إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

ولو لا كثرة الباكين حولي

على قتلاهم (١) لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن

أعزّى النفس منهم (٢) بالتأسي

ولقد كثر منا التأسف عليه والبكاء ، وأذكرنا هذا الشعر قولنا :

على صفحتي خديّ أجريت مقلتي

بحيث ترى الأنهار من تحتها تجري

وخدي لسقم عاد صخرا وجندلا

فمقلتي الخنساء تبكي على صخر

وكان مقداما في الكلام لدى الملوك والحكام ، لا يتلعثم لسانه ولا يكبو جنانه ، ذا حشمة وشهامة وحسن ملبس ولطافة عمامة ، وكان من سرية والده الحبشية المسماة بطاب الزمان التي شغفته حبا وحظيت عنده حظوة زائدة ، وكذا عند خوند جهة السلطان الغوري حتى مكنها والده من أن تجلس فوق الست حلب المتقدم ذكرها في مجلس خوند ، فجلست وصار ما صار مما مر ذكره عند ترجمة الست حلب.

٨١٨ ـ خليل بن سلطان الأصفهاني المتوفى سنة ٩٥١

خليل بن سلطان أحمد بن محمود الأصفهاني الحنفي الملقب بحسام الدين.

فاضل كاتب مجلّد مذهّب حسن الخلق متواضع. لازم شيخنا السيد قطب الدين الإيجي في تحصيل العلم بحلب وغيرها ، إلا أنه امتحن في حلب بعشق إنسان حسن مع الديانة والصيانة ، فلم يتمكن من إخفائه ، وشطح بعض أيام ، وكان مما أنشدنيه فيه من شعره :

أشهّر نفسي في صبابة غيركم

لتخييل أن لا يعلموا بحديثنا

وكان من أجداده لأمه من هو من ذرية الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه حسب ما ذكر لي.

توفي بحلب مطعونا وهو في تشهد صلاة العصر في صفر سنة إحدى وخمسين مع تكلف منه للقيام فيها وهو في خلال السكرات ، وغسل ودفن بتربة الشيخ عمر بن المرعشي ، ولقنه شيخنا وهو في قبره بعد أن أم في الصلاة عليه ، ثم أخذ في ذكر الله تعالى عند قبره

__________________

(١) في الديوان : إخوانهم ، عنه.

(٢) في الديوان : إخوانهم ، عنه.

٥٠١

والناس معه ذاكرون في ساعة كانت مشهودة. ولله در علي رضي‌الله‌عنه حيث قال :

وإن فراقي فاطما بعد أحمد

دليل على أن لا يدوم خليل

٨١٩ ـ أحمد بن الداية الدهان المتوفى سنة ٩٥١

أحمد بن الداية العاني الأصل الحلبي الدهان المشهور بأمه. شيخ معمر بارع في النقوش وكتابة الطرازات بالخط الحسن على طريقة القاطع والمقطوع ، كالخط الذي كتبه في حائط حوض خاير بك كافل حلب وحائط التربة التي أنشأها تجاه تربة جدي الجمالي الحنبلي خارج باب المقام وغيرهما ، حافظ لبعض أشعار الناس وأخبارهم ونوادرهم.

توفي وذلك من جميل الاتفاق ليلة الجمعة السابع والعشرين من رمضان سنة إحدى وخمسين ا ه.

أقول : والكتابة التي على باب قنسرين وكذا الكتابة التي على برج القلعة القبلي هي بخطه على ما ظهر لي ، لأنها تشبه الكتابة التي على حائط تربة خاير بك خارج باب المقام.

٨٢٠ ـ أحمد بن محمد العلبي المتوفى سنة ٩٥١

أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر الحلبي الشافعي المشهور بابن العلبي ، أحد أعيان التجار بحلب وسبط الشيخ زين الدين أبي بكر البويضاتي الشافعي.

ولد سنة ست وثمانين وثمانمائة ، وتوفي بحلب سنة إحدى وخمسين. وكان له سخاء ورياسة واعتقاد في أهل الصلاح والجذب ، وتصدق على المحابيس وغيرهم بالأطعمة وغيرها ، ومزيد تردد لزيارة ضريح الشيخ شهاب الدين أحمد بن هلال الحسباني الشافعي الصوفي خارج باب الفرج. والشيخ شهاب الدين هذا هو الذي أفتى بإراقة دم النسيمي وعدم قبول توبته فضربت عنقه بحلب ، ثم كانت وفاته بحلب سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة ، وزار الناس مدة قبره كما ذكره الشيخ أبو ذر في تاريخه.

وكان أيضا ينظر في مصالح جامع محلته باحسيتا سرا وعلنا ، وربما كان يخطب به.

وكان قبل وفاته بسنين عديدة قد انجمع عن الناس إلا في التهاني والتعازي ، وكانت

٥٠٢

المجالس تتجمل به إذا تجمل غيره بها ، رحمه‌الله تعالى وإيانا. وكان فيما بلغني من ذرية أبي المحاسن يوسف بن محمد بن مقلد التنوخي الجماهري الشافعي.

وكان كما قال الشمس الصفدي العثماني الشافعي في طبقاته : فقيها صوفيا محدثا ، تفقه على أبي منصور الرزاز لما انقطع إلى الشيخ أبي النجيب السهروردي. ومات في دمشق سنة خمسين وخمسمائة.

٨٢١ ـ الشيخ أويس القرماني المتوفى سنة ٩٥١

أويس القرماني الأبري ، الشيخ الكبير المعمر الصوفي الخلوتي صاحب الخلفاء والأتباع ، المستغنى بذكر حسبه عن ذكر نسبه.

كان في مبدأ أمره فلاحا بأبر ، بفتح الهمزة والموحدة وإهمال الراء : قرية من قرى بلاد قرمان ، لا يقرأ ولا يكتب ، فحصلت له جذبة ، فوفد على الشيخ محمد بن محمد ابن جمال الدين الأقصرائي الصوفي عم والد فضيل جلبي قاضي حلب ، فتعلم عنده القرآن وتعبد وجاهد نفسه ودخل الخلوة حتى قيل إنه فاق بسبب الرياضة على خليفته محيي الدين البكري بفتح الموحدة والكاف.

وكان من كبار علماء الظاهر. وتلقن من شيخه الذكر كما تلقنه هو من بير الأرزنجاني ، وتلقنه الأرزنجاني من السيد يحيى بسنده المشهور وصار من جملة خلفائه ، إلى أن كثر أتباعه وشاع ذكره ، فرحل إلى بلد القصير واستوطن بقرية جدالية.

ثم قدم حلب ورفع إلى قلعتها بالأمر السلطاني السليماني هو وخليفته الشيخ شمس الدين أحمد بن محمد الجورمي لما نسب إليهما بعض أتباعهما من دعوى أن شخصا يسمى بحامد الهندي ويكون مقدمة المهدي يخرج من بين أظهر الطائفة الأويسية ، ودعوى أن الشيخ عبد القادر الكيلاني لم يكن وليا بل رجلا صالحا ، حتى أخذتنا الحمية فوضعنا كتابنا المشهور «بالمشرب النيلي في ولاية الجيلي» أو غير ذلك من الدعاوي الباطلة ، ثم بقي خليفته ملا داود في شرذمة من المريدين بالطرنطائية داخل باب الملك إلى أن أطلق الشيخ وخليفته من القلعة الحلبية ، وكنت ممن زارهما بها كشيخنا الشهاب أحمد الأنطاكي وغيره وهما يومئذ بجامعها.

٥٠٣

ثم استوطن الشيخ شمس الدين بعلبك وتوفي بها ، وكان له مزيد تعبد وقيام وتحصيل قديم وصل فيه إلى شرح «الطوالع» للأصفهاني.

ثم استوطن الشيخ الكبير دمشق وتوفي بها عن سن عالية تكاد تبلغ مائة سنة أو قد بلغت في سنة إحدى وخمسين رحمنا الله وإياه.

٨٢٢ ـ أبو بكر الهاشمي محتسب حلب المتوفى سنة ٩٥١

أبو بكر بن عبد الله ابن شيخ شيوخ حلب ورئيسها عز الدين أبي عبد الله محمد الهاشمي الحلبي ، محتسب حلب في أوائل الدولة العثمانية السليمية.

توفي في جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين. وكانت له حشمة زائدة إذا تلقى أحدا من الأكابر بوجهه أو تكلم ، مع أبهة ونظافة ثياب ورفاهية عيش واقتناء لشيء من الخيل برسم الركوب ، إلا أنه كان ذا عين واحدة لسهم بارود أصاب الأخرى ، فكان يضع عليها دائما عصابة بيضاء مصقولة من لطيف الموصلي.

ونسب إلى جذب بعض أرباب الدعاوي إليه ليعوّلوا في سلوك التلبيس عليه. وبلغ ذلك بعض قضاة حلب الروميين فأرسل من نادى عليه وحذر من الاجتماع به وفضحه فضيحة تامة لينزجر هو ومن يعمل بعمله. عفا الله عنا وعنه.

٨٢٣ ـ عبد الرزاق بن سحلول المتوفى سنة ٩٥٢

عبد الرزاق بن الشهاب أحمد بن الزين فرج بن عبد الرزاق بن الناصري محمد بن عبد الرحمن بن يوسف بن سحلول الحريري الحلبي المشهور بابن سحلول.

أصيل من بيت قديم بحلب. ولي نظر السحلولية خارج باب الفرج كأبيه وجده. وكان أبوه الشيخ شهاب الدين أحمد ، ويعرف بالأمير أحمد أيضا ، خليفة البيت القادري بحلب كأبيه ، وكانت مشيخة المشايخ بحلب وضواحيها بيد جده المقر العالي الشيخي المسلكي المحققي الناصري ناصر الدين محمد المذكور بمقتضى درج وقفت عليه مشتمل على معارف تصوفية ولطائف عبارات هي بالبراعات وفيّة ، متضمن لبروز أمر أمير المؤمنين أبي الفضل

٥٠٤

العباس في دولة الملك الناصر فرج بن الملك الظاهر برقوق عام إحدى عشرة وثمانمائة بأن يستقر فيها.

فقد الأصيل عبد الرزاق المذكور في طريق الروم سنة اثنتين وخمسين فلم تدر حياته من موته.

وكان من اللائذين بعمي الكمال الشافعي. وكان سميه وجده عبد الرزاق المذكور من أجناد حلب وممن حدث بها وممن أجاز للشيخ أبي ذر بن الحافظ برهان الدين الحلبي حسب ما وجدته في ثبت له في ذكر من أجازوا له بخط العلامة المحدث محمد المدعو عمر ابن محمد بن فهد الهاشمي المكي قال : وكان والده من رؤساء حلب ، ولي مشيخة الشيوخ بها ومشيخة خانقاه أبيه بحلب. انتهى.

٨٢٤ ـ شاه محمد الدكني المتوفى سنة ٩٥٢

محمد بن مسعود بن محمد ، الشاب الفاضل صدر الدين بن ركن الدين بن صدر الدين ، الشيرازي الأصل الدكني المولد والمنشأ ، الشافعي ، تلميذنا في العربية والمنطق ، المشهور هو بشاه محمد ووالده بلطيف خان.

كان والده من نسل بعض الوزراء ، ثم باشر الوزارة بدكن من بلاد الهند بخدمة سلطانها عادل خان ، ثم دخل مكة بمال عريض تاركا للوزارة آخذا في صنعة التجارة ، إلى أن قدم حلب فأقام بها يرفل في ثياب السعادة هو وولده هذا مع باقي أولاده وحشمه وخدمه بحيث لا يكاد يفارق ولده هذا الساعة الواحدة لمزيد شغفه به وإعجابه لحسن هيكله ولطافة خلقه وخلقه وكمال إدراكه وفهمه وحسن حظه وامتيازه بعلمه ، إذ دخل الطاعون حلب ففر بمن معه إلى بعض بساتينها ، وكان يخاف الموت خوفا شديدا ، فقدر الله السلامة. ثم جاء طاعون سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة فطعن هو وولده هذا بحلب ، ففر به بعد الطعن حيث لم ينفعه الرحيل والظعن إلى مشهد سيدي محسن رضي الله تعالى عنه ، فقضى فيه وهو يقرأ يسن وعمره دون اثنتين وعشرين سنة.

وكان ميلاده كما أخبرني به بدكن بالقرب من مزار الشيخ المشهور بالأمبوردي. وكان قد أوصى أن يدفن بقبور الصالحين فخالفوه ودفنوه داخل مشهد الحسين رضي‌الله‌عنه ،

٥٠٥

فخرج من مشهد ودخل في مشهد. ثم قضى والده فدفن بجنبه بوصية منه لأنه ما قطع البكاء عليه لاعتقاده أنه سيصل إليه.

وكان شاه محمد مفرط الذكاء متمسكا بالعلم وتحصيله مهتما بشأن أديانه ذاما للمناصب معرضا عن كلام أبيه إذ كان يعده بالعود إلى الهند والسعي له في الوزارة بها ، متواضعا ذا بشاشة وكرم نفس وتحنن ، وإن أشيع عن أبيه التشيع مع أنه لم يكن إلا من بيت سنة وجماعة فيما أخبر به غير واحد من الأعاجم.

ومع ماله من هذه الصفات كان يعرف شيئا قواعد الموسيقى ويحضر مع أبيه في سماعات اللهو ولكن مع كراهة لها. وكان على صغر سنه يعرف من اللغة الهندية ثلاثة ألسنة سوى ما يعرفه من العربية والفارسية.

٨٢٥ ـ سعد بن علي العبادي المتوفى سنة ٩٥٣

سعد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الواحد أقضى القضاة سعد الدين ابن القاضي علاء الدين الأنصاري السعدي العبادي الحلبي الحنفي ، صاحبنا.

لازم شيخنا العلاء الموصلي في قراءة قطر الندى والوافية وعروض الأندلسي وغير ذلك ، واشتغل على الجلال النصيبي وغيره ، وعني بالأدب وتولع بمطالعة مقامات الحريري فحفظ غالبها ، وخط الخط الحسن وتجشم أسلوب اللسن ، وأخذ في صنعة الشهادة وكتب الوثايق بشروطها المعتادة ، وناب في القضاء بأنطاكية فما دونها فلم يشك منه أحد لتحرزه عن موجبات سخط الحق والخلق في قضائه وحكمه وإمضائه ومزيد وهمه وخياله في أطواره وأحواله.

وتزوج ثم ترك التزوج دهرا مع الديانة والصيانة.

ومن شعره قوله يشكو من أهل زمانه :

نظري إلى الأعيان قد أعياني

وتطلبي الأدوان قد أدواني

من كل إنسان إذا عاينته

لم تلق إلا صورة الإنسان

وتاقت نفسه يوما إلى سماع شيء من نظمي فأنشدته حالا لا مآلا :

٥٠٦

قل لمن غادر القريض احتقارا

طالع السعد في ذرى الأشعار

ولكم طالع سعيد رآه

فارس الشعر سعدنا الأنصاري

وكان يكثر من أن يقول : الأولى بذوي الألباب سد هذا الباب ، حيث سمع ممن حضر مقالة لا يرضى بها عن غيبة أو نحوها. غير أنه صدرت منه مرة من المرات هفوة شعرية ولم يشعر أنه سيطلع عليها ، وذلك أنه كتب لقاضي حلب سنان الدين يوسف الروميّ الأماسيّ قصيدة يمدحه بها ، فإذا هي قصيدة شيخنا العلاء الموصلي التي مدح بها آخر قضاتها في الدولة الجركسية الجمال يوسف الحنفي وقال في مطلعها :

الورد من وجنات خدك يقطف

والشهد من جنبات ثغرك يرشف

غير أنه ذيلها بأبيات من نظمه خفيفة منها قوله :

تالله ما مدحي لأجل جوائز

تعطى عوض ما قلت يا متشرف

فسكّن ضاد عوض ولو لضرورة الشعر ، وقال يا متشرف فأشرف بيته على الانهدام ، لأنه يقال للأسلمي المتشرف بدين الإسلام ، فيلزمه كما ناقشه القاضي معروف الصهيوني الدمشقي وهو يومئذ بحلب أن يكون الممدوح أسلميا. ويعضد مناقشته ما سمعناه ممن به وثقنا أنه كان بحلب وقف يعرف بوقف الأسارى والمتشرفين بدين الإسلام يعطى منه نصيبه من أسلم أو أسر فأطلق فقدم حلب (١).

توفي القاضي سعد الدين مخنوقا بدمشق لمال كثير كان متهما بجمعه والحرص عليه في صفر سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة.

٨٢٦ ـ حسن الينابيعي المتوفى سنة ٩٥٣

حسن بدر الدين الشيخ السرميني الشافعي المشهور بابن الينابيعي.

توفي سنة ثلاث وخمسين. وكان عالما فاضلا ، تلمذ للبدر السيوفي وغيره ، وأدرك الشيخ جاكير صاحب الزاوية المشهورة بسرمين وأخذ عنه القراءات ، وكان من العارفين بها ، وله الآن بها مصحف بخطه يعتمد عليه فيها.

__________________

(١) في الأصل : فعدم بحلب ، وهو تصحيف.

٥٠٧

وكان الشيخ بدر الدين قد قارب الماية أو بلغها مع ما عنده من قوة الجماع والمشي. ولم يكن خاليا من خفة لما يقال من أن أهل قرية الينابيع بالقرب من سرمين ذوو اختصاص بها ، ومع هذا كان عنده نوع ولاية.

٨٢٧ ـ غادر القنواتي المتوفى سنة ٩٥٣

غادر القنواتي بحلب.

كان مسلطا من الله تعالى على الرافضة قدحا فيهم ولعنا لهم وسخرية بهم ، إجمالا تارة وتفصيلا أخرى بصوت عنيف مزعج جهوري لا يتوقف فيه ولا يتعلثم ويبرزه إبرازا لا يتكتم. يقف تارة بالجامع من الأسواق والجوامع ، حيث الجامع للناس جامع ، ويصفق صفقات مهولة وينادي بعبارات خلت لمرارتها عن حلاوة السهولة ، ويقف تارة أخرى تجاه واحد منهم ويصدعه بما عنده من القول ويخرج من توريثه إياه الصد والصدع من باب الرد إلى باب القول ، فيزاحمه في ماله ويبلغ منه بالغ آماله ويفعل بآخر هكذا ثم وثم أعطاه شيئا أو لم يعطه. وصار بحيث لا يمنعه قاض ولا وال ، ولا يهاب منهم أحدا. ويرى أن لو كان من الشهداء في آخر الأمر (١) يحمل معه نجفا أو نحوه خشية أن يكون مغدورا به وهو غادر. وكثيرا ما كان يعد منهم أولاد كمونة (٢) ببغداد وعبد العال الذي كان له الشأن عند شاه إسماعيل الصوفي صاحب تبريز. وزاد في غوايته في آخرين بعدهم ويبين من هم ولا يبالي منهم ، إلى أن سار في ركاب القاضي عبد الباقي قاضي حلب حين سافر إلى دمشق للتفتيش على صجلي أمير قاضيها بعد قضاء حلب ستة ثلاث وخمسين وتسعمائة ، فأخذ يجعل له بدمشق محافل في الرافضة كمحافله بحلب ، فضربه واحد منهم بنشاب وهو بظاهرها فقتله ، فطلب ولده عند ذلك دمه ، فظهر القاتل فشهد عليه أنه قتله فقتل.

وكان خبر الغادر قد شاع وذاع حتى وصل إلى ديار الشيعة وكادوا يرونه في مناماتهم.

٨٢٨ ـ يحيى بن موسى النحلاوي الريحاوي المتوفى سنة ٩٥٣

يحيى بن موسى بن أحمد الشيخ شرف الدين النحلاوي محتدا الحلبي مولدا الأردبيلي

__________________

(١) العبارة في در الحبب : ويرى أنه من الشهداء فكان في آخر الأمر ...

(٢) في الأصل : (كونه) ، وأولاد كمونة أسرة يهودية كانت في بغداد.

٥٠٨

خرقة الشافعي المشهور بابن الشيخ موسى الأريحاوي.

عني بمخالطة الصوفية كسيدي علوان الحموي والعلاء الكيزواني والشيخ محمد الخراساني النجمي وغيرهم ، ونال حظوة عند الأمير جانم الحمزاوي وطائفة من كبراء أهل الدنيا. وتردد إلى منزله شرذمة من قضاة حلب ونوابها في الدولة العثمانية ، وصار له مريدون يترددون إلى الذكر إلى زاويته المجاورة لدار سكنه داخل باب قنسرين ، وقد كانت زاوية لأبيه فزاد في عمارتها ونقل إليها أحجارا كثيرة من المدرسة الداثرة المعروفة بالزجاجية.

وانقطع عن زيارة الأمراء نهارا ، وصار إذا زارهم يزورهم ليلا إلا نادرا. وخلف خلفاء في بعض القرى. وطالع شيئا من الفقه وكتب القوم ، وداوم مع مريديه على الورد وجعل من جملته الأبيات السهيلية التي مطلعها :

يا من يرى ما في الضمير ويسمع

أنت المعدّ لكل ما يتوقّع

وتوجه إلى الباب الشريف السليماني ذات مرة ، ذاكرا أنه بصدد رفع بعض المظالم ، فلما وصل رفع إليه بعض أركان الدولة شيئا من المال فرده وشيئا من الأكل فقبله ، ثم عاد ذاكرا أنه أخرج حكما شريفا بإصلاح نهر حلب من بيت المال ، وكان الناس محتاجين إلى إصلاحه ، ثم لم يظهر لمقدماته نتيجة.

وكانت وفاته سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة ، وحضر جنازته للصلاة عبد الباقي العربي قاضي حلب وإسكندر بك دفتر دارها ، وحظي بحضور الأكابر في مماته كما حظي بهم في حياته ، والله يحسن له الأخرى كما أحسن له الأولى.

وكان شيخنا الزين الشماع يكثر من مزاره وينصح له ويبين له عن طريق الكمّل.

٨٢٩ ـ محمد بن الحسن الأنصاري المتوفى سنة ٩٥٣

محمد بن الحسن بن محمد بن عبد الواحد الشيخ شمس الدين الأنصاري السعدي العبادي الحلبي الحنفي ، أحد عدول حلب في كلتا الدولتين الجركسية والعثمانية.

كان فقيها شروطيا حلو الخط نظيف العرض ، له استحضار لتواريخ الناس وميل إلى مطالعة التواريخ القديمة وحظوة عند قضاة حلب وقبول في قلوب أهلها بحيث انتفع به الناس

٥٠٩

في وثائقهم بالنسبة إلى جهلة الموقعين ومن لا يعرف اللسان العربي ولا أساليب أهل الشروط ، ومع ذلك كان يتعاطى شهادة الجريدة بسوق حلب إلى أن اعتراه داء الأسد (١) ، والعياذ بالله تعالى ، فاستولى عليه. واستمر يتحامل نفسه ويخالط الناس والناس يهرعون إليه مع ما عرض عليه لاحتياجهم إلى دربته الحسنة إلى أن لم يبق مجال. ثم استولى عليه الإسهال ولاح له أنه على شرف الزوال ، فأوصى وأخبر أنه ليس له من المال سوى دينار أعطاه إياه الشيخ محمد الخاتوني فهو يتبرك به.

ثم كانت وفاته ليلة الاثنين المسفرة عن التاسع والعشرين من ربيع الثاني سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة.

٨٣٠ ـ أحمد بن محمد المشهور بابن حمارة المتوفى سنة ٩٥٣

أحمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد الشيخ شهاب الدين ابن الشيخ شمس الدين ابن القاضي برهان الدين الأنطاكي ثم الحلبي الحنفي شيخنا المعروف بابن حمارة. ولم يشنه ذلك ، فقد كان من شيوخ الحافظ ابن حجر بالإجازة شهاب الدين أحمد بن الثور ، بالمثلثة ، الحنفي أحد رجال «طبقات الحنفية» لابن السابق ، وكان من النحاة أبو محمد عبد المنعم ابن الفرس القائل بأن كلمة «ثم» لا ترتيب فيها.

ولد بأنطاكية سنة إحدى وسبعين وثمانمائة ونشأ بها ، فحفظ القرآن وتخرج في صنعة التوقيع بجده القاضي برهان الدين موقع الفرس خليل بن اللنكي الأنطاكي.

وأخذ النحو والصرف عن الشيخ العالم الصوفي علاء الدين علي العداس الأنطاكي. وأخذ المنطق والكلام والأصول عن الشيخ المعمر الصالح الفاضل ملا محيي الدين محمد ابن صالح بن الجام المشهور بابن عرب الأنطاكي الحنفي تلميذ قاضي زاده الرومي ، واشتغل عليه بأنطاكية وبحلب بعد قدومه من بلاد الروم وتحصيله بها نحوا من أربعين سنة. وقرأ على الشيخ رمضان الأنطاكي.

ثم قدم إلى حلب ولازم فيها البدر السيوفي واشتغل في القراءات على الشيخ محمد

__________________

(١) هي الحمّى لأنها كثيرا ما تغزو الأسد حتى إنه قلما يخلو منها ساعة.

٥١٠

الداديخي ، وتعاطى صنعة الشهادة بمكتب العدول بجوار جامع الصروي بحلب. ولما عمر توسعته الحاج علي بن سعيد جعله فيها مدرسا وأعانه على حجة الإسلام ، فحج واستجاز بمكة المحدث عبد العزيز ابن الشيخ المحدث نجم الدين بن فهد المكي ، وبالقاهرة أبا يحيى زكريا الأنصاري والشهاب أحمد القسطلاني فأجازوا له.

ولم يزل مكبا على التدريس والإمامة والتحديث والتكلم في تحديثه على الحديث باللسانين العربي والتركي بالجامع المذكور وتوسعته إلى أن انضاف إليه في الدولة العثمانية تدريس السلطانية ، فأعرض عنه لاطلاعه على ما كتب على بابها من اشتراط كون مدرسها شافعيا والفقهاء حنفية ، فأضيف إليه بعد ذلك خطابة الجامع المذكور ، ثم بدلت بخطابة الجامع الكبير الأموي بإبرام قاضي القضاة محيي الدين بن قطب الدين الحنفي قاضي حلب عليه في ترك الأولى وتعاطي الثانية ، ثم ضم إليه مع الخطابة المذكورة تدريس الحلاوية والإفتاء بحلب بحكم سلطاني يتضمن أن لا يكون مفتيا غيره أخرجه له لما ولي قضاء العسكر بأناطولي لما تحققه من ديانته في الفتوى قبل ذلك.

ثم لما كان سنة تسع وأربعين توجه للحج فتحرك عليه نقرس كان يتحرك عليه وهو بدمشق ، واستمر إلى أن دخل المدينة الشريفة فخف وجعه ، ثم لم يعد إلى حلب إلا وهو معافى منه.

وله من التآليف «مناسك» حمله على تأليفه الشيخ الفاضل المسلك العارف بالله تعالى علاء الدين علي بن الأطلسي الحمصي حين مر عليه بحمص متوجها إلى زيارة بيت المقدس في حدود سنة أربع. وأخبرني أنه لما مر عليه أنزله في منزله وصومه رمضان عنده وسأله في كتابته ، فامتنع ، وأحضر له «الهداية» وشروحا سبعة عليها ، فلم يسعه إلا أنه كتب ذلك وجعل مبناه على عبارة الهداية ، وأضاف إليها فوائد وأشياء لها حصل تحريرها.

هذا وكان له مع هذا الخط الحسن والتحشية اللطيفة المحررة على هوامش الكتب والنسخ الكثير من أنواع العلوم لا سيما علم الفقه والانقطاع الطويل في داره إلا في وقت مباشرة ما بيده من الوظائف والصلاح الزائد وعدم الخبرة بأساليب أهل الدنيا. ومما اتفق له وهو يخطب بالجامع الأموي وقد ذكر الصحابة رضي‌الله‌عنهم أجمعين أنه طلع إليه شخص شيعي متحريا قتله ، فتمكن أهل السنة منه وحملوه إلى كافل حلب خسرو باشا ، فأمر بقتله ،

٥١١

فقتله الناس بإلقائه في النار حيا ، وكان يوما مشهودا سر به أهل السنة.

ثم ذكر العلامة الحنبلي قصيدة فيه من بحر السلسلة وهي طويلة ، وبعد أن أتى عليها قال : توفي في وقت طلوع الفجر من يوم عرفة سنة ثلاث وخمسين. وقد أخبرني الثقة عنه بعد عودي من الحج سنة أربع وخمسين أنه علم قبيل موته بأنه سيموت ، فأخذ في تلاوة القرآن على أحسن ما يتلى من رعاية التجويد ، وأخذ يكرر قوله تعالى (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) مرة بعد أخرى إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى.

٨٣١ ـ محمد بن محمد بن حلفا المتوفى سنة ٩٥٤

محمد بن أبي اليمن محمد رضي الدين المعري الأصل الحلبي المولد والدار الحنفي المشهور بابن حلفا ، تلميذنا.

فضل في العربية والفقه وشارك في أصوله ، وكتب على أبيه بإملائه على الفتوى لما كف بصره ، وكانت له الطريق الياقوتية في الخط. وخطب بجامع القلعة ثم بجامع حلب استقلالا بعد شيخنا الشهاب الأنطاكي ، إلى أن توفي شابا بعد مدة قليلة سنة أربع وخمسين ودفن بجوار قبر الحسين النوري الكائن بمقابر الصالحين.

وكان متواضعا متوددا للناس كثير الرعاية لنا رحمه‌الله تعالى.

٨٣٢ ـ عبد الوهاب بن منصور السمان المتوفى سنة ٩٥٤

عبد الوهاب بن منصور المعروف بابن السمان ، أحد التجار المعتبرين بمحلة قلعة الشريف بحلب.

حج ، وعمر مصبنة بحلب ، وعني بصحبة الجمال ابن حسن ليّه فقرأ عليه منهاج الفقه. وعني باقتناء الكتب فبذل فيها مالا جزيلا وصار الجمال ينتفع بها كثيرا ، فلما توفي سنة أربع وخمسين بيعت بربح زائد وكانت زائدة على ألف كتاب.

٥١٢

٨٣٣ ـ إبراهيم بن عبد الرحمن العمادي المتوفى سنة ٩٥٤

إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد شيخ الإسلام برهان الدين ابن الشيخ العالم العامل العلامة زين الدين العمادي الأصل الحلبي الشافعي الشهير بابن العمادي.

ولد بحلب فيما ذكره الزين الشماع في كتابه «تشنيف الأسماع» بعد الثمانين والثمانمائة ، قال : ونشأ بها وأخذ في العلوم عن جماعة من أهلها وعن بعض من ورد إليها ، وجد واجتهد حتى فضل في فنون ، ودرس وأفتى ووعظ ، مع الديانة والسكون واللين وحسن الخلق. وحج من طريق القاهرة فدخلها أولا وأخذ عن جماعة من أعيانها ، منهم شيخا الإسلام زكريا الأنصاري والبرهان بن أبي شريف ، وسمع على الثاني ثلاثيات البخاري بقراءتي ، وقرأها على العلامة نور الدين المحلي ثم القاهري فسمعتها بقراءته ، وأخذ بمكة عن جماعة من مشايخي كالعز بن فهد وابن عمته الخطيب وابن كشني والسيد أصيل الدين الإيجي ، ولقي بها من مشايخ القاهرة عبد الحق السنباطي وعبد الرحيم بن صدقة فأخذ عنهما ، وأخذ بغزة عن شيخها الشهاب ابن شعبان ، وسمع صحيح البخاري بحلب عن الكمال محمد ابن الناسخ الطرابلسي. انتهى كلامه.

وفاته أنه أخذ بالقاهرة عن الشهاب القسطلاني «المسلسل بالأولية» و «ثلاثيات البخاري» و «الطبراني» و «ابن حبان» و «الثلاثيات الأربعين» المستخرجة من «مسند أحمد» و «شرحه على البخاري» و «المواهب اللدنية بالمنح المحمدية» و «فتح الداني من كنز حرز الأماني» له.

وأما من أخذ في العلوم عنهم من أهل حلب والواردين إليها فمنهم الشيخ إبراهيم فقيه اليشبكية ، فإنه قرأ عليه ابتداء في العربية ، ومنهم خليل الله اليزدي فقد قرأ عليه في شرح القطب على الشمسية ، ومنهم البدر حسن السيوفي وعليه قرأ في المطوّل والعضد يسيرا ، ومنهم المحيوي عبد القادر الأبار وعليه قرأ في الفقه وغيره شيئا كثيرا. قال : وكان يقول : أنا لا أعرف إلا الفقه ، ولكن اقرؤوا ما تختارونه من العلوم ، فيفعلون متبركين بنفسه ، ومنهم والده والشمس البازلي والشيخ أبو بكر الحيشي والشيخ مظفر الدين الشيرازي نزيل حلب.

٥١٣

ثم أكب على إفادة الوافدين إليه والواردين عليه من طالبي العربية والنحو والقراءات والفقه وأصوله والحديث وعلومه والتفسير وغير ذلك على وجه لم يرد أحدا ولا كسر قلب بليد لا يفهم أبدا.

وكنت ممن أخذ عنه عدة فنون ولله الحمد والمنة إلى أن أجاز لي جميع ما يجوز له وعنه روايته إجازة مفصلة بخطه في شوال سنة ثمان وأربعين.

ثم لما برع في العلوم الدينية هرع إليه السواد الأعظم إذ كانت له اليد البيضاء فيها في أمر الاستفتاء ، فأجاب وأفتى ولم يبخل على مستفت بالإفتا ، ولا صد ولا رد ولا تناول منه الدرهم الفرد ، بل كف عن هذا الأرب وفاقا لمعظم المفتين من أبناء العرب.

وانتهت إليه رياسة الشافعية بحلب إفتاء وتدريسا بجامعها الأعظم وعصرونيتها التي انفردت من بين سائر مدارسها في آخر وقت بأن فيها من الفقهاء والمتفقهة ذوي المعاليم المقررة على وقفها نحو العشرين ، ومن المعيدين اثنين. على أنه كان بها في زمن والده وهو معيدها من الفريق الأول واحد وستون ومن الثاني أربعة كما أخبرني بذلك من أثق به.

وكان رحمه‌الله تعالى قد عبث مرة بحل زايرجة السبتي ، فحل منها شيئا ما ، وعلق بالكيمياء أياما ثم تركها.

ولم تكن تراه إلا دمث الأخلاق متبسما حالة التلاقي حليما لدى الإيذاء صبورا على الأذى صوفيا معتقدا لكل صوفي ، له مزيد اعتقاد في الشيخ الزاهد محمد الخاتوني الماضي ذكره ، ولذا صار من بعده يحيي بالعصرونية كل ليلة جمعة ذكر الله تعالى على نهج ما كان عليه معتقده من إحيائها ، إلى أن توفي يوم الجمعة في شهر رمضان سنة أربع وخمسين ودفن وراء المقام الإبراهيمي خارج باب المقام في تتمة مقبرة الصالحين رحمه‌الله تعالى وإيانا ، حتى رثاه الشيخ أبو بكر العطار الجلّومي فقال :

أضحى العمادي للمقام مجاورا

ومقامه عند الإله عظيم

فاقصد زيارته تنل كل المنى

فضريحه في الصالحين مقيم

وإذا وصلت إلى الضريح فقل له

هذا المقام وأنت إبراهيم

ومدحه في حياته الزين الشماع أحد شيوخه بالإجازة وقد أهدى إليه منظومته الموسومة «باللمعة النورانية في تخميس السهيلية» فقال :

٥١٤

إلى العالم البرهان خلي وصاحبي

ورادع من بالسوء في الغيب صاح بي

سليل العمادي من بنشر فضائل

بشهبائنا قد عمّ كل الحبائب

بنور علوم ضاء كالبدر مسفرا

وأنوار شانيه كضوء الحباحب

قصدت بإهداء للمعتي التي

يرجّى لقاريها بلوغ المآرب

إلى أن قال :

وها عمر الشماع وافى بمنحة

على قدره فاقبل تفز بالمناصب

فمن بقبول يلقها نال فضلها

ومن يولها الإنكار ليس بصائب

فكرر لها في كل موطن شدة

وبالذكر فالهج في ليالي الرغائب

وكن صافيا خلي سليما مفوّضا

أمورك للباري تحز للمراتب

ولا تخلني من دعوة منك في الدجى

إذا حفت الجربا بنور الكواكب

وكان الشيخ زين الدين قد وقع في خلده أن الجرباء من أسماء السماء فأراد أن يراجع بعض كتب اللغة فمنعه مانع ، وقد كان أنشأ أبياته هذا فما مضت عشرة أيام إلا وقد وقف على قصيدة لبعض المغاربة حاذى بها «المنفرجة» (١) واستعمل فيها لفظ الجرباء على وجه فهم منه أنه من أسمائها وذلك حيث قال :

خلق الإنسان وصوّره

بشرا من ماء ممتشج

وليوم حساب يبعثه

فيقوم عليه بالحجج

يوم تطوى فيه الجرباء

كطي سجل مندمج

فكان ذلك من الأمور التي اتفقت له ههنا رحمه‌الله تعالى وإيانا ا ه.

أقول : هنا كتب الشيخ إبراهيم ابن الشيخ أحمد المشهور بالملا على هامش النسخة المحررة بخطه ما نصه : انظر إلى أثر الحب في الله الحقيقي كيف جذب العلامة المؤرخ (يعني الرضي الحنبلي) وساقته القدرة الإلهية إلى أن دفن بجوار شيخه المترجم.

__________________

(١) هي لأبي الفضل يوسف بن محمد التوزري المتوفى ٥١٣ ه‍ ومطلعها :

اشتدي أزمة تنفرجي

قد آذن صبحك بالبلج

٥١٥

٨٣٤ ـ داود المرعشي شيخ الطرنطائية المتوفى سنة ٩٥٥

داود المرعشي الدلغادري الحنفي الصوفي الأويسي.

كان من أكابر العلماء المتفننين المتقنين ، مقبولا عند قاضي عسكر روم إيلي محيي الدين ابن الفناري وغيره ، فرحل إلى الشيخ أويس القرماني فأخذ عليه العهد وجعله خليفته ، وقدم معه إلى حلب ، فلما سجن شيخه بالقلعة الحلبية بالأمر السلطاني بقي هو بالمدرسة الطرنطائية داخل باب الملك في فرقة من المريدين ، ثم آل الأمر إلى إطلاق شيخه وذهابه إلى دمشق وذهابه إلى شيخه وهو بدمشق ، ثم وفاة شيخه بها ، ثم توجه إلى مكة ومجاورته بها ، ثم عوده إلى دمشق سنة أربع وخمسين ، ثم قتله بها بالأمر السلطاني في السنة التي تليها.

٨٣٥ ـ محمد بن أحمد الأماصي سنة ٩٥٥

محمد بن أحمد بن محمود الحلبي الأماصي الأصل الحنفي المشهور بابن الأماصي ، هكذا بالصاد.

توفي في شوال سنة خمس وخمسين وتسعمائة ، وكان من وجوه الناس وله قول عند قضاة حلب في الدولة العثمانية البايزيدية ، فتوجه من بلده أماصية إلى مكة حاجا فولد له ولده هذا ، فأقام به عدة سنين بدمشق ، ثم قطن حلب فبرع ولده هذا في الشعر التركي والفارسي ونظم الشعر الملمع بالعربي ، ومدح بعض أركان الدولة بالباب العالي الشريف السليماني بشعره ، فصارت له عندهم وجاهة ، وكل كاد يمنحه عزه وجاهه.

وتولى بحلب النظر إلى جامع الصفيّ وخطب به.

وكان يلقب بالهوائي لما أن مخلصه في شعره هوائي.

الكلام على جامع الصفيّ في محلة المشارقة :

قال أبو ذر : هذا الجامع ظاهر حلب خارج باب الجنان بالقرب من البساتين شرقي (١) نهر قويق ، أنشأه صفي الدين عبد الوهاب بن أبي الفضل بن عبد السلام مشارف ديوان

__________________

(١) في الأصل : غربي. ولعل الصواب كما أثبتناه نقلا عن مخطوطة «كنوز الذهب».

٥١٦

الجيوش المنصورة بحلب المحروسة بتاريخ خامس عشر شعبان المكرم من شهور سنة ثمان عشرة وسبعمائة.

وهذا الجامع نزه ظريف له مناظر من غربيه إلى البستان ، وله منبر من الرخام ، وكذلك سدته ، وله بوابة عظيمة وحوض ماء ، كان يأتي الماء إليه وإلى بركة الجامع من دولاب شمالي الجامع ، وله منارة. وهذا الجامع له وقف حسن مبرور من جملة وقفه بستان بدير كوش. ا ه.

أقول : موقع هذا الجامع في آخر المحلة المذكورة من جهة الغرب بالقرب من تربة الشيخ ثعلب بينهما الجادة. وهو الآن مسجد صغير مشرف على الخراب يسكنه بعض الفقراء لا شيء فيه مما ذكره أبو ذر. وقد كان له باب كبير على قنطرته حجرة كبيرة شطرت شطرتين ، وضع شطرها الأكبر على الباب الموجود وشطرها الثاني في جدار قبلية صغيرة هناك فيها قبر يغلب على الظن أنه قبر الواقف ، وهذه الحجرة وضعت مقلوبة جهلا من الباني بمثل هذه الآثار التاريخية.

وهذا نص ما كتب على الحجرة جميعها ، وما بين الهلالين هو ما كتب على بقية الحجرة التي بنيت في جدار القبلية :

(١) البسملة. أنشأ هذا الجامع المعمور العبد الفقير إلى الله تعالى صفي الدين بن عبد الوهاب شاد الجيوش المنصورة الحلبية في دولة السلطان

(٢) الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد بن قلاون خلد الله ملكه في أيام المقر العالي العلائي ألطنبغا كافل الممالك (بتاريخ سنة ثلث وثلثين وسبعماية بتولى ... محمد بن علي السقا).

والجامع تحت دائرة الأوقاف ولا وقف له سوى تخميس أعشار.

٨٣٦ ـ علي بن أحمد الكيزواني المتوفى سنة ٩٥٥

علي بن أحمد بن محمد الصوفي الشاذلي الشيخ العابد المسلك المربي أبو الحسن الحموي الكيزواني ، ويقال الكازواني نسبة إلى كازوا وهو الصحيح ، إلا أنه اشتهر بالأول أيضا ،

٥١٧

أحد مريدي السيد الشريف سيدي علي بن ميمون المغربي.

قدم إلى حلب وجلس في مجلس التسليك فاجتمع عليه خلق كثير. ولما كانت سنة ست وعشرين وهي السنة التي ورد فيها أرسل شيخ الإسلام العارف بالله تعالى سيدي علوان الحموي إلى الزين عمر الشماع رسالة مبسوطة تشتمل على التنفير من الاجتماع به ، ومن جملة ما فيها : احذر وحذّر من فهمت منه قبول النصح. فأخذ في قراءتها على غير واحد ممن ورد إليه.

ثم كان توجهه إلى مكة والمجاورة بها.

فلما قدم إلى حلب في سنة ثمان وعشرين رأى أمر الشيخ علاء الدين في ازدياد وقد أقبل عليه خلق كثير ، قال : فأعرضت عن قراءة الرسالة المشار إليها واستمرت مهجورة إلى سنة إحدى وثلاثين ، فاختلج في سرّي غسلها ، وذلك لأني صممت على أني لا أقرؤها على أحد ونفر قلبي مما فيها من الألفاظ اليابسة التي لا ينبغي إطلاقها في حق متدين ، ورأيت أني إذا قرأتها ينفر قلبي من الرجل المذكور ويحصل لي غيظ عليه ، فكرهت ذلك ورأيت أن سلامة الباطن أسلم. ثم لما أردت غسلها خشيت أن يكون في ذلك بعض انتقاص لكاتبها لأنه ليس من الأدب غسل رسالته بغير إذنه ، ثم ترددت في ذلك إلى أن قوي العزم على غسلها ورأيت أنه أولى طلبا لسلامة الباطن وحراسته من إساءة الظن بالرجل المذكور ، فإن تحسين الظن أولى ، فغسلتها.

قال : ثم لما انسلخ العام المذكور ودخل هذا العام المبارك توجه الصوفي المذكور في أوله إلى حماة واجتمع بالشيخ علوان وأبدى له الاعتذار عن أشياء لا أتحقق تفاصيلها ، وجدد التوبة كما قيل ، فأذن حينئذ في الاجتماع به ومحا معنى ما كتبه في رسالته. قال :

فقد ظهر ولله الحمد أنا سبقناه إلى محوها حسا قبل محوه لها معنى ، في ذلك برهان ظاهر على أن من أخلص النية ألهم سلوك الطرق المرضية. انتهى كلامه منقولا من «عيون الأخبار» له.

ومما كتب به الشيخ علوان إلى الشيخ زين الدين مرة ثانية : ليكن على علمكم أن ذلك الرجل الصوفي ، يريد به صاحب الترجمة ، وقف علينا تائبا وفي المواصلة راغبا ، فحكمنا بالظاهر والله يتولى السرائر ، فإن رأيتم الاجتماع معه أو ضده فذاك إليكم ، وما

٥١٨

أريد أن أشق عليكم ، وليس بخاف عن علمكم الحديث المشهور : (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).

ولما كانت سنة إحدى وثلاثين أمر صاحب الترجمة جماعة من أتباعه بالطواف في الأسواق مع حمل الخرز في رقابهم ولبس الفراء المقلوبة ونحو ذلك ، وبعضهم خزم أنفه ، فكره كثير من الناس فعل ذلك ، وأنكر بعض الفقهاء ، فساعده كما قيل قاضي حلب عبيد الله سبط ابن الفناري ، فكتب عند ذلك الشيخ شمس الدين محمد المنيّر الواسطي يستفتي ، وأرسل بصورة فتواه إلى حماة ، فكتب له الشيخ علوان بعد حمد الله تعالى :

أما الديار فإنها كديارهم

وأرى نساء الحي غير نسائها (١)

ثم أخذ يذكر أن بساط التصوف قد طوي من لدن أبي القاسم الجنيد شيخ الطائفة إلى هلم جرا ، وإنما كان هو ومن بعده من الصديقين والصادقين يتكلمون في حواشيه. إلى أن قال : وزبدة الخبر أن توزن هذه الأفعال المرتكبة بموازين الشريعة ، فما خرج عن المأذون فيه فهو داخل في المنهي عنه ، ولا يخرج ما دخل في حيز المنهي عن الكراهة والتحريم. وأما السؤال عن كونها بدعة أو سنة فإن أريد بالسنة ما تخلق به المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحوال والأقوال والأفعال فلا شبهة أن هذه الأفعال المرتكبة لم يرتكبها بنفسه عليه الصلاة والسلام ولا أحد من الصحابة الأعلام فكانت بدعة في الدين وحدثا لم يعهد في زمن سيد الأولين والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله أجمعين ، وإن أريد بالسنة ما هو أعم من ذلك مما أباحه للأمة وشرعه لها ففي بعض الأفعال ما لا يحرمه الشرع كتعليق الخرز ونحوه ، وإن كان خارما للمروءة مانعا من قبول الرواية والشهادة ، وحينئذ ينظر في حاله مرتكبه ونيته ، فإن لم يجد صلاحا لقلبه بدونه فله ذلك إذ المعالجة بالنجاسة عند تعذر الطاهر جائزة ، هذا إن لم يترتب عليه مفسدة راجحة ، فإن ترتبت درئت ، لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح. وليس بخاف عن جهابذة العلماء وصيارفة الفقهاء مصطلح الصادقين من الصوفية كما تضمنه «الإحياء» وغيره ولكل مقام مقال (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) وهو أعلم بالصواب.

هذا وقد وقفت في موضع آخر من «عيون الأخبار» على ملخص الرسالة التي أرسلها

__________________

(١) البيت ينسب إلى المجنون. «قوت القلوب ١ / ٣٤٩».

٥١٩

سيدي الشيخ علوان إلى الشيخ زين الدين عمر الشماع ، فمما قاله فيها بعد البسملة والصلاة :

أما الرجل المذكور فإياكم وإياه ، ولا تغتروا بزخرف كلامه البارز على لسانه بمتابعة نفسه وهواه. إلى أن قال : إنما يتوسل بما يقوله للعوام من تزويق الكلام ليتوصل إلى أغراضه الفاسدة من منكح ومأكل ومشرب وملبس إلى أن قال : وكيف يدعو إلى الكتاب والسنة من هو جاهل بألفاظ الكتاب والسنة ، ومن جهل اللفظ فهو بالمعنى أجهل ، ولو كان أحدنا مراقبا لربه لحاسب نفسه على ما يتلوه من القرآن والسنة باللحن والتحريف الموجبين للإثم اللاحق للتالي والسامع ، فكان يجثو على الركب بين يدي علماء القراءة والحديث مصححا للعبارة خوفا من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار).

ثم أطال إلى أن قال : فلو كان هذا المخذول المغرور موفقا لكان ملازما لضريح شيخه باكيا نادما آسفا حزينا يخاف الرد ويرجو القبول ، ولكان له شغل شاغل عما يهذرم به مما لا يعنيه من زخرف القول والفضول ، ولكن الرياسة حبها آخر ما يخرج من رؤوس الرجال الفحول. إلى أن قال في آخر الرسالة : وزبدة الخبر فالحذر الحذر الحذر ، فليس الخبر كالخبر ، ولتعلمن نبأه بعد حين ، ولكل نبأ مستقر ، والسلام.

قلت : وقد كان من شأنه بعد حين أن جاور بمكة (المشرفة) في دار عمرتها الخاصكي بها ، فتكلم فيه الناس بأنه سكن في بيت حرام.

وفي تاريخ شيخنا جار الله بن فهد المكي أنه ولد تقريبا في عاشر رجب عام ثمان وثمانين وثمانمائة. وفيه من أخباره أنه توجه صحبة الشيخ علوان للإقامة في بروسا من بلاد الروم سنة ثمان وتسعمائة وأقاما عند السيد علي بن ميمون نحو شهرين ، وعادا صحبته إلى صالحية دمشق ، وأنه لازمه وانتفع به وتهذب بأخلاقه ، ثم كان بحلب فاعتقده قاضيها عبيد الله سبط ابن الفناري الرومي وانقاد لأمره وصار يقبل شفاعته ويتردد إليه ، فزادت وجاهته خصوصا وله معرفة بكلام الصوفية وتوجيه لأفعالهم المرضية مع تعبير المقامات بألفاظ حسنة ونظم متوسط ، جمع منه تلامذته تائية وفائية على طريقة الشيخ عمر بن الفارض مع وظائف الأوراد وبعض تآليف لطاف ، منها «زاد المساكين إلى منازل السالكين» في كراسين

٥٢٠