الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

والأوساخ ، ووجدوا القني مقطّعة ، والآبار معطّلة ، والقصور غير مشيّدة ، والقناطر مهدّمة مبعثرة.

ونحن وجدنا هذه المرة في تسيارنا في جبال الحجاز ـ فضلا عما نعرف من غيرها من بلداننا ـ من آثار العمران الدارسة ، والسدود الداثرة ، والقنوات المنقورة في الصخور ، المنقطعة عنها المياه الجارية ، ما لا يكاد يأخذه الإحصاء ، ورأينا منها شيئا كثيرا ليس ترميمه بالأمر المعجز ، مع شدة ضرورته ، وقضينا العجب من إهمال الولاة الغابرين إياه ، وتهاونهم بعمارة البلاد إلى هذا الحد ، كأنّ البلاد بلاد أعدائهم (١).

فمن أجل ذلك فسحنا مكانا واسعا في كتابنا هذا لابن كريز ، وزبيدة العباسية ، والوزير الموصلي جمال الدين الجواد ، ومن في ضربهم من رجالات العمران ، وبناة المدنية ، ونمثلها لهم بقول المعري :

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم

بعد الممات جمال الكتب والسّير

وإذا كان قد جرى ذكر المنازل في الفلوات ، فسنأتي على أخبار أخرى لطيفة من هذا الموضوع ، لا تضيق بها رسالة «الارتسامات اللطاف» بل تكون بالعكس وشيا لطرازها.

__________________

(١) وقد حبّس المسلمون المتقدمون على الحرمين الشريفين من الأوقاف الكثيرة في كلّ قطر ما يكفي لجعل الحجاز أعظم بلاد الله عمرانا ، وقد أكل المسلمون أكثر تلك الأوقاف ، ولا يزال المعروف منها يكفي لعمران الحجاز ، ولكن يحول دون وصوله حكامهم الظالمون ، وأعداؤهم الكافرون ، الذين استولوا على أكثر بلاد المسلمين.

١٠١

شغف بعض ملوك الإسلام بالعمران

١ ـ مثال منه : أثار عبد الرحمن الناصر الأموي في الأندلس

أردنا أن نردف أخبار أبطال العمارة ، وصناديد البناء والتشييد ، وكفاة الشبع والري من مسلمي المشرق ، بأخبار بعض أقرانهم من مسلمي المغرب ، ليعلم النّاس أنّ الإسلام أنجب ملوكا وسلاطين ، كانوا يحتفلون بالعمران ، ويعمّرون القفار ، ويرتّبون من أمور المدنية ما يرتبه الإفرنج اليوم ، وما لم يكونوا يحسنون مثله في تلك القرون ، التي كان المسلمون فيها هم الأعلون في كّل شيء.

فمن هؤلاء في المغرب الخليفة عبد الرحمن الثالث ، الملقب بالناصر الأموي ، ولست بمتعرّض الآن إلى ذكر خلافته التي استمرت خمسين سنة ، ومغازيه في بلاد الإفرنج ، ومآثره الباهرة التي اتفقت عليها تواريخ الشرق والغرب (١) ، ولكنّي أريد أن أذكر من علو همته في البنيان من تتحيّر به العقول.

ذلك أنه بنى قصر الزهراء بقرطبة ، فكان طول هذا القصر من الشرق إلى الغرب ألفين وسبعمئة ذراع ، أي نحو كيلو مترين ، وعرضه من الشمال إلى الجنوب ألفا وخمسمئة ذراع ، أي نحو كيلو متر ، وكان في الزهراء أربعة آلاف وثلاثمئة سارية ، وكان فيها ما يزيد على خمسة عشر

__________________

(١) [انظر سيرته في كتاب «عبد الرحمن الناصر» للأستاذ علي أدهم من سلسلة «أعلام العرب»].

١٠٢

ألف باب ، وكان يتصرّف في عمارة الزهراء كلّ يوم من الخدّام والفعلة عشرة آلاف رجل ، ومن الدواب ألف وخمسمئة دابة ، وكان من الرجال من له الدرهم ونصف ، ومن له الدرهمان والثلاثة.

وكان يصرف كلّ يوم في الزهراء من الصخر المعدل المنحوت ستة آلاف صخرة ، سوى الآجر والصخر غير المعدل.

قالوا : وكان الناصر يثيب على كلّ رخامة كبيرة أو صغيرة عشرة دنانير ، سوى ما كان يلزم لقطعها وحملها ، وجلب الناصر الرّخام إلى الزهراء من كل البلاد ، فالأبيض من المرية ، والمجزّع من رية ، والورديّ والأخضر من صفاقس وقرطاجنة بأفريقية ، وجلب إليها الحوض المنقوش المذهّب من الشام ، وقيل من القسطنطينية ، وفيه نقوش وتماثيل وصور على صور الإنسان ، ولما جلبه أحمد الفيلسوف ـ وقيل غيره ـ أمر الناصر بنصبه في وسط المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس ، ونصب عليه اثني عشر تمثالا.

قالوا : وبنى في الزهراء القصر المسمّى بقصر الخلافة ، وكان سمكه (سقفه) من الذهب والرّخام الغليظ ، الصافي لونه.

وكانت حيطان هذا القصر مثل ذلك ، وجعلت في وسطه اليتيمة ، التي أتحف الناصر بها ليون ملك القسطنطينية ، وكانت قرامد هذا القصر من الذهب والفضة ، وكان في وسط المجلس صهريج مملوء بالزئبق ، وكان في كلّ جانب من هذا المجلس ثمانية أبواب ، قد انعقدت على حنايا من العاج والأبنوس المرصّع بالذهب وأصناف الجواهر ، قامت على سواري من الرّخام الملون والبلور الصافي.

وكانت الشّمس تدخل على تلك الأبواب ، فيضرب شعاعها في صدر المجلس وحيطانه ، فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار.

وكان الناصر إذا أراد أن يفزّع أحدا من أهل مجلسه أومأ إلى أحد صقالبته ، فيحرّك ذلك الزئبق ، فيظهر في المجلس لمعان كلمعان البرق

١٠٣

من النور ، يأخذ بمجامع القلوب حتى يخيّل لكلّ من في المجلس أنّ المحل قد طاربهم ، وهذا المجلس لم يتقدّم لأحد بناء مثله ، لا في الإسلام ولا في غيره ، وإنما تهيأ للناصر لكثرة الزئبق في ملكه.

وأجرى الناصر إلى الزهراء المياه ، وأحدق بها البساتين ، وبنى فيها مسجدا من أبدع المساجد ، وقيل : إنّ العمل في الزهراء استمرّ أربعين سنة من ملك الناصر ، وقيل : إنّه كان بقصر الزهراء من الوصفاء ثلاثة عشر ألفا ، وكان الجاري لهم من اللحم فقط كلّ يوم عدا الطير والحوت ثلاثة عشر ألف رطل ، وكان في القصر من الجواري والخوادم أكثر من ستة آلاف امرأة ، وقيل : إنّ المرتب من الخبز لحيتان الزهراء السابحة في بركها العظيمة اثنا عشر ألف خبزة كل يوم.

قالوا : وكان يرد من الجير والجص في كلّ ثالث من الأيام إلى الزهراء ألف ومئة حمل ، وقدّر بعض أهل الخدمة في الزهراء أنّه كان ينفق فيها كلّ عام ثلاثمئة ألف دينار ، وأنّ ذلك استمرّ خمسا وعشرين سنة ، إلى نهاية ملك عبد الرحمن الناصر.

وذكروا أنّ الحوض المنقوش المذهّب الذي جلبه الفيلسوف أحمد مع ربيع الأسقف من القسطنطينية لم يكن وحده ، بل جلبوا إليه أيضا حوضا آخر ، يقال له : الحوض الصغير ، أخضر منقوشا بتماثيل الإنسان ، وأنّ الناصر نصبه في بيت المنام بالمجلس الشرقي ، وجعل عليه اثني عشر تمثالا من الذهب الأحمر ، مرصعة بالدّرّ النفيس الغالي ، مما عمل بدار الصناعة بقرطبة : صورة أسد ، إلى جانبه غزال ، إلى جانبه تمساح ، وفيما يقابله ثعبان وفيل ، وفي المجنبتين حمامة وشاهين وطاووس ، ودجاجة وديك وحدأة ونسر ، وكل ذلك من ذهب مرصّع بالجوهر النفيس ، ويخرج الماء من أفوهها.

قالوا : وفي يوم الخميس لسبع بقين من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمئة كمّل الناصر بناء القناة الغريبة الصنعة ، التي أجراها بالماء

١٠٤

العذب من جبل قرطبة إلى قصر الناعورة غربي قرطبة في المناهر المهندسة ، وعلى الحنايا المعقودة ، يجري ماؤها بتدبير عجيب ، وصنعة محكمة إلى بركة عظيمة ، عليها أسد عظيم الصورة ، بديع الصنعة ، لم يشاهد أبهى منه فيما صوّر الملوك في غابر الدهر ، مطليّ بذهب إبريز ، وعيناه جوهرتان ، لهما وبيص (١) شديد ، يجوز هذا الماء إلى عجز هذا الأسد ، فيمجّه في تلك البركة من فيه ، فيبهر الناظرين بروعة منظره ، ومجاجة صبّه ، فتسقى من مجاجه جنان هذا القصر على سعتها ، ويستفيض على ساحاته وجنباته ، ويمدّ النهر الأعظم بما فضل منه.

قالوا : واستمرّ العمل في هذه القناة إلى أن انتهت أربعة عشر شهرا ، ولما انطلق فيها الماء إلى تلك البركة كان يوما احتفل فيه الخليفة رحمه‌الله ، وعمل دعوة جفلى ، وأفضل على عامة الخلق ، ووصل المهندسين والقوّام بصلات حسنة جزيلة.

عمران قرطبة العجيب في عهد الناصر

وكان عمران قرطبة في أيام الناصر عامّا تامّا ، وليس من المعقول أن يتناهى هذا التناهي كلّه في اتقان البنيان وتفخيمه في عاصمة لم يستبحر عمرانها ، ولم تزخر لجج الاجتماع فيها ، فقد رووا أنّ عدد دور قرطبة كان لعهد الناصر وابنه الحكم نحو (٢٠٠) ألف دار ، وهذه دور الأهالي ، فأما دور الوزراء والعمال والكتّاب والأجناد وخاصّة الملك فكانت ستين ألف دار ، هذا عدا الحمامات والخانات والفنادق ، وقالوا : إنّه كان فيها ثمانون ألف حانوت ، وكان لقرطبة (٢٨) ربضا (٢) وقيل (٢١) ربضا ، كلّ واحدة منها بلدة فيها منبر تقام فيه الجمعة.

__________________

(١) [لمعان].

(٢) [ضاحية].

١٠٥

وقيل : إنّ الطرق من قرطبة إلى جميع هذه الأرباض كانت تنار ليلا بالقناديل ، وهي مسافات من (١٠) إلى (١٥) كيلو مترا.

فأما مساجد قرطبة لذلك العهد ، فقد جاءت فيها روايات مختلفة ، فقيل : ثلاثة آلاف وثمانئمة. وقال ابن حيّان : بلغت المساجد بقرطبة في مدة ابن أبي عامر (بعد الناصر بمدّة غير طويلة) ألفا وستمئة مسجد ، والحمامات تسعمئة حمام.

وأما مسجد قرطبة الأعظم ، فإن القلم ليعجز عن وصفه ، فمن شاء فليقرأ ذلك في «نفح الطيب» وغيره من تواريخ الأندلس ، أو فليذهب إلى إسبانية ، ويشاهده ، فلا يزال أكثره قائما ، وإن كان قد تحوّل إلى كنيسة ، وقد ذهب كثير من النفائس التي كانت تزينّه ، ولا أعلم هل أبقاه الإسبانيول على مساحته الأولى ، أم اختصروا منه ، فالذي في كتب العرب أن تكسيره (١) كان نحو (٣٣) ألف ذراع ، وأنه كان فيه (١٢٠٠) عمود و (٩٣) عمودا كلها رخام ، وقد كان لعهد الناصر وأهله باب مقصورة هذا الجامع من الذهب ، وقد أجرى الذّهب في جدار المحراب وما يليه على الفسيفساء.

وكانت الصومعة (٢) من بناء الناصر ، تعلو ثلاثا وسبعين ذراعا ، إلى أعلى القبة المتفّحة التي يستدبرها المؤذّن ، وفي رأس هذه القبة تفافيح ذهب وفضّة ، ودور كلّ تفاحة ثلاثة أشبار ونصف ، فاثنتان من التفافيح ذهب إبريز ، وواحدة فضة ، وتحت كلّ واحدة منها وفوقها سوسنة ، قد هندست بأبدع صنعة ، ورمانة ذهب صغيرة على رأس زجّ.

وكان في الجامع مئتان وثمانون ثريّا ، وثمانمئة وخمس كؤوس ، وكان يوقد فيه في شهر رمضان فقط ثلاثة قناطير من الشمع ، وكان له

__________________

(١) [مساحته].

(٢) [المئذنة].

١٠٦

كلّ ليلة جمعة رطل عود ، وربع رطل عنبر ، وكان من فيه من الأئمة والمؤذنين والسدنة نحو (١٥٠) رجلا ، وروى بعضهم (٣٠٠) ويجوز أن يختلف العدد باختلاف الأوقات.

وقالوا : إنّ الحكم المستنصر بنى لهذا الجامع أربع ميضآت ، منها ثنتان للرجال ، وثنتان عند مقاصير النساء ، وأجرى في جميعها الماء من سفح جبل قرطبة ، وصبّها في أحواض رخام.

وأجرى فضل هذا الماء العذب إلى سقايات اتخذهنّ على أبواب الجامع ، وهي جواب ثلاث من حياض الرخام ، اقتطعها من مقطع المنستير بسفح جبل قرطبة ، واحتفر الرخاميون هناك أجوافها بمناقيرهم في المدة الطويلة ، حتى استوت في صورها البديعة ، فخفف ذلك من ثقلها ، وأمكن من إهباطها إلى أماكن نصبها بأكناف المسجد الجامع ، فتهيّأ حمل الواحدة منها فوق عجلة كبيرة ، اتخذت من ضخام خشب البلّوط ، على قلل موثّقة بالحديد المثقف ، محفوفة بوثاق الحبال ، قرن لجرّها سبعون دابة ، ومهدّت قدامها الطرق ، وتيسّر نقلها في مدة (١٢) يوما ، فنصبت في الأقباء المعقودة لها.

وابتنى الحكم المستنصر غربي الجامع دار الصدقة ، واتخذها معهدا لتفريق صدقاته المتوالية ، وابتنى للفقراء البيوت قبالة باب المسجد الكبير.

وربما ينسب بعض القراء شيئا من هذه الروايات إلى المبالغة ، ويجوز أن يكون فيها زيادة في الوصف ، لأجل نقل الحقيقة إلى ذهن السامع ، إلا أنّ كثيرا من هذه الآثار محفوظ إلى اليوم ، فجامع قرطبة لا يزال قائما ، وإن كانت الزهراء والزاهرة وغيرهما قد درست ، وقصر إشبيلية لا يزال قائما ، وحمراء غرناطة لا تزال ماثلة ، ومباني العرب في طليطلة أكثرها لم يتهدّم ، وكلّ من رأى الباقي من تلك الآثار لا ينسب مجمل تلك الروايات إلى المبالغة.

١٠٧

ثم إنّ ابن خلدون شيخ فلاسفة التاريخ برصانته وجلالة قدره وزيادة نعيه على المبالغين في الأخبار يقول : ولما استفحل ملك الناصر ، صرف نظره إلى تشييد القصور والمباني ، وكان جدّه الأمير محمد ، وأبوه عبد الرحمن الأوسط ، وجده الحكم ، قد احتفلوا في ذلك ، وبنوا قصورهم على أكمل الاتقان والضخامة ، وكان فيها المجلس الزاهر والبهور والكامل والمنيف ، فبنى هو إلى جانب الزاهر قصره العظيم ، وسماه دار الروضة ، وجلب الماء إلى قصورهم من الجبل ، واستدعى عرفاء المهندسين والبنائين من كل قطر ، فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية ، ثم أخذ في بناء المتنزهات ، فاتخدمنية الناعورة خارج القصور ، وساق لها الماء من أعلى الجبل على أبعد مسافة.

ثم اختطّ مدينة الزهراء (صدق ابن خلدون ، لأنّ الزهراء في الحقيقة كانت مدينة لا قصرا) واتخذها لنزله ، وكرسيا لملكه ، وأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتين ما عفا على مبانيهم الأولى ، واتخذ فيها محلات للوحش فسيحة الفناء ، متباعدة السياج ، ومسارح للطيور مظلّلة بالشّباك ، واتخذ فيها دور الصناعة لآلات السلاح للحرب ، والحلي للزينة ، وغير ذلك من المهن ، وأمر بعمل الظّلة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حرّ الشّمس ا ه.

وأما الزّاهرة فقد بناها المنصور بن أبي عامر الشهير ، الذي يعدّ من أعاظم رجال الإسلام (١) ، جعلها على نهر قرطبة الأعظم ، واحتفل جدا ببنائها ، حتى صارت أشبه بمدينة أيضا.

ومن أحلى ما قرأت من غرام عبد الرحمن الناصر الأموي بالعمران والاتقان والفراهة ، والرفاهة ، واستكمال أدوات الرفق على نسق العصر

__________________

(١) [انظر سيرته في كتاب «منصور الأندلس» للأستاذ علي أدهم من سلسلة أعلام الإسلام].

١٠٨

الحاضر ـ ما جاء في «الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى» (١) أن أبا العيش أحمد بن قاسم كنون من ملوك الأدارسة بالمغرب ، كان قطع دعوة العبيديين خلفاء مصر وتونس ، وبايع الخليفة عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس ، وخضع المغرب كلّه لأبي العيش بنفوذ الناصر وقوته ، ولما كان الخليفة في جهاد دائم مع الإفرنج ، أراد أبو العيش أن يلحق بساحة القتال ، واستأذن الخليفة في ذلك ، فأذن له ، وأمر بأن يبنى له في كل منزل ينزله قصرا ، وذلك من الجزيرة الخضراء (بقرب جبل طارق) إلى الثغر (حدود بلاد الإفرنج ، وكانوا يقولون لسرقسطة الثغر الأعلى) وأن يجري له فيها ألف دينار في كل يوم ضيافة له ، ومن الفرش والأثاث والطعام والشراب ما يقوم بالقصر ، فلم يزل على ذلك حتى وصل إلى الثغر ، فكانت منازله من الجزيرة إلى الثغر ثلاثين منزلا ا ه.

* * *

__________________

(١) [للسلاوي].

١٠٩

٢ ـ مثال آخر من النظام عند المسلمين

من خبر عبد المؤمن صاحب دولة الموحدين

ومن هذا النمط وأبلغ منه في ترتيب المنازل والمناهل ما عمله عبد المؤمن بن علي ، صاحب دولة الموحدين في المغرب ، فقد كانت أفريقية ـ بلاد تونس ـ في يد بني زيري بن مناد الصنهاجيين ، عمالا للعبيدين خلفاء القاهرة ، ولكن كانت دولة بني زيري قد أشرفت على الهرم ، وزاحمها الثوار من العرب ، فانتهز الإفرنج أصحاب صقلية هذه الفرصة فيهم ، وملكوا منهم عدة ثغور ، مثل صفاقس وسوسة وغيرهما ، ثم ملكوا المهدية ، وهي دار ملك الحسن بن علي الصنهاجي ، فذهب هذا إلى عبد المؤمن بن علي القائم بدولة الموحدين ، واستعداه على الإفرنج ، وبينما هذا يهمّ بذلك إذ أوقع الإفرنج بأهل زويلة ، التي هي على مقربة من المهدية ، وكان وقعة شنيعة ، قتلوا فيها النساء والأطفال ، ففرّ جماعة منهم إلى عبد المؤمن بن علي يستنصرونه وهو بمراكش ، وقالوا له : لم يبق في ملوك الإسلام من يكشف هذا الكرب غيرك ، فدمعت عيناه ، وأطرق ساعة ، ثم رفع رأسه ، وقال : أبشروا ، لأنصرنّكم ولو بعد حين.

ثم أمر بعمل الروايا والقرب ، وما يحتاج إليه العسكر في السفر ، وكتب إلى من بطريقه من نوّابه ، يأمرهم بحفظ جميع ما يتحصّل من الغلات ، وأن يترك الزرع في سنبله ، ويخزّن في مواضعه ، وأن يحفروا الآبار في الطرق ، ففعلوا جميع ما أمرهم به ، وجمعوا غلات الحب

١١٠

ثلاث سنين ، ونقلوها إلى المنازل التي هي على الطريق ، وطينوا عليها ، فصارت كأنها تلال.

فلمّا كان صفر من سنة أربع وخمسين وخمسمئة سار عبد المؤمن من مراكش يؤمّ بلاد أفريقية ، واجتمع عليه من العساكر مئة ألف ، ومن السوقة والأتباع أمثالهم ، وكان هذا الجند يمتدّ أميالا ، وبلغ من حفظه وضبطه أنّهم كانوا يمشون بين الزروع ، فلا تتأذّى بهم سنبلة ، وإذا نزلوا صلّوا بإمام واحد ، بتكبيرة واحدة ، لا يتخلّف منهم أحد كائنا من كان ، ولم يزل يسير إلى أن وصل إلى مدينة تونس ، وأقبل أسطوله في البحر في سبعين شينيا وطريدة وشلندا ، ونازل البلدة ، وأخذها ، وسار إلى المهدية وأسطوله يحاذيه في البحر ، وكان بالمهدية يومئذ خواص الإفرنج من أولاد ملوكها ، وأبطال فرسانها ، وأخلوا مدينة زويلة ، ودخلها عبد المؤمن بعساكره ، والسوقة الذين معهم ، فصارت مدينة معمورة في ساعة واحدة ، ونزل بظاهرها من لم يجد موضعا فيها ، وانضاف إلى جيش عبد المؤمن من صنهاجة والعرب ما لا يدخل تحت إحصاء ، وأقبلوا يقاتلون المهدية ، فلا يؤثر فيها لحصانتها ، وضيّق مجال القتال عليها ، لأنّ البحر دائر بأكثرها ، فكأنّها كفّ في البحر ، وزندها متصل بالبر ، وركب عبد المؤمن شينيا ، ومعه الحسن بن علي الصنهاجي ، وتطوّف بها في البحر ، فهاله ما رأى من حصانتها ، وعلم أنّها لا تفتح بقتال برا ولا بحرا ، وليس لها إلا المطاولة ، وقال للحسن : كيف نزلت عن مثل هذا الحصن؟ فقال له : لقلة من يوثق به ، وعدم القوت ، وحكم القدر ، فقال : صدقت ، وعاد وأمر بجمع الغلات والأقوات ، وترك القتال ، فلم يمض غير القليل ، حتى صار في المعسكر مثل الجبلين من الحنطة والشعير. فكان من يصل إلى المعسكر من بعيد يقول : متى حدثت هذه الجبال؟ فيقال : هي حنطة وشعير ، فيقضي العجب مما يرى ، وتمادى الحصار ، وفي أثنائه استولى عبد المؤمن على

١١١

طرابلس ، وصفاقس ، وسوسة ، وجبل (١) نفّوسة ، وفتح قابس بالسيف ، وأطاعه أهل قفصة ، وإذا بأسطول صقلية آت مددا للإفرنج في المهدية ، وكان عدده (١٥٠) شينيا غير الطرائد ، وكان هذا الأسطول غزا جزيرة يابسة (بقرب ميورقة من جزر إسبانية) وسبى أهلها ، فأراد الدخول إلى ميناء المهدية ، فخرج إليهم أسطول عبد المؤمن ، وركب العسكر جميعه إلى جانب البحر ، فانهزمت شواني الإفرنج ، وتبعهم المسلمون ، وأخذوا منهم سبع شواني ، وعاد أسطول المسلمين مظفّرا منصورا ، ويئس إفرنج المهدية من النجاة ، ومع ذلك فقد صبروا على الحصار أربعة أشهر أخرى ، إلى أن نزل من فرسانهم عشرة ، وسألوا عبد المؤمن الأمان على أن يخرجوا بأموالهم ، وكان قد فني عندهم القوت ، حتى أكلوا الخيل ، فعرض عبد المؤمن عليهم الإسلام فقالوا : ما جئنا بهذا ، وإنما جئنا نطلب فضلك ، وتردّدوا إليه أياما ، وقالوا : إذا أنعمت علينا كنا لك أرقاء في أرضنا ، فعفا عنهم ، وكان الفضل شيمته ، وأعطاهم سفنا ، ركبوا فيها إلى بلادهم ، وكان الفصل شتاء ، فغرق أكثرهم قبل الوصول إلى صقلية ، وكان صاحب صقلية قد قال : إن قتل عبد المؤمن أصحابنا بالمهدية قتلنا المسلمين الذين عندنا بجزيرة صقلية ، وأخذنا حرمهم وأموالهم ، فأهلك الله الإفرنج غرقا ، وكانت مدة استيلائهم على المهدية اثنتي عشر سنة ، انتهى كلام صاحب «الاستقصا» ملخّصا.

وذكر ياقوت في «معجم البلدان» المهدية ، ووصف حصانتها بأكثر مما وصف صاحب «الاستقصا» وقال : إنّها من بناء المهدي العبيدي الفاطمي ، وإن روجار صاحب صقلية أنفذ إليها جرجي سنة (٥٤٣) واستولى عليها ، وبقيت في يد الإفرنج اثنتي عشرة سنة ، حتى قدم عبد المؤمن سنة (٥٥٥) فأخذها ، ولم تغن حصانتها في جنب قضاء الله شيئا. انتهى.

__________________

(١) [في الأصل : جبال].

١١٢

فأمّا قول صاحب صقلية : إنّه لو قتل عبد المؤمن إفرنج المهدية لقتل هو مسلمي صقلية ، فقد كان يصدر مثل هذا الفعل من الإفرنج ... فأما المسلمون فكانوا يأنفون من ذلك ، وصالح معاوية بن أبي سفيان الروم ، وارتهن منهم رهناء ، فوضعهم ببعلبك ، ثم غدر الروم وقتلوا المسلمين ، فلم يشأ معاوية والمسلمون قتل من في أيديهم من رهائن الروم ، وخلّوا سبيلهم ، وقالوا : وفاء بغدر ، خير من غدر بغدر ، وهو قول العلماء والإمام الأوزاعي رضي‌الله‌عنه ، وهو من قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤].

وقد كان شاهد هذا الحديث هو صنيع عبد المؤمن بن علي السلطان الكبير الذي قيل فيه :

ما هزّ عطفيه بين البيض والأسل

مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي

فقد ساق مئة ألف مقاتل ، ومعها مئة ألف من سوقة وأتباع من مراكش إلى تونس ، بدون أن تتأذّى بهم سنبلة قمح ، ولما أراد حصار المهدية جعل الحبوب جبالا ، فمثل هذا بين الملوك يقدّر له النجاح ، ويصحب دولته الفلاح.

ولعبد المؤمن بن علي آثار كثيرة ، منها بمراكش بستان المسرّة ، طوله ثلاثة أميال ، وعرضه قريب منها ، ورووا أنّه كان مبيع زيتون هذا البستان وفواكهه ثلاثين ألف دينار مؤمنية ، على رخص الفاكهة بمراكش.

وقد درس هذا البستان كما درس غيره ، حتى جدّده المنصور السعدي بعد ذلك بأربعمئة وخمسين سنة.

* * *

١١٣

٣ ـ مثال آخر عن حب العمران

من سيرة المنصور السعدي

فاتح تنبكتو النيجر والسودان

كان المنصور السعدي صاحب المغرب وفاتح تنبكتو والسودان وبلاد النّيجر من أشهر الملوك الذين عمّروا وثمّروا في الإسلام ، ولو لم يكن كذلك ما تمكّن من إرسال تلك الجيوش الجرارة إلى تلك البلاد القاصية العاصية ، ومن تدويخها ، وإضافتها إلى مراكش ، حيث بقيت مدة طويلة تابعة للمغرب ، فتمّ له ما يفتخر الإفرنج اليوم بمثله ، مع تقدم وسائل النقل ، وترقّي جميع أسباب العمران أضعاف ما كانت منذ ثلاثة قرون ونصف ، وكانت جيوش المنصور السعدي لا تحصى ، وكان له في ترتيب جيوشه وحالات أسفاره من فنون النظام ما يدهش العقول ، وقد نلمّ بذلك في فرصة أخرى.

والمنصور السعدي هو باني القصر المسمّى بالبديع في حاضرة مراكش ، مكث يبني فيه ست عشرة سنة ، لم يتخلّل ذلك أدنى فترة ، وحشد المنصور له الصنّاع حتى من بلاد الفرنجة ، وجلب له الرّخام من بلاد الروم ، وكان المنصور قد اتخذ معاصر السّكّر ببلاد حاحة وشوشاوة وغيرهما ، فكان عنده سكّر كثير ، فكان ـ حسبما قالوا ـ ربما اشترى الرخام بالسكر وزنا بوزن.

وكان المنصور السعدي الملقب بالذهبيّ ، يحتفل بالعمران إلى الغاية القصوى ، ويحسن إلى الأجراء ، ويجزل صلة العارفين بالبناء ،

١١٤

ويوسّع عليهم في العطاء ، ويقوم بمؤن أولادهم ، حتى لا تتشوف إليهم نفوسهم ، ولا تتشعب أفكارهم.

وأما قصره البديع فلا أجد هنا فسحة لوصف محاسنه الباهرة ، فمن أراده فليقرأ ذلك في «الاستقصا» أو غيره من تواريخ المغرب.

وأتذكّر أني قرأت لجيروم ، وجان نارو ، من أشهر كتّاب الفرنسيس كتابين في وصف بلاد مراكش ، ومن جملة ما ذكرا بافتتان لا يوصف قبة مدافن الملوك السعديين ، وقد قالا : إنّ فيها من بديع الصنعة ما لا يخطر على بال أحد ، وأنّ من لم يشاهد هذه القبة وما هناك من المباني لا يعرف إلى أية درجة تناهت المدنية الإسلامية.

* * *

١١٥

٤ ـ مثال آخر من سيرة مولاي إسماعيل

سلطان المغرب في أواخر القرن الحادي عشر

إلى منتصف القرن الثاني عشر

ومن أعظم ذوي الآثار بين ملوك المغرب بل بين ملوك الإسلام ، بل بين ملوك العالم بأسره السلطان المولى إسماعيل ، جد العائلة الشريفة المالكة إلى اليوم في المغرب ، وكان ملكه بعد الثمانين وألف للهجرة ، وهو الذي قلع الإسبانيول والبرتغال من سواحل المغرب ، وقلع الإنكليز من طنجة ، وألف الجيش الدائم المسمى بالبخاري ، وكان مركبا من مئة ألف من العبيد السود ، واستمر حكمه أربعا وستين سنة ، منها سبع سنوات بالنيابة عن أخيه المولى الرشيد ، وسبع وخمسون سنة بالأصالة ، حتى كان جهلة الأعراب يعتقدون أنه لا يموت ، وكان الذين يستبطئون موته يلقبونه بالحي الدائم ، فهو والمستنصر العبيدي الفاطمي ، ولويس الرابع عشر ، وفرانسوا جوزيف من قبيل واحد في طول مدة الحكم ، وكان المغرب في طول مدة حكمه يتمتّع بالأمن الشامل.

قال صاحب «الاستقصا» : لم يبق لأهل الدعارة والفساد محل يأوون إليه ، ويعتصمون به ، ولم تقلّهم أرض ، ولا أظلتهم سماء سائر أيامه.

وعندي كتاب تاريخ للسلطان المولى إسماعيل بالإفرنسية ، نقلت عنه بعض جمل مرّة في إحدى مقالاتي إلى «الشورى» وكان المولى إسماعيل مغرما أيضا بالبناء ، متذكرا قول القائل :

١١٦

هم الملوك إذا أرادوا ذكرها

من بعدهم فبألسن البنيان

إنّ البناء إذا تعاظم شأنه

أضحى يدلّ على عظيم الشان

وكان يحبّ مكناسة الزيتون ، لعذوبة مائها ، وطيب هوائها ، وسلامة مختزنها من العفونة ، فلما فرغ من أمر فاس ، جاء إلى مكناسة ، واشترى دور الأهالي ، وأمرهم بالبناء في غربيها ، وأدار عليها السّور ، وانفرد بالجانب الشرقي من المدينة ، وجعله كله براحا ، وشرع يبني فيه ، واستجاد الصنّاع من جميع البلدان ، وفرض على القبائل عددا معلوما من الرجال والبهائم يبعثون به كلّ شهر.

وفرض على المدن والحواضر عددا معلوما من البنائين ، والنجارين ، والحدادين ، والنحاسين ، إلى غير ذلك.

وكانت حاضرة ملكه لا تخلوا من عشرين ألف أسير من الإفرنج ، فكان يشغّلهم أيضا في مبانيه.

وكان كلما انتهى من قصر بنى غيره ، وكانت الجنان تحيط بقصوره كلها ، وبنى مسجدا عظيما جدا في داخل القصبة التي أسسها ، فضاق هذا المسجد بالنّاس فيما بعد ، فبنى مسجدا أعظم منه اسمه الجامع الأخضر ، وجعل له بابين : بابا إلى القصبة ، وبابا إلى المدينة.

وجعل للقصبة (٢٠) بابا ، كلّها في غاية الارتفاع والسعة ، مقبّوة من أعلاها ، وفوق كلّ باب منها برج عظيم ، عليه من المدافع النحاسية العظيمة ما يقضي بالعجب. وجعل في هذه القصبة بركة عظيمة تسير فيها الفلك والزوارق للنزهة والانبساط.

وجعل في القصبة هريا (١) عظيما جدا لاختزان الحبوب ، يقال : إنه كان يسع حاصلات أهل المغرب ، وجعل بجواره سواقي للماء في غاية

__________________

(١) [مخزن].

١١٧

العمق مقبوا عليها ، وبنى أعلاها برجا عظيما مستدير الشكل ، فيه مدافع موجهة إلى كل جهة.

[٥ ـ وصف اصطبل إسماعيل]

وأما الإصطبل ، فلا أظن أنّه وجد إصطبل مثله في العالم ، لأنّ طوله فرسخ وعرضه فرسخ (ـ الفرسخ نحو كيلو مترين ـ مسقّف على أساطين وأقواس عظيمة ، في كلّ قوس مربط فرس ، وبين الفرس والفرس عشرون شبرا ، كان يربط بهذا الإصطبل (١٢) ألف فرس ، مع كل فرس سائس من المغاربة ، وخادم من أسرى الإفرنج (سقى الله تلك الأيام) وفي هذا الإصطبل ساقية للماء مقبّوة الظهر ، يأتي منها الماء إلى كل مربط فرس بثقب خاص. وفي وسط الإصطبل قباب معدّة لوضع سروج الخيل ، وفيه هري متناه في العظمة ، مربّع الشكل ، معقود أعلاه على أساطين وأقواس هائلة ، لوضع أسلحة الفرسان ، وينفذ إليه الضوء من شبابيك من حديد من جهاته الأربع ، وفوق هذا الهري قصر اسمه المنصور ، ارتفاعه مئة ذراع ، وفيه (٢٠) قبة ، في كل قبة طاق عليه شباك من حديد ، يشرف منه أهل القبة على بسيط مكناسة الزيتون ، ويجاور هذا الإصطبل بستان على قدر طوله ، فيه من شجر الزيتون وجميع الفواكه ما يدهش ، ويتخلل هذه القصور التي في داخل القصبة شوراع مستطيلة متسعة ، وأبواب عظيمة فاصلة بين كل ناحية وغيرها ، وساحات ورحاب فسيحة ، إلى غير ذلك مما يتعذّر استقصاؤه.

قال صاحب «البستان» : ولم تزل تلك البنايات على طول الدهر قائمة كالجبال ، لم تخلقها عواصف الرياح ، ولا كثرة الأمطار والثلوج ، ولا آفات الزلازل التي تخرّب المباني العظام ، والهياكل الجسام ، قال : ـ ومن يوم مات المولى إسماعيل والملوك من بنيه وحفدته يخرّبون تلك القصور على قدر وسعهم ، وبحسب طاقتهم ، ويبنون بأنقاضها من خشب وزليج ورخام ولبن وقرميد ومعدن وغير ذلك إلى وقتنا هذا ، وبنيت من أنقاضها مساجد ومدارس ورباطات بكل بلد من بلدان

١١٨

المغرب ، وما أتوا على نصفها من مئة سنة ، وأما الجدارات فلا تزال ماثلة كالجبال الشوامخ. الخ.

قلت : وقد مضى على ذلك من عهد هذا الكاتب نحوا من مئة وستين سنة ، ولا تزال آثار إسماعيل في مكناسة الزيتون تحيّر العقول ، وكان يمكن أن تبقى القرون وبعدها القرون ، لو لم تعمل فيها المعاول والفؤوس.

فأما أنّ أولاد السلطان المذكور وحفدته كانوا يهدمون منها ، ويبنون بأنقاضها ، فهذا لعمري شأن جميع ملوك الإسلام وأمرائه وأتباعه تقريبا ، فكلّنا في هذا المعنى من أولاد وحفدة المولى إسماعيل ، لا نعرف سوى هدم ما بناه لنا أسلافنا من مادي ومعنوي على السواء ، وإن بنينا شيئا فإنما نبني بأنقاض الأبنية العتيقة ، نحن هكذا في المشرق والمغرب ، لأنّه لا يوجد أمة يشبه بعضها بعضا مثل المسلمين.

وبرغم كل ما هدمناه وعفّيناه من الآثار ، لا يزال شيء كثير أفلت من تحت معاولنا الهادمة ، ونجا من بين أيدينا الطولى في التدمير ، ولا تزال الإفرنج تصوّر من هذه الآثار ، وتتحف بها العالم المتمدن.

وبين يديّ مجاميع عدة من الصور الفوتوغرافية ، منها ما يشتمل على المباني الإسلامية في المشرق ، ومنها مجموعة خاصة بفلسطين ، ومنها مجموعة خاصة بالأقطار المغربية ، ومنها ما هو خاصّ بالأندلس ، وثمن المجموعة من هذه جنيهان وثلاثة وأربعة جنيهات ، تسمح النفس بها لتزيين قاعة الاستقبال بمثلها ، لأنّها أولى بقاعات الاستقبال منها بخزائن الكتب.

وأمّا من جهة الكتب الخاصة بموضوع الفن المعماري الإسلامي فعدا ما كتب في هذا الباب في أوروبة ، وما برز فيه الدكتور الفيلسوف غوستاف لوبون ، ظهر كتاب حديث لمسيو غروسه ، المتخصص في تواريخ الأمم الآسيوية ، اسمه «مدنيات الشرق» والمؤلف إفرنسي اسمه

١١٩

(Kene Croasset) سبقت له مؤلفات عن الشرق الأقصى : اليابان ، والصين ، ثم عن الهند ـ معدودة في الطبقة العليا من التحقيق والصحة ، وفي هذه الأيام الأخيرة أخرج كتابا عظيما ظهر منه الجزء الأول ، يبحث عن مدنيات آسية من أقرب وقت من العصر الحجري ، ثم المدنية المصرية ، ثم المدنية الكلدانية الآشورية ، ثم المدنية الفارسية القديمة ، ثم المدنية العربية ، ثم المدنية الفارسية في الإسلام ، وكل هذا بالرسوم والصور.

ولا بدّ من أن نجعل في البحث نصيبا لهذا الكتاب ، لأنّه رفع فيه راية بيضاء للعرب ، وفسح لهم مكانا فسيحا عاليا من تأليفه ، يفقأ الحصرم في أعين الشعوبيين المحدثين ، الذين منهم نفر بمصر ، يحاولون أن يغمطوا من فضل العرب ، وأن يغضّوا من قدر حضارتهم ، وأن ينطحوا صخرة مجدهم بقرون عتاد ليس أمامها إلا الوهي (١).

هذا ـ وقد يقول بعضهم : ألا إنّ ما ترويه وتقوله إنما كان في أعصر ماضية خالية ، واليوم قد تحوّل هذا كله ، وحصل الراديو ، والكهرباء ، والبخار ، وأنى لنا أن نباري الإفرنج ، وقد تصرفوا بالطيارات والدبابات ، ووصلوا الدنيا بعضها ببعض باللاسلكي ، والباخرة ، والسيارة الكهربائية ، وغير ذلك.

فإن كان باقيا من ينطق بهذا السخف من الشرقيين قلنا له : إنّك لفي ضلال مبين ، فإنّ الرقيّ الأوروبيّ لم يكن مبدؤه البخار وتموجات الهواء ، وإنما كان مبدؤه النهوض والإرادة ، ومنهما وصل بهم اجتهادهم في البحث والتنقيب إلى استخدام قوة البخار ، وقوة الزيت ، والاستفادة من تموج الهواء.

فأصل الرقي هو إرادة الرقي ، ومعدات الصعود حاضرة لمن شاء

__________________

(١) [هم دعاة الفرعونية وما أكثرهم اليوم].

١٢٠