إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

بأن فيه إبرة مغروزة ودخول تلك الإبرة في جسده حال الركوب ومرضه بسبب ذلك والله أعلم.

٧٩٦ ـ محمد بن أحمد السمرقندي المشهور بمنلا شاه المتوفى سنة ٩٤٥

محمد بن أحمد بن محمد بن أبي الفتح ابن مولانا جلال الدين الخالدي الكشي ثم السمرقندي الحنفي المشهور بمنلا شاه سيد عاشق.

قدم حلب في سنة خمس وأربعين وتسعمائة متوجها إلى مكة هو وولده مولانا عبد الرحيم ، وكان اشتغاله إذ ذاك بمطالعة شرح الفصوص لمنلا جامي وبكتابة حاشية على شرح الجامي للكافية. اجتمعت به مرارا واستفدت منه.

وكان شيخا معمرا نحيف البدن محققا مدققا متواضعا ذا حسب ونسب. قرأ على أكابر العلماء مثل منلا عبد الغفور اللاري أجل تلامذة منلا عبد الرحمن الجامي ، ورافق مولانا عصاما البخاري ومنلا حنفي السمرقندي شارح «آداب البحث» للقاضي عضد في القراءة على المسعودي.

وكان جده جلال الدين المذكور شيخا يقتدى به وتيمور من جملة خدامه قبل السلطنة ، وكان يقول : إن له نسبة إلى سيف الله خالد بن الوليد المخزومي رضي‌الله‌عنه ، فكتبت له رسالة في مناقبه متعرضا فيها لذكره وقدمتها إليه ، فاستحسنها وسميتها «أخبار المستفيد بأخبار خالد بن الوليد» وتعرضت فيها لذكر من انتسب إليه رضي‌الله‌عنه وإن كان في وفيات الأعيان لابن خلكان التصريح بأن أكثر المؤرخين وعلماء الأنساب يقولون : إن خالد بن الوليد لم يتصل نسبه بل انقطع منذ زمان ، كما يطلع على ذلك من وقف على ترجمة أبي عبد الله محمد بن القيسراني المحكي في الكتاب المذكور.

وكانت وفاة صاحب الترجمة في السنة المذكورة ودفن بمقبرة الصالحين ا ه.

أقول : لا زال قبره موجودا ثمة في وسط التربة وراء المقام وعليه كتابة حسنة.

٧٩٧ ـ عمر بن خليفة بن الزكي المتوفى سنة ٩٤٦

عمر بن أحمد بن محمد الشهير بخليفة بن الزكي الشيخ زين الدين الحلبي الصوفي المشهور

٤٨١

بابن خليفة ، شيخ الطائفة السعدية بحلب وأخو الشرف قاسم الآتي ذكره.

كان حسن الخط كثير الكتابة بالأجرة. وله شعر يلحن في غالبه ، ولله در سيدي إبراهيم بن أدهم رضي‌الله‌عنه حيث قال : قد أعربنا في كلامنا فلم نلحن أبدا ولحنا في أعمالنا فلم نعرب أبدا.

عمر زاوية بالقرب من حمّام القواس خارج باب النصر ووضع بها أعلام الصوفية وتعاطى مصالحها من البسط والتنوير وغير ذلك. وأنشأ له مدفنا ملاصقا له شباك مشرف على الطريق وبه دفن شهيدا بالهدم ، ووضع عليه صندوق ليزار. وكانت وفاته سنة ست وأربعين.

ومن شعره :

تكلم بالشهباء من كان أبكما

لمال وجاه لا لعلم ولا أدب

ومن أعجب الأعجاب أن غريبها

يقدم على أبنائها من ذوي الحسب

ومن شعره قوله معرضا ببعض الحمويين :

حماة لأجل القال والقيل بعتها

بما هم أباعوني ويدّي غسلتها

وقد كنت قبل اليوم بالروح أفدهم

ولكن إذا خانت يميني قطعتها

وقوله في شأن سيدي محمد بن سيدي علوان إذ قدم حلب :

لشمس حماة نورت حلب الشهبا

وقد ظفرت بالوصل منه ذوو القربى

فإقتبسوا يا عاشقين ضياءه

وإغتنموا من صرف كاساته شربا

قال في الكواكب السائرة : لو قال : ألا اقتبسوا لأصاب وخلص من قطع همزة الوصل ا ه.

٧٩٨ ـ صالح بن أحمد بن السفاح المتوفى سنة ٩٤٦

صالح بن أبي بكر بن أحمد بن عمر الأصيل صلاح الدين المعروف بابن السفاح المرداسي الشافعي المتقدم ذكر والده.

٤٨٢

كان له حظ من حسن الخط وشهامة وحشمة ووجاهة عند الحكام وإقدام في الكلام. وكان والده قد زوجه بامرأة جميلة ذات ثروة فعاش معها عيشا رغدا في حياته وبعدها ، ثم تمكن منها بغضها له كما تمكن منه حبه لها ، فهجر ولدا كان له من سريته في رضاها حتى حبسه في بيته. وحج بها حجة عظيمة بذل فيها أموالا جمة ، ولم يفده ذلك إلا البلبال وكثرة القيل والقال. ثم مرض مرضا شديدا اتهموها فيه بأنها دست له ما يقتله وهو مع هذا لا يواجهها بأنها فعلت معه شيئا قبيحا ، بل يتناول من يدها ما تعطيه من الأدوية والأغذية إلى أن مات في جمادى الأولى سنة ست وأربعين ودفن عند جده بالسفاحية. فتزوجت بعده بأقل قليل بواحد من أهل الديوان الدفتر داري ، فلم يمض عليها ما دون نصف شهر إلا وتبعته بالوفاة ، وتشفى ولده بوفاتها.

وكان ذلك من غريب الاتفاق نظير ما وقع لغياث الدين محمد الكيلاني إذ هوي امرأة له فأفرط في حبها وأفرطت هي في بغضه إلى أن مات ولها بها ، ثم تزوجت بعده رجلا من العوام فأذاقها الهوان وأحبته فأبغضها عكس ما جرى لها مع غياث الدين المعدود فيمن مات سنة إحدى وعشرين وثمانمائة على ما في «اقتطاف الأزاهر في ذيل روض المناظر» للمحب أبي الفضل ابن الشحنة.

٧٩٩ ـ خليل بن عثمان بن البانقوسي المتوفى سنة ٩٤٧

خليل بن عثمان بن البانقوسي الحلبي ، أحد أعيان التجار بحلب.

توفي سنة سبع وأربعين ودفن بإيوان يدخل إليه من باب جامع شرف خارج باب النصر ، أنشأه وما فوقه من المربع وما يلي ذلك من القبة الأمير حسين بن الميداني ، ولكن إنما كان ذلك من مال الخواجا خليل باطنا على ما ذكروا وكان بينهما صحبة زائدة ، نعم شمالية الجامع المذكور عمرت من مال الخواجا خليل ظاهرا.

وكان ذا باطن صاف وظاهر بالسكينة واف.

٨٠٠ ـ قاسم بن عبد الكريم المغربي المتوفى سنة ٩٤٧

قاسم بن عبد الكريم المغربي الفاسي الأوراسي.

٤٨٣

كان أبوه بوابا بخان الليمون بدمشق ، وأما هو فكان من أتباع قاضي الشافعية بها ولي الدين محمد ابن الفرفور. ثم قدم حلب فرأس بها ، إذ احتال فتزوج بها الست فاطمة بنت المقر المحبي بن آجا كاتب الأسرار الشريفة بالديار المصرية وسائر الممالك الإسلامية بعد وفاة أبيها ، مع أنه لو كان حيا كان من جملة خدمه ، ولقد صدق من قال : من كانت البنت خليفته لم يأمن من كون الكلب صهره ، وصار مستوليا على أموالها وعلى أوقاف أبيها وجدها وعلى وقف أبي أمها الفخري عثمان بن أغلبك ، فعم ماله وطم ، فشرع في عمل المحافل النهارية والليلية ، ورزق منها ابنا فكاد يطير إلى السماء بنيل ما تمنى ، ثم ختنه ختانا حافلا ، ولم يزل في أثواب سروره رافلا.

وزاحم في المناصب الجليلة فتولى نظر الجامع الأموي بحلب وخالط أركان الدولة وسرى فيهم مكره ، فآذى من أراد وأخذ في عناد كثير من العباد.

ولم تسعه حلب فذهب إلى القاهرة وتولى فيها بعد عمي الكمال الشافعي نظر الأوقاف في سنة أربعين وتسعمائة أو قبلها بمعونة من الأمير جانم الحمزاوي.

ثم كانت في هذه السنة وفاة ولده المذكور ففعلت أمه يومئذ منكرا عظيما هي أنها جلت عليه وهو ميت على ما نصته (١) زوجته التي لم يكن يدخل عليها.

وكان عمي يكثر من تحذير الأمير جانم منه وهو لا يحذره حتى كتب له قصيدة يقول فيها هذه الأبيات :

تنبه لنذل لا يصادق عمره

لذي حسب ولاه أسنى وظيفة

وكن جازما كالصحب من غير فترة

وكذّب دعاوي حبه كل طرفة

ولا تغترر بالله إن لان لفظه

وباداك في أقواله بالمسرة

نصحتك فاقبل لا تكن متهاونا

فإني محب لو قطعت محبتي

على البعد ثم القرب في كل حالة

أريد لك العلياء من غير عثرة

فعش سالما سالمتني أو رفضتني

فإني على عهدي لميقات بعثتي

إلى أن دبر فيما قيل مع سليمان باشا تدبيرا فيه قتل الأمير جانم وولده الجمالي يوسف ،

__________________

(١) في در الحبب : على منصته.

٤٨٤

فقتلهما على ما مر في ترجمتهما وسر هو بقتلهما.

وشاع ظلمه بالقاهرة حتى كان يعمد إلى أحد له ميت دفنه بفسقية أعدت للموتى وهي كالخشخاشة فيقول : لم دفنت هذا بغير إذني وأنا ناظر الأوقاف؟ ويصمم عليه في إخراج ميته فلا يرى له سبيلا إلا إلى دفع مال يرضيه. ولما شاع من ظلمه ما شاع صار المصريون يضجون المغربي بالم غريب (هكذا) (١) ويتضرعون ويتضررون منه ، إلى أن جاء التفتيش عليه فأحضروه مريضا أو متمارضا إلى مجلس التفتيش ، وكان فيه عدة من نواب القضاة ، فصار ينام على أحد شقيه ، فدخل عليه واحد من الأوباش وقال له : يا كلب لم تنام بحضرة هؤلاء الأكابر ، ونهره مرة بعد أخرى إلى أن جلس وجعل وراءه من يحتضنه. ثم صار كلما أخرجوه إلى القلعة للتفتيش عليه أو جاؤوا به منها إلى السجن يضربه العوام بما كان من حجر أو مدر. ثم شنق بباب زويلة سنة سبع وأربعين وتسعمائة ، فذهبت إلى داره شرذمة من النساء يصوتن تصويت الأفراح تشفيا منه.

وكان يرمى بالسحر الموجب للكفر والعياذ بالله تعالى. وفيه قيل :

قاسم الأسود أفعى

قاءسما للعباد

كان من قد ذاق منه

صار منه كالرماد

لعنة الله عليه

كثمود ثم عاد

ما دعا لله داع

وحدا للركب حاد

٨٠١ ـ محمد بن محمد بن السلطان قانصوه الغوري المتوفى سنة ٩٤٧

محمد بن محمد بن قانصوه الناصري ابن السلطان الملك الأشرف الغوري سلطان مصر والحرمين الشريفين.

حج في دولة والده في أبهة زائدة والقندس يومئذ على رأسه عام عشرين وتسعمائة هو وخوند الكبرى جهة والده في صحبة كاتب الأسرار الشريفة بالممالك الإسلامية المحب محمود بن آجا.

__________________

(١) في در الحبب : صار المصريون يصيحون : المغربي يألم غريب.

٤٨٥

ثم لما مات قانيباي الرماح أمير أخور كبير أعطي وظيفته ولبس الكلوتة ونزع القندس ، وكان من الصوف الأبيض مع قليل جوخ أسود في أسفله بخلاف قندس من لم يكن ابن سلطان ، فإنه كان من الصوف الأخضر.

ودخل حلب في ركاب أبيه سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة ، فلما مات أبوه سبق إلى الباب العالي السليمي وجعلت علوفته كل يوم خمسمائة درهم عثماني ، فأسرف في المأكول والمشروب والمسموع واصطناع الفنونا [هكذا](١) باللؤلؤ والياقوت مرارا ، وأفسد كثيرا من المال في استعمالها إلى أن علاه الدين مع ما كان له من أبيه من الملك والوقف بالقاهرة وحلب وغيرهما ، فحطت منزلته وانحطت علوفته إلى ستين درهما.

ثم قطن بدمشق مدة وبدار بني القرموط بحلب مدة ، ثم توجه إلى الباب العالي السليماني وتوفي به سنة سبع وأربعين وتسعمائة ، ودفن بمقبرة أبي أيوب الأنصاري رضي‌الله‌عنه.

وكان من حاله أن يصلي الصبح وينام إلى أن يقرب وقت العصر ، فيصلي الظهر والعصر والعشائين ويستمر ساهرا ومن عنده من المخاديم والمطربين والمضحكين والمأكول والمشروب متداول بينهم شيئا فشيئا ورأسه ينخفض ويرتفع بما استولى من الكيفية عليه إلى أن يصلي الصبح ثم وثم وثم على ممر الأيام والأعوام.

٨٠٢ ـ أحمد بن الحسين الباكزّي المتوفى سنة ٩٤٨

أحمد بن الحسين بن محمد بن أبي الوفا الشيخ شهاب الدين الكردي الباكزي ، نسبة إلى باكزّة : قرية من معاملة القصير من توابع حلب ، الشافعي.

كان دينا خيرا ، يؤدب الأطفال بحلب ويؤم بمسجد الحولية بها. وقد انتفعت بقراءة القرآن العظيم عليه لما له من الصلاح خلفا عن سلف بواسطة أنه من بيت مشهور بالعمادية يعرف ببيت أبي الوفا وأن جده أبا الوفا المذكور كان من أرباب الأحوال.

__________________

(١) في نسخة مخطوطة من در الحبب : الفنونيا ، وفي أخرى : الفلونيا.

٤٨٦

وكان إذا غلب عليه الحال أخذ بيده الطين من الأرض ودفعه إلى من اختار ، فإذا هو في يد الآخذ لاذن (١) فيبيعه أو ينتفع به.

وكان شيخنا المذكور قد حصل له في إحدى عينيه داء يعرف بالتوتة فأضرّبها ، فحذره بعض الأطباء من أن يصيبها الماء ، فامتنع لئلا يفوته الوضوء وإن كان له عنه مندوحة بالتيمم وقال : أنا لا أبالي إذا تلفت بعد أن لا أترك الوضوء أصلا.

٨٠٣ ـ عز الدين بن يوسف الكردي المتوفى سنة ٩٤٨

عز الدين بن يوسف الكردي العدوي أمير لواء أكراد حلب في آخر الدولة الجركسية وأوائل الدولة العثمانية.

كان من طائفة ينتسبون إلى الشيخ عدي بن مسافر رضي‌الله‌عنه ويعرفون ببيت الشيخ مند الذي كان يأتيه من لدغته الحية فيطعمه من خبز رقى عليه ونفث فيه فيأكله فيبرأ بإذن الله تعالى. وكان الأمير عز الدين شهيرا بهذه الخاصية بين الأكراد مع إدمانه على شرب الخمر وقتل النفوس سياسة.

وكان لهم غلو زائد فيه حتى كانوا يلقبونه بالشيخ عز الدين ، وربما قيل للواحد منهم : أنت من أكراد ربنا أو من أكراد عز الدين؟ فيقول : بل من أكراد عز الدين.

وكان شيخا معمرا يصبغ لحيته بالسواد ، وله شهامة ووصلة أكيدة بخير بك كافل حلب في آخر دولة الجراكسة. وفي أيامه كان صلب الأمير حبيب بن عربو تحت قلعة حلب ، وذلك أنه كان بين الأمير عز الدين وبين أولاد عربو : طائفة معتبرة من أمراء القصير عداوة بينة من جهة الدنيا وكذا من جهة الدين ، لأن بيت عربو كانوا من أهل السنة والجماعة رضي‌الله‌عنهم ، وبيت الشيخ مند كانوا يزيدية ، فكان يغدر بهم حتى سعى في قتل جماعة منهم كالأمير حبيب وكأخيه الأمير قاسم. وكان قتله بالباب العالي السليمي من عرض عرضه أحمد باشا المشهور بقراجا باشا أول من كان باشا بحلب في الدولة العثمانية السليمية ، وذكر فيه أنه جمع بين تسع نسوة في زمن واحد بمكر الأمير عز الدين به عنده.

__________________

(١) اللاذن : رطوبة تتعلق بشعر المعزى ، ملين مدر نافع للنزلات والسعال.

٤٨٧

وهذا الحوض الكبير داخل آغيول من إنشاء الأمير عز الدين ، وكان يزعم أنه عمره من حلال مال والده.

توفي الأمير عز الدين سنة ثمان وأربعين.

٨٠٤ ـ علي بن محمد بن دغيم الحنبلي المتوفى سنة ٩٤٨

علي بن محمد بن عثمان بن إسماعيل الشيخ علاء الدين ابن قاضي القضاة شمس الدين البابي محتدا الحلبي مولدا الحنبلي المعروف بابن الدغيم.

ولي تدريس الحنابلة بالجامع الأموي بحلب. وكان هينا لينا صبورا على الأذى مزوحا لا يرى حمل الهم والغم شيئا مذكورا.

توفي يوم الجمعة ثاني عشر رمضان سنة ثمان وأربعين ودفن بجوار مقابر الصالحين بوصية منه. وكان آخر حنبلي بقي بمدينة حلب من أهلها.

٨٠٥ ـ الشريف أحمد بن يوسف الإسحاقي المتوفى سنة ٩٤٩

أحمد بن يوسف بن يحيى بن بدر الدين محمد بن عز الدين أحمد الحسيني الإسحاقي الحلبي الشافعي ، نقيب الأشراف وابن نقيب الأشراف ابن نقيب الأشراف بحلب.

كان رئيسا سخيا حسن الشكالة مترفها في المأكل والمشرب كثير التنزهات معتادا فيها لخذ دون هات ، يرى الأتم والأهم صرف الدينار والدرهم.

وفي آخر أمره تحاشى عن نقابة الأشراف ، فكانت للسيد شمس الدين النويرة إلى أن توفي سنة تسع وأربعين.

وكان جداه العز والبدر من شيوخ الحافظ ابن حجر بالإجازة على ما ذكره في إنبائه. والعز هذا هو الذي ذكره ابن خطيب الناصرية وقال في شأنه : كان من حسنات الدهر زهدا وورعا ووقارا ومهابة وسمتا ، لا يشك من راه أنه من السلالة النبوية حتى انفرد في زمانه برياسة حلب ، والرؤساء حتى القضاة يترددون إليه. إلى أن قال : وكان حسن المحاضرة جميل الصورة حلو الحديث شريف النفس متمسكا بالسنة وطريق السلف ، ثم

٤٨٨

تعرض لقراءة البرهان الحلبي عليه وأنشد له مضمنا.

فتى ضغن يفاخر إذ وردنا

لزمزم لا بجد بل بجدّ

فقلت تنح ويح أبيك عنها

فإن الماء ماء أبي وجدّي

٨٠٦ ـ أويس بك الدفتر دار المتوفى سنة ٩٤٩

أويس بك بن عبد الله الحنفي الدفتر دار بديار العرب.

كان عالما فاضلا متواضعا طلق المحيا شديد التعصب لأبناء العرب حسن الاعتقاد ذا قدم في التفسير والحديث. وكان من جملة المماليك الخدمة للسلطان بايزيد بن عثمان ، وكانت بيده خزانة كتب تأتيه منها بما يشاء.

ثم خرج من السراي وصمم على تحصيل العلم فقرأ على جماعة ، منهم شيخ زاده المفسر والشيخ برهان الدين إبراهيم الحلبي الحنفي خطيب عمارة السلطان محمد بالقسطنطينية ، وكان يثني عليهما جميل الثناء ويصف الثاني منهما بأنه مختلط منضبط (هكذا) ويميل معه إلى انتقاد ابن عربي ، وكان للوزير الأعظم إياس باشا ميل إليه وأخذ لبعض العمليات عنه.

وولي من المناصب السنية أمانة القسطنطينية ودفتر دارية التيمار بأناطولي ثم بروم إيلي ، ثم ولي في سنة ثمان وأربعين دفتر دارية ديار العرب فباشرها أحسن مباشرة ، وأطلق من سجن السلطنة جماعة من العمال كانوا أيسوا من الإطلاق بعد أن كفل عليهم وقسط عليهم الأموال فجبر قلوبهم ، وعمل ما فيه المصلحة لجهة السلطنة.

وطلب منه جماعة ترجمة الفرنج بحلب وسمسرة البهار بها على أن يكون عليه (١) للخزائن السلطانية مبلغ وافر من المال ، فرأى ذلك ظلما محضا فأبى.

وجعل على بيت المال ثلاثين قطعة برسم تجهيز كل من مات من المسلمين ولا شيء له يجهز به بعد أن لم يكن ذلك.

وهرع إليه جماعة من فضلاء حلب لما بلغهم من محبته للفضلاء ، فأقبل عليهم وتوجه

__________________

(١) في درر الحبيب : عليهم.

٤٨٩

إليهم. واستخار الله تعالى في قراءة البخاري والشفا فأخذ في القراءة فيها علينا أياما ، وكنا نخاطبه في أثناء التقرير بمثل أفندي وسلطانم ، فذكر لبعض من كان بمجلس درسه أنه لا يطيب ذلك على خاطري ، وأمر بتركه في مثل ذلك المقام العلمي.

وطالما كان ينوي النظر في حال الأوقاف بنور الله تعالى ، حتى بلغه أن متولي الفردوس بحلب بل مدرسه باع من حجارته جانبا ، فركب إلى الفردوس وأمسك المشتري وشدد عليه وخلص ما استولى عليه من الحجارة إذ لم يأمن النار التي وقودها الناس والحجارة. وعمل في البيمارستان النوري بنور الله تعالى حيث فتش على متوليه فأخرج عليه أكثر من مائة دينار سلطاني مع ما في البيمارستان من المواضع الخربة ، ثم أمر بعمارتها من ذلك المال.

ولم يزل على فعل الخيرات إلى أن مات مطعونا سنة تسع وأربعين ، وتأسف عليه الحلبيون خاصهم وعامهم ، وأقفلت الأسواق للصلاة عليه وأطبق الناس على الترحم عليه. وكان قد سئل قبيل الموت هل ننقلك إلى دمشق أو ندفنك بحلب؟ فقال : أبقوني بحلب فإن أهلها يحبونني. وأخبر قبيل الوفاة أن عليه صلوات خمسة أيام ، فطلب الماء فتوضأ ، ثم كان في أثناء ذلك انتقاله إلى رحمة الله تعالى ، ثم كان دفنه بجوار باب السفيري في قطعة أرض كان الشيخ شمس الدين محمد السفيري الشافعي قد أعدها لدفنه ، فأبى الله إلا أن يكون هو المدفون بها.

قال الشيخ شمس الدين : ولقد رأيته في المنام وهو جالس تجاه القبلة حيث كنت أجلس من الحجرة التي بالعلمية بالقرب من منزل سكني ، فلما أقبلت عليه نهض قائما وأخذ يبتسم كأنه يستعطف خاطري من جهة دفنه فيها دوني.

ومن عجيب الاتفاق أني قلت للشيخ مصلح الدين القريمي وكلانا واقفان على قبره يوم دفنه : ما أدراكم لعله يتناقص الطاعون بموته أو ينقطع ، فاتفق أن تناقص من ثاني يوم وهلم جرا.

واتفق له يوما ونحن معه في مذاكرة البخاري أن قال : إنا نريد أن نقرأ في البخاري إلى كتاب الإيمان ، فلم تمتد قراءته إلا إليه ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى.

وسئلنا في أبيات تكتب على لوحي قبره فعملناها غير أنها لم تكتب عليها ، فمنها لأحدهما :

٤٩٠

فيك يا قبر من له طيب ذكر

وله الشكر عنبر وعبير

من يؤرخ وفاته قال نظما

عن أويس عفا الرؤوف المجير ٩٤٩

ومنها للآخر :

بهذا الضريح ثوى فاضل

أنيل الأفاضل منه الأدب

له منصب إن ترم كشفه

فدفتر دار ديار العرب

وحكى لي أنه لما حضر يوم الجمعة آخر جمعة أدركها إلى الجامع الكبير وكان يصلي تجاه باب الخطابة سمع قراء السبع يتلون قوله تعالى (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) فدمعت عيناه كأنه خايف من ذلك الوعيد ، فما أتت الجمعة الثانية إلا وهو في جوار رحمة الله تعالى.

٨٠٧ ـ يوسف بن إبراهيم بن أصيبعة المتوفى سنة ٩٤٩

يوسف بن إبراهيم بن إسماعيل بن كمال الدين إبراهيم بن إسماعيل بن نجيب الدين أبي المنى الأمير جمال الدين الحلبي ثم القاهري المشهور بابن أبي إصبع وبابن أبي أصيبعة ، هكذا بالتصغير.

كان ناظر الجيوش المنصورة بحلب كأبيه وجده ، وكانت له الحظوة عند السلطان الغوري لما أنه كان ساكنا بدور بني الأصبع داخل باب النصر بحلب بعد ما نفاه إليها الملك الأشرف قايتباي غضبا عليه ، فلما تسلطن من تسلطن بعد الملك الناصر محمد بن قايتباي وعصى إينال كافل حلب إذ لم يكن من حزب من تسلطن وورد الأمر بالقبض عليه ، فركب عليه الغوري في جماعة إلى أن قبض عليه وسجن بالقلعة المنصورة ، وورد مرسوم ملبس على سلطان الوقت بإطلاقه ، فأخذ يقتل بعض من ركب عليه. وأراد القبض على الغوري ، فلما أحس هرب ليلا من حلب إلى القاهرة بحيلة من صديقة الأمير حسين بن الميداني ، فكان ممن تبعه الأمير جمال الدين حتى إنه لما نهب منزل الغوري بدور بني أبي الإصبع نهب منزل الجمال بواسطته ، فلما تسلطن الغوري بعد حين قربه إليه فكان يخلو به ويبيته ليلا ونهارا ، وصار من قبله على ما كان له من مقام الشكر بالقاهرة ، بل كان بيده فيها وظيفة الوزر بواو وزاي مفتوحتين ، وهي في الحقيقة وظيفة ذنب ووزر ، لأن صاحبها ينظر في المكوس وغيرها من الأموال التي ترفع إلى السلطان وبيت المال من حرام

٤٩١

وحلال على ما ذكره السبكي في «مفيد النعم ومبيد النقم» ، وهي غير وظيفة الوزارة المشهورة.

وكان الجمالي عارفا بديوان الجيش وما فيه من وقف وملك وإقطاع معرفة تامة أسوة أبيه وبعض أجداده ، مطلعا على عيوب الناس في أملاكهم وأوقافهم ، ولما قتل الحلبيون قرا قاضي مفتش أملاك حلب وأوقافها في الدولة الرومية قدم هو من القاهرة إلى حلب ومعه شيء من ديوان الجيش في الدولة الجركسية ، وكان يفتح على الحلبيين من ذوي الملك والوقف أبوابا يتضررون منها ، فأغلظ عليه القول جماعة منهم كالصلاحي بن السفاح والزيني منصور بن حطب وغيرهما ، فلم يسعه إلا أن ثنى عزمه ورجع إلى القاهرة متلاشيا أمره كما تلاشى في آخر وقته ، إذ غضب عليه الغوري فصادره ووضعه بالمقشرة بعد عزه وصار يحضره إلى خان الخليلي ليبيع أثاثه وقماشه والسلسلة في عنقه ، إلى أن توفي بالقاهرة سنة تسع وأربعين وتسعمائة.

ومن غريب ما اتفق له بها مع شيخنا الخناجري أنه سئل عمن سلّم فارغا من صلاته ثم عاد واقفا ، فأجاب بأن هذا ليس بسنة بل هو صنيع اليهود ، وكان الاستفتاء على الأمير جمال الدين فبلغه الخبر ، وكان أجداده الأقدمون من اليهود فشق عليه ذلك وأخذ يستفتي على الشيخ ، فبلغ الخبر المحبي ابن آجا كاتب الأسرار الشريفة بالديار المصرية ، وكان الشيخ من اللائذين به ، فقال له : لم قلت ما قلت يا شيخ شمس الدين؟ فأجابه بنقل أخرجه من بعض مؤلفات الجلال الأسيوطي قائلا : إن الأمير جمال الدين قد جذبته اليهودية إلى نفسها ، فبلغ الأمير جمال الدين ذلك فما وسعه إلا الكف عن الشيخ والتغافل عنه.

وكان جده كمال الدين ناظر الجيوش المنصورة بحلب وله وقف بها ، وكذا والده ، وله المسجد الذي جدده وراء داره بالقرب من محلة اليهود والحوض المجاور له الذي تبرع بعمارته بعد دثوره في سنة ثمان وعشرين وثمانمائة.

٨٠٨ ـ أبو السعود بن إسكندر المتوفى سنة ٩٤٩

أبو السعود ابن قاضي الحنفية بحلب جمال الدين يوسف بن إسكندر الحنفي سبط الأميري رمضان بن صاروخان أحد أمراء حلب.

٤٩٢

توفي والده الجمال عنه صغيرا ، فنشأ بعده عفيفا نظيفا ، وطمحت نفسه للرياسة فتفقد ما بقي من تركة أبيه وجد في جمع المال. وذهب إلى القاهرة ليرى بها ما يشهد له باستحقاق النظر على وقف خال أبيه المحبي محمود بن آجا على تربته بالقاهرة وتربته بحلب التي آلت إليه حصة من معرة أخوان (١) ، وصار النظر عليها لأبيه ثم الأرشد فالأرشد من أولاده ، فأكرم مثواه الأمير جانم الحمزاوي لأنه كان مؤاخيا لأبيه ، فشعر به قاسم المغربي وهو يومئذ بالقاهرة فغض عليه لتزوجه ببنت المحبي واستيلائه على أوقاف أبيها وجدها. ثم عاد إلى حلب فتزوج ببنت خوجه روح الله القزويني ، فبذل على يده لبعض الدفتر دارية نحو مائة قبرصي على تولية بيمارستان حماة ، فأعطاه إياها بعد ما شرط عليه لبس الكسوة الرومية بسؤال أبي زوجته إياه في ذلك خفية ، فلبسها وتجمل باللباس الحسن.

وكان شابا لطيفا. وولي النظر على تربة جده بالجبيل الصغير بشرط الواقف ، وتكلم على وقف المحبي وأبيه بحلب ، وشرع في ابتياع أملاك وعقارات ، وأشرف على رياسة في المال عظمى ، فوافته المنية في عنفوان شبابه ، فتوفي سنة تسع وأربعين ودفن بتربة جده (في محلة الجبيلة).

٨٠٩ ـ دوريش بن أبي سوادة المتوفى سنة ٩٤٩

درويش بن قاسم بن محمد بن أبي سوادة الحلبي المعروف بابن أبي سوادة العطار والده.

شاعر سريع النظم كثيرة ، إلا أن بضاعته في النحو مزجاة ، ولذا كان كثيرا ما يغلط في الإعراب إذا قال شعرا أو أنشد لغيره شعرا ، ويعتذر بأنه لم يكن ليسعه ركوب متن العربية لاشتغال باله بكثرة أولاده وعياله. إلا أنه كان يلم بمطالعة شروح البديعيات ونوادر الشعراء وأخبار المتقدمين.

توفي سنة تسع وأربعين.

وكان يذكر أنه من طائفة ينتسبون إلى موقّع الدست بحلب القاضي بهاء الدين علي ابن أبي سوادة الذي أنشأ المنارة المجاورة لزاوية الشيخ عبد الكريم بحلب سنة إحدى وسبعين

__________________

(١) تقع قرب معرة مصرين ، وكانت تدعى مرتحوان.

٤٩٣

وسبعمائة حسب ما هو مسطور بجدارها. وكان بهاء الدين هذا ممن ينتسب إلى بهاء الدين علي بن علي بن محمد بن علي بن أبي سوادة صاحب ديوان الإنشاء بحلب المتوفى سنة أربع عشرة وسبعمائة ، وهو القائل في مملوك له على ما ذكره الشيخ أبو ذر في تاريخه :

جد لي بأيسر وصل منك يا أملي

فالصبر عنك عذاب غير محتمل

مالي رميت بأمر لا أطيق له

حملا وبدلت بعد الأمن بالوجل

نعم قد ذكر في موضع آخر منه عند ذكر بيوتات حلب بيت أبي سوادة وأن فيهم الفضل والتشيع ، وأنهم انقرضوا ببركة الصديق رضي‌الله‌عنه ، إلا أن احتمال كون درويش ممن ينتسب إلى هذا البيت لا ينافي انقراض ذكور ذلك البيت لجواز أن يكون من ذرية البنات.

٨١٠ ـ محمد بن البزرة الموسيقي المتوفى سنة ٩٤٩

محمد الآلاتي الفرضي المشهور بالبزرة.

وكان لا نظير له في لعب الطنبور ومعرفة الأعمال الموسيقية ، حتى طلبه السلطان الغوري من خير بك كافل حلب ، فذهب إليه ومعه أصحابه في الفن ، فأسمعه من مطرب الأعمال ما لم يكن ببال ، ولكن كان هزّالا مزّاحا مماجنا ، فقال له السلطان بعد فراغه ، ماذا تتمنى وماذا تريد؟ فقال : أريد أمي في صورة صغير لا صبر له على فراق أمه ، فقال له : رح إلى أمك ، ولم يعطه ما كان نوى إعطاءه إياه لسوء أدبه.

وقد تاب في آخر عمره حين أسن التوبة النصوح ولازم تلاوة القرآن ، ولكن سال لعابه من فيه سيلانا ظاهرا ، إلى أن مات سنة تسع وأربعين وتسعمائة عفا الله عنا وعنه.

٨١١ ـ بركات بن سرور العرضي المتوفى سنة ٩٥٠

بركات بن سرور العرضي الأصل الحلبي صاحبنا المعروف بابن سرور ، أحد أعيان التجار بحلب.

عمر حوضا للسبيل بالقرب من داره داخل باب المقام ووقف ألف دينار سلطاني ذهبا

٤٩٤

جعل منها مائتين على مصالح سبيله لينفعه سبيله إذا مضى لسبيله ، وثمانمائة على فقراء وأرامل محلته ومحلة أخرى عينها بحيث يؤخذ ربح ذلك كله ويصرف في مصارفه حسب ما شرطه.

وكان تقيا نقيا شهما سريع زوال الغضب ، لا يحبس أحدا على سعة تفرق ما له عند الناس.

وقد بلغني أنه ظفر إذ كان بأدرنة من بلاد الروم بوصية زوجة السلطان محمد بن عثمان من متولي جامعها ، وكان صاحبه ، فألهم أن يكتب له وصية على نهجها ، فكتب ، فلم يمض عليه ما دون الشهرين إلا وتوفي مطعونا سنة خمسين.

٨١٢ ـ أحمد بن حمزة بن قيما المتوفى سنة ٩٥٠

أحمد بن حمزة الشيخ المعمر شهاب الدين القلعي الشافعي المشهور بابن قيما ، أحد أرباب الأقاطيع بالقلعة الحلبية في الدولة الجركسية.

اعتنى بالقراءات فأخذها عن النشار صاحب التآليف المشهورة ، وتصدر مدة بالجامع الكبير بحلب لإفادتها. وكان حنفيا وابن حنفي ، إلى أن تزوج بنت شيخنا الشيخ نور الدين محمود البكري الشافعي خطيب المقام ، فانتقل إلى مذهبه. وكان تلميذا له أخذ عنه القرآن بقراءة أبي عمرو قبل أن يأخذ عن النشار بالقاهرة.

توفي سنة خمسين في أول ذي الحجة ختام السنة المزبورة.

٨١٣ ـ الشيخ محمد الخاتوني المتوفى سنة ٩٥٠

محمد بن الشيخ صالح عبدو البيري مولدا الأردبيلي خرقة ، ويقال الأردويلي غلطا ، الحنفي الشيخ الزاهد المعمر المنور المشهور بالخاتوني.

ولد ببيرة الفرات في جمادى الآخرة سنة خمس وستين وثمانمائة ، وأمه قد أخذته إلى الشيخ محمد الكواكبي الحلبي ، فأمر خليفته الشيخ سليمان (البويقيري) (١) بتربيته ، فرباه فجعله خليفته ، فاستصعب هذا الأمر ، إلى أن رآه شيخ الإسلام عبد القادر الأبّار (الشافعي) (٢) فحسن له امتثال أمر الشيخ سليمان إذ لم يكن إلا على طريق محمدي أمره

__________________

(١) ليست في الأصل.

(٢) ليست في الأصل.

٤٩٥

بسلوكه. ولم يزل بعده يتعاطى الذكر والفكر ويتردد إليه الزائرون وهو لا يرى نفسه إلا ذليلا ، ولا يطلب أحد منه الدعاء إلا سبقه إلى طلبه ، مع الزهد عما في أيدي الناس وعن أموال عظام كانت ترفع إليه من قبل الحكام ، فلا يلتفت إليها ، والإنفاق من الغيب فيما استفاض عنه ، والمكاشفات الجلية الصادرة منه ، والانكفاف عن الناس في داره إلا في ليالي الجمعات ، فإنه كان يحييها بالأذكار والطاعات ، وكان له ثلاثة بيوت أنشأها في ثلاث قرى من أعمال بيرة الفرات ولكن من طرف الأرض المقدسة برسم النزول بها وعدم تكلف أهل القرى المذكورة بالنزول في دوره مع حرصهم على الاعتقاد فيه وكثرة ترددهم إليه وهو بحلب وحملهم إياه إلى قراهم.

وكان يكثر من أن يقول : لست بشيخ ولا لي خليفة ، إلى أن قرب من الوفاة وتهالك بعض الناس على أن يكونوا له خلفا ، فلم يتغير عن مقالته.

وكانت وفاته بحلب في أواخر شوال سنة خمسين وتسعمائة ، ودفن في مقابر الصالحين ، وكان له يوم دفنه مشهد عظيم ، وحمل سريره فيه الشريف محمد بن عبد الأول الحنفي قاضي حلب.

وكان هو أحد من توجه صحبة بعض القلعيين بمفاتيح قلعة حلب إلى لقاء السلطان سليم بن عثمان وحصلت به البركة والأمن. وقد رآه في المنام قبل أن يموت بسنين الزين عمر الشماع. قال في عيون الأخبار ما نصه : رأيت في منامي جمعا من الناس في صعيد من الأرض وأنا جالس طرف الناس ، وكان في الآخر صوت قوم يذكرون الله ، وإذا بالشيخ شمس الدين محمد الخاتوني الصوفي المشهور بحلب جاء يمشي إلى الجهة التي أنا جالس فيها وهو يتقلب بالنظر يمنة ويسرة ، فوقع في قلبي أنه يريدني ، فرفعت رأسي إلى جهته ، فلما رآني توجه إليّ بمفرده ليس معه أحد ، فقربت إليه فسلم علي وسلمت عليه وقلت له : أنا ما كنت أنكر التصوف قط ، وإنما كنت أنكر وجود أحد من المتظاهرين بصفة القوم أو نحو ذلك ، فتبسم ، ثم وقع كلام غير ذلك لم أضبطه ، ثم استيقظت نفعنا الله تعالى به.

٨١٤ ـ محمد المنيّر الواسطي المتوفى ٩٥٠

محمد المنيّر الشيخ الصالح شمس الدين الواسطي الشافعي ، نزيل حلب ومؤدب الأطفال بها.

٤٩٦

تفقه على الجلال النصيبي ، وعمّر وهو مكب على عمل الكيميا ، إلا أنه كان يحفظ القرآن ويستشكل فيه مواضع ويقترح أمورا من عنده.

ووقع منه ذات مرة أنه كتب رسالة وقال في ضمنها : قد خضت لجة بحر وقف العلماء بساحله ، فلما بلغ شيخنا العلامة الموصلي عابه على ذلك وأنشد فيه يقول :

إن المنيّر قد سما

أقرانه بفضائله

أرسوا ببحر علومه

وسينزلون بساحله

وفي البيت الأخير كما ترى إيهام لطيف ، فإن العوام يقولون نزل فلان بساحل فلان.

وكان أبوه شيعيا إلا أنه كان كثير التعرض لذم أبيه لتصلبه في التسنن.

وبلغه عن رجل شيعي من الحلبيين أنه توجه إلى بلدة من بلاد الشيعة وأظهر فيها السب للصحابة رضي‌الله‌عنهم وأنه قريب الوصول إلى حلب ، فأخذ في فضيحته وأشاع بحلب أنه سيرد عليكم فلان الذي شأنه كذا وكذا وأنه لا بد من تعزيره ونحوه في الطريق وغيره ، وهوّل الأمر إلى أن بلغه الخبر فلم يجسر على دخول حلب.

ولقد نقل عن صاحب الترجمة أنه كان يقول : اللهم لا تحشرني مع أبي في الآخرة. وفي «عيون الأخبار» للزين الشماع أنه قدم يوما إلى مسجد الزين فتداكرا شيئا ، إلى أن مر بهما حديث (أكثر أهل الجنة البله) فسأله عن معناه فأجاب قائلا : وقفت على كلام فيه لشيخ شيوخي سعد الدين ابن الديري الحنفي ، وحاصل ما استحضرته الآن من كلامه أن المراد البله في أمر الدنيا وهو من يحسن الصلاة والصيام ونحو ذلك بالأركان والشروط المقررة في الشريعة ، وأما أمور الدنيا فتراه لعدم اكتراثه بها غير عارف بها ، فهو كالأبله بالنسبة إلى معرفتها ، وليس المراد بالبله الذين لا يتحاشون النجاسة ولا يفعلون العبادة ، فهؤلاء ساقطون لعدم تكليفهم. قال الزين : فاستحسنه الشمس المنيّر ، غير أنه قال : هو غير واف بقوله : إنهم أكثر أهل الجنة ، لأنه ليس أكثر الناس بهذه الصفة كما هو مشاهد. ثم أفاد أنه سمع من بعض الفضلاء أن البله هم الذين توجهوا في العبادة لطلب الجنة كما هو المقصود للجم الغفير يتوجهون إلى طلب الجنة ، ومن فعل ذلك وغفل عن المولى والفوز بالنظر إلى وجهه الكريم وتوجه فكره إلى طلب الجنة ونعيمها ولذاته فهو الأبله ، وعلى هذا يستقيم الحديث ، فإن أكثر الناس بهذه الصفة ، والذين محضوا العبادة

٤٩٧

لرضى المولى ولم يقصدوا سوى ربهم ، وهم الأفراد من العارفين والصديقين ، أعاد الله علينا من بركاتهم وألهمنا سلوك طريقهم بمنه وكرمه. انتهى كلامه.

وفي تعليل الشيخ المنيّر بقوله : إنه ليس أكثر الناس بهذه الصفة نظر ، إذ ليس أهل الجنة جميع الناس ، حتى إذا لم يكن أكثرهم بهذه الصفة لم يكن أكثر أهل الجنة بهذه الصفة فيثبت المطلوب. نعم ليس أكثر المحسنين لما ذكر غير العارفين بأمور الدنيا ، بل أكثرهم العارفون بها الذين هم كالبله.

واتفق أن الشيخ المنير قدم هذه البلاد غير مختتن ، فختن نفسه بيده.

وكانت وفاته سنة خمسين وتسعمائة.

٨١٥ ـ حسن السرميني الإدلبي المتوفى في هذا العقد ظنا

حسن بن صالح بن سلامة السرميني مولدا ، الإدلبي الحلبي الشافعي السرميني الصوفي الأديب بدر الدين.

ذكره شيخنا جار الله بن فهد المكي في «معجم الشعراء» الذين سمع منهم الشعر وقال : إنه ولد في حدود الثمانين والثمانماية بسرمين ونشأ بها عند أمه لموت والده حتى بلغ ، ثم ارتحل إلى الشام فزار بيت المقدس ، ودخل القاهرة وأقام بجامع الأزهر أربع سنين واشتغل بالعلم ولازم جماعة ، منهم الشيخ نور الدين المحلي ، وتردد للقاضي زكريا ، ثم ذهب لمكة في سنة ثلاث عشرة وتسعماية وأقام بها سبع سنين متوالية وقرأ بها العلم. قال : وقرأ على الوالد جانبا من صحيح البخاري ، ونظم ونثر. انتهى كلامه.

ومن شعره ما مدح به عمّي الكمال الشافعي حيث قال في مطلع قصيدة :

وهيفاء التثني في الكثيب

تميس بقامة الغصن الرطيب

تريك البدر إذ تبدو محيّا

بمثل معاطف الرشأ الربيب

تجنّت في الهوى عمدا فصدّت

ولم تعطف على الصب الكئيب

وقد كانت تواصل من بعيد

وقد صارت تقاطع من قريب

ومنها :

٤٩٨

سقتني الراح من ثغر شهي

فتنت به ومن كف خضيب

تغنينا إذا شئنا بصوت

تقول لأنفس العشاق ذوبي

وكان نديمنا نظم القوافي

لقاض لا يدنس بالعيوب

حوى رتب العلا أصلا وفرعا

كمال الدين مفقود الضريب

أجلّ أئمة الإسلام قدرا

عريق الأصل ذو الحسب الحسيب

كريم لا يقاس به كريم

من الكرماء ذو الوصف الغريب

بصير بالأمور يكاد ينبي

لفرط ذكاه عن علم الغيوب

أغرّ تراه في عزم وأزم

كليث شرى وغيث ندى سكوب

ومن غريب ما رأيت أنه كتب في ذيل القصيدة أنه شاعر عصره وأوانه ومجري الفصاحة على عضب لسانه.

٨١٦ ـ قاضي القضاة محمد بن جنغل المتوفى سنة ٩٥١

محمد بن محمد بن علي بن عمر بن قاضي القضاة عفيف الدين بن جنغل ، بضم الجيم والمعجمة وسكون النون بينهما ، الحلبي المالكي.

كان آخر مالكي وجد من أهل حلب وآخر قضاة المالكية بالمملكة الحلبية في الدولة الجركسية وابن قاضيها.

تفقه على مذهب أبيه بالشيخ علي الكناسي المغربي المالكي ، ثم ولي القضاء من قبل السلطان الملك الأشرف قايتباي في تاسع عشري شوال سنة سبع وتسعين وثمانمائة وهو ابن نيف وعشرين سنة ، وذلك بأني وجدت بخط الأستاذ المنجم غياث الدين التقاويمي أنه ولد يوم الأربعاء ثاني شوال سنة أربع وسبعين وثمانمائة ، ذكر ذلك في رسالة ألفها برسمه وعرف (١) فيها دلايل نجومية تتعلق به ما هو من دلايل الخير والسعادة والفهم والفطنة والنجابة ، ثم أنشد :

نعم الإله على العباد كثيرة

وأجلّهن نجابة الأولاد

__________________

(١) في در الحبب : وعدد.

٤٩٩

فكانت وفاته نهار الأربعاء ثاني شوال سنة إحدى وخمسين وتسعمائة عن سبع وسبعين سنة بعد أن نسب إليه أنه يترجى العمر الطبيعي قائلا : إنه لا يموت قبله. وفي وفاته كسرت دكة عظيمة كانت مصنوعة من الخشب الطيب الرائحة المشهور بالشّر بين موضوعة داخل باب داره يعتاد الجلوس عليها.

وكان رحمه‌الله قد لزم بيته في رفاهية وطيب عيش ، وسلم المسلمون من لسانه ويده ، وانكف عن أمر المناصب العثمانية ، ولم يكد يخرج من بيته غالبا إلا لصلاة الجمعة والعيدين تحت منارة الجامع الأعظم بحلب وشهود بعض الجنائز.

وكان من كلامه إذ كان أحد القضاة الأربعة يقول : أنا ربع الإسلام. ولما قرب إلى الوفاة جس نبض يده بيده الأخرى لأنه كان يلم بعلم الطب ويطالع فيه فقال : متّ ورب الكعبة. ثم كانت وفاته رحمه‌الله.

٨١٧ ـ محمد بن عبد البر بن الشحنة المتوفى سنة ٩٥١

محمد بن عبد البر بن محمد أقضى القضاة محب الدين ابن قاضي القضاة وشيخ الإسلام سري الدين ابن شيخ مشايخ الإسلام أبي الفضل محب الدين الحلبي محتدا المصري مولدا الحنفي المشهور بابن الشحنة.

ولي نيابة (١) الحكم عند أبيه وهو قاضي الحنفية بالديار المصرية في الدولة الجركسية ، فكانت تعرض عليه المستندات الشرعية فيعرضها على والده ليفوض إلى كل نائب ما يليق به. ثم قدم إلى حلب بعد انقضاء الدولة الجركسية فحصلت لنا به حظوة في الممازحة والمطارحة الشعرية لسرعة نظمه ورقة طبعه. ثم حج وجاور. ثم قدم إلى حلب فكانت وفاته بها ليلة الأحد تاسع شعبان سنة إحدى وخمسين وتسعمائة بين سلام الفجر وأذانه ، ودفن وسط الرواق الشرقي المجاور لتربة موسى الحاجب خارج باب المقام ، ولم يخلف ذكرا فكان كثيرا ما يتمثل بقول الخنساء في أخيها في مرض موته :

__________________

(١) في در الحبب : نقابة.

٥٠٠