فضائل بيت المقدّس

الإمام الحافظ ضياء الدين محمّد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي الحنبلي

فضائل بيت المقدّس

المؤلف:

الإمام الحافظ ضياء الدين محمّد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي الحنبلي


المحقق: محمّد مطيع الحافظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ١
الصفحات: ١٣٦

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين. وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار ، وبعد :

في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة من الهجرة النبويّة وصل إلى مدينة دمشق عدد كبير من المهاجرين من مدن وقرى فلسطينية ، منها قرية تسمّى «جمّاعيل» قريبة من مدينتي نابلس ، والقدس ، وصلت أول جماعة من مهاجري تلك الدّيار المقدسة ، تاركين بلادهم فرارا من ظلم الصليبيين ، فاستقبلتهم دمشق مرحّبة ، وقدمت لهم النجدة ، والعون ، فاستبشروا بترحاب أهلها ، وأحسّوا بالأمن والقرار ، وأخذ العلماء منهم ينشرون العلم ، وخاصة الحديث النبوي الشريف ، والفقه الحنبلي ، وكان الشيخ الصالح أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي سيّد القوم وشيخهم ، وكان معه من أقربائه أول الأمر زوج أخته عبد الواحد بن علي بن سرور (والد الحافظ عبد الغني) وابن أخيه محمد بن أبي بكر ، وعبد الواحد بن أحمد المقدسي (ابن أخته ، وزوج ابنته ، وهو والد الحافظ ضياء الدين) ثم توالت الهجرة بعد ذلك ، وكان نزولهم أول الأمر في مسجد أبي صالح ظاهر الباب الشرقي لمدينة دمشق ، فأقاموا به نحوا من سنتين ، ثم انتقلوا إلى جبل قاسيون ، وبنوا لأنفسهم دارا بالقرب من نهر يزيد ، وأسسوا أول مدرسة كبيرة بالصالحية ، وهي المعروفة بالمدرسة العمرية ، نسبة إلى مؤسسها الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد المقدسي ، المتوفى سنة ٦٠٧ ه‍ ، وبنى لهم نور الدين الشهيد مدرسة صغيرة ومصنعا ، وفرنا.

٥

وكان لهؤلاء المهاجرين أثرهم الكبير في مدينة دمشق ، وما حولها ، ثم امتد هذا الأثر إلى بلدان بعيدة ، فكان تأثيرهم كبيرا ومتسعا ، سواء من الناحية العلمية أم العمرانية ، أم في ميدان الجهاد. أسسوا الصالحية التي لا تزال تحتفظ باسم مؤسسيها الصالحين ، ونشروا مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وألفوا فيه المؤلفات المعتمدة ، ككتاب «المغني» للموفق المقدسي ، وكان الاشتغال بالحديث النبوي من أسمى أعمالهم العلمية ، إذ رحل قسم كبير منهم إلى أقطار بعيدة ، كبغداد ، وأصبهان ، وهراة ، ونيسابور ، وبخارى ، وغيرها لطلب العلم ولتلقي الحديث النبوي.

آزر السلطان المجاهد نور الدين الشهيد رحمه‌الله هؤلاء القوم ، وتقرّب منهم ، وعمل على خدمتهم ، وقدّم لهم مساعداته ، وكان يزورهم ويأتي إليهم لينظر في أحوالهم ، وليقتبس من علمهم وزهدهم ، ثم جاء من بعده السلطان صلاح الدين الأيوبي ، فتابع العمل بسيرة سلفه ومعلمه ، فقرّب إليه الصالحين من أهل الصالحية.

واشترك قسم كبير منهم في الجهاد ضد الصليبيين المغتصبين ، منهم الشيخ أبو عمر ، والموفق ، والضياء محمد بن عبد الواحد ، وعبد الله بن عمر بن أبي بكر المقدسي ، ومنهم عبد الله بن الحافظ المقدسي الذي يقول عنه المنذري : «اجتمعت به لما قدم مصر للغزاة بثغر دمياط» وغيرهم من أهليهم كثير جاهدوا لطرد الصليبيين. وكان السلطان صلاح الدين ينزلهم في خيمة مستقلة ويستشيرهم في كثير من أموره.

ويتم الفتح المبين والنصر المؤزر بفتح القدس سنة ٥٨٣ ه‍ على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي ، وتعم الفرحة الكبرى المسلمين فيسعى أولو العلم منهم إلى إرشاد الناس وبيان أهمية هذه المدينة المقدسة ، وواجبهم في المحافظة عليها ، فقام بعضهم بتأليف المؤلفات التي تدل على فضيلتها. والمتتبع لحركة التأليف في تلك

٦

الفترة يجد عددا كبيرا من الكتب التي ألفت في القرن الذي تلا فتح بيت المقدس تعنى بفضائل هذه المدينة ، وما ورد فيها من الأحاديث والآثار.

ومن مشاهير هؤلآء المقادسة الذين عاشوا ونشؤوا في الصالحية ، وسعوا إلى تلك الغاية : الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي ، المتوفى سنة ٦٤٣ ه‍ ، صاحب المؤلفات الشهيرة ، والذي أنشأ دارا للحديث النبوي ، وتسمّى أيضا دار السنّة ، أوقفها وعمل فيها بنفسه ، وضمّ إليها مكتبة تحوي نفائس الكتب والأصول ، جمعها من كتبه ، وكتب أهله ، وشيوخه وما حصل عليه في رحلاته المتعددة.

ومن أشهر مؤلفاته كتابه في الحديث النبوي «الأحاديث المختارة» وهذا الكتاب فضّله الكثير من العلماء على المستدرك للإمام الحاكم.

أما كتابه «فضائل بيت المقدس» وهو الجزء الثاني من كتابه فضائل الشام ، والذي قمت بتحقيقه ونشره ، فقد جمع فيه الحافظ الضياء فضائل هذه المدينة المقدسة وما ورد فيها من الآيات الكريمة ، والأحاديث الشريفة ، والأخبار المروية بأسانيد متصلة ، تبين بمجموعها المكانة العظيمة والشريفة التي خصّ الله بها هذه المدينة ، فمنها تولّي الملائكة لها ، وفضل الصلاة فيها ، وفضل زيارتها ، وفضل صخرتها ، وأن الدّجال لا يدخلها ، وإسراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها ، وفضل الإحرام للحج أو العمرة منها ، وذكر من سكنها من الصحابة ، وفضل مؤذنيها ، وغير ذلك.

وأسأل الله أن أكون قد وفقت في العمل على إخراجه على نحو يرضي الله وينفع الناس ، كما أسأله الرضى والقبول ، والحمد لله رب العالمين.

دمشق : البست ١٢ ربيع الأول ١٤٠٤ ه‍

١٧ كانون الأول ١٩٨٣ م

محمد مطيع الحافظ

٧
٨

ترجمة المؤلف (١)

نسبه

هو ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور السعدي المقدسي الجمّاعيلي (٢) ، ثم الدمشقي ، الصالحي ، الحنبلي.

مولده

اتفقت روايات المؤرخين على أن مولده كان في سنة تسع وستين وخمس مئة ، إلّا أن المطبوع من كتاب الدارس في تاريخ المدارس ، للنعيمي ، والقلائد الجوهرية لابن طولون ، يشيران إلى أن ولادته كانت في سنة سبع وستين وخمس مئة ، وهو بلا شك تصحيف من النسّاخ.

أما الشهر الذي ولد فيه ، فقد ذكر ابن رجب في «الذيل على طبقات الحنابلة» روايتين :

الأولى : ما وجده بخط الحافظ الضياء : أنه ولد في خامس جمادى الآخرة سنة تسع وستين وخمس مئة.

__________________

(١) اختصرت هذه الترجمة من الكتاب الذي أقوم بإعداده عن حياة الضياء ، ودراسة مؤلفاته.

(٢) نسبة إلى قرية من قرى نابلس

٩

الثانية : ما قاله ابن النجار : سألته عن مولده فقال في جمادى الأولى من السنة.

أما مكان ولادته فهو في دمشق ، في الدير المبارك ، بصالحية دمشق ، في جبل قاسيون.

أسرته

نشأ الضياء في أسرة علمية ، مجاهدة ، عرفت بنشر الحديث النبوي والفقه الحنبلي ، وعملت في ميدان الجهاد ضد الصليبيين. فقد كان :

والده : عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن المقدسي ، عالما فاضلا.

ووالدته : رقيّة بنت الشيخ أحمد بن قدامة ، صالحة تقيّة.

وجدّه لأمه : الشيخ أحمد بن قدامة أول المهاجرين ومؤسس الصالحية ، الصالح العالم.

وخالاه : أبو عمر محمد بن الشيخ أحمد بن قدامة مؤسس المدرسة العمرية ، وهو العالم الصالح ، والشيخ الموفق عبد الله بن الشيخ أحمد بن قدامة صاحب كتاب المغني في الفقه الحنبلي.

١٠

١١

وبهذا النسب نتعرف على أسرته :

جده لأمه : الشيخ أحمد بن محمد بن قدامة

والده : عبد الواحد بن أحمد

أمه : رقية بنت الشيخ أحمد «أخت أبي عمر ، والشيخ الموفق»

خالاه : أبو عمر محمد. والشيخ الموفق.

أما الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور ، مؤلف كتاب الكمال في أسماء الرجال ، فهو زوج خالته رابعة ، وابن عمة والدته ، وهو أيضا ابن خالة والده.

وكان للحافظ الضياء إخوة من أشهرهم أحمد بن عبد الواحد ، وعبد الرحيم بن عبد الواحد.

ملاحظة : هذا النسب اقتبسته من كتاب القلائد الجوهرية لابن طولون صفحة ٢٨ ـ ٣٥

بداية تلقيه العلم :

ولد الحافظ ضياء الدين وترعرع في هذا البيت العلمي الكبير الذي كان موئل طلاب العلم في ذلك الزمان. فنشأ نشأة علمية عالية ، وكان من عادة أهل العلم أن يحضروا أبناءهم مجالس العلم ليأخذوا عنهم الرواية عالية ، فقد ذكر الذهبي أن الضياء سمع في سنة ست وسبعين وخمس مئة وبعدها من أبي المعالي بن صابر وغيره ، فيكون له من العمر سبع سنوات.

وكان من عادة أهل العلم أن يطلبوا الإجازة لأولادهم وإن كانوا صغارا ، لذا

١٢

أجازه الحسن بن علي بن شيرويه البغدادي سنة ٥٧٤ ه‍ وقد كان عمره في تلك السنة خمس سنوات.

وقد لزم الضياء قريبه الحافظ عبد الغني المقدسي المتوفى سنة ٦٠٠ ه‍ فدلّ بذلك على تلقي العلم من أهله وأقربائه ، وعلماء عصره في سن مبكرة.

رحلاته :

الرحلة في طلب الحديث ، والعلم كانت سنّة متّبعة عند المحدثين ، فكبار العلماء لم يكتفوا بأخذ العلم عن علماء بلدهم ، أو البلاد المجاورة ، وإنما تجاوزوا بلادهم القريبة ، والمجاورة ، إلى بلاد بعيدة ، رحلوا إليها سيرا على الأقدام ، أو ركوبا على الرواحل. والرحلة في طلب الحديث يسعى لها المجدّون وأصحاب الهمم العالية الذين سافروا ، وطافوا البلاد ، والتقوا بالعلماء واستمعوا إليهم ، وحصلوا على الإجازات منهم لرواية كتبهم ، واتصال أسانيدهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبذلك سعدوا.

والحافظ الضياء المقدسي عاش في أسرة رحل الكثير من أفرادها في طلب الحديث فخالاه أبو عمر محمد بن أحمد بن قدامة ، والموفق عبد الله بن أحمد ، وأخواه أحمد وعبد الرحيم ابنا عبد الواحد ، وابن عمة والدته عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي ، هؤلاء رحلوا إلى بلاد شتى ، وسبقهم في الرحلة في تلك الفترة بنو عساكر الدمشقيون. لذلك لم يكن غريبا أن يتابع الحافظ الضياء أفراد أسرته وعلماء عصره.

فسافر إلى القدس بعد فتحها على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه‌الله ، وكان الضياء في هذه الرحلة بصحبة الشيخ عبد الله بن عمر بن أبي بكر المقدسي.

وكان ذلك قبل سنة ٥٨٦ ه‍ وهي السنة التي توفي فيها الشيخ عبد الله

١٣

المقدسي (١) وبعد سنة ٥٨٣ ه‍ وهي السنة التي تم فيها فتح بيت المقدس على يد السلطان صلاح الدين.

وسافر إلى مصر سنة خمس وتسعين وخمس مئة وسمع فيها من شيوخها.

ثم رحل إلى بغداد ، وهمذان ، وأصبهان وغيرها من البلدان القريبة منها وبقي في هذه الرحلة ما يقارب السنتين ، من سنة ٥٩٨ ه‍ و ٥٩٩ ، ثم عاد إلى بغداد وأقام بها من سنة ٥٩٩ ه‍ حتى نهاية سنة ٦٠١ ه‍.

وعاد بعدها إلى بلده دمشق ومكث فيها إلى سنة ٦٠٥ ه‍.

وبدأ في سنة ٦٠٥ ه‍ رحلته الطويلة حيث سمع في حلب ، وحرّان ، والموصل ، ثم وصل إلى أصبهان ، وهمذان سنة ٦٠٦ ه‍ وبقي حتى سنة ٦٠٨ ه‍ ثم سمع بمرو ، ونيسابور سنة ٦٠٩ ه‍ ، وفي سنة ٩١٠ ه‍ وصل إلى هراة ، وعاد إلى دمشق بعد رحلة دامت أكثر من خمس سنوات ، سمع فيها مالا يوصف كثرة ، وحصّل فيها كثيرا من المسانيد ، والأجزاء ، والكتب الحديثية وغيرها.

وفي سنة ٦٢٥ ه‍ سمع بالقدس بالمسجد الأقصى.

وكان سمع بمكة المكرمة ، وعسقلان وغيرهما.

يلاحظ في رحلات الضياء أنه قد شاركه فيها بعض أهله ، وأقربائه ، مثل أخيه عبد الرحيم ، ومحمد بن عبد الغني المقدسي ، وعبد الله بن عمر بن أبي بكر المقدسي وغيرهم.

شيوخه

في هذه الرحلات المتعددة والطويلة تلقى الحافظ ضياء الدين عن الشيوخ

__________________

(١) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب ١ / ٣٧١ ـ ٣٧٢

١٤

الكتب والمسانيد ، والمعجمات ، والمشيخات ، فزاد شيوخه عن خمس مئة شيخ وشيخة ، بعد أن طلب العلم والحديث في سن مبكرة ، فقد تلقى عن شيوخ دمشق وسنّه لا تتجاوز السابعة ، وكان قد أخذ عن كثير من أهله ، كإخوته ، وخاليه ، والحافظ عبد الغني المقدسي وغيرهم ، فحفظ القرآن صغيرا ، وتفقّه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل.

فسمع بدمشق من أبي المعالي بن صابر ، والفضل بن البانياسي ، وعمر بن حيويه ، ويحيى الثقفي ، وأحمد بن علي الموازيني ، ومحمد بن حمزة بن أبي الصقر ، وابن صدقة الحرّاني ، وعبد الرحمن بن علي الخرقي ، وبركات الخشوعي وغيرهم كثير.

وسمع بمصر من البوصيري ، وفاطمة بنت سعد الله ، وجماعة.

وفي هراة أخذ عن أبي روح عبد المعز بن محمد ، وطائفة.

وتلقى بمرو من أبي المظفر بن السمعاني وغيره.

وسمع بحلب من الافتخار الهاشمي وغيره.

وبالموصل سمع من علي بن هبل وغيره.

وبأصبهان تلقى الكثير من أبي جعفر محمد بن الصيدلاني ، والقاسم بن أبي المطهر الصيدلاني ، وعفيفة الفارفانية ، وخلف بن أحمد ، وأسعد بن سعيد ، وزاهر بن أحمد ، والمؤيد بن الأخوة وغيرهم.

ومن الحسن بن أحمد الأوقي بالمسجد الأقصى.

شيوخه بالإجازة

سبق أن تحدثت في بحث تلقيه العلم أنه تلقى الإجازة في سنة ٥٧٤ ه‍ عن الحسن بن علي بن شيرويه البغدادي ، وكان عمره خمس سنوات ، فكانت تلك من أولى الإجازات التي تلقّاها ، ثم تابع سعيه طلبا للعلم ، وسعى أيضا بطلب

١٥

الإجازة من الشيوخ طلبا لعلو الإسناد ، ولتحصيل الأصول من الأجزاء والكتب ، فأجازه الكثيرون كالحافظ السلفي وشهدة الكاتبة ، وأحمد بن علي الناعم ، وابن شاتيل ، وابن برّي النحوي ، وأبو الفتح الخرقي وغيرهم.

نشره للعلم

بعد عودته من رحلاته العلمية لزم الضياء التدريس والإملاء وأكبّ على التصنيف ، والنسخ ، وكان قد حصّل الأصول النفيسة من الكتب التي تلقاها عن شيوخه ، فتح الله بها عليه شراء أو هبة أو نسخا كما هي عادة العلماء.

تلاميذه ، والرواة عنه

وأخذ الطلاب ينهلون من علم الضياء وتآليفه ، ومن الكتب والأصول التي تلقّاها عن شيوخه ، فروى عنه كثير من العلماء كابن نقطة ، وابن النجار ، وسيف الدين بن المجد ، وزكيّ الدين البرزالي ، وابن أخيه محمد بن عبد الرحيم ، وابن أخيه أيضا علي بن البخاري ، والقاضي سليمان بن حمزة ، وإسماعيل بن إبراهيم الخباز ، وعمر بن الحاجب وغيرهم.

صفاته العلمية والخلقية

جمع الضياء بين الحديث ، والفقه الحنبلي وعلومهما ، وطرفا من الأدب ، وكثيرا من التفسير ، واللّغة ، ونظر في الفقه وناظر فيه ، ولم يزل ملازما للعلم منذ نعومة أظفاره تلقيا وأداء إلى أن انتقل إلى جوار ربّه.

يقول الذهبي في وصفه : «كان الحافظ الضياء يقتنع باليسير ويجتهد في فعل الخير ونشر السنّة ، وفيه تعبد وانجماع عن الناس ، وكان كثير البرّ والمواساة ، دائم التهجّد ، أمّارا بالمعروف ، بهي المنظر ، محببا إلى الموافق والمخالف ، مشتغلا بنفسه رضي‌الله‌عنه».

١٦

وقال الحافظ شرف الدين يوسف بن بدر رحمه‌الله : «شيخنا ابن عبد الواحد كان عظيم الشأن في الحفظ ، ومعرفة الرجال ، هو كان المشار إليه في علم صحيح الحديث وسقيمه ، ما رأت عيناي مثله».

وقال تلميذه عمر بن الحاجب : «سألت زكيّ الدين البرزالي عن شيخنا الضياء فقال : حافظ ثقة ، جبل ، دين ، خير».

وقال إسماعيل المؤدب : «إنه سمع الشيخ عز الدين عبد الرحمن بن العز يقول : ما جاء بعد الدارقطني مثل شيخنا الضياء».

وقال الذهبي : «سمعت الحافظ أبا الحجّاج المزّي ـ وما رأيت مثله ـ يقول : الشيخ الضياء أعلم بالحديث ، والرجال من الحافظ عبد الغني ولم يكن في وقته مثله».

وقال الحافظ محب الدين بن النجار ـ وقد شاركه في الأخذ عن الشيوخ ، وتلقّى عنه أيضا ـ : «هو حافظ متقن ، صدوق نبيل ، حجّة ، عابد محتاط في أكل الحلال ، مجاهد في سبيل الله ، ولعمري ما رأت عيناي مثله في نزاهة ، وعفّة ، وحسن طريقة في طلب العلم».

وقال أبو إسحاق الصريفيني : «كان الحافظ الزاهد العابد ضياء الدين المقدسي رفيقي في السفر ، وصاحبي في الحضر ، وشاهدت من كثرة فوائده ، وكثرة حديثه ، وتبحره فيه».

جهاده في سبيل الله

اشترك الضياء مع أهله في الجهاد ضد الصليبيين ، فقد شارك مع خاليه أبي عمر ، والموفق وغيرهما جهادهم مع السلطان صلاح الدين ، وكذلك مع عبد الله ابن عمر بن أبي بكر المقدسي ، وكانوا مع جهادهم يجلسون للمناظرة ونشر العلم ، أثناء الاستعداد للمعارك.

١٧

يقول ابن رجب ناقلا عن الضياء :

«قال : وشهدنا غزاة مع صلاح الدين ، فجاء ثلاثة فقهاء ، فدخلوا خيمة أصحابنا فشرعوا في المناظرة ، وكان الشيخ موفق الدين ، والبهاء حاضرين ، فارتفع كلام أولئك الفقهاء ، ولم يكن السيف (عبد الله بن عمر المقدسي) حاضرا ، ثم حضر ، فشرع في المناظرة ، فما كان بأسرع من أن انقطعوا من كلامه».

وقال الضياء : سافرت مرة مع خالي الإمام أبي عمر إلى الغزاة ، فبتنا عند قرية ، فأراد بعضنا أن يسهر ويحرسنا ، فقال له الشيخ : نم ، وقام هو يصلّي.

المدرسة الضيائية ، ومكتبتها

عمل الحافظ على نشر السنّة وعلومها في مدرسة بناها بنفسه ، وجعلها دارا للحديث النبوي ، وأطلق عليها اسم دار الحديث الضيائية ، ويقال لها أيضا دار السنّة ، وبناها بسفح جبل قاسيون شرقي الجامع المظفري (جامع الحنابلة).

ويصف لنا ابن رجب عمل الضياء في بناء مدرسته فيقول : بناها للمحدثين ، والغرباء الواردين ، مع الفقر والقلّة ، وكان يبني منها جانبا ويصبر إلى أن يجتمع معه ما يبني به ، ويعمل فيها بنفسه.

وتشتمل هذه المدرسة على مسجد ، وصفّة ، وبئر ماء ، وصحن للمدرسة ، ومكتبة ، وغرف للطلاب.

المكتبة الضيائية

أنشأ الحافظ الضياء داخل مدرسته مكتبة عامرة ، أوقف فيها كتبه وأجزاءه الحديثية ، التي تلقّاها عن شيوخه ، وضم إليها مؤلفاته ، وأوقف أيضا كثيرا من مؤلفات كثير من أهله ، وشيوخه ، وتلاميذه ، ومروياتهم كالحافظ عبد الغني المقدسي ، والموفق عبد الله ، وابن الحاجب ، وابن سلام ، وابن هامل ، وغيرهم.

١٨

قال الجمال بن عبد الهادي : وكان بهذه المدرسة كتب الدنيا ، والأجزاء الحديثية ، حتى يقال : إنه كان فيها خط الأئمة الأربعة ، ويقال : إنه كان فيها التوراة والإنجيل.

وقد نهبت المكتبة في نكبة الصالحية أيام قازان ، من التتر ، فأتلف فيها الشيء الكثير ، وبيعت كتب كثيرة ، ثم عمل المشرفون عليها على إعادة كتب من وقفيتها بفضل بعض من العلماء ، كيوسف بن عبد الهادي ومحمد بن طولون ، وفي فترة متأخرة نقلت هذه المكتبة إلى المدرسة العمرية ، ولما اضمحلّ أمر المدرسة العمرية بعد ذلك ، وجمعت الكتب الموقوفة من مساجد دمشق ومكتباتها الوقفية ضمّت هذه الكتب وآلت إلى المكتبة الظاهرية ، وتعتبر كتب المدرسة الضيائية ، والمدرسة العمرية أفضل ما حوته المكتبة الظاهرية بدمشق.

ومن أشهر من تولّى التدريس فيها والإشراف على مكتبتها بعد مؤسسها :

محمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة ٦٨٦ ه‍.

أحمد بن محمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة ٦٩٣ ه

محمد بن عبد المنعم بن غازي الحراني المتوفى سنة ٦٧١ ه

أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي بكر السعدي المتوفى ٧٠٣ ه‍.

محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن الشيخ أبي عمر المقدسي المتوفى سنة ٧٤٣ ه‍.

محمد بن محمد بن إبراهيم المرداوي المتوفى سنة ٧٤٩ ه‍.

وآخرون.

مؤلفاته

يعتبر الضياء المقدسي من المكثرين في التأليف ، فمؤلفاته قاربت المئة أو تزيد ، منها الجزء الصغير ، ومنها الأجزاء الكثيرة التي تتجاوز التسعين جزءا ، ومنها المجلدات.

١٩

قال عنها العلماء : له من المؤلفات الدالّة على كثرة حفظه واطلاعه وتمكنه من علم الحديث متنا وإسنادا ، وقال الذهبي : تصانيفه نافعة مهذبة.

من أهم كتبه وأشهرها :

الأحاديث المختارة : وهي التي تصلح أن يحتج بها سوى ما في الصحيحين ، خرجها من مسموعاته ، كتب فيها تسعين جزءا ولم تكمل ، قال بعض الأئمة : هي خير من مستدرك الحاكم (انظر المنتخب ، من مخطوطات الحديث في الظاهرية ص / ٢٢٦ /.

الأحكام : في ثلاثة مجلدات.

الموافقات : في نحو من ستين جزءا.

فضائل الشام : ثلاثة أجزاء ، في الظاهرية الجزء الثاني ، وفيه فضائل بيت المقدس ، مجموع ٤٨ (٣٢ ـ ٥٤).

صفة الجنة : الظاهرية مجموع ١٠٣ (٧٧ ـ ٨٩)

صفة النار.

سيرة المقادسة (في الظاهرية سيرة الشيخ أبي عمر مجموع ٨٣ (٣٩ ـ ٤٢) ومختصر له في المجموع ٩ (١٢٠ ـ ١٢٧).

فضائل الأعمال. طبع في مصر بنفقة سلطان النمنكاني من أهل المدينة المنوّرة ، رحمه‌الله.

النّهي عن سبّ الأصحاب. في الظاهرية مجموع ١٠١ (٢١ ـ ٤٤).

الطب النبوي.

مناقب أصحاب الحديث. (الظاهرية مجموع ١٠٧ (١٤٠ ـ ١٤٥).

الحكايات المستطرفة.

دلائل النبوّة.

سبب هجرة المقادسة إلى دمشق ، وكرامات مشايخهم.

٢٠