إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

و «عقيدة» في نصف كراس ، وذكر في آخر زاد المساكين من نظمه أبياتا خمسة عشر وهي :

زاد المساكين قد تبدّى

لمن لنيل العلا تصدّى

صحيح قول بلا توان

في حب مولاه صار فردا

يا طالبا للسلوك بادر

فإن هزل السلوك جدّا

وتب إلى الله قبل يوم

تصير فيه الجبال هدّا

قاسوا على الذاب بالمربي (هكذا) (١)

وطالب القوت ما تعدّى

قد فاز من فاز بالتداني

إلى وصال الحبيب يهدى

وخاب في الناس كل فاني

قد أذهب العمر فيه جهدا

ثم لما اتفقت المحنة لأهل بلدة حلب مع الدولة الرومية عام أربع وثلاثين وتسعمائة أمر الخنكار بإرساله إلى رودس ، ثم أطلق منها هو وجماعة ، ثم جاور بمكة ملازما للعبادة وصار مصرفا للفتوحات وقررت له المرتبات. انتهى كلامه.

وقد صلي عليه بحلب صلاة الغائب لورود خبر موته في رجب سنة اثنتين وخمسين ، ثم ظهر أنه حي. ولما بلغه أنه صلي عليه تمنى أن لو صلي عليه مرة أخرى ثم وثم.

ثم كانت وفاته بين مكة والطائف في رجب سنة خمس وخمسين ، إلا أنه دفن بمكة رحمه‌الله تعالى.

أقول : لم يذكر المؤلف أسباب نفور أستاذه السيد علي بن ميمون منه ، وقد ذكر ذلك صاحب «الكواكب السائرة» حيث قال ناقلا عن صاحب «الشقايق» : إن صاحب الترجمة سافر مع سيدي علي بن ميمون في نواحي حماة ، وكانت الأسد كثيرة في تلك النواحي ، فشكوا منه إلى الشيخ ابن ميمون فقال : أذّنوا ، فأذّنوا فلم يبرح ، فذكروا ذلك للشيخ فقال : أذنوا ثانيا ، فتقدم الكازواني فغاب الأسد عن أعينهم ولم يعلموا أخسفت به الأرض أم ذاب في مكانه ، فذكروا ذلك لسيدي علي بن ميمون فغضب على الكازواني وقال له : أفسدت طريقنا ، وطرده ولم يقبله حتى مات ، فأراد الكازواني أن يرجع إلى خلفاء الشيخ فلم يقبلوه ، حتى ذهب إلى بلاد المغرب وأتى بكتاب من الشيخ عرفة أستاذ

__________________

(١) اختلفت النسخ المخطوطة من در الحبب في رواية هذا الشطر. وفي المطبوعة : فأسوا على الدأب بالمربي.

٥٢١

سيدي علي بن ميمون إلى خلفاء السيد علي وقال : إن أحدا لا يرد من تاب إلى الله تعالى ، وإن شيخه إنما رده لتأديبه وإخلاصه ، فقبله الشيخ علوان وأكمل تربيته.

ثم قال صاحب الكواكب نقلا عن الشعراني في طبقاته : قال : أخبرني من لفظه أنه كان في بدايته يمكث الخمسة شهور طاويا لا ينام إلا جالسا. ثم ذكر جملة مما سمعه من كلامه ، ثم قال : بدأ أمره بمدينة حلب وبنى له النائب تكية عظيمة ، واجتمع عليه خلائق لا يحصون ، فوقعت فتنة في حلب ، فقتل الدفتر دار وقاضي العسكر يعني قراقاضي فقال الناس : إن ذلك بإشارة الشيخ ، يعني الكيزواني ، فأخرجوه من حلب ونفوه إلى رودس ، فأقام بها ثلاث سنين ، ثم رأته يعني في المنام خوند الخاص وهو يقول لها : أريد أن أقيم بمكة ولا أرجع إلى حلب ، فقالت : من تكون؟ قال : الكيزواني ، فكلمت السلطان سليمان ، فأرسل له مرسوما بأن يسافر إلى مكة ويقيم بها ، وعمرت له خوند هناك تكية وفيها سماط ، فزاحمه أهل مكة فتركها وسكن في بيت عند الصفا ا ه.

أقول : والتكية التي أشير إليها هي في محلة العقبة وتعرف الآن بجامع الكيزواني ، وهو جامع صغير مرتفع يصعد إليه من الجهة القبلية بدرج له صحن صغير يشرف على المساكن القبلية من مدينة حلب فترى منه منظرا حسنا بالنظر لارتفاعه ، وله منارة كان خرب أعلاها في الزلزلة الكبرى التي حصلت سنة ١٢٣٧ ، بل تهدم في هذه المحلة كثير من الدور لعدم إحكام أبنيتها لبعد الأساس فيها ، وبقي أعلى المنارة خربا إلى سنة ١٣٤١ ففيها عمرها متولي الجامع الحاج أحمد صهريج وفيه قبلية صغيرة تقام فيها الجمعة ، وله من الأوقاف داران ومخزنان غير أنها لا تأتي بريع يستحق الذكر.

٨٣٧ ـ محمد بن يوسف الحنبلي المتوفى سنة ٩٥٦

قدمنا ترجمته وأنه توفي سنة ٩٣١ وهو سهو ، بل المتوفى في هذه السنة هو شريف مكة الشريف بركات ، وأما المترجم فقد كانت وفاته سنة ٩٥٦ كما ذكره الغزي في الكواكب السائرة وقلت ثمة إن له أبياتا سماها «السهم الساري في الشريف بركات وأتباعه الدراري» ، والصواب (والذراري) ووقع في الأبيات هناك بخنقك والصواب (بحتفك). وذكر الغزي هنا الأرجوزة التي امتدح المترجم بها شيخ الإسلام عبد الرحيم العباسي ، لكن كثرة

٥٢٢

أغلاطها حالت دون ذكرها (١).

٨٣٨ ـ محمد بن يوسف التادفي قاضي القضاة المتوفى سنة ٩٥٦

محمد بن يوسف بن عبد الرحمن قاضي القضاة وشيخ الشيوخ أبو اللطف كمال الدين الربعي الحلبي التادفي الشافعي القادري عمي شقيق والدي.

ولد بحلب في ربيع الأول سنة أربع وسبعين وثمانمائة وتفقه على الفخر عثمان الكردي والجلال النصيبي وغيرهما ، وأجاز له المشايخ السابق ذكرهم في ترجمة والدي كوالدي ، ولبس الخرقة القادرية عن يد الشيخ العارف بالله الشرف عبد الرزاق الحموي الشافعي مذهبا الكيلاني خرقة ونسبا. ثم ناب في الحكم عن خاله القاضي حسين بن الشحنة الشافعي وغيره ، ثم ترك مخالطة الناس ولف المئزر على رأسه وأقدم على خشونة اللباس وأخذ في مخالطة الصوفية إلى أن بلغ السلطان الملك الأشرف قانصوه الغوري. فأرسل له توقيعا وخلعة يلبسه إياها كافل حلب على أن يكون شيخ الشيوخ بها ، وأرسل إلى الشيخ أحمد ابن الرفاعي شيخ الشيوخ وشيخ الرواق الأحمدي بالديار المصرية وسائر الممالك الإسلامية يعرفه أن ولي القاضي كمال الدين التادفي فلا يتعرض إليه بعزل فإنه إنما يولي مشيخة الشيوخ ويعزل منها بأمر مني ، فامتثل أمره ، فلما وصل التوقيع والخلعة إلى كافل حلب أبرم عليه في تلقي ذلك فتلقاه.

ثم ولي بعد ذلك قضاء الشافعية بطرابلس ثم عزل عنه ، ثم سعى في قضاء الشافعية بحلب فصده عنه المحب بن آجا كاتب الأسرار الشريفة بالممالك الإسلامية وغيره ، فشكا حاله لخوند جهة السلطان وسألها في استيذان السلطان في اجتماعه به حيث لا واش ولا رقيب ولا متطفل عليه في ذلك لما كان بينهما وهو صاحب الحجاب بحلب من المودة الأكيدة ، فأذن له فيه فاجتمع به فولاه قضاء حلب عن القاضي جلال الدين النصيبي رغما عن أولئك والتزم له أنه ما دام سلطانا فهو قاض ، وكان الأمر كذلك ، فإنه بقي قاضيا إلى انقراض

__________________

(١) مطلعها :

سعد قدوم مجدك السنيّ

مؤيد بالصمد العليّ

وانظر الترجمة التالية.

٥٢٣

دولته ، وكان توقيعه : الحمد لله ولي الإحسان. ولما قرىء منشوره بالجامع الأموي بحلب وتفرق الناس توجه إلى القاضي جلال الدين ووجه معاذيره إليه ، ولم يزل في مهابة وقضاء حاجاته ، وفوض إليه البرهان القلقشندي قاضي الشافعية بالممالك الإسلامية مضافا إلى قضاء حلب نيابة الحكم بالديار المصرية ومضافاتها بسؤاله.

ثم ولي في الدولة العثمانية السليمية تدريس العصرونية ، ثم أضيف إليه نظر أوقاف الشافعية بحلب وأنظار أخرى ، ثم تدريس الصاحبية الشدادية ، وكان هو المشار إليه في تفاتيش الأملاك والأوقاف الحلبية في أوائل هذه الدولة مع كمال ابن الحاج إلياس أول قاض تولى فيها بحلب ، ثم مع القاضي زين العابدين بن الفناري وغيرهما.

وفي سنة سبع وعشرين وتسعمائة ولاه خير بك المظفري عن المحب بن ظهير الدين المكي وهو أول كافل كان بالديار المصرية في الدولة العثمانية وظيفة قضاء الشافعية بمكة وجدة وسائر أعمالها ونظر الحرم الشريف المكي لما أنه كان مأذونا له في توليتهما وكتابة التوقيع بهما ، فتوجه إلى محل ولايته وكان أول قاض ولي ذلك من غير أهل مكة في هذه الدولة ، فساس الناس وعاملهم بالاستيناس ، وساق إليهم المطايا في بذل العطايا ، وعمر بمكة عين ثقبة بعد أن استنبط ماؤها ، وعرض إلى الباب الشريف في إيصال الماء إلى مكة من عين حنين وعين ميمون وغيرهما ، فعارضه الشريف بركات الحسني أمير مكة في ذلك لئلا يفوت عبيده الانتفاع بجلب الماء من خارجها إليها وبيعه بها ، فلم يزل يعارض وهو يعرض إلى أن برز الأمر الشريف السلطاني بإيصاله إليها ، فأوصله إليها.

ثم لما مات خير بك المظفري واستقر مكانه محمد باشا نوزع في الوظيفتين بمساعدة أميرها ابن ظهيرة ، فكتب للقاضي كمال الدين توقيعا بالاستقرار فيهما مؤرخا بمستهل جمادى الأولى سنة ثلاثين وتسعمائة ، فكتبت له إذ ذاك في صدر مطالعة مضمنا ومكتفيا :

مذ غبت زاد تشوقي

فهل لقاي إذا يشوقك

وسررت إذ نلت العلا

وكملت لا أحد يفوقك

ثم لما استقر مكانه قاسم باشا عزله بعد أمور جرت بينه وبين أميرها ولم يمكنه الله منه مع ما كان يوصله إليه من القصائد القادمة كالقصيدة التي قال في مطلعها :

شربنا على روض أنيق مدامة

على جدول يجري جوانبه الزهر

٥٢٤

معتقة في الدن من عهد آدم

تخبر عن أخبار أخيار من غبر

إذا مقعد منها حسا (١) ثم ميّت

تجرعها من سرها هب وانتشر

إلى أن قال مخاطبا له :

فيا ملكا بالعدل قد شاع ذكره

تنبه لضد في مواتك قد نشر

وكن يقظا إني وحقك ناصح

لذاتك والبيت العتيق ومن نفر

وجذ فروعا من عداك تتابعت

ولا تغترر واقدم فقد فاز من جسر

فما الفرع في التحقيق إلا كأصله

عدوا كما قد قيل في الناس واشتهر

وإن صح عنكم سعيكم لمعاندي

صبرت فإن الصبر خير لمن صبر

وأرسل أبغي العزل حيث أردتم

وعما قليل تبلغوا السول والوطر

ثم قال :

فيا خيبة المسعى ويا قلة الرجا

ويا ضيعة الأعمار فيكم مع السهر

وحقك يا ذا المجد لست بماكث

بدار بها قدري يهان ويحتقر

وأشكو إذا في الحال في كل محفل

وأشعر من فيه إذا لم يكن شعر

وإني واسم الله ذي القدرة التي

أنارت ضياء الشمس والنجم والقمر

إذا ملئت بطحاء مكة عسجدا

مع الفضة البيضاء مع أنفس الدرر

وأعطيت بالذل القضاء وحكمها

رددت ولو من فاقتي كنت محتضر

فيا أيها الحبر الشريف إذا أتى

إليك غريب الدار لا يفهم الدرر (٢)

وبشر لمن وافاك من دار أهله

فو الله لا يبقى سوى خيّر الخير

وحقق رجا من أمّ بابك دائما

وحاشاك أن يعزى إلى بابك القصر

ودم أيها الشهم الأشم لوارد

إليك على بعد وإن قرب السفر

رحيما وكن في حقه محسنا بما

يعد جميلا في البوادي وفي الحضر

فذلك صيد الشكر والمدح والثنا

لمن يبتغي ذكرا جميلا على الممر

إلى أن قال :

__________________

(١) في الأصل : حيا.

(٢) في در الحبب : السدر.

٥٢٥

فها قصتي أوضحتها لك دافعا

وصرف الليالي ليس يبقي ولا يذر

فخذها مقال التادفيّ محمد

من الخيرة الأنصار والخزرج الخير

كفاك الذي قد قيل فيك وما الذي

يقال على مر الزمان الذي هجر

وصلى إله العرش في كل ساعة

على من عليه أنزلت سورة الزمر

مقاطع من قد قاطعوه مواليا

لأنصاره لا مثل ما منك قد صدر

كذاك على الآل الكرام وصحبه

وتابعهم والتابعين ومن شكر

وله في ذلك أبيات كثيرة أعرضنا عنها لطولها وفيها يذكر أنه قدّم قرشيا كانت أصوله تبدي القرب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنصاري كان جده من قوم ينصرونه ، وكتب له بعد أن خرج من مكة معزولا سنة إحدى وثلاثين أبياتا سماها «السهم الساري في الشريف بركات وأتباعه الذراري» ومن جملتها هذه الأبيات :

يا واليا قطر الحجاز تعسفا

عزلي بعزلك منذر قد عنّ لي

فاشرب بكاس حمام سقمك جرعة

لحرورها أبدا همومك تصطلي

أو ما علمت بأنني شهم له

سهم يصيب لمن نأى في المقتل

فابشر بحتفك مع ذراريك التي

سحب المنايا عنهم لا تنجلي

فمات في تلك السنة رحمه‌الله تعالى. ومن شعره أيضا :

لو لا رجائي بأن الشمل مجتمع

ما كان لي في حياتي بعدكم طمع

يا جيرة قطعوا رسلي وما رحموا

قلبا تقطع وجدا عند ما قطعوا

أواه واطول شوقي للذي سكنوا

في الصرح يا ليت شعري ما الذي صنعوا

لا عشت إن كنت يوما بعد بعدكم

أمّلت أني بطيب العيش أنتفع

هم أطلقوا مدمعي والنار في كبدي

كذاك نومي وصبري في الهوى منعوا

دع يفعلوا ما أرادوا في عبيدهم

لا واخذ الله أحبابي بما صنعوا

وله مرثية أيضا يقول :

ما كان أهنا زمن الملتقى

في الحي مع سكان تلك الخيام

ليت اجتماع الشمل لو كان دام

عليك يا طيب الوصال السلام

٥٢٦

فعاجلتنا فرقة مع ردى

وفوّقت فينا الليالي سهام

كنا مع الأحباب في لذة

كأننا من طيبها في منام

آها على رؤية وجه لكم

زاه على الشمس وبدر التمام

فافترق الشمل وحال القضا

ما بيننا وانحلّ ذاك النظام

سقى قبورا أنتم سادتي

فيها بدمعي لا بدمع الغمام

ولين أعطاف إذا ما انثنت

تعلم الأغصان لين القوام

وله أيضا :

ترى بعد هذا البين والبعد أسمع

بأن لييلات التواصل ترجع

ويهدا فؤاد لا يقرّ قراره

وجفن قريح بالبكاليس يهجع

بدور الحمى يا من سرور جمالهم

مقيم له بين الأضالع أربع

فديتكم هلا وقفتم سويعة

أزوّد طرفي نظرة وأودّع

أعلل قلبي بالسلامة بعدكم

وأطمع فيما ليس لي فيه مطمع

وبالجملة إن له أشعارا لا تحصى ، ولو جمعت لكانت هي والأشعار التي مدح بها مجلدات. وقد مدحه كثيرون كالعلاء الموصلي وكالشيخ عبد الرؤوف المصري والحسن السرميني وكالشيخ جابر الشاعر ، فإنه وفد إليه من الجبل الأعلى من معاملة حلب المرة بعد المرة ومدحه بما لا يحصى زيادة وكثرة ، وله فيه كما علمت منظومات سماها «العقد الغالي في مدح الكمالي» ، وقد مر لك نبذ من مدايح هؤلاء فيه عند ذكر تراجمهم. وتولى سوى قضاء مكة في الدولة العثمانية قضاء البحيرة والجيزة وكذا نظر أوقاف القاهرة ونواحيها وعمر إذ ذاك من الأوقاف الداثرة والقابلة العمارة بعد أن (قطع على كثير من أرباب المعاليم معاليمهم ما انتفعوا به واعترفوا بنفعه بعد أن) (١) أطلقوا ألسنتهم فيه عند إرادة قطعها.

وأما ما أنشأه بحلب من العماير فعمارة جددها بالقرب من مزار الشيخ أبي الرجا الرحبي تشتمل على مسجد لله تعالى وتربة اتخذها لنفسه وذريته وإخوته ونقل إليهما علمين قادريا ورفاعيا كانا بمحكمة والده ثم بمحكمته لتوليهما مشيخة الشيوخ (بحلب دون غيرهما من

__________________

(١) ما بين قوسين أثبتناه نقلا عن در الحبب ، وهو ساقط في الأصل.

٥٢٧

قضاة القضاة المعاصرين لهما ، ثم كانت وفاته أواسط ذي الحجة سنة ست وخمسين وتسع مئة) (١) ودفن بقبر والده.

وكان ذكيا سخيا مقداما شهما عليّ الهمة حسن العشرة سليم الفطرة مزاحا حمولا للأذى محسنا لمن له أذى جم الفضائل كثير الفواضل.

وأما مادحوه من الشعراء ممن ليس من رجال هذا التاريخ فخلائق ، منهم من لو لم يمدحه غيره لكفى ، وهو شيخنا بالإجازة شيخ الإسلام أوحد العلماء الأعلام عين الأماثل العظام قس الزمان ولبيد الأوان أبو الفتح زين الدين عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد ابن حسن بن داوود بن سالم بن معالي العباسي الحموي الأصل ثم القاهري ثم الإستنبولي الشافعي المشهور بالسيد العباسي ، ومنهم الشيخ نور الدين علي بن محمد السجودي الخطيب الأزهري الشافعي الشاعر المكثر في مدحه ، وهو الذي نظم قصيدة نبوية قدر ثمانمائة بيت وبعث بها لتقرأ عند الحجرة الشريفة ، وكان من أصحابه الشيخ شهاب الدين بن عبد الغفار المالكي فرأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام وأخبره أنه قبل هدية الشيخ نور الدين ووعد بالوفاء إن كان اللقاء بالعبارة التي ذكرها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنهم علي المحلي ، ومنهم عبد اللطيف بن علي بن إبراهيم الديربي ثم المصري الأزهري الأنصاري الشاعر المكثر الذي جمع في مدحه مؤلفه «عقود اللآل في مدح قاضي القضاة الكمال» ولازمه كثيرا سفرا وحضرا برا وبحرا.

٨٣٩ ـ حسن بن عمر النصيبي المتوفى سنة ٩٥٦

حسن بن عمر بن محمد الأصيل العريق البدري بدر الدين ابن أقضى القضاة زين الدين ابن قاضي القضاة جلال الدين الحلبي الشافعي المعروف بابن النصيبي ، وجده اشتغل بالعلم مدة على العلاء الموصلي والبرهان اليشبكي وغيرهما ، ثم رحل لأجل المعيشة إلى الباب العالي فصار يكتب القصص التي ترفع إلى الحضرة الخندكارية باللسان التركي على أحسن وجه وأكمله ، ثم تقرب إلى نيشانجي الباب العالي فقربه وأحبه وصار ظهيره ونصيره في تولية المناصب ودفع كل بلاء ناصب.

__________________

(١) ما بين قوسين أثبتناه نقلا عن در الحبب ، وهو ساقط في الأصل فعلى هذا ألحق المؤلف المترجم له في وفيات ٩٣١ سهوا ، فألحقناه بموضعه. وانظر الترجمة السابقة.

٥٢٨

وتولى بهمته نظر الأوقاف بحلب عموما ونظر الحرمين الشريفين بها والبيمارستان النوري بحماة والأرغوني بحلب خصوصا ، والتزم بتحصيل الحصص السلطانية فيما فيه للحرمين الشريفين حصص أخرى. فلما قدم عيسى باشا بكلربكي المملكة الدمشقية حلب مفتشا على ما بها من المظالم قيل له إن عليه ما ينوف عن عشر كرات ، فاستنطق ملا علاء الدين كاتب الحرمين الشريفين ، فكتب له دفترا بذلك ، فتتبع البدري فلم يظفر به مدة تفتيشه ، فقبض على جابيه النظام ابن الحاضري واستنطقه فلم يقر بشيء ، فلما تم أمر التفتيش ولم يظفر البدري وعاد إلى دمشق صحبه معه حافيا مكشوف الرأس إلى حماة ، ثم أطلقه بشفاعة حصلت فيه ، وبقي عنده حقد زائد بحيث لو ظفر بالبدري سمه كما هو عادته. وصار البدري في وجل قد عظم وجلّ ، إلى أن لاح بدره وظهر ، فقبض عليه واحد من أعوانه بحلب واستولى عليه في منزل هو نازل به ، فاحتال عليه كافل حلب ، وكان يحب البدري ، وصنع له ضيافة ، فلما جاء بعث إليه أعوانه إلى منزله فاختطفوا البدري وأخفوه ، فقوي حقد عيسى باشا عليه فوق ما كان وصار يقول كلما تحرك عليه نقرسه : هذا كله من نصيبي زاده.

ثم أرسل البدري حسن شقيقه البدري حسينا شاكيا على عيسى باشا ، فاشتكى عليه بالديوان العالي فأغلظ له القول أفلاق (١) مصطفى الوزير الرابع يومئذ اعتناء بعيسى باشا ، فأخرج له البدري حسين عرضا كان قد رقمه للبدري حسن وهو بكلربكي المملكة الدمشقية قبل عيسى باشا ، ومن مضمونه تربيته والثناء عليه ، فكذبه به ، فهان أمره وبقيت خشيته في قلب البدري الحسن ، ثم آل الأمر إلى أن توفي أفلاق وأقدم البدري حسن لما رآه من الرأي الحسن على إزالة ما في خاطر عيسى باشا بأن يمثل بين يديه ملقيا سلاحه مسلما إليه قياده ، ففعل ، ولكن قصد أن يسقيه شرابا أو يضيفه ، فامتنع خشية أن يسمه ، ثم عاد من عنده سليما بإذن الله تعالى ، ثم سعد بوفاته عن قتله وصار ناظر الأموال السلطانية بحلب ، فهابه الأمناء والكتاب والعمال لمزيد وقوفه على أمور الديوان والدفتر داري واطلاعه عن الكتيمات والبلعيات ، فاتسع مجاله وكثر الوافدون ببابه وخفي ما كان عليه من الأموال السلطانية ، إلى أن ولي الدفتر دارية إسكندر بك فأظهر ما خفي بمعونة أهل ديوانه وتقويته إياهم عليه لما عندهم من العداوة الباطنة له ، وأخذ منه نحو ثمانية آلاف دينار سلطاني وصدمه

__________________

(١) أثبتها في طبعة در الحبب : أفلاقي.

٥٢٩

صدمة مهولة ، ثم تأخر عنه إذ لم يبق عنده الدرهم الفرد وقال : أنا ما فعلت معك هذا إلا إشفاقا عليك ، ثم عرض له عرضا حسنا.

ثم لم تكن وفاة البدري إلا مسموما من قبل أهل الديون الدفتر داري إذ سمه فمرض فتوفي سنة ست وخمسين ودفن بمقبرة سيدي علي الهروي خارج باب المقام بوصية منه.

وكان مولده سنة سبع. وكانت له الكلمة النافذة عند القضاة والأمراء بحلب لا سيما خسرو بك كافلها وائتلاف كلي بالطائفة الرومية حتى كأنه منهم.

ولما قدم حلب الوزير الأعظم إبراهيم باشا صار ترجمانه مدة إقامته بها.

وكان صبورا على الأذى ولا يكترث للشدائد قلّت أو جلّت ، ولا يتزلزل بتوارد الناس عليه في المهمات والملمات له أو عليه ولو كانوا ألفا ، بل تراه ساكنا يرد لكل جوابا يليق به.

٨٤٠ ـ محمد بن الحسين دلّال البقجة المتوفى سنة ٩٥٦

محمد بن الحسين من أهل حارة الفرافرة بحلب.

كان في الدولة الجركسية دلّال البقجة ، ومع هذا كان تحت يده معملان يعمل فيهما الخوذ واللبوس بحيث متى طلب كافل حلب أو غيره شيئا منها أحضره له وموضوع (١) دلال البقجة قديما أنه كان يدلل على الأقمشة (٢) المخيطة من التركات وغيرها كالسلاريات المفراة بالسمّور والوشق وغيرهما وكالحنينيات وغيرها مما كان لا يباع قديما إلا بسوق الظاهرية.

توفي سنة ست وخمسين وتسعمائة عن مائة وعشرين سنة.

وكان مقربا عند خير بك كافل حلب كشهربان المصري ، فإنه كان له دخل في دلالة البقجة. وكان تحت يده أيضا معمل ثالث في اللبوس والخوذ.

٨٤١ ـ محمد بن يحيى الحاضري المتوفى سنة ٩٥٦

محمد بن يحيى بن أحمد بن محمد بن عز الدين بن محمد بن عز الدين محمد بن خليل

__________________

(١) في الأصل : موضع.

(٢) في الأصل : كان لا يدلل الأقمشة.

٥٣٠

أقضى القضاة حميد الدين الحاضري الأصل الحلبي الحنفي ، صاحبنا وصديقنا المعروف بابن الحاضري حفيد الشهاب أحمد المتقدم ذكره وسبط الكمال محمد النبهاني.

فقيه فاضل طري النغمة في قراءته وتحديثه ، حسن الشكل والملبس والعمامة ، ذو سكون وحشمة زائدة.

صحبناه في أخذ الفقه عن الشهاب الأنطاكي بعد اشتغال له كان فيه بمكة حين مجاورته بها مع أبيه. ثم ارتحل إلى القاهرة فاستنابه بمدينة المنزلة القاضي جمال الدين التاذفي ولد عمي لما كان قاضيا بها ، فأحبه أهلها فاستوطن بها وتزوج من نسائها وولد له بها بنون.

توفي بها في أواخر سنة ست وخمسين وتسعمائة.

٨٤٢ ـ محمود بن محمد بن الموقع المتوفى سنة ٩٥٦

محمود بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن أحمد ، الأصيل محب الدين ، أبو السعود ابن الرضي بن عبد العزيز النجم بن الشهاب الحلبي الشافعي ، عين الأعيان الموقعين بديوان الإنشاء الشريف في الدولة الجركسية والده وجده ، المعروف كأبيه وجده بابن زين الدين الموقع ، صاحبنا المذكور جده الشهاب أحمد ، ذكره السخاوي في تاريخه.

ولد بالقاهرة سنة اثنتين وتسعمائة وحفظ بها كتبا ، وكتب الخط الحسن وعرض بها في سنة خمس عشرة مواضع من «ألفية ابن مالك» و «الشاطبية» و «المنهاج الفقهي» على كل من الشهاب الشيشني الحنبلي والبرهان بن أبي شريف الشافعي والشرف يحيى الدميري المالكي والبرهان الكركي الحنفي في آخرين وأجازوا له. ثم عرض منها ومن «جمع الجوامع» الأصلي على القاضي زكريا الأنصاري سنة تسع عشرة وتسعمائة. وأجاز له حسب ما وجدت ذلك بخطوطهم.

توفي في ذي الحجة سنة ست وخمسين وتسعمائة.

وكان حسن العمامة حسن الملبس من ذوي الحشمة والشهامة. تزوج بحلب بنت القاضي نور الدين محمود بن المعري فمكث بها إلى أن مضى إلى رحمة الله.

٥٣١

٨٤٣ ـ محمد بن عمر السفيري المتوفى سنة ٩٥٦

محمد بن عمر بن أحمد الشيخ شمس الدين بن زين الدين بن ولي الله تعالى الشيخ شهاب الدين السفيري الشافعي المتقدم ذكر جده.

ولد بحلب سنة سبع وسبعين وثمانمائة ، ولازم شيخنا العلاء الموصلي والبدر السيوفي فقرأ عليهما في فنون شتى ، وقرأ على الكمال ابن أبي شريف وهو بالقدس الشريف جانبا جيدا من حاشيته على شرح العقائد النسفية ورسالة العذبة له. قال : وفي الحاشية المذكورة يقول صاحبنا ابن أبي الضياء العجمي :

في موكب العلوم كل العلما

عند الكمال حامل للغاشيه

بحسن ما ألفه استوثقهم

وكلهم يلفى (١) رقيق الحاشيه

وقدم مع البرهان أخي الكمال إلى دمشق فأجاز له ولبعض الشاميين رواية كتب معدودة في استدعاء سطّره بعضهم ، ثم عاد إلى حلب فقرأ عليه رسالته المختصرة من رسالة القشيري ، وأخذ عنه وعن أخيه فوائد وزوائد كثيرة ونظما ونثرا. قال : وكانت لهما والدة متفطنة تميز بين نظميهما إذا عرضا عليها ولا يزال نظرها صائبا ، وقرأ على البازلي تصديقات القطب ، وعلى خليل الله اليزدي رسالته التي ألفها على قوله تعالى (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) وبين فيها نكته إفراد المشرق والمغرب تارة وتثنيتهما تارة وجمعهما تارة أخرى ، وعلى أبي الفضل الدمشقي في شرحه على النزهة في الحساب ، وعلى الشيخ محمد الداديخي في شرح الشاطبية لابن القاصح وفي غيره.

وطالع وحرر ونظم ونثر ، ثم كف عنه البصر. ودرس بالجامع الأموي بحلب وبالعصرونية بحكم عزل البرهان العمادي عن تدريسها لسفر اقتضاه ، وكذا بجامع تغري بردي والسفاحية.

وسافر إلى القاهرة سنة سبع وعشرين وتسعمائة صحبة الأمير جانم الحمزاوي واجتمع فيها بالقاضي زكريا الأنصاري ومن عاصره إذ ذاك وحضر الصلاة عليه لما أنه مات في تلك السنة. وممن اجتمع هو به الشيخ نور الدين البحيري المالكي وحكى عنه حكاية

__________________

(١) في الأصل : ملقى.

٥٣٢

هي أنه اجتمع مرة بالجلال السيوطي في المعدية بين مصر والروضة ، فاعترض عليه في شيء وقع ، قال الشيخ نور الدين : فلم يرد الشيخ جلال الدين عليّ بل سكت ثم ذهب إلى مكانه وكتب أسماء مؤلفاته وأرسل بها إليّ. وصحب الشيخ شمس الدين على صغره الشيخ عبد القادر الدشطوطي حين قدم حلب ، وعند كبره صحب الشيخ شمس الدين الأنطاكي خطيب الجامع الأعظم بحلب فكانا يجتمعان كل يوم جمعة ويحضر عندهما من أتباعهما متحلقين ، إلى أن كان أفول شمسه في مغرب رمسه في أوائل ذي الحجة سنة ست وخمسين وتسعمائة.

٨٤٤ ـ محمد بن محمد بن حلفا المتوفى سنة ٩٥٦

محمد بن محمد بن محمد (بن محمد) (١) بن إبراهيم بن فضل بن عميرة ، الشيخ عفيف الدين أبو اليمن بن حلفا ، المغربي الأصل الحلبي المولد والدار الحنفي.

درس وأفتى لا يرد مستفتيا. وكف بصره في آخر عمره فكان يأمر بالكتابة على صورة الفتوى.

وأمر أن يكتب في نسبه الأنصاري في آخر وقت لما بلغه من أن أباه كان من ذرية حباب بن المنذر بن الجموح الخزرجي الأنصاري ، وهو الذي ذكر ابن دريد في ترجمته في كتاب «الاشتقاق» أنه شهد بدرا. قال : وهو ذو الرأي سمي لمشورته يوم بدر ذا الرأي. انتهى.

وكان من شيوخه بحلب الشمسان ابن بلال وابن هلال في آخرين ، وله شيوخ غيرهما بالإجازة وغيرها ، وممن اجتمع هو به من الصوفية الشيخ محمد الغزاوي ثم الجلجولي رحمه‌الله.

أخبرني أنه لما حل بمنزله رأى فيه طائفة من الفقراء أهل الصلاح وأخرى من المفسدين هربوا إليه من جائحة حصلت عليهم احتماء به ، فحصل عنده الإنكار بواسطة إبقاء هذه الطائفة بمنزله ، قال : فخرج إلينا الشيخ وأخذ يقول : قال الشيخ عبد القادر الكيلاني

__________________

(١) غير موجودة في الأصل.

٥٣٣

وقد قيل : إن في مريديه الجيد والردي ، أما الجيد فهو لنا وأما الردي فنحن له ، فكان ذلك كشفا منه.

وأخبرني أنه إنما قيل لبعض أجداده بنو حلفا لما أنه كان لهم أب ولد في طريق الحجاز بجوار أرض كانت تنبت الحلفا ، ولم يكن له مهد يرضع فيه فكانت أمه تأخذ شيئا من ورق الحلفاء وتضعه تحت ولدها ثم وثم إلى أن فارقت تلك الأرض فكني بأبي حلفا. قال : فنحن بنو أبي حلفا ، إلا أنه اختصر فقيل بنو حلفا بحذف مضاف.

توفي سنة ست وخمسين وتسعمائة.

٨٤٥ ـ إبراهيم بن محمد المشهور بالحلبي صاحب «ملتقى الأبحر»

المتوفى سنة ٩٥٦

إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الحلبي ثم القسطنطيني الحنفي خطيب عمارة السلطان محمد بالقسطنطينية المشهور بالشيخ إبراهيم الحلبي.

هاجر إليها قديما ومكث بها دهرا طويلا يزيد على نصف قرن ، وبها اجتمع والدي به وعرض عليه كتابي الموسوم «بالفوائد السمية في شرح الجزرية» فكتب عليه ما فيه الثناء عليه.

قال : وكان سعدي جلبي مفتي البلاد الرومية وسائر الممالك الإسلامية يعول عليه في مشكلات الفتاوي.

ولما عمر دارا للقرّاء ثمة جعله شيخها ، إلا أنه كان منتقدا لابن عربي كثير الحط عليه ، ومع هذا كان متبحرا في التجويد والقراءات والفقه.

وله تآليف عدة ، منها شرح على منية المصلي وفيه استمداد زائد من شرحها لابن أمير حاج الحلبي ، ومتن جمع ما فيه بين القدوري والمختار والكنز والوقاية مع فوائد أخرى وسماه «ملتقى الأبحر» ولنعم التأليف هو. ا ه.

وترجمه العلامة طاشكبري زاده في «الشقائق النعمانية» في علماء الدولة العثمانية فقال : كان رحمه‌الله تعالى من مدينة حلب ، وقرأ هناك على علماء عصره ، ثم ارتحل إلى مصر

٥٣٤

المحروسة وقرأ على علمائها الحديث والتفسير والأصول والفروع ، ثم أتى إلى بلاد الروم وتوطن بقسطنطينية وصار إماما ببعض الجوامع ، ثم صار إماما وخطيبا بجامع السلطان محمد خان بقسطنطينية ، وصار مدرسا بدار القراء التي بناها المولى الفاضل سعدي جلبي المفتي. ومات رحمه‌الله تعالى على تلك الحال في سنة ست وخمسين وتسعمائة وقد جاوز التسعين من عمره.

كان رحمه‌الله عالما بالعلوم العربية والتفسير والحديث وعلوم القراءات ، وكانت له يد طولى في الفقه والأصول ، وكانت مسائل الفروع نصب عينه. وكان ورعا تقيا نقيا زاهدا متورعا عابدا ناسكا ، وكان يقرىء الطلبة وانتفع به كثيرون ، وكان ملازما لبيته مشتغلا بالعلم ولا يراه أحد إلا في بيته أو في المسجد ، وإذا مشى في الطريق يغض بصره عن الناس ، ولم يسمع منه أحد أنه ذكر واحدا من الناس بسوء ، ولم يتلذذ بشيء عن الدنيا إلا بالعلم والعبادة والتصنيف والكتابة. وله عدة مصنفات من الرسائل والكتب أشهرها كتاب في الفقه سماه «ملتقى الأبحر» وله شرح على منية المصلي سماه «بغية المتحلي في شرح منية المصلي» ما أبقى شيئا من مسائل الصلاة إلا أوردها فيه مع ما فيها من الخلافات على أحسن وجه وألطف تقرير روح الله تعالى روحه ونور ضريحه ا ه.

وترجمه في «الكواكب السائرة» بما ترجمه به الحنبلي وصاحب الشقايق وقال في آخرها : واجتمع به شيخ الإسلام الوالد في رحلته إلى الروم سنة ست وثلاثين واثنى عليه في «المطالع البدرية». وقال : واجتمع فيّ مرات وصار بيننا وبينه أعظم مودة وأوكدها ، وأعارني من كتبه عدة أيام وأعرته تأليف ما ألفت ببلاد الروم كتفسير آية الكرسي وشرحي على البردة ا ه.

أقول : وله «تنبيه الغبي في الرد على ابن عربي» ذكره في الكشف. وكتابه المسمى بملتقى الأبحر وكذا شرحه على منية المصلي كلاهما مطبوعان في الآستانة عدة مرات ، وهما متداولان بين الفقهاء خصوصا في بلاد الروم وللملتقى عدة شروح ذكرها صاحب كشف الظنون ، منها شرح تلميذه الحاج علي الحلبي المتوفى سنة ٩٦٧ ، وشرح المولى مصطفى ابن عمر الحلبي المتوفى بحلب سنة ١٠٩٣ ، وشرح المولى القاضي بالقسطنطينية السيد محمد ابن محمد الحلبي المتوفى سنة ١١٠٤ شرحا مشهورا بالسيد الحلبي ، ومنها شرح الداماد المسمى «بمجمع الأنهر» ، ومن شروحه شرح العلامة الميداني الدمشقي المتوفى أواخر القرن

٥٣٥

الثالث عشر (١) ، وهذان طبعا معا وطبع كل واحد منهما على حدة.

وله من المؤلفات التي لم يذكرها مترجموه «الرهص والوقص لمستحل الرقص» رسالة كتبها ردا على رسالة الشيخ سنبل ، و «مختصر طبقات الحنفية» ، و «تلخيص القاموس المحيط» ، و «تلخيص الفتاوي التاتار خانية» في مجلدين انتخب منها ما هو غريب أو كثير الوقوع وليس في الكتب المتداولة والتزم بتصريح أسامي الكتب. ذكر هذه المؤلفات صاحب كشف الظنون.

وله في المكتبة السليمية رسالة في حلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رقمها ٦٠٣ ومجموعة رسائل رقمها ٦٥١. ويوجد تلخيص التاتار خانية في مكتبة داماد إبراهيم باشا ورقمها ٧٣٠ ، وفي مكتبة بشير آغا ورقمها ١٦٢٠ ، وفي نور عثمانية ورقمها ٢٠٦٧. وله في مكتبة بشير آغا «منتهى الكفاية» ورقمها ٢٦٧ ، وفي مكتبة يحيى أفندي مختصر المواقف يسمى «بجواهر الكلام» ورقمها ١٧٥. وفي مكتبة نور عثمانية «واقعات المفتيين» ورقمها ٢٠٦٨ ، وفي هذه المكتبة يوجد «شرح الملتقى» للحاج علي الحلبي المتقدم الذكر ورقمه ١٦٤١. وفي مكتبة (لاله لي) «شرح الملتقى» لصنع الله بن صنع الله الحلبي ورقمه ١٠٢٧ ، وهذه المكاتب كلها في الآستانة.

٨٤٦ ـ حسام الدين بن الناشف المتوفى سنة ٩٥٧

حسام الدين ابن الحاج عبد القادر البغدادي الأصل الحلبي المشهور بابن الناشف ، أحد أعيان التجار بحلب.

توفي بالأزلم (٢) وهو راجع من مكة عن مجاورة كانت له بها سنة سبع وخمسين بعد أن أوصى أن يشتري وصيه الذي نصبه بألفي دينار سلطاني عقارا يكون بالقاهرة وينفقه على عدة قراء وعلى مجاوري جامع الأزهر بحيث يصرف منه عليهم ما يصرف في ثمن خبز

__________________

(١) نبه المؤلف في الجزء السابع إلى أن قوله : ومن شروح الملتقى شرح العلامة الميداني سهو ، والصواب : ومن شروحه شرح العلامة الحصكفي ، وأما شرح الميداني فهو على متن القدوري. ثم قال : وغريب أن أسهو في مثل هذا لكن جل من لا يسهو.

(٢) واد تصب مياهه في البحر الأحمر جنوبي العقبة.

٥٣٦

وماء ، ثم كان تنفيذ الوصية المذكورة.

ومما أجراه من الخير بحلب تدفيف الأروقة الشمالية بالجامع الكبير وبعض الحجازية ، وعمل رفرف الشمالية المذكورة. وكان من أصدقائنا رحمنا الله وإياه.

٨٤٧ ـ إبراهيم بن محمد بن البيكار المتوفى سنة ٩٥٧

إبراهيم بن محمد بن علي الشيخ برهان الدين المقدسي الأصل الدمشقي الشافعي البصير بقلبه المعروف بابن البيكار نزيل حلب.

ولد كما أخبرني بالقابون سنة ثلاث وثمانين وثمانمائة ، ثم توفي بحلب سنة سبع وخمسين.

وكان فاضلا في القراءات ، أشغل فيها جماعة بالجامع الأموي بحلب ، وأخبرني أنه أخذها عن جماعة منهم الشهاب أحمد ابن الطيبي الدمشقي.

ثم وقفت على أنه قرأ القرآن العظيم بما تضمنه الحرز وأصله على شيوخ من الدمشقيين أعلاهم سندا : الشيخ الرّحلة صالح اليمني والشهاب أحمد الرملي إمام الأموي والشمس محمد البصير بقلبه. قال :

وأخبرني الأول أنه قرأ على نحو سبعين من الشيوخ في اليمن وغيرها عدة ختمات إفرادا وجمعا بما تضمنه الحرز وأصله أعلاهم سندا : السراج عمر بن قاسم الأنصاري النشار والشهاب أحمد بن محمد بن أبي بكر عبد الملك القسطلاني المقرئان الشافعيان بسندهما.

وأخبرني الثاني أنه قرأ بما تضمنه الحرز وأصله على السراج المذكور والشمس محمد ابن أبي بكر بن ناصر الدين الحمصاني ، وعلى القاضي شهاب الدين أحمد بن الشيخ أسد الدين الأسيوطي والزين عبد الغني الهيثمي المقريين الشافعيين.

وأخبرني الثالث أنه قرأ على شيوخ أكثرهم قرؤوا على الإمام أبي الخير بن الجزري بلا واسطة.

قال : وارتحلت إلى مصر في سنة ثلاث وعشرين فقرأت على الشمس محمد السمديسي والشيخ أبي النجا بن محمد النحاس والبصير بقلبه نور الدين أبي الفتح جعفر السمهودي وأجازوا لي ما يجوز لهم وعنهم روايته.

٥٣٧

ومما حكى لي عن الشيخ برهان الدين أنه كثيرا ما كان يمرض فيرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام فيشفى من مرضه. وكان يجتهد في ألا ينام إلى على طهارة.

وكثيرا ما كان يأتي الحجازية بالجامع الأعظم بحلب حيث أدرس بها فأقوم إجلالا ، فيأخذ في المنع من القيام وهو لا يرى قيامي وإنما كشف له عنه عن نوع ولاية.

٨٤٨ ـ الشيخ محمد بن بلال المتوفى سنة ٩٥٧

محمد بن الشيخ الصالح الفاضل محمد بن محمد بن بلال الشمسي أبو عبد الله العيني الأصل الحلبي الحنفي.

ولد بحلب كما ذكر لي سنة خمس أو ست (١) وثمانمائة (٢) ، واشتغل على الأساتذة المحققين والأفاضل المدققين فقرأ على العلاء قل درويش أربع سنوات في علوم شتى ، وعلى مظفر الدين علي الشيرازي وعلى البرهان القرصلي ، وكان يلازمه من الظهر إلى المغرب ويصرف نفسه إلى المطالعة من أول النهار إلى الظهر ، وعلى شخص من أكابر تلامذة الجلال الدواني هو العلامة منلادراز وعلى البدر السيوفي في آخرين.

ولم يزل الشيخ شمس الدين يدرس بالجامع الأموي بحلب ويؤلف به وبمنزله مع الإفتاء بها إلى أن أسن فانقطع بمنزله وأكب على تأليفات شتى في علوم متنوعة حتى التصوف ، إلا أنه كان لا يسمح بها ولم تظهر من بعده.

واستنابني في تدريسه بالجامع المذكور أكثر من عشر سنين بعد أن فرغ عن تدريس الحلاوية والشاذبختية ، وقنع بمعلوم هذا التدريس وماله من مال المملحة بعد أن أصيب في ولد له كان رجلا كاملا وصبر على مصيبته. وقصد منه بعض المتمولين من أهل حلب في مرض ولده وحثه أن يفرغ له عن هذا التدريس بمال جزيل أراد بذله ، فلم يسمح له بل قال : هو لمثل ابن الحنبلي ، ثم كان لنا من بعد وفاته.

وكان كثير الصيام والقيام لا يمسك بيده درهما ولا دينارا ، وإنما يفوض أمر إنفاقه

__________________

(١) هكذا في نسختي ونسخة المدرسة الحلوية وقد سقط كلمة ثمانين أو تسعين ..

(٢) في در الحبب : وسبعين وثمانمائة.

٥٣٨

إلى من هم في خدمته ، مهيبا وقورا نير الشيبة ملازما للطيلسان ، كما كان شأن الإمام الهمام كمال الدين بن الهمام الحنفي ، كثير التواضع ، سخا ببيته لرجلين من أهل العلم ولم يكلفهما إذ سكنا بمنزله الدرهم الفرد ، وفرق كتبه قبل أن يموت بسنين على أهل العلم ، ففرقها على جمع منهم شيئا فشيئا إلا نادرا منها. ولم تزل الأكابر تهرع إلى منزله وهو المنزل الذي أسكنه به تلميذه الأمير الفاضل يحيى الحمزاوي منذ هاجر من حلب إلى مكة عند انقضاء الدولة الجركسية فوق ما كان يحسن إليه من العطايا المالية ، وكذا أخوه الأمير جانم حتى أسكنه بمنزله القديم الذي جدده.

وكان للشيخ شمس الدين قوة ذكاء ومزيد حفظ ورسوخ قدم في العقليات والعربية ، غير أنه لم يكن له حظ من حسن الخط بل كان يكتب خطا غريبا على طريقة لا يقدر أحد أن يقرأها إلا الأفراد من الناس الذين ألفوها فعرفوها. وكذا صارت مؤلفاته ومسوداته شذر مذر في أيدي المجلدين من بعد موته.

وكان يلتزم في الجمع والأعياد آخر الصف الأول من طرف الغرب بمقصورة الجامع الأموي بحلب التي كان يصلي بها من كان كافل حلب في الدولة الجركسية ، وبقيت على هذا الدولة الرومية.

وأصابه مرة فالج قوي فعوفي منه ، ثم مات بحلب بعد أن كان حج وجاور ودخل القاهرة. وكانت وفاته بها سنة سبع وخمسين وتسعمائة ، ودفن بمقابر الحجاج بعد أن أوصى أن يغسله شافعي ويصلي عليه شافعي ، وقيل وأن يصلي عليه الشافعية وهو في قبره ، وكذا أوصى أن يلقن في قبره وفاقا لهم ولبعض علمائنا الحنفية على ما صححناه وأوضحناه في رسالتنا المسماة «بذخيرة الممات في القول بتلقين من مات» ، وكانت قد عرضت عليه رحمه‌الله تعالى.

* * *

٥٣٩
٥٤٠