الرّحلة الحجازيّة

الأمير شكيب أرسلان

الرّحلة الحجازيّة

المؤلف:

الأمير شكيب أرسلان


المحقق: حسن السماحي سويدان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار النوادر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٩

١
٢

٣

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين ، وعلى آله الطاهرين ، وأصحابه الغرّ الميامين ، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد فإنّ الأمير شكيب أرسلان رحمه‌الله تعالى نموذج فذّ من الرجال ، فهو شاعر ، ناثر ، مؤرخ ، مجاهد ، سياسي ، رحّالة ، عركته الأيام ، وحنكته التجارب ، وحمل بين جنبيه قلبا مفعما بحب العروبة والإسلام ، وقد تجلّت هذه الصفات في كل ما كتبه ، وهي أجلى ما تكون في كتابه هذا الرحلة الحجازية المسمّاة «الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف» الذي وصف فيه رحلته إلى البلد الحرام ، لأداء مناسك الحج في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين.

وأسلوب الأمير أسلوب رفيع ، مشرق الديباجة ، غنّي بالألفاظ ، يكسب قارئه ذخيرة لغوية ، وذوقا أدبيا رفيعا ، وإنّ كثيرا من النصوص التي كتبها الأمير تستحقّ أن تحفظ عن ظهر قلب ، لأنّها من عيون الأدب ، انظر إلى وصفه لميناء جدة : «ولم يقع بصري على شيء يشبه

٥

مياه بحر جدّة في البهاء واللمعان ، كنت كيفما نظرت يمنة أو يسرة أشاهد خطوطا طويلة عريضة في البحر أشبه بقوس قزح في تعدد الألوان ، وتألق الأنوار ، من أحمر وأزرق وبنفسجي وعنّابي وبرتقالي وأخضر. ولا فرق بين هذه الخطوط وبين قوس قزح سوى أن هذه الخطوط مستقيمة ، وأن قسيّ قزح مقوّسة ، وأن هذه في السماء وهاتيك في الماء ، وقد تشبه هذه الخطوط ذيول الطواويس ، لا فرق بينها إلا في كون هذه الذيول المنسحبة على وجه البحر عظيمة جدا تمتدّ مئات من الأمتار ، وبعرض عشرات منها ، ولكن في تعدّد الألوان وموازاة بعضها لبعض وشدّة تألّقها الآخذة بالأبصار لا تجد بينهما بونا.

فكأن في كلّ جهة من بحر جدة مسرح طواويس سابحة في اللّجج الخضر ، وظهورها إلى سطح الماء ، الواحد منها بقدر ألف طاووس مما نعهد» (١).

وانظر إلى حديثه عن مكة ، وعن دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام الناس إلى الحج فيقول :

«فبدعوة إبراهيم هوت إلى هذا المكان وإلى المتمكنين فيه أفئدة ، ورفرت عليهم جوانح من جميع فجاج الأرض ، ترى الناس من ألوف من السنين يحجّون إلى البيت المحرم ، ويحرمون قبل الوصول إليه بمراحل ، ويوفضون إليه كأنما يوفضون إلى أنزه بقاع البسيطة ، وأطيبها نجعة ، لا يكادون يصدّقون أنهم مشاهدوه من شدة الوجد وغلبة الهيام ، حتى إذا شاهدوه فاضت العبرات ، وخفقت الجوانح ، وتمايلت الأطراف ، وانتقل الناس إلى عالم تكاد تقول : إنه غير هذا العالم» (٢).

ثم يقول : «وكم رأت طريق البيت الحرام من هذه المحارات وهذه

__________________

(١) ص (٤١).

(٢) ص (٤٩).

٦

الشقادف ، وكم رأت من راكب وفارس ، وحاف وناعل ، وكم تطهّرت نفوس ، وتهذبت أرواح ، وصفت قلوب ، وزكت أعمال ، وخزيت شياطين ، وحقنت دماء ، وكفكفت دموع ، وصينت أموال ... كل ذلك بسبب هذه الآية الكريمة : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧](١).

أما علم الأمير فهو دائرة معارف ، يتحف قارئه بكل فريدة ، ويطرفه بكل نادرة :

كالبحر يقذف للقريب لآلئا

جودا ، ويبعث للبعيد سحائبا

كالبدر من حيث التفتّ وجدته

يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا

وما أقرب أسلوبه من أسلوب الجاحظ في استطراداته ، إلا أن الجاحظ يجمع بين الجد والهزل ، والأمير شكيب جادّ جاد.

وهو في هذا الكتاب يجمع بين مباحث جغرافية ، وتاريخية ، واجتماعية ، ومسائل عمرانية ، واقتصادية ، ودقائق لغوية وأدبية.

ففي التاريخ تحدّث فيما تحدث عن تاريخ العمارة عند العرب من بناء مدن وقصور وسدود وقني ، وتحدّث عن مشاهير من بنوا وشادوا ، كالناصر الأموي ، وعبد المؤمن الموحدي ، والمنصور السعدي ، ومولاي إسماعيل سلطان المغرب ، والجواد الأصبهاني ، وعبد الله بن كريز الأموي.

ولم يغفل شهيرات النساء اللائي ساهمن في هذه المكرمات كزبيدة زوج الرشيد.

كما تناول مباحث جغرافية عن الحجاز بعامة ، ومنطقة الطائف بخاصة ، فتحدّث عن التضاريس ، والمناخ ، والمياه ، والثروات

__________________

(١) ص (٨١).

٧

المعدنية ، وماضي ذلك وحاضره ومستقبله ، كما تحدّث عن أهمية هذه المنطقة سياحيا.

كما تحدّث بإفاضة عن سوق عكاظ ومكانته في التاريخ ، وانتقد أساليب المستشرقين في إثارة الشبهات (١).

أما السياسة فتحدّث عن هموم العرب ، وأسباب تخلّفهم ، والسبيل إلى نهضتهم من إنشاء طرق مواصلات ، إلى اهتمام بالعلوم التطبيقية الحديثة ، إلى اعتناء بالصناعة والزراعة والصحة ، على أن يتمّ ذلك كله بأيد عربية لا سلطان للاستعمار عليها ، ولو أردتّ استعراض آرائه في هذا الباب لطالت المقدمة ، ولكن أحب أن أشير إلى إيمانه بالوحدة العربية ذلك الإيمان الذي عبّر عنه بقوله :

«إن الأمة العربية سائرة إلى الوحدة مهما عارض في ذلك اللئام من أعدائها ، والمتفلسفون من أبنائها ، وهذه الوحدة آتية لا ريب فيها» (٢).

كما تحدّث عن سكان الحجاز في القديم والحديث معتمدا في بعض ذلك على سجلات الدولة العثمانية.

أما اللغة والأدب ، فقلّما مرّ اسم مكان إلا وذكر الأمير المناسبة بين الاسم والمسمّى ، وذكر شيئا عن تاريخه ، وما قيل فيه من شعر.

ومن الجدير بالذكر أنّ الأمير كان قد نشر ثلث الكتاب مقالات في مجلة «الشورى» ، ثم استكمل كتابته ، وعهد إلى صديقه السيد محمد رشيد رضا أمر طباعته ، وتصحيحه ، والتقديم له ، والتعليق عليه (٣) ، فقام السيد رشيد بطباعته في دار المنار عام (١٣٥٠ ه‍).

ولما كانت هذه الرحلة جمّة الفوائد أردت إحياءها بنشرها مرة ثانية

__________________

(١) ص (١٥٠).

(٢) ص (٢٧٣) ولكن هذه الوحدة لن تتحقق إلا بالإسلام وتحت رايته.

(٣) وقد ميزت تعليقاته بكلمة مصححه.

٨

في حلة قشيبة ، وأن أضع بين يدي القراء كتابا ينتفعون به في لغتهم ومعارفهم في عصر كثر فيه الغثاء ، وقلّ ما ينفع الناس.

كما أحببت أن أحيي تراث رجال أمتنا ، الذي جاهدوا في سبيل رقّيها حقّ الجهاد ، وتحمّلوا من أجل ذلك التشريد والنفي والفقر والحرمان ، فما وهنوا وما استكانوا ، وتركوا من الآثار ما يعجز عنه اليوم جيل بأكمله.

عملي في الكتاب

١ ـ صححت الأصل ، وذلك بالرجوع إلى المصادر التي نقل عنها الأمير ، مثل «صفة جزيرة العرب» و «معجم البلدان» و «طبقات ابن سعد» و «ما رأيت وما سمعت» و «رحلة ابن جبير» و «وفيات الأعيان» وغير ذلك.

٢ ـ وضبطت ما يحتاج إلى ضبط ، إذ قارىء اليوم غير قارىء الأمس.

٣ ـ عزوت الآيات إلى مواضعها في المصحف الشريف ، كما خرّجت الأحاديث الواردة.

٤ ـ شرحت بعض الألفاظ الغريبة الواردة في الكتاب.

٥ ـ علقت على بعض المواضع ، وحصرت تعليقاتي بحاصرتين ، تمييزا لها عن تعليقات الأمير والسيد رشيد رضا رحمهما‌الله تعالى.

٦ ـ أثبت المستدركات التي ألحقها الأمير في نهاية الكتاب في مواضعها.

٧ ـ وضع الأمير لكتابه اسمين هما «الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف» (١) ، أو «الرحلة الحجازية» فقدّمت الثاني على الأول لأنه أوضح وأسهل حفظا.

__________________

(١) (الارتسامات) : الانطباعات ، و (أقدس مطاف) : بيت الله الحرام.

٩

٨ ـ ألحقت بالكتاب ملحقين بقلم الأمير شكيب ، لهما علاقة بهذا الكتاب ، وهما : «تاريخ العرب الأقدمين» و «الأنساب». من كتاب الأمير (ملحق للجزء الأول من تاريخ ابن خلدون).

٩ ـ صدّرت الكتاب بترجمة للأمير.

١٠ ـ زودت الكتاب ببعض الخرائط والصور التوضيحية والوثائقية.

١١ ـ وضعت للكتاب فهارس كاملة تسهّل الرجوع إليه.

وفي الختام أسأل الله تعالى أن يتقبل عملي إنه سميع قريب والحمد لله رب العالمين.

دمشق ٢٢ / ٦ / ١٤٢١ ه‍

١ / ١٠ / ٢٠٠٠ م

وكتبه

حسن السّماحي سويدان

١٠

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدّمة

السيّد محمّد رشيد رضا

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج : ٢٧ ـ ٢٨].

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦].

يحجّ بيت الله الحرام ، ويزور مسجد رسوله وروضته عليه أفضل الصلاة والسلام ألوف كثيرة من مسلمي الآفاق ، أكثرهم من العوام والفقراء ، وبعضهم من العلماء والأدباء والكتاب والشعراء ، ويقلّ في جملتهم من يفقه ما يعمل ، ومن يعي ما يسمع ، ومن يعقل ما ينظر. ويقلّ في هؤلاء من يكتب لإخوانه المسلمين ما يفيدهم شيئا لا يجدونه في كتب الفقه أو التاريخ والرحلات والأدب.

بل نرى من حجّاج إخواننا المصريين من يكتبون في كلّ عام ما يغضب الله تعالى ، ويسوء جيرانه في حرمه ، وجيران رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في روضته ، وخدّام قاصدي هذين الحرمين من المطوفين والمزورين ، وحكامهما الحافظين لأمن السّكان ، وآمين البيت الحرام ، وأطباءهما

١١

المحافظين على صحة أهلهما ، وصحة من يتشرّف بأداء المناسك والزيارة فيهما ، بل يكتبون ما ينفّر المسلمين من إقامة هذا الركن العظيم من أركان الإسلام ، ويصدّهم عن إحياء هذه الجامعة العامة التي امتاز بها على جميع الأديان ، فهذا يشكو من شدّة الحرّ ، وذاك يتململ من كثرة النفقة ، وآخر يتبرّم بما يزعم من تقصير المطوفين وطمعهم.

وأغرب من كلّ هذا أنّ منهم من ينتقدون منع البدع والخرافات ، والطواف بالقبور ، والاستغاثة بالأموات ، وإنّ منهم من كتب في هذا الشهر مشنّعا على حكومة الحجاز التقصير في عمارة مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتجديد فرشه ، وهو يعلم أنّ حكومة الحجاز الحاضرة على فقرها (١) قد فعلت ما لم تفعله حكومة قبلها ؛ من حفظ الأمن ، وتسهيل السبل ، وتوفير المياه ، والاسعافات الصحية للحاج ، فإنّ هذا قد صار متواترا.

ويعلم أيضا أنّ حكومته (٢) هو قد منعت ما كانت ترسله إلى الحرمين وأهلهما من الأموال والحقوق المقرّرة لهما ، التي كانت ترسلها في كلّ عام ، وأنّ هذه الحقوق هي بعض ما وقفه الملوك والأمراء وأهل البرّ من الأغنياء.

ويعلم أن وزارة الأوقاف تجبي من أوقاف الحرمين في كلّ عام مئات الألوف من الجنيهات ، وتصرفها في غير ما وقفت عليه.

ويعلم أيضا أنّ الحكومة التركية قد استحالت حكومة لا دينية ، وضمّت أوقاف الحرمين إلى أملاكها ، بل هي تمنع من يريد الحج من شعبها ، وحجتها الظاهرة على هذا المنع أنّ الترك أحقّ بأموالهم أن تبقى في بلادهم من أن تصرف في بلاد العرب!!.

__________________

(١) [كتبت هذه المقدمة قبل أكثر من ثمانين عاما].

(٢) [الحكومة المصرية آنذاك].

١٢

وخير من هؤلاء الصادّين عن سبيل الله ، المنفّرين عن شعائر الله ، والمؤذين لجيران الله من يؤلّفون كتبا في رحلاتهم الحجازية ، ينقلون فيها أحكام المناسك الفقهية ، وبعض الأخبار التاريخية والأدبية ، وقد كتبوا في رحلاتهم وفي الصحف ما أبلاه الحق من وصف أمن الحجاز ، وتوفير أسباب الراحة للحاجّ ، والثناء على الحكومة السعودية ، ورجاء الخير العظيم للإسلام فيها.

بيد أنّك قلّما ترى فيما كتبوا عبرة جديدة ، أو شيئا من الاقتراحات المفيدة ، أو ترغيبا في البذل لعمارة المسجد الحرام ، ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لتسهيل السبيل على الحجاج والزائرين ، وتوفير المياه لهم وللمقيمين ، اقتداء بما كان من فعل السلف الصالحين.

دع ما هو أعلى من ذلك منزعا ، وأروى مشرعا ، وأبعد في الإصلاح غاية ، وأقوى في درء الخطر عن الإسلام وقاية ، فقد علم الواقفون على سياسة الاستعمار الأوربي أنّ خطره قد أحاط بجزيرة العرب ، ونفوذ بعض دوله تغلغل في بعض أنحائها ، ثم طفق يوغل في أحشائها ، ويلغ في دمائها ، فإنّ المستعمرين قد استولوا على سكة الحديد الحجازية ، التي كان الغرض الظاهر القريب من إنشائها تسهيل أداء الفريضة ، والباطن البعيد حفظ الجزيرة نفسها من الاستعمار الأوربي ، ومن قتل الإسلام في عقر داره ، وإزاحته عن قراره ، تمهيدا لمحوه من الأرض كلها.

كذلك كان شأن المسلمين في حجهم وزيارتهم ، وكذلك كان ما دونوا في رحلاتهم ومقالاتهم ، إلى أن أذن الله تعالى لعبده المجاهد في سبيله بماله ونفسه ، ولسانه وقلمه ، وعلمه وعمله ، الأمير شكيب أرسلان ، الذي بحق لقّبته أمته بأمير البيان ـ أن يستجيب لأذان إبراهيم خليل الرحمن صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيؤدّي فريضة الحجّ ، ويمرض مرضا يضطره بعد أداء المناسك إلى الالتجاء إلى الطائف ، والتوقّل في جبالها وذراها ،

١٣

والتنقّل في مزارعها وقراها ، والهبوط في أخيافها وأوديتها ، فينال الشفاء والعافية من مرضه ، ومن مرض سابق له ، بما شمّ من هواء نقيّ ، وشرب من ماء رويّ ، وجنى من ثمر شهيّ ، ويشاهد ما ثمّ من قابلية للعمران ، لا يكاد يفضلها مكان ، في عصر عمّ الحجاز فيه العدل والأمان ، وأن يصف ذلك بقلمه السيّال ، وبيانه السّلسال ، الذي يجري فتكبو في غاياته جياد الفرسان ، ومن ذا الذي يطمع في لحاق أمير البيان في مثل هذا الميدان ؛ ميدان التاريخ وعلم الاجتماع والعمران ، وما فيه من عبر السياسة في هذا الزمان ، لا سيّما سياسة الأمة العربية والإسلام؟!

أحمد الله تعالى أن وفّق أخي شكيبا لأداء المناسك ، وشهود ما قرنه بها القرآن من المنافع ، وإنّما هي منافع أمته ، لا منافع شخصه وأسرته ، وأن يسّر له السير في تلك الأرض ، لفقه ما أرشده إليه عقله ، وهدي له قلبّه ، فيعرف بنفسه جبالها ووهادها ، وأغوارها وأنجادها ، وسهوبها وصفاصفها (١) ، ومجاهلها ومعارفها ، ثم يبعث ما دفن في بطون الكتب من تاريخ عمرانها ، وكنوز معادنها ، مع بيان أماكنها ، ووسائل استخراجها من مكامنها ، ويجلّي للعقول ما فيها من العبر البالغة ، ويقرن بها وصف حالتها الحاضرة ، ويستنبط منهما ما يجب على الأمة العربية وحكوماتها ، والشعوب الإسلامية وزعمائها ، من توجيه أصدق ما أوتوا من إرادة وعزيمة ، وأفضل ما أعطوا من علم وثروة ، في سبيل عمران الحجاز ، وصيانته من خطر الاستعمار ، وأنّ ذلك لا يتمّ لهم إلا بعمران جزيرة العرب كلّها ، لأنّ انتقاصها من أطرافها يفضي إلى الإحاطة بسائر أكنافها.

تلك الغاية البعيدة المرمى هي التي وضع لها الأمير رحلته الحجازية التي سمّاها «الارتسامات اللطاف في خاطر الحاجّ إلى أقدس مطاف» وقد أقام الدلائل على إمكان ما دعا إليه وسهولته ؛ من قابلية في المكان ، ومواتاة في الزمان ، وأشار إلى ما يعترض به على ذلك من

__________________

(١) [سهولها].

١٤

شبهات داحضة ، وكرّ عليها بما ينقضها من حجج ناهضة ، بما لم يبق لمعتذر عذرا مقبولا ، ولا لمقصّر قولا معقولا.

ثم إنه لم يقف في ارتساماته دون هذا المقصد الأسمى ، بل ألمّ فيها بكل ما يهمّ المسلم من حال الحجاز وأهله وحكومته ، فأفاض القول في تعظيم شأن المياه فيه ، وما يرجى من زيادتها بالوسائل العصرية ، ولا سيّما الآبار الإرتوازية.

واستشهد التاريخ على ما كان من عناية السلف الصالح بعمرانه ، وحبس الأوقاف الواسعة عليه ، وعناية الخلف الطالح بتخريب ما عمروا ، وإضاعة أكثر ما وقفوا ، وتمهيد حكامهم الفاسقين سبيل ذلك لسالبي ملكهم من المستعمرين ، وضرب لذلك الأمثال بتاريخ أكبر المعمرين من الملوك والأمراء والوزراء.

وأسهب في بيان أحوال المطوّفين والمزوّرين وقناعتهم ، وما يجب من إصلاح حالهم ، ونوّه فيها بفضل الحكومة السعودية الحاضرة ، وخدمة ملكها للحجاز ، وأعظمها والمقدّم منها تعميم الأمنة في بدو البلاد وحضرها ، قريبها وبعيدها ، وما يرجى بحكمته من سائر أركان الإصلاح فيها.

وقد منّ عليّ بأن عهد بنشر هذه «الارتسامات» إليّ ، بأن أطبعها بمطبعة المنار ، وأشرف على تصحيحها بنفسي ، لتعذّر إرسال مثل الطبع (١) إليه في أوربة ، ليتولّى تصحيحها بنفسه ، بل منّ عليّ بالأذن لي بتعليق بعض الحواشي على بعض المواضع التي أرى التعليق عليها مفيدا لقارئيها ، ليكون اسمي مقرونا باسمه في هذا الأثر الخالد له في خدمة العرب والإسلام ، كما منّ عليّ قبله بمثله في رسالته التي جعل عنوانها «لماذا تأخر المسلمون ، ولماذا تقدّم غيرهم»؟ وهي هي الرسالة التي : سارت بها الركبان تطوي نفنفا فنفنفا (٢) ، وسبسبا فسبسبا (٣) ،

__________________

(١) [تجارب الطبع].

(٢) [واديا].

(٣) [صحراء].

١٥

فاضطربت بها بعض دول الاستعمار (١) ، وزلزلت زلزالا شديدا ، حتى قيل لنا : إنّها أغرت حكومة سورية (٢) بمنع نشرها فيها ، وهي أحقّ بها وأهلها ، فانفردت بهذه العداوة للإسلام دون من أغروها بها.

ولما كان سماح الأمير حفظه الله لي بهذا وذاك إعلاما لقارئي «الرسالة» و «الرحلة» بما بيننا من الأخوة الإسلامية الصادقة ، والاتفاق في المقاصد الإصلاحية النافعة للأمة العربية والشعوب الإسلامية ، التي نفخ روحها في كلّ منّا شيخنا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده بالتّبع لأستاذه موقظ الشرق وحكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني ، قدّس الله روحهما ، وأجزل ثوابهما.

هذا وإنّ الأمير ـ أمتع بعلمه وعمله ، ولسانه وقلمه ـ قد وضع للرحلة حواشي كثيرة ، عزوتها إليه في مواضعها ، وكان يجب أن أشير إلى ذلك في ديباجتها ، ولكنني ما علمت بها إلا عند بلوغ أول حاشية منها (٣).

وقد كان لي وقفة ونظر في اقتراحه على الحكومات المختلفة في الدين والسياسة أن تشدّد على حجّاج بلادها الفقراء ، فيما تفرضه من الشروط للسّماح لهم بالّسفر إلى الحجاز ، لا لأنّ هذا الاقتراح منكر في نفسه ، بل لأنّ الحكومات الاستعمارية التي تكره للمسلمين ـ المرزوئين بسيطرتها عليهم ـ أن يؤدوا هذه الفريضة ، لم تقصّر في إرهاقهم بالشروط المالية والصحيّة ، بل أنا أعلم علم اليقين أنّ جميع الدول الاستعمارية تمقت قيام المسلمين بهذه الفريضة ، وتتعاون على صدّهم عنها بما تستطيع من حول وحيلة ، ولو لا مال بواخرها وتجارتها من المنافع من نقل الحجّاج لكان تشديدهم في الصدّ أكبر ، ولكن

__________________

(١) [فرنسة].

(٢) [الخاضعة آنذاك للانتداب الفرنسي].

(٣) [وضعت عقب تعليقات السيد محمد رضا رشيد رحمه‌الله تعالى كلمة (مصححه) تمييزا لها عن تعليقات الأمير ، أما تعليقاتي فهي بين حاصرتين].

١٦

ما وضعوه من العواثير والعقاب في سبيل الحج باسم المحافظة على الصحة قد أنالهم بعض مرادهم منه بقلّة من يتحمّل مشقته من ملوك المسلمين ، وأمرائهم المترفين ، وأغنيائهم المحسنين ، وزعمائهم المفكرين.

وقد كانوا حاولوا أن يقرّروا في مؤتمر طبيّ عقد بمصر في أوائل عهد الاحتلال البريطاني أنّ الحجاز بيئة وبائية بطبعه ، يجب جعله تحت سلطة الحجر الدولي دائما لذاته ، فجاهد المرحوم سالم باشا سالم كبير أطباء مصر ـ والطبيب الخاصّ لسموّ الخديوي توفيق باشا وأسرته ـ ، يومئذ جهادا كبيرا دون ذلك ، حتى دحض كلّ شبهة تؤيّد هذا الاقتراح ، وأثبت بالأدلة الفنية الطبيّة والتاريخية أنّ الحجاز ليس بوطن لوباء الهيضة الوبائية (الكوليرة) ولا لغيرها من الأوبئة السارية المعدية ، ولكنني لم أضع لهذه المسألة حاشية ، بل أدعها إلى علم الأمير الواسع ، ورأيه الناضج ، لعلّه يستدرك ما يرى استدراكه ممحّصا لهذا الرأي.

وها أنا ذا أزفّ إلى قرّاء العربية هذه الرحلة النفيسة ، والارتسامات اللطيفة ، ولا ريب عندي في أنهم يقدّرونها قدرها ، ويعنون معي بنشرها ، وبثّ الدعاية إلى العمل بما فيها من النصيحة الثمينة ، التي تتوقف عليها حياة هذه الأمة المسكينة ، التي كانت هي الناشرة لدعوة الإسلام ، والمفيضة لنور هدايته ، والمفجّرة لأنهار حضارته ، وبإحيائها وعمران بلادها يناط بقاؤه ، ويعود رواؤه ، وينضر إهابه ، ويتجدّد شبابه.

وأختم هذا التصدير لها بما يؤيد قولي هذا من الأحاديث النبوية في شأن الحجاز ومستقبله ، وكونه مأرز الإسلام ومعقله ، وحصنه وموئله ، عند ما يشتدّ على المسلمين البغيّ والعدوان ، ويركبون المناكير ، فيناكرهم الزّمان ، أو تستباح بيضتهم بما أعرضوا عن هداية القرآن.

١٧

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز (١) الحية إلى جحرها» رواه البخاري (١٧٧٧) ومسلم (٢٣٣) من حديث أبي هريرة.

والمعنى : أنه سيعود إلى المدينة والحجاز كله ، ويأوي إليه كما تعود الحيّة إلى جحرها ، ولا سيّما إذا خافت.

وأعمّ منه وأدلّ على المراد قوله عليه الصلاة والسلام : «إنّ الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ، وهو يأرز بين المسجدين ، كما تأرز الحية في جحرها» رواه مسلم من حيث ابن عمر (٢٣٢ ـ ١٤٦).

وأعمّ منه وأظهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحيّة إلى جحرها ، وليعقلنّ الدين من الحجاز معقل الأرويّة من رأس الجبل (٢) ، إنّ الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا ، فطوبى للغرباء ، الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنّتي» (٣).

والمعنى : أنّ الإسلام سيضعف ويصير غريبا ومضطهدا في الأقطار ، فلا يجد له حصنا ومعقلا إلا الحجاز ، فيعتصم فيه كما تعتصم الأروية في شناخيب الجبال.

وأوسع من ذلك كلّه ، وأدلّ على الباعث عليه ما رواه أحمد (١ / ٢٢٢) والبخاري (٣٠٥٣) ومسلم (١٦٣٧). من حديث ابن عباس

__________________

(١) أرز كعلم : انضم واجتمع وانكمش ، وورد لغة من بابيّ ضرب وقعد.

(٢) الأرويّة بضم الهمزة وكسر الواو وتشديد الياء أنثى الوعول ، وهي تعتصم في أعالي الجبال.

(٣) [أخرجه الترمذي رقم (٢٦٣٠) في الإيمان باب ما جاء أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا ، وفي سنده كثير بن عبد الله المزني وهو ضعيف ، ولأوله وآخره شواهد ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن].

١٨

أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوصى عند موته بثلاث أولها : «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب».

وما رواه أحمد (١ : ٢٩) ومسلم (١٧٦٧) والترمذي (١٦٠٧) عن عمر رضي‌الله‌عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لأخرجنّ اليهود والنّصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما».

وما رواه أحمد (٦ : ٢٧٥) من حديث عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : آخر ما عهد به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قال : «لا يترك بجزيرة العرب دينان».

وروى أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي‌الله‌عنه قال : آخر ما تكلّم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخرجوا اليهود أهل الحجاز ونصارى نجران من جزيرة العرب» والمراد أنّه آخر ما أوصى به عند موته (١).

وأما آخر كلمة نطق بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي : «اللهم الرفيق الأعلى» (٢).

وقد بيّنت في مواضع من جزء «التفسير» (٣) العاشر وغيره حكمة هذه الوصايا النبوية ، وهي ما أطلع الله تعالى عليه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبر به ، كما في حديث ثوبان رضي‌الله‌عنه (٤) وغيره من تداعي الأمم على المسلمين كما تتداعى الأكلة على قصتها ، وسلبهم لملكهم ، واضطهادهم لهم في دينهم ، إلى أن يضطروا إلى الالتجاء إلى مهد الإسلام الأول ، أو معقله الأعظم ، ومأرزه الآمن ، وهو الحجاز ، وسياجه من جزيرة العرب ، ولذلك أوصى بأن يكون هذا المعقل خاصّا بالمسلمين ، لا يشاركهم فيه غيرهم ، فهذه الوصية من دلائل نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ظهر سرّها في هذا العصر.

__________________

(١) [أخرجه أحمد (١ : ١٩٥)].

(٢) [أخرجه البخاري رقم (٤٤٣٥) ومسلم رقم (٢١٩١)].

(٣) [تفسير المنار].

(٤) [أخرجه أبو داود (٤٢٩٧) وأحمد (٥ : ٢٧٨) وهو حديث صحيح أوله : «يوشك أن تداعى عليكم الأمم ...].

١٩

وها نحن أولاء نرى أعداء الإسلام ما زالوا يطاردون المسلمين حتى انتهوا بهم إلى جزيرة العرب ، وطفقوا ينازعونهم فيها ، بل وصلوا إلى الحجاز ، واستولوا بمساعدة بعض أمرائه (١) على أعظم موقع من معاقله البريّة والبحرية ما بين العقبة ومعان ، وصاروا باستيلائهم على سكة الحديد الحجازية على مقربة من المدينة المنورة ، التي خصّها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذه الوصايا بالذكر ، وأنشأوا يؤسسون وطنا لليهود في جوارها من فلسطين ، التي يدّعون أنّها لهم وحدهم ، وسيطلبون ضمّ خيبر إليها. بأنها كانت لهم ، وأخرجهم عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه منها. فإذا لم تتعاون جميع الشعوب الإسلامية على مساعدة حكومة الحجاز بالمال والنفوذ الصوري (٢) والمعنوي على حفظ الحجاز وعمرانه ، بل إلجائها إلى ذلك واضطرارها إليه ، فستتقطّع قلوبهم أسفا وندما ، ويذرفون بدل الدموع دما ، إذ لات حين مندم ، ولا متأخر ولا متقدّم.

ولقد كنت في حيرة لا أهتدي السبيل إلى أقرب الوسائل لهذا العمران ، حتى وجدته مرسوما في هذه «الارتسامات» ، داحضة أمامه جميع الشبهات ، فبادروا إليه أيها المسلمون (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران : ١٠٥].

وكتبه

ناشر الارتسامات

محمد رشيد رضا

منشيء مجلة المنار

١٣٥٠ ـ ١٩٣١

__________________

(١) [الأمير عبد الله بن الحسين الذي صار ملكا على شرقي الأردن].

(٢) [المادي. ومن الجدير بالذكر أن رشيد رضا من أوائل من نبهوا إلى الخطر الصهيوني].

٢٠