمسين جزءا.

بل هذه المهمة يجب أن تتوزع على المسلمين جميعا ، حتى يقوموا بها متضافرين ، ولا ينقصهم شيء من شروط الكمال الصوري والمعنوي في هذا الوطن العام الذي يخصّهم جميعا من وجهة العقيدة.

__________________

(١) [هذا عام (١٩٢٩) أما اليوم فقد زاد على المليار].

١٤٠