إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

وفضائل وسمع بمصر وإسكندرية وأفتى ا ه.

واشتغل عليه بحلب جماعة. أخبرني شيخنا أبو إسحق الحلبي قال : التزم الشيخ كمال الدين المذكور أن يقرىء في يوم واحد ربع الحاوي الصغير في الفقه بالدليل والتعليل ، فجلس بالمدرسة الظاهرية وجلس عنده بعض الطلبة فقرأ عليه من أول الحاوي ، فشرع يقرره بالدليل والتعليل. قال شيخنا : فرحت إليهم وقت الضحى فوجدته يقرر في باب الحيض ، واستمر إلى أن وصل إلى كتاب الصلاة ، فسئم الطلبة وتحقق استحضاره في الفقه.

وكان شيخا جليلا دينا كريما ذا أخلاق جميلة ومحاضرة حسنة ، وله اليد الطولى في الفرائض والحساب ، وكتب وصنف.

وذكره الإمام بدر الدين بن حبيب في تاريخه وقال فيه : عالم تبين عرفانه ، وتميز طوفانه ، ومحدث طابت أخباره ، وحسنت آثاره ، قدره جليل ، وبيته أثيل ، وأخلاقه جميلة ، ومحاضرته بالمحاسن كفيلة ، حصل ودأب ، ورحل وسمع وقرأ وكتب ، وأفتى وأجاد ، ورأس على أقربائه وساد ، وباشر بحلب مشيخة الخانقاه الزينية ، ودرس بالرواحية والشرفية والزجاجية والظاهرية ، واستمر ماشيا على الدهر ، إلى أن رمي من الحتف بسهم القهر. انتهى. (الدر المنتخب).

أخبرنا شيخنا أبو الوفا بن محمد الحلبي بها قال : (أنا) المشايخ الستة كمال الدين أبو الفضل عمر بن إبراهيم بن عبد الله بن العجمي ، والمسند عز الدين محمد بن عبد العزيز العجمي ، والرحلة المكثر كمال الدين أبو الحسن محمد بن الإمام أبي القاسم عمر بن حبيب ، والخليل الأصيل ناصر الدين أبو عبد الله محمد بن محمد الشهير بابن الطباخ ، والخليل الأصيل زين الدين عمر بن محمد بن علي بن الركابي ، والخليل الأصيل تاج الدين أبو محمد عبد الله ابن الإمام المسند شهاب الدين أبي العباس أحمد بن عشاير السلمي الحلبيون ، قال الثلاثة الأولون : (أنا) سماعا الشيخ الإمام المسند شمس الدين أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن العجمي. وقال الثلاثة الآخرون : (اتنا) إجازة زينب بنت كمال الدين أحمد ابن عبد الرحيم المقدسة قالت هي وأبو بكر بن العجمي : (اتنا) ابن القميرة قال شمس الدين أبو بكر سماعا وقال إجازة قال : (اتنا) أم عتب تجنّي بنت عبد الله الوهبانية قراءة عليها وأنا أسمع قالت : (انا) أبو عبد الله الحسيني بن أحمد بن محمد بن طلحة النعالي ،

٦١

(انا) أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن زرقويه ، (أنا) أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار ، (ثنا) زكريا بن يحيى بن أسد المروزي ، (ثنا) معروف الكرخي ، قال بكر ابن خنيس : [إن في جهنم لواديا تتعوذ جهنم من ذلك الوادي كل يوم سبع مرات.

الحديث].

توفي بحلب يوم الأربعاء تاسع شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين تغمده الله برحمته ا ه.

وترجمه الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة ببعض ما تقدم ، ومما قاله : أنه كان له إلمام قوي بعلم الحديث ، وانتهت إليه رياسة الفتوى بحلب مع الشهاب الأذرعي. ونحو ذلك في المنهل الصافي.

٤٠٨ ـ عمر بن أحمد بن أمين الدولة المتوفى سنة ٧٧٧

عمر بن أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم (١) ابن أمين الدولة الحلبي زين الدين أبو حفص.

ولد سنة عشر وسبعماية ، وباشر ديوان الإنشاء مدة ، ثم أعرض عنه.

وقال ابن حبيب : تعلق بمذهب أحمد ولازم التواضع ، واشتغل بالكتابة والأدب والحديث ، وقدم دمشق ومصر ، ورجع إلى حلب فمات بها في سنة ٧٧٧ وله سبع وستون سنة.

٤٠٩ ـ محمد بن عمر بن حبيب المتوفى سنة ٧٧٧

محمد بن عمر بن حسن بن عمر بن حبيب بن عمر بن شويخ بن عمر الدمشقي الأصل الحلبي كمال الدين.

ولد في مستهل ربيع الأول سنة ثلاث وسبعمائة ، وحضر على سنقر الموطأ للقعنبي ومسند الشافعي والبخاري وابن ماجه ومعجم ابن قانع والناسخ لأبي عبيد والصمت

__________________

(١) في «الدرر الكامنة» : عبد المؤمن.

٦٢

والمحاسبة ، كلاهما لابن أبي الدنيا ، والمقامات ، وسمع أيضا من العماد بن السكري وبيبرس العديمي وأبي المكارم بن النقيبي وأبي بكر وأبي طالب ابني ابن العجمي وإسماعيل وإبراهيم وعبد الرحمن أولاد صالح العجمي وإبراهيم بن عبد الرحمن الشيرازي وغيرهم ، وأجاز له الدمياطي وابن جعفر الموازيني وعمر الحمصي وعلي بن القيم وآخرون ، وكتب في ديوان الإنشاء بحلب ، وحدث بالكثير وتفرد ، ورحل الناس إليه ، وأكثر عنه أهل مكة حين جاور بها سنة ٧٣. وكانت وفاته بالقاهرة في ١٩ جمادى الآخرة سنة ٧٧٧.

٤١٠ ـ عبد الله بن مشكور المتوفى سنة ٧٧٨

عبد الله بن مشكور الحلبي ، ناظر الجيش بها مدة طويلة.

وله مآثر معروفة بحلب ، منها أنه أجرى الماء إلى الجامع الناصري من القناة بعد أن بنى به بركة لذلك ، وله جامع بباب قنسرين ، ووقف على المحبوسين من الشرع وكانوا قبل في حبس أهل الجرائم. ثم قال القاضي علاء الدين : كان يحب الفقراء والعلماء ويحسن إليهم كثيرا. ومات في جمادى الآخرة سنة ٧٧٨ ا ه. وقدمنا في ترجمة الحسن بن الخشاب المتوفى سنة ٦٤٨ في الكلام على درب بني الخشاب أن برأس هذا الدرب مسجدا يعرف بابن مشكور وقد جعل حبسا الآن ا ه.

أقول : يغلب على الظن أن هذا المكان الآن هو الخان المعروف بخان أبي عين ، ولا أثر هناك لهذا المسجد.

وقال أبو ذر في الكلام على المحلات : (السهلية) : هي سويقة حاتم ، بها حمّامان لبني عصرون وقد صارتا لابن مشكور ، ولها دولاب تجاه الحمّام الواحد جعل الآن دارا ووقفها ابن مشكور على رباط بالقدس وعلى مصالح القساطل التي من السهلية إلى باب الجنان ، وجعل النظر في ذلك لخطيب الجامع الكبير بحلب ا ه.

٤١١ ـ محب الدين محمد بن يوسف المعروف بناظر الجيش المتوفى

سنة ٧٧٨

لم أقف له على ترجمة.

٦٣

وقد ذكره في الكشف في الكلام على شراح التسهيل في النحو لابن مالك قال : وممن شرحه الشيخ محب الدين محمد بن يوسف بن أحمد المعروف بناظر الجيش الحلبي المتوفى سنة ٧٧٨ قرب إلى إتمامه ، واعتنى بالأجوبة الجيدة عن اعتراضات أبي حيان ا ه. يوجد نسخة منه في مكتبة نور عثمانية في الآستانة ورقمها ٤٥٦٠ ، ونسخة في المكتبة السلطانية في خمسة أجزاء بها خروم ورقم النسخة ٣٤٩. وقد سماه في فهرستها «تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد» وذكرت أن مولد المؤلف سنة ٦٩٧.

وذكر له في الكشف من المؤلفات شرحا على التلخيص في المعاني والبيان.

٤١٢ ـ علي بن محمد بن محمد بن عشاير المتوفى سنة ٧٧٨

علي بن محمد بن محمد بن هاشم بن عبد الواحد الإمام علاء الدين أبو الحسن ابن الشيخ بدر الدين أبي عبد الله بن عشاير الحلبي الشافعي.

ولد قبل العشرين وسبعماية بحلب ، ونشأ بها واشتغل وحصل طرفا من الفقه ، وسمع عماد الدين الهروي الشهير بالعجمي المائة الفراوية بحلب والوادي آشي. وكان يقول إنه قرأ على العلامة قاضي القضاة فخر الدين ابن خطيب جبرين وكأنه حضر عنده وحدث بحلب. سمع عليه شيخنا أبو إسحق إبراهيم بن محمد الحلبي وابنه أبو المعالي بن عشاير وغيرهما. وولي خطابة جامع حلب في آخر عمره وباشرها.

وذكره الإمام بدر الدين محمد بن حبيب في تاريخه وقال فيه : عالم علمه خافق ، وجواد فضله سابق ، ورئيس بيته مرتفع ، وشمل أصالته مجتمع. كان قليل الاجتماع بالناس ، متلفعا من الديانة والصيانة بأفخر لباس ، أفتى وأفاد وحصل ودأب ، وباشر في آخر عمره خطابة الجامع بحلب ، وعمر دار القراءة بحضرة المدرسة الشرفية ، واستمر على ما هو بصدده إلى أن أدركته المنية. انتهى. توفي رحمه‌الله سنة ثمان وسبعين وسبعماية بحلب ا ه. (الدر المنتخب).

آثاره بحلب

المدرسة ودار القرآن العشائرية :

قال في كنوز الذهب في باب (ذكر آدر القرآن العزيز) : فمنها العشائرية ، وهي

٦٤

مطلة على الجامع الكبير من شباك أحدث في حائط الجامع بعد فتنة كبيرة ، فشرط واقفها على نفسه أنه لا يمنع أحدا من الجامع أن يدخل ليستنجي فيها ، فسكنت الفتنة حينئذ. قال والدي في تاريخه : أنشأها بعد وفاة ولديه الحسن والحسين شيخنا علاء الدين علي ابن بدر الدين محمد بن محمد بن هاشم بن عبد الواحد بن أبي العشاير. ثم إن ولده ناصر الدين محمد غير ذلك (ستأتي ترجمته قريبا) وجعل نفسه الواقف ، وزاد ونقص في الأعيان والشروط. انتهى. وشرط فيها مدرسا على مذهب الإمام الشافعي وملقنا للقرآن. وهي لطيفة وفيها إيوان منجور من صنعة أولاد عبد الله القلعيين فرد في بابه. ا ه.

أقول : قد رأيت الوقفية وهي محررة سنة ٧٨٦ ، وقد ذكر فيها أن الواقفين علي ومحمد (الواقف وولده) وعمر بن إبراهيم بن قاسم ، وهذا أيضا من بني الخطيب. وباب هذه المدرسة من الزقاق الذي هو تجاه المدرسة الشرفية ، وفيها بيوت وداخلها قاعة واسعة حسنة البناء تعد من الآثار القديمة التي في حلب ، فيها محراب وبئر ماء. وقبل سنين كان بعض المشايخ يؤدب فيها الأطفال ، ولما مات بطل ذلك. ولها باب كبير تخرج منه إلى الرواق الشمالي من الجامع الكبير وهو الشباك الذي ذكره أبو ذر ، ويظهر أنه اتخذ بابا بعد الألف بقليل في زمن ساكن هذه القاعة الشيخ عبد الوهاب العرضي أو ولده أبي الوفا وقد كانا من مدرسيها ، وإلى الآن يتناوبها المدرسون ، غير أني من أوائل هذا القرن إلى هذه السنة لم أرها مفتوحة ولم أر بها مدرسا قط. ويسكن هذه المدرسة الآن البديعة شخصان من بني الخطيب وقد اتخذا هذه القاعة البديعة مطبخا فساء بذلك حالها وذهبت بهجتها ولله الأمر.

٤١٣ ـ القاضي موسى بن فياض الحنبلي المتوفى سنة ٧٧٨

موسى بن فياض بن موسى بن عبد العزيز بن فياض الحنبلي قاضي القضاة المتوفى سنة ٧٧٨ أبو البركات شرف الدين المقدسي الصالحي الحنبلي.

قدم إلى حلب ودرس ، وكان سمع من الحجار وحدث عنه. وسمع عليه ابن عشائر وبرهان الدين المحدث. وهو أول من ولي قضاء الحنابلة بحلب في سنة ٤٨ واستمر خمسا وعشرين سنة. وكان صالحا ورعا مطرح التكلف معظما للشرع. ومات سنة ٧٧٨ عن نيف وتسعين سنة ، قاله ابن حبيب.

٦٥

قال البرهان صاحبه : كان مولده سنة نيف وتسعين ، فعلى هذا ما جاوز التسعين. وكان ترك القضاء لولده أحمد قبل موته بخمس سنين. قرأت بخط محمد بن يحيى بن سعد في ذكر شيوخ حلب سنة ٤٨ أن شرف الدين هذا سمع الصحيح على الحجار وأبي بكر ابن أحمد بن عبد الدايم وعيسى المطعم سنة ١٢ ، وسمع على التقي سليمان جزء ابن مخلد وعلى أبي بكر والحجار.

٤١٤ ـ سليمان بن داود الكاتب المتوفى سنة ٧٧٨

سليمان بن داود بن يعقوب بن أبي سعيد القاضي جمال الدين أبو الربيع المعروف بالمصري الحلبي الكاتب الأديب.

كان بارعا في صناعة الإنشاء والترسل ، وله النظم الرائق والنثر الفائق ، مع رياضة الخلق وحسن الخلق ، وباشر كتابة الإنشاء وعدة وظائف بحلب حتى مات في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وقد قارب الخمسين. وكان له شعر جيد وقصائد على حروف المعجم سماها «بالشفعية في مدح خير البرية» صلى‌الله‌عليه‌وسلم استوعب فيها بحور الشعر.

ومن شعره :

أو حشني أنس أهل نجد

وهم بسفح النقا نزول

أنس الورى زائل محال

والأنس بالله لا يزول

وله :

وإنا لنجري في ودادك جهدنا

وإن كنت تمشي في الوداد على رسل

بعدت ولم تقنع بذاك وإنما

بخلت عن الأخوان بالكتب والرسل

وله أيضا :

رياض جرت بالظلم عادات ريحها

وسار بغير العدل في الحكم سيرها

ففرقت الأغصان عند اعتناقها

وسلسلت الأنهار إذ حنّ طيرها

ا ه. (المنهل الصافي).

٦٦

٤١٥ ـ أحمد بن محمد بن أحمد الحسيني المتوفى سنة ٧٧٨

أحمد بن محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن زيد بن جعفر بن زيد بن جعفر بن إبراهيم الممدوح السيد الشريف أبو العباس بن شمس الدين أبي المجد بن شهاب الدين أبي العباس بن علاء الدين أبي الحسن بن شمس الدين أبي عبد الله بن زين الدين أبي الحسن الحراني ثم الحلبي الحسيني ، نقيب الأشراف بحلب وكاتب الإنشاء فيها ، وأحد أعيانها سؤددا ورياسة وكرما وفضلا ، مع رياضة أخلاق وتواضع وإحسان لمن يرد عليه. ولم يزل على ذلك إلى أن مات بحلب في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة ا ه.

وترجمه في الدرر الكامنة بأخصر مما تقدم ، لكنه قال : ولد بعد سنة سبعمائة تقريبا ، وكان حسن الطريقة جميل الأخلاق.

٤١٦ ـ عمر بن أحمد بن المهاجر الشاعر المتوفى سنة ٧٧٨

عمر بن أحمد بن عبد الله بن عبد الله بن المهاجر الملقب زين الدين الحلبي الشافعي. ولد ... وتفقه بحلب على الشيخ زين الدين أبي حفص عمر الباريني ، وقرأ الأدب على الشيخين أبي عبد الله وأبي جعفر الأندلسيين نزيلي حلب ، وبرع في الأدب وكتب الإنشاء بحلب ودأب وحصل. وكان عنده فضيلة ولديه مشاركة ، وكان يعد من أعيان الحلبيين ، وله نظم ونثر. ومن نظمه :

وقوم غض طرف الدهر عنهم

فسادوا عند ما عمّ الفساد

فأمكن منهم ربّ البرايا

بعدل عند ما ظلموا وزادوا

وقالوا لا نعود إذا رجعنا

لقد كذبوا ولو ردّوا لعادوا

وله :

إني لأكره أرزاقا ينغّصها

فراق أبعد جار قد وعى فيتي

فكيف أرغب في سحت ينغّصه

فراق أهلي وأوطاني وعافيتي

ومن نظمه في حمام الرسائل :

الله هادي طائر البشر الذي

وافى ففرج كربة المحزون

٦٧

حمل البطاقة بالبشائر والهنا

يا مرحبا بالطائر الميمون

توفي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة ، هكذا أخبرني ولده صاحبنا القاضي زين الدين عبد الرحمن بحلب رحمه‌الله تعالى. ا ه. (الدر المنتخب).

٤١٧ ـ حسن بن عمر بن حبيب المتوفى سنة ٧٧٩

حسن بن عمر بن الحسن بن حبيب بن عمر بن شويخ بن عمر بن بدر الدين أبو محمد وأبو طاهر الدمشقي الأصل الحلبي المولد والمنشأ ، كان أبوه محتسبا بحلب وله عمل كثير في الحديث.

ولد سنة عشر وسبعمائة ، ونشأ محبا في الآداب ، وأخذ عن ابن نباتة وغيره. وهو صاحب «نسيم الصبا» يشتمل على أدب كثير. واستعمل «مقاصد الشفاء» لعياض وسماه «أسنى المطالب في أشرف المناقب»

فسبكها سجعا سمعه منه أبو حامد ابن ظهيرة ، وصنف «درة الأسلاك في دولة الأتراك» سجع كله يدل على اطلاع زائد واقتدار على النظم والنثر ، لكنه ليس في الطبقة العليا منها. وهو القائل :

ألحاظه شهدت بأني ظالم

وأتت بخط عذاره تذكارا

يا حاكم الحب اتئد في قتلتي

فالخط زور والشهود سكارى

وكان مولده في شعبان سنة عشر. وحضر في عاشر شهر على إبراهيم وإسماعيل وعبد الرحمن أولاد صالح عشرة الحداد ، وعلى بيبرس المصافحة وغيرها ، ثم سمع من إبراهيم بن صالح ومن والده عمر ومن فخر الدين ابن خطيب جبرين ، وسمع بالقاهرة ومصر والإسكندرية. وكان فاضلا كيّسا صحيح النقل. حدث عنه ابن عشائر وابن ظهيرة وسبط ابن العجمي ومحب الدين ابن الشحنة وعلاء الدين ابن خطيب الناصرية ، وقال في ترجمته : هو أول شيخ سمعت عليه الحديث وأجاز لي. قلت : سمع عليه وهو في الخامسة وأظنه آخر الرواة عنه بالسماع. وكان يوقع عن القضاة. وانقطع في آخر عمره بمنزله.

وله «تذكرة النبيه في أيام المنصور وبنيه» ، جرى فيه على طريقة درة الأسلاك. وباشر نيابة القضاء ونيابة كتابة السر. وكان أخذ عن فخر الدين ابن خطيب جبرين في الفقه.

٦٨

وقرأت بخط محمد بن يحيى بن سعيد فين كان حيا بحلب من الشيوخ سنة ٧٥٨ : حسن بن عمر بن حبيب مقيم بطرابلس حينئذ ، وحضر على بيبرس جزء البانياسي ، قلت والمصافحة للبرباني وجزء هلال الحفار وهو يومئذ في الرابعة. وسمع من أبي المكارم النصيبي عوالي سعد بن منصور ومن بني العجمي عبد الرحمن وعبد الرحيم وإسماعيل وإبراهيم ومن إسحق النحاس ونخوة بنت النصيبي وغيرهم. وأجاز له من مصر الرشيد بن المعلم (١) والحسن الكردي وموسى بن علي وزينب بنت شكر.

ومات في ربيع الآخر سنة ٧٧٩ وأنجب ولده طاهرا ، وقد ذيل على تصنيف أبيه «درة الأسلاك في دولة الأتراك» وتأخر إلى بعد القرن بسنوات ا ه.

وكتابه «نسيم الصبا» مطبوع : طبع عدة مرات ، وهو مشهور متداول بين الأدباء. قال في الكواكب المضية : أنشأ هذا الكتاب في سنة ست وخمسين.

ومن نظمه في فصل في الخيل والإبل :

جرد بهن بكل عين جنّة

فإذا جرين أتين بالنيران

يحكين في البيد النعام رشاقة

ويسرن في الأنهار كالحيتان

قال الشيخ علاء الدين ابن الخطيب : أنشدني بدر الدين الحسن بن حبيب لنفسه مما كتبه في كتاب إلى دمشق لما ولي العلامة بهاء الدين أبو البقاء السبكي :

شرفت دمشق بحاكم أوصافه

منها الديانة والصيانة والتقى

ولسانه عن كل فن معرب

من ذا الذي إعرابه كأبي البقا

وفي سنة سبع وستين جمع مجلدا من شعره وسماه «بالبدور» ، فمنه :

الورد والنرجس مذعاينا

لينوفرا يلزم أنهاره

شمرّ ذا للخوض عن ساقه

وفكّ ذا للعوم أزراره

وأورد الشيخ محمد العرضي في مجموعته الكثير من نظمه ، منه قوله :

بين صدغ الحبيب والجفن خال

عنبريّ يسبي عقول البرايا

__________________

(١) في الكشف : «تحية المسلم المنتقى من شعر ابن المعلم» لحسن بن عمر بن حبيب الحلبي المتوفى ٧٧٩.

٦٩

فاعرفوا حق عرفه وشذاه

واعلموا أن في الزوايا خبايا

ومنه في نتيف :

يا من يروم بظفره

نتف العذار المظلم

أتعبت نفسك فاسترح

من ذا البلاء المبرم

من ذا الذي يقوى على

ردّ السواد الأعظم

ومنه :

الصدق يورث قائليه مهابة

سر نحوه نعم الطريق طريقه

واحفظ به عهد الصحاب فإنه

من قلّ منه الصدق قلّ صديقه

ومنه :

إياك من ذل السؤال ومل إلى

عز القناعة واجتنب أهل الريا

وأرق إذا ما ألجأتك ضرورة

ماء الحياة ولا ترق ماء الحيا

أقول : شعره خير من نثره ، واسم ديوانه «الشذور» كما في كشف الظنون.

وترجمه صاحب المنهل الصافي فقال : حضر في الرابعة على بيبرس العديمي وعلى أبي بكر العجمي ، وسمع من أبي بكر النصيبي ومن أبي طالب عبد الرحيم بن العجمي والكمال ابن النحاس ، وأجاز له جماعة من مصر وغيرها. وقرأ على القاضي فخر الدين بن خطيب جبرين. وكان يرتزق بالشروط عند الحكام بحلب. وكان له فضل ومشاركة جيدة واليد الطولى في النظم والنثر ، وله سماع ورواية ومؤلفات مفيدة ، منها كتاب «نفحات الأرج من كتاب تبصرة الفرج» (لابن الجوزي) ، وتاريخ «درة الأسلاك في دولة الأتراك» ، وذيل عليه ولده الشيخ أبو العز طاهر ، وكتاب «نسيم الصبا» وكتاب «النجم الثاقب في أشرف المناقب» (١) ، وكتاب «أخبار الدول وتذكار الأول» مسجعا. وكانت له وجاهة ، وباشر كتابة الحكم العزيز وكتابة الإنشاء والتوقيع الحكمي وغير ذلك من الوظائف الدينية ، ثم تخلى عن ذلك جميعه في آخر عمره ولزم داره حتى توفي بحلب يوم

__________________

(١) مرتب على ثلاثين فصلا وهو مسجع منه نسخة في برلين ونسخة في حلب عند الفاضل الأديب الشيخ أحمد سراج الدين سبط الترمانيني.

٧٠

الجمعة الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبعين وسبعمائة. ومن شعره يمدح القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله بقصيدة منها :

جوانحي للقا الأحباب قد جنحت

وعاديات غرامي نحوهم جنحت

وعبرتي عبرة للناظرين غدت

لأنها بجفوني إذ جرت جرحت

يا حبذا جيرة سفح النقا نزلوا

آيات حسنهم ذكر الحسان محت

صدّوا فطرفي لبعد الدار ينشدهم

يا ساكني السفح كم عين بكم سفحت

آها لعيش تقضّى في معاهدهم

وطيب أنفاس أوقات بهم نفحت

حيث الحواسد والأعداء قد صددت

والسعد من فوقنا أطياره صدحت

والدهر قد غضّ طرف الحادثات لنا

والدهر أعينه في الخضرة انفتحت

والورق ساجعة والقضب راكعة

والسحب هامعة والغدر قد طفحت

والعود عودان هذا نشره عطر

وذاك ألحانه أحزاننا نزحت

والراح تشرق في الراحات تحسبها

أشعة الشمس في الأقداح قد قدحت

أكرم بها بنت كرم كفّ خاطبها

كفّ الخطوب وإسداء الندى منحت

مظلومة سجنت من بعد ما عصرت

مع أنها ما جنت ذنبا ولا اجترحت

كم أعربت عن سرور كان منكتما

وكم صدور لأرباب الهوى شرحت

تديرها بيننا حوراء ساحرة

كأنها من جنان الخلد قد سرحت

ألحاظها لو بدت للبيض لاحتجبت

وقدّها لو رأته الشمس لافتضحت

ظلّامة للكرى عن مقلتي حبست

أما تراها ببحر الدمع قد سبحت

ورب عاذلة فيمن كلفت بها

تكلّفت لملامي في الهوى ولحت

جاءت وفي عزمها نصحي وما علمت

أني أزيد غراما كلما نصحت

بالروح أفدي من النقصان عارية

تسربلت برداء الحسن واتشحت

غيداء من ظبيات الأنس كانسة

لكنها عن معاني الحسن قد سنحت

عيني إلى غير مرأى حسن طلعتها

وغير فضل بن فضل الله ما طمحت

وله فيمن اسمه موسى :

لما بدا كالبدر قال عاذلي

من ذا الذي فاق على شمس الضحى

فقلت موسى واستفق فإنه

أهون شيء عنده حلق اللحى

٧١

وله أيضا :

يا أيها الساهون عن أخراهم

إن الهداية فيكم تتعرف

المال بالميزان يصرف عندكم

والعمر بينكم جزافا يصرف

وذكر له في الكشف من المؤلفات شرحا على الحاوي الصغير في فروع الشافعية وسماه «التوشيح» ، و «إرشاد السامع والقاري المنتقى من صحيح البخاري» ، و «الكوكب الوقاد من كتب الاعتقاد» انتقاه من كتاب الاعتقاد للبيهقي ، و «مقامات الوحوش» ، و «المقامة الطردية» ، و «مقامة الخيل والإبل» ، و «مقياس النبراس» وهو على حروف المعجم نظم ونثر ، و «كشف المروط من محاسن الشروط» ، قال في الكشف : أورد فيه جملة من السجلات على اصطلاح أهل مصر ا ه. وجدت نسخة منه في جامع أبي يحيى في محلّة الجلّوم داخل القبة التي فيها ضريح الشيخ محمد الكواكبي ملقاة في خزانة هناك مع غيرها من الكتب ، ويوجد نسخة منه في المكتبة السلطانية في مصر ، و «المقتفى من سيرة المصطفى» منه نسخة في هذه المكتبة محررة سنة ٨٤١ ورقم النسخة ٣٠٩.

٤١٨ ـ الشريف محمد بن علي بن زهرة المتوفى سنة ٧٧٩

محمد بن علي بن محمد بن الحسن بن زهرة بن الحسن بن زهرة الشريف مجد الدين أبو سالم الحسيني الحلبي.

كان فاضلا بليغا ، سافر إلى بلاد العجم وأخذ عن علماء عصره ، ولقي جماعة ببلاد خراسان وماوراء النهر ، ثم رجع إلى حلب فأقام بها. وكان ذا أدب وفصاحة. وسمع من الفقيه المحدث المفسر شمس الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن الحسن بن أبي العلاء الفيروز بادي «مشارق الأنوار» للصاغاني ، وحدث بشيء منه بحلب بروايته عن المذكور وعن الفقيه المحدث شمس الدين أبي عبد الله محمد بن الحسن بن أحمد بن إبراهيم النيسابوري المعروف بالخليفة. هكذا نقل من خطه ، وروي غير ذلك. ومن نظمه :

أبا سالم إعمل لنفسك صالحا

فما كل ما لاقى الحمام بسالم

ومالي سوى حب النبي وآله

يقيني يقيني بارك الله راحمي

٧٢

توفي ليلة الخميس ٢٤ ربيع الأول سنة ٧٧٩.

٤١٩ ـ صالح بن أحمد السفاح المتوفى سنة ٧٧٩

صالح بن أحمد بن عمر القاضي صلاح الدين أبو النسك الشافعي الحلبي الشهير بابن السفاح.

ولد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة بحلب وبها نشأ ، وولي وكالة بيت المال ونظر الأوقاف وعدة وظائف أخر. وكان يعد من رؤساء حلب. وهو أبو القاضي شهاب الدين أحمد كاتب سر حلب ثم كاتب السر بالديار المصرية ، وأبو الرئيس ناصر الدين أبي عبد الله محمد. وكان كاتبا حسن التصرف عالي الهمة دينا خيرا ، ذكره أبو العز زين الدين طاهر ابن حبيب وأثنى عليه وأورد له نظما من ذلك دو بيت :

لا نلت من الوصال ما أمّلت

إن كان متى ما حلت عني حلت

أحببتكم طفلا وها قد شبت

أبغي بدلا ضاق عليّ الوقت

توفي بقرية بصرى متوجها إلى الحج في سنة تسع وسبعين وسبعمائة ا ه. (المنهل الصافي).

٤٢٠ ـ أبو جعفر أحمد بن يوسف الغرناطي الأندلسي المتوفى سنة ٧٧٩

قال أبو ذر في الكلام على درب بني سوادة الذي تقدم ذكره في ترجمة علي بن سوادة المتوفى سنة ٧١٤ : واعلم أن بهذا الدرب مسجد طغرل ، بني في أيام العزيز بتولي عبد المجيد بن الحسن بن العجمي في سنة سبع عشرة وستماية (١) ، ويعرف هذا المسجد قبل فتنة تيمور بمسجد النحاة نسبة إلى الشيخين الإمامين شهاب الدين أبي جعفر أحمد بن يوسف

__________________

(١) هو المسجد الذي في أول محلة باب قنسرين قبلي الخان الجديد المعروف بخان قنصة ، ولم يزل بابه القديم موجودا ، وهو مؤلف من ثلاثة أحجار سوداء ، وبعض بنائه القديم في الداخل لم يزل باقيا ورممه في القرن الماضي بعض بني ميرو ، وقد كانت منازلهم جوار هذا المسجد في موضع الخان المعروف بخان صلاحية الذي بني من نحو عشرين سنة.

٧٣

ابن مالك الرعيني الأندلسي الغرناطي المالكي ورفيقه شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن علي بن جابر الهواري الأندلسي المالكي الأعمى المعروفين بالأعمى والبصير ، ولهما النظم الفايق والمؤلفات الحسنة. وقد كتب الشيخ أبو جعفر نسخة من البخاري في ثلاثين مجلدا ، وكذا نسخة من صحيح مسلم ، وبعض هذين الكتابين موجود بحلب ، وكان جيد الخط.

وهذان الرجلان ترافقا من البلاد ثم قدما القاهرة ، ولما رحل أبو جعفر من غرناطة أنشد :

ولما وقفنا للوداع وقد بدت

قباب ربا نجد على ذلك الوادي

نظرت فألفيت السبيكة فضة

لحسن بياض الزهر في ذلك النادي

فلما كستها الشمس عاد لجينها

لنا ذهبا فاعجب لأكسيرها البادي

وله :

تجنّت فجنّت في الهوى كل عاقل

رآها وأحوال المحب جنون

وما وعدت إلا عدت في مطالها

كذلك وعد الغانيات يكون

وله :

محاجر دمعي قد محاهن ما جرى

من الدمع لما قيل قد رحل الركب

تناقض حالي مذ شجاني فراقهم

فمن أضلعي نار ومن أدمعي سكب

وله :

مهلا فما شيم الوفاء معارة

لم ابتغى من نيلها أوطارا

رتب المعالي لا تنال بحيلة

يوما ولو جهد الغنى (١) أو طارا

وله :

لا تأتمنه على القلوب

فمنه أصل غرامها

فلحاظه هن التي

رمت الورى بسهامها

__________________

(١) هكذا في الأصل ولعل الصواب : الفتى.

٧٤

وله :

لما عدا في الناس عقرب صدغها

كفّت أذاه عن الورى بالبرقع

والصبح تحت خمارها متستر

عنا متى شاءت تقول له اطلع

وله :

منازل ليلى إن خلت فلطالما

بها عمرت في القلب مني منازل

وسائل شوقي كل يوم يزورها

وما ضيّعت عند الكرام الوسائل

وله :

ناولته وردة فاحمر من خجل

وقال وجهي يغنيني عن الزهر

الخدّ ورد وعيني نرجس وعلى

خدي عذار كريحان على نهر

وله :

صيرتني في هواك اليوم مشتهرا

لا قيس ليلى ولا غيلان في الأول

زعمت أن غرامي فيك مكتسب

لا والذي خلق الإنسان من عجل

ولما قدما القاهرة اجتمعا بالشيخ أبي حيان ، ثم قدما دمشق وحلب ورحلا إلى ماردين ثم رجعا إلى حلب ، ثم حجا من حلب مرارا وحاورا وأسمعا بها وبقلعة المسلمين ، وقبل موتهما افترقا بالقلوب لأن أبا عبد الله تزوج بالبيرة (بيره جك) وأقام وقدم أبو جعفر حلب. وبيت أبي عبد الله بالبيرة معروف على شاطىء الفرات. وتوفي أبو جعفر بحلب منتصف رمضان سنة تسع وسبعين وسبعماية ودفن بمقابر الصالحين ، وكانت جنازته مشهودة ، ورثاه رفيقه الشيخ أبو عبد الله بقصيدة طنانة وهي (١) :

لقد عزّ مفقود وجلّ مصاب

فللخدّ من حمر الدموع خضاب

مصاب لعمري ما أصيب بمثله

ولا أنا فيما بعد ذاك أصاب

فإن أبك لم أعتب وإن أر صابرا

فليس على الصبر الجميل عتاب

__________________

(١) أثبتنا هذه القصيدة بتمامها مع طولها لأنا وجدناها من غرر القصائد في المراثي ولاشتمالها على كثير من الحكم ولندرة وجودها ، وإني لم أجدها ولا بعضها في غير هذا الكتاب.

٧٥

بكيت ولكن لم أجد ذاك نافعا

ولا فيه إلا أن يضيع ثواب

فأبت بحسن الصبر وهو أجلّ ما

إليه إذا جلّ المصاب يؤاب

لعمرك ما الدنيا بدار إقامة

فللناس عنها رحلة وذهاب

إذا ما رأيت الدار ملأى فإنه

سينعق فيها بالفراق غراب

ومن صحب الأيام كرّت خطوبها

عليه وكرّات الخطوب غراب

وكيف خلاص المرء منها وخلفه

خيول الردى يجرين وهي عراب

لئن جمعتنا والجماعة رحمة

فقد فرقتنا والفراق عذاب

تشاب بسمّ الموت والمرء غافل

موارد منها للحياة عذاب

وما العسل الصافي بشيء وإن حلا

إذا كان بالسمّ القتول يشاب

يهول كمثل البحر إن هب عاصف

فيهرم من أهوالها ويشاب

تغرّ الورى حتى إذا أطمعتهم

فطالوا إلى نيل المراد وطابوا

رمتهم بأنواع الخطوب فلم تكن

لتسمع شكوى أو يخاف جواب

يعدّون من عزّ النفوس اكتسابها

وما هو إلا ذلة وتباب

وما مثل الدنيا وطلاب مثلها

سوى جيف من حولهن كلاب

فتبّا لها مذ جرّدت سيف غدرها

لقتل الورى ما جفّ منه ذباب

فكم قتلت من ذي جلال ولم تقل

كأن نفوس العالمين ذباب

لقد راع قلبي من تقلّب دهره

أمور قضت أن الحياة سراب

حوادث لم تتركن لي غير أدمع

يشاب طعام لي بها وشراب

أرى الناس تمضي واحدا بعد واحد

ولم أرهم بعد الترحل آبوا

هم كحباب الماء يعلو فينطفي

ولا طمع في أن يدوم حباب

يذيب الثرى من ليس يحصون كثرة

كهول وشيب قد مضوا وشباب

تفقدت أترابي فألفيت كلهم

تضمنهم بطن التراب فغابوا

فما ذا انتظاري إن فيهم لأسوة

فلم يبق إلا أن تحثّ ركاب

ولكن أرجّي أن أعيش لعلني

ييسر لي قبل الممات متاب

وكان يهون الموت لو ترك الفتى

ولم يك في يوم الحساب عقاب

ولكننا نجزى ونسأل في غد

ونقطع من دون الخلاص عقاب

فلا يتمنّ الموت شخص لشدة

ينال بها من دهره ويصاب

٧٦

إذا مات فات الأمر وانقطع الرجا

ولم يبق إلا موقف وحساب

وما دام حيا قد يوفق للتقى

فيفعل فعلا صالحا ويثاب

عجبت لهذا الدهر تفنى خياره

وهم فيه زين إن ذا لعجاب

لقد أخذ الموت اللباب فلم يدع

سوى القشر لا يلفى لديه لباب

فأي شهاب غاب عنا فلم يكن

ليخلفه في الخافقين شهاب

فو الله ما يأتي الزمان بمثله

وإن زعموا إتيانه فكذاب

فكم عطف الحسنى على مثلها وكم

حوى منه تأكيد البيان جواب

ومن نعته هذا فلا بدل له

ولو طلبوا الأبدال منه لخابوا

هو العلم الفرد المنادى لكشف ما

له عن عقول الباحثين غياب

فإن ضمّ منا للقلوب محبة

فقد أنصفوا في ضمه وأصابوا

سلوني على المرء الخبير سقطتم

فأحواله في الصالحين عجاب

أبا جعفر ما زلت والله سالكا

سبيل رجال أخلصوا وأنابوا

عطفت على كتب الحديث وضبطه

فولّى مشيب فيهما وشباب

وكنت إذا أدّيته قارئا له

تكاد القلوب القاسيات تذاب

فتطرب أهل الحي حتى كأنما

غذا القوم من ثغر الكؤوس رضاب

فما للبخاري بعد موتك قارىء

ولو علموا عظم المقام لهابوا

وكم مدع في العلم إدراكه الغنى

وما ثم من علم لديه يصاب

مرارا أمام المصطفى قد قرأته

بأفصح نطق لم يفته صواب

تخاطبه في قبره وهو سامع

وأنت بإجزال الثواب تجاب

وفي حجر إسماعيل أيضا قرأته

وقد شرعت للدارعين حراب

فتسمع أصوات الرجال إذا التقوا

كما تزأر الآساد وهي غضاب

وأنت مديم للقراءة لا الحشا

يراع ولا منك الفؤاد يراب

ومن كان في البيت المحرم قارئا

حديث رسول الله كيف يهاب

وفي ذاك ما زلنا جميعا كأننا

حسامان ضمّ الصفحتين قراب

نلازم تحقيق العلوم وجمعها

وليس نرى إلا بحيث نثاب

فنسهر حتى يقضي الليل عمره

ويكشف عن وجه الصباح نقاب

وكنا كندماني جذيمة لم يكن

يعضّ علينا للتفرق ناب

٧٧

فلم ندر إلا والتفرق واقع

وقد سد من دون التواصل باب

كأن لم يكن منا اجتماع ولم نبت

ومن بيننا للكشف منه كتاب

وأي اجتماع بعد ما حكم الردى

وحان من النوب (١) المهيل حجاب

ولكن نرجّى أن يكون لنا غدا

بجنة عدن مجمع ومآب

أبا جعفر قد كنت أكرم صاحب

إذا عدّ من أهل الوفاء صحاب

لقد كنت سمح النفس خلوا عن الأذى

حميد السرى لا شيء فيك يعاب

ولو أن ما بي من فراقك بالحصى

لذاب فكيف القلب ليس يذاب

بموتك مات العلم والحلم والتقى

فأصبح ربع الفضل وهو خراب

وأصبحت الطلاب بعدك لا يرى

لهم طمع في أن ينال طلاب

فمن للمعاني الغرّ بعدك عند ما

ترى وهي للذهن السليم صعاب

ومن لفنون العلم يجمع شملها

إذا اختلفت سبل لها وشعاب

ومن لكلام الحق في وجه مبطل

ولو أنه قد عزّ منه جناب

لمثلك تبكي العين من متوكل

عليه من الحمد الجميل ثياب

أبا جعفر ما مات من عاش ذكره

وذكرك باق لم ينله ذهاب

فو الله ما أنساك حتى يضمني

كمثلك في بطن الضريح تراب

سبقت وإنا لاحقون فكلّنا

سنمضي مضاء ليس فيه إياب

ولا بد أن يستوفي المرء عمره

ويفرغ زاد خصّه وشراب

وتقديم أقوام وتأخير غيرهم

يفاوت أعمارا لهن كتاب

لقد أوحشت من بعدك الأرض كلها

كان البلاد العامرات يباب

فآنسك المولى كما كنت مؤنسي

وذو البر مجزيّ به ومثاب

سقى الله ذاك القبر صيّب رحمة

يخالطها من ذي الجلال ثواب

٤٢١ ـ محمد بن أحمد بن جابر الأندلسي المتوفى سنة ٧٨٠

محمد بن أحمد بن علي بن جابر الأندلسي الضرير أبو عبد الهوّاري المريّي المالكي ، عرف بابن جابر ، نزيل حلب.

__________________

(١) لعل الصواب : الترب.

٧٨

رحل من المغرب هو ورفيقه الشيخ أبو جعفر المتقدم في الأحمديين (هو الذي قبله) وقدم دمشق وسمع بها على أشياخ عصره ، وتوجه من دمشق إلى حلب في آخريات سنة ثلاث وأربعين وسبعماية.

ذكره الشيخ صلاح الدين الصفدي في تاريخه الكبير وقال : سألته عن مولده فقال :

سنة ثمان وتسعين وستماية بالمريّة.

وقرأ القرآن والنحو على أبي الحسن علي بن محمد بن يعيش ، والفقه لمالك رضي‌الله‌عنه على أبي عبد الله محمد بن سعيد الرّندي ، وسمع على أبي عبد الله محمد الزواوي صحيح البخاري غير كامل ، وسمع بحلب وحدث بها. وكان إماما عالما فاضلا بارعا نحويا أديبا ، له النظم والنثر البديعان ، وألف وجمع ونظم حلة السير في مدح خير الورى المعروفة «بالبديعية» وأتى فيها بأنواع من البديع. وكان أمة في النحو ، وشغل الطلبة بحلب ، اشتغل عليه بها غالب أولاد الحلبيين ، وبه وبصاحبه انتفعوا في النحو الأدب. ومن نظمه :

تبسمت فتباكى الدرّ من وجل

وأقبلت فتولى الغصن ذا عجب

تفتّر عن حبب يبدو على ذهب

يهديك من شنب ضربا من الضرب

ومن نظمه :

جميع ما جاء في القرآن من علم

للأنبياء ففي الأعجام معدود

إلا محمدا المختار صالحهم

شعيبهم وبخلف عندهم هود

والأعجميّ سوى نوح ولوطهم

لزومه لامتناع الصرف موجود

وله :

جاءت تجر فروعا خلف ذي هيف

فبلّغت صبّها من لثمها الأملا

وأرسلت غسقا وأطلعت قمرا

وألثمت بردا وأرشفت عسلا

انتقل الشيخ أبو عبد الله المذكور إلى البيرة فسكنها مدة قبل موته ، ولم يزل مقيما بها إلى أن توفي رحمه‌الله تعالى بها في جمادى الآخرة من سنة ثمانين وسبعمائة ا ه. (الدر المنتخب).

قال أبو ذر في كنوز الذهب في آخر ترجمة أبي جعفر الغرناطي المتقدم : وأما رفيقه

٧٩

الشيخ أبو عبد الله فإنه توفي بالبيرة سنة ثمانين وسبعمائة. ولهما رحلة في مجلد والبديعية وشرحها. ورأيت للشيخ أبي عبد الله قصيدة تتضمن رحلة وذكر المنازل موضع موضع من نهر الفرات إلى مكة ، وهنا ساقها الشيخ أبو ذر جميعها وهي طويلة جدا ، لذا أضربنا عنها. ثم قال : ومن شعر الشيخ أبي عبد الله :

إني سئمت من الزمان لطول ما

قد صدّ عن حسن الوفاء رجاله

ومن النوادر في زمانك أن ترى

خلّا حمدت وداده وخلاله

ولا أعلم بعدهما قدم حلب من المغاربة مثلهما ا ه.

قال ابن حجة في أوائل شرحه لبديعيته : وقفت على بديعية الشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جابر الأندلسي الشهيرة «ببديعية العميان» فوجدته قد صرح في براعتها بمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي :

بطيبة انزل ويمم سيد الأمم

وانثر له المدح وانشر طيّب الكلم

فهذه البراعة ليس فيها إشارة تشعر بغرض الناظم وقصده بل أطلق التصريح ونثر المدح ونشر طيب الكلم. (إلى أن قال) : ونظم هذه القصيدة سافل بالنسبة إلى طريق الجماعة ، غير أن الشيخ الإمام شهاب الدين أبا جعفر الأندلسي [رفيقه المتقدم] شرحها شرحا مفيدا ا ه.

قال في كشف الظنون في الكلام على «كفاية المتحفظ في اللغة» (١) : ونظمها محمد ابن أحمد بن جابر الأعمى وفرغ منه في سنة ٧٧٠ ا ه. وأوردنا بيتين من نظمه في الجزء الثاني (ص ٣٦٦).

٤٢٢ ـ الأمير موسى بن محمد بن شهري المتوفى سنة ٧٨٠

موسى بن محمد الأمير شرف الدين بن الأمير ناصر الدين المعروف بابن شهري نائب السلطنة بسيس.

__________________

(١) تأليف القاضي شهاب الدين محمد بن أحمد الخويي المتوفى سنة ٦٩٣.

٨٠