إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

بتقريره أبدى حقيقة أمره

فما كان إلا صاحب النقل والعقل

ومن أجل هذا كان منكر فضله

جديرا بتوبيخ أضيف إلى عذل

فإن قوبلت حساده بخناجر

تجد سل سيف الهند من أعظم العدل

بليغ إذا أملى كلاما لكاتب

تراه عن التعقيد خلوا إذا يملي

وإن جمل ضمت إلى جمل بدت

بلاغته إذ ذاك بالفصل والوصل

يصرح بالتحقيق في كل مبحث

وإن ناب حرب جرد السيف للقتل

وإن ناقشت حساده أهل وده

يدافع عنهم دون عيّ ولا كل

وينشد بيتا للفرزدق محكما

وأبلغ به بيتا بناه على أصل

أنا الذايد الحامي الذمار وإنما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

بنى السعد للممدوح بيتا مشيدا

ولا زال مرفوعا مقام أولي الفضل

ليحظى حفيد التادفي الحنبلي بهم

كأنهم نفس الأقارب والأهل

وصلى إله الخلق في كل ساعة

وآن على خير الورى خاتم الرسل

ثم رثيته بقصيدة صدرتها :

جرى مدمعي من فرط ما قد جرى عندي

لفقدان ذاك الليث والصارم الهندي

ونار الغضا بين الجوانح أضرمت

جوى والأسى ما زال مشتعل الزند

وضوعفت الأحزان مذ حلّ رمسه

وجثماننا ما زال يعتل للفقد

وصيّرنا فوضى وقد كان جمعنا

لفيفا وبعد القرب صرنا ذوي بعد

وأدغم يوم البين في القلب لوعة

وأبدل نوم العين بالدمع والسهد

إمام له التحقيق في كل مبحث

وتوضيحه من غير كلّ ولا جهد

ومن بعد فتح المغلقات بفكره

فكم مغلق تلقاه كالحجر الصلد

تحلّى بأوصاف الفحول أولى الحجى

وألبس إثر الموت أكسية الحمد

ومذ حل بالشهبا تضوّع نشره

كما ضاع نشر المسك والمندل الهندي

٧٧٤ ـ أبو يزيد بن أحمد المعري الإدلبي المتوفى في هذا العقد ظنا

أبو يزيد بن أحمد المعري الكفر رومي ثم الإدلبي ، إدلب الصغرى ، الشافعي الصوفي مريد سيدي علوان الحموي.

٤٦١

اجتمعت به بحلب غير مرة ، فإذا هو لعيون القلوب قرة ، صالح حسن الصمت متدين لا عوج في دينه ولا أمت ، متحاش عن الدنيا الدنية فاضل في العلوم الدينية ، لازم شيخه هذا من صغره وانتفع به في الطريق في كبره. وتفقه في بعض مؤلفاته على ولده سيدي محمد ورحل إلى مصر فأخذ بها الحديث عن الشيخ المعتمد السيد الشريف جمال الدين يوسف المصري.

٧٧٥ ـ موسى التبريزي المتوفى سنة ٩٤٠

موسى التبريزي الأدهمي ، شيخ معمر منور ، كان من مريدي الحاج ولي التبريزي الأدهمي.

قطن حلب وجاور بزاوية الأدهمية الكائنة شرقي السفاحية ووضع بها العلم الأدهمي مع سائر أدوات الدروايش. ولم يزل يعبد الله تعالى ويكنسها وينورها إلى أن مات فدفن بها سنة أربعين وتسعمائة. ولم تر عيني مثل شيبته ونورانيته رحمنا الله تعالى وإياه.

٧٧٦ ـ حميد الدين الرهاوي البكرجي المتوفى سنة ٩٤٠

حميد الدين بن مصلح الدين ابن الشيخ الصالح أحمد الرهاوي البكرجي ، الفقيه المعمر الحنفي.

توفي بحلب سنة أربعين.

وكان يدرس في الفقه بجامع البكرجي وفيه أخذته عنه.

٧٧٧ ـ عبد الله بن ناصر الدين الخطاط المتوفى سنة ٩٤٠

عبد الله بن ناصر الدين بن سبيخ الحلبي الشافعي المشهور بابن ناصر الدين.

كان يؤدب الأطفال وعليه قبول في تأديبهم وفي قراءة مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومع اشتغاله بالتأديب كان يكتب في كل شهر مصحفا بالخط الحسن. واتفق له في آخر عمره أن أحضر للشهادة على يهودي بحق ، فارتشى نائب قاضي حلب وكان

٤٦٢

روميا يعرف بمحمد بن حمزة ، فأمر أن يحضر الخصم بين عدة من اليهود ثم قال للشيخ عبد الله : بيّن المشهود عليه ، فعيّن غيره لضعف بصره ودهشته ، فامتحنه والعياذ بالله تعالى ، فلم يمض قليل من الزمان إلا وحضر إبراهيم باشا الوزير الأعظم للمقام الشريف السليماني بحلب فصلب محمد بن حمزة لظلم كان منه. ثم توفي الشيخ عبد الله بعد تشفيه فيه سنة أربعين تقريبا.

٧٧٨ ـ أحمد ابن الشيخ موسى الأريحاوي المتوفى سنة ٩٤٠

أحمد ابن الشيخ الفقيه الصالح موسى الشيخ شهاب الدين النحلاوي محتدا الحلبي مولدا الشافعي المشهور بالرقة وبابن الشيخ موسى الأريحاوي.

كان أحد عدول حلب في الدولة الجركسية ، وكان بعدها يخطب بالسلطانية تجاه قلعتها.

كان له شعر وتنطع في العبادة. ومن شعره ما كتب به لعمي الكمال الشافعي يهنيه بعيد أتى :

تهنّ بعيد قد أتاك على يمن

يبشر بالغفران والعتق والأمن

وعش سالما من كل منية حاسد

ومن شر ذي شر ومن كيد ذي ضغن

ومروانه وانعم واعل وابق وطب وجد

وعد وارق وازدد واسم بالفهم والذهن

تقلدت بالسعد الكمال مناصبا

تدوم ولم تقبل على مثمن الغبن

وسابقت أهل العلم في الفضل والحجا

فذو السبق منهم حين سعيك في وهن

وكلهم في البحث أضحوا كهيئة

وأصبحت في الشهباء كالشرط والركن

إذ أنت حررت الأمور تجندلوا

لديك بلا ضرب يقدّ ولا طعن

وإن فهت بالآراء نظّمت لؤلؤا

وإن تسطر التوقيع كالدر في القطن

ولم أنس ما أوليتني من تفضل

مرارا ولم أبرح على فضلكم أثني

إلى أن قال :

أمدك رب العالمين بفضله

وبالعز والتأييد ما دمت في أمن

٤٦٣

وكانت له أمور مضحكة ، منها أنه خرج ذات يوم في جماعة إلى جنينة عبيد (١) وكانت مقصف حلب يستعمل فيها الحشيشة الخبيثة في منكرات أخرى ، وبلغ أمره أن قتل وبلع (٢) ، وكان في سعد السعود فصار في سعد بلع ، وقام ليصلي بهم فسجد فلم يرفع رأسه إلى أن فارقوه وأتموا صلاتهم ، ثم أيقظوه مما كان فيه إيقاظا.

ومنها أنه كانت له زوجة فادعى أنها من ذرية العباس رضي‌الله‌عنه ، وجلس يوما بدار العدل يسرد نسبها بحضرة قضاة القضاة ، فإذا هو قد قام وهو آخذ في أثناء النسب ، فقيل له في ذلك فقال : إني وصلت إلى جدها فلان وكان من أمراء المؤمنين.

ومنها أنه وقع بينه وبين القاضي علاء الدين ابن القطّان الشافعي ، فقال له : أنا شهاب وأنت قطّان ، أفلست تخشى على قطنك مني؟

ومنها أنه صار وكيلا في واقعة ، فوقع بينه وبين الموكل وهو في الدعوى عليه منافرة ، وكان يلقب بكرباج ، فقال : ماذا يقال فيمن هو كرباج.

توفي بدمشق سنة أربعين رحمه‌الله وإيانا.

٧٧٩ ـ محمد بن محمد الخناجري المتوفى سنة ٩٤٠

محمد بن محمد الخناجري أبوه ، الديري الأصل ، الحلبي الشافعي ، المعروف أبوه بابن عجل ، ولم يشنه ذلك لما مر في ترجمة الشهاب أحمد المعروف بابن حماره.

كان ذا يد طولى في الفقه والفرايض والحساب مع المشاركة في فنون أخر ، معتقدا في الصوفية سريع البكاء مع ما هو عليه من لطف المحاضرة وحسن المعاشرة وكثرة المفاكهة والممازحة وخفة الروح وانشراح الصدر. وكان كثير التردد للشيخ محمد الخراساني قدس

__________________

(١) قوله جنينة عبيد هذا بضم عينها قطعة أرض واقعة ما بين شمالي الخضرية وبين منتهى أرض بستان النصيبي من جهة القبلة ، وهي مذكورة في حدود البستان المذكور الجاري في وقف جد كاتبه الأعلى القاضي شمس الدين ابن آجا. وهذه الجنينة لم يبق لها عين ولا أثر ، وأظن ذلك الاضمحلال في سنة سبعين وتسعمائة ا ه. نقلا عن خط الشيخ إبراهيم ابن الملا.

(٢) قوله أن قتل وبلع ، أراد المؤرخ ههنا قتل الحشيشة وهو دقها وعجنها المتعارف بين متعاطيها بقرينة قوله وبلع ا ه. نقلا عن خط إبراهيم بن الملا.

٤٦٤

سره ، فاتفق له ذات يوم أنه وقف بين يدي الشيخ غاضا لطرفه ، ساكتا ، واضعا يده فوق الصدر ، فسأله الشيخ : لم فعلت ذلك؟ فقال : طريق من كان بحضرة سلطان أن يغض طرفه ، أو بحضرة فقيه أن يكف لسانه ، أو بحضرة صوفي أن يوجه إليه قلبه ، وها أنا قد جمعت الثلاثة بين يديك لاستحقاقك مثل ذلك.

وقد أفتى صاحب الترجمة ودرّس بالجامع الأعظم بحلب وانتفع به الناس.

وما أحسن قول القاضي جابر متعرضا إليه وإلى البدر بن السيوفي رحمهم‌الله تعالى :

سللن سيوفا من جفون لقتلتي

وأردفنها من هدبها بخناجر

فقلت : أيفتى في دمي قلن لي : أجل

أجاز السيوفي ذاك وابن الخناجري

وكنت ممن أخذ حظه منه فقرأت عليه «نزهة الحسّاب» بالمدرسة الشرفية ، وأجاز لي أن أقرأها بحق قراءته لها على (العلامة الفرضي الحيسوب جمال الدين أبي النجا يوسف ابن علي بن محمد الإسعردي مولدا ، المقدسي منزلا ، الوفائي خرقة ، الشافعي ، صاحب المنظومة المسماة ب «بغية الرائض في علم الفرائض» بحق قراءته لها على) (١) مؤلفها الشهاب أحمد بن الهايم المصري ثم القدسي.

وكانت وفاته نهار عرفة من شهور سنة أربعين وتسعمائة بعد وفاة شيخنا الشهاب الهندي بأشهر معدودة ، فقلت في مرثيتهما معا حيث قلت :

ثوى شيخنا الهندي في رحب رمسه

ففاضت دموعي من نواحي محاجري

ومن بعده مات الإمام الخناجري

وبان فكم من غصة في الحناجر

ومن لطائفه أنه مر يوما على الطائفة القلندرية ، فتقدّم إليه أحدهم ليأخذ منه فتوحا فقال له : أنت جرار وأنا جرار والجرار لا يأخذ من الجرار شيئا.

وحضر عند جماعة في مأدبة ، فلما خرج من عندهم فبينما هو في الطريق إذ صادفه رجل راجع من جنازة بعض معارف الشيخ ، فقال له : أين كنتم؟ إشعارا منه بأنا لم نركم في الجنازة ولا المقبرة ، فقال له : كنا بين القبور ، فقيل له في ذلك فقال : كنا بين القبور الماشية.

__________________

(١) ما بين قوسين إضافة من «در الحبب» ليست في الأصل.

٤٦٥

وكان يوما بين جماعة من المشايخ يقرؤون الأنعام وفيهم القاضي تقي الدين بن شهلا الدمشقي الشافعي ، وكان أسود اللون ، فتردد الجماعة فيمن يدعو ، فقال الشيخ لبعض الجماعة الحاضرين : توجه إلى ذلك الأدهم ودعه يدعو ، فتوجه إليه وأخبره بصدور هذه العبارة من الشيخ ، فلما رآه عاتبه فقال له : يا قاضي هب أنك ابن آدم رضي الله تعالى عنه.

وكان يسمع الآلات ويقول : أنا ظاهري أعمل بقول ابن حزم الظاهري ، فإذا قال ذلك بحضرة الموفق شيخ الشيوخ بحلب قال له : إن من الحزم ترك قول ابن حزم. وجرى بينهما ما جرى من المباسطة.

وحكي عنه أن طفلا حسنا قبّل يده ، فقال له : والله إن فمي أحق بهذا التقبيل من يدي.

ودخل يوما على حين غفلة على قاضي القضاة ولي الدين بن الفرفور ببيت أزدمر ، فإذا هو وحده يستنجي بجنب البحرة ، وكان يدخل عليه من غير استئذان ، وكان الشيخ رأى منه ما رأى ، فقال له : يا قاضي أهذا خف جمل؟ فقال له القاضي : يا شمس الدين بعد هذا لم تكن لتعمى أبدا ، فقال له الشيخ : سبحان الله هل هذا ذكر نبي حتى تكون له هذه الخاصية.

ورأى إنسانا يمشي قدامه صغير له فقال له : وهذا عصفور من؟

ولما تزوج الشيخ إبراهيم الصيرفي الأريحاوي بعد أن كان أرملا هبت زوبعة شديدة فقال : سبحان الله! النساء يقلن : إذا انجلت عروس أرملة على زوجها هبت زوبعة ، فلعل هذا الأرمل الذكر ينجلي في هذه الليلة على زوجته. إلى غير ذلك من لطائفه.

٧٨٠ ـ أحمد بن محمد بن مهان المتوفى نواحي سنة ٩٤٠

أحمد بن محمد الحلبي المشهور بابن مهان.

كان سمسار السختيان ، ومع هذا كانت له كلمة في محلته الشهيرة بمحلة الجبيل ، وكان فيه الخير حتى إنه بذل نحو ثلاثمائة دينار سلطاني في إنشاء القسطل التحتاني المجاور للمدرسة العجمية بالمحلة المذكورة ، ونقر الجدار الكائن على يسرة النازل إليه فهيأ له فيه مدفنا سنة

٤٦٦

تسع وثلاثين ، ثم كان دفنه فيه بعد سنين معدودة ، وجعل على أعلاه بعض حجرات منقورة في الجبل أيضا برسم بعض طلبة العلم الغرباء ، فلما سكن بها بعضهم أتلفت عليه كتبه باستيلاء الرطوبة ، فتركها ولم تزل متروكة من يومئذ ا ه.

أقول : لا زال هذا القسطل موجودا لكنه معطل لا يأتيه الماء ، وقبره ثمة عن يسار النازل إلى القسطل داخل مغارة طويلة قليلة النور يشتغل فيها الحبّالون الحبال لرطوبتها. ومكتوب على قبره : (أنشأ هذا السبيل المبارك أضعف خلق الله الحاج أحمد بن الحاج محمد بن مهان النعايومي «ثم كتابة داخلة في الجدار لم أتمكن من قراءتها وفي السطر الثاني من اللوح» ولرسوله الكريم بتاريخ شهر صفر الخير سنة تسعة وثلاثين وتسعمائة).

٧٨١ ـ حسين بن أبي بكر بن أبي ذر المتوفى سنة ٩٤١

حسين بن أبي بكر ابن محدث حلب وابن محدثها وحافظها أحمد بن أبي ذر الحلبي الشافعي أخو شيخ الشيوخ بحلب.

توفي في شعبان سنة إحدى وأربعين عن يرقان مري عرض له ، ودفن بقبر عم أبيه عبد الله ابن الحافظ برهان الدين الحلبي.

وكان كثير الترفهات والتنزهات متأنقا في المأكل طري النغمة ، ولكن لا في المحافل ، عنده خير بقية من الأعمال الموسيقية رحمه‌الله.

٧٨٢ ـ أبو ذر الصمصوني قاضي حارم المتوفى سنة ٩٤١

أبو ذر بن يوسف بن إبراهيم الصمصوني ثم الحلبي الحنفي.

فقيه فاضل شروطي ماهر في تسطير الوثايق الشرعية. قدم حلب فكتب بمحكمة القاضي زين العابدين الرومي ، ولولي الدين محمد ابن الفرفور الدمشقي وهو قاض بحلب فمن بعدهما كالقاضي عبيد الله وغيره.

وتنقل من بعد ذلك في عدة مناصب ما بين تدريس وقضاء كقضاء حارم ونحوه.

وتزوج في حياة شيخنا الزين عبد الرحمن بن فخر النسا ببنت له مات زوجها عنها

٤٦٧

طمعا في تركته وطلبا لأولاد يكونون من ذريته ، إلى أن كانت وفاته بحلب سنة إحدى وأربعين وتسعمائة.

٧٨٣ ـ علاء الدين بن عمر المعروف بشيء لله المتوفى سنة ٩٤١

علاء الدين بن عمر الحلبي المعروف بابن شيء لله ، أحد أعيان التجار وأخو الحاج عثمان المتوفى سنة ٩٥٩ لأبيه.

كان في الدولة الجركسية معلم دار كورة كأبيه وأخيه ، ثم تنزه عن معلميتها وأثمر ماله وحسنت حاله إلى أن قرب من الوفاة ، فأوصى بمال كبير ليعمر به حوض بمحلة المشارقة عند باب العقد بها ، فصرف بعد وفاته في عمارته فلم يف ، فأكمل عمارته الخواجا سعد الله الملطي من ماله.

وأوصى أيضا لعلماء حلب وفقرائها بألف دينار سلطاني ففرقت على أربابها بعد وفاته بمباشرة الشيخ زين الدين عمر بن الوزنة. ولم نر بعده تاجرا أوصى بألف دينار سلطاني لمن ذكر إلى عامنا هذا عام أربعة وستين سواه.

وكانت وفاته سنة إحدى وأربعين ودفن بقرب مزار الشيخ ثعلب.

٧٨٤ ـ باي خاتون بنت الشماع المتوفاة سنة ٩٤٢

باي خاتون بنت إبراهيم بن أحمد الحلبية الشافعية القادرية الكاتبة بنت أخي شيخ الإسلام الزين الشماع.

قرأت عليه «منهاج النووي» بطرفيه وشيئا من «إحياء علوم الدين» ، ومات ورأسه في حجرها ، وكان كثير الزيارة لها.

قيل : وكانت ترقي من به الريح الأحمر فيبرأ بإذن الله تعالى كثير. وبذلت نحو مائتي مثقال من الذهب في الصدقات.

وكانت بينها وبين الشيخة فاطمة بنت قريمزان صحبة أكيدة ، ولقد تشرف بها إذ كانت له زوجة الشريف ناصر الدين محمد العادلي.

٤٦٨

توفيت سنة اثنتين وأربعين ودفنت بجوار عمها المشار إليه.

٧٨٥ ـ القاضي جابر التنوخي المتوفى سنة ٩٤٢

جابر بن إبراهيم بن علي التنوخي القضاعي الشافعي القاطن بجبل الأعلى من معاملة حلب.

ولي نيابة القضاء به. وكان شاعرا ماهرا عارفا بالعروض والقافية وطرف من النحو ، مستحضرا لكثير من علم متن اللغة ونوادر الشعراء وأشعار العرب العرباء ، وحافظا لكثير من مقامات الحريري. وطالما كان يحضر مجلس درس شيخنا العلامة الموصلي فيسأله في سرد شيء منها عليه ليذاكره في عباراتها ولغاتها.

وكان له خط حسن وحظ إذا نطق في اللسن. وكان يزعم أنه من ذرية أخي أبي العلاء المعري ، إلا أنه نقل عنه إلي أنه كان يرفع (نسبه) (١) فيقول : جابر بن إبراهيم بن علي بن فرج بن شمس الدين (بن الحسين بن علي بن أحمد بن عبد الله بن سليمان) (٢) ابن وداع ، إلى أن يقول : ابن قضاعة التنوخي ، مع أن أحمد هذا ليس أخا لأبي العلاء المعري الذي هو أحمد بن عبد الله بن سليمان موافقا له في الاسم فيما نعلم ، فيكون هو أبا العلاء نفسه ، وهو لم يتزوج قط فيلزم أن يكون القاضي جابر من ذرية من لم يتزوج قط.

نعم لأبي العلاء أخوان ذكرهما الصفدي في تاريخه ، إلا أن أحدهما عبد الواحد والآخر محمد أبو المجد جد أبي المجد قاضي المعرة الذي كان أحد من أفتى على مذهب الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه وأحد أرباب الدواوين الشعرية.

وعلى ما لصاحب الترجمة من المحاسن كان متهما بانحلال العقيدة بل باعتقاد ما يوجب الكفر والعياذ بالله تعالى حين كتب إليه بعض أكابر حلب لأمر وقع بينهما : السلام على من اتبع الهدى وخشي عواقب الردى وأطاع الملك الأعلى وإن كان بالجبل الأعلى (٣).

ومن شعره القصائد التي نظمها على حروف الهجاء وسماها «بالعقد الغالي في مدح

__________________

(١) ما بين قوسين زيادة ليست في الأصل.

(٢) الجبل الأعلى : جبل شمالي حلب.

٤٦٩

الكمالي» وأهداها لعمي قاضي القضاة كمال الدين محمد الشافعي وجعل الأول منها :

طاب الزمان وراقت الصهباء

وشدت على أوراقها الورقاء

وأدارها الساقي علينا في الدجى

كانت لداء القوم نعم دواء

ساق له وجه حكى بدر الدجى

وطلا الغزال ومقلة كحلاء

يرنو إلى الندما فيسكر طرفه

غنجا ولا شهد ولا إغفاء

كالبدر حاز بكفه شمس الضحى

في فتية تحكيهم الجوزاء

فاشرب ولا تدع السرور بها فقد

غفل الوشاة وغابت الرقباء

سيما وقد مد الربيع بساطه

من بعد ما قد جادت الأنواء

حاكت به أيدي الزمان زخارفا

فيرى بها الصفراء والحمراء

يزهو بأزهار تخالف نورها

يصبو إليها القلب والحوباء

وإذا تضن الغاديات بوبلها

من كف قاضيها يسح نداء

أعني كمال الدين ذا الفخر الذي

شهدت به الأموات والأحياء

الشافعيّ التاذفيّ ومن غدت

تمحى به البأساء والضراء

البارع الشهم الهمام ومن به

صلح الورى واستبّت (١) الأشياء

تلقى طباع الخير فيه غزيرة

زينت به الغبراء والشهباء

ذو همة تعلو الكواكب رفعة

ليست تنال ولا له أكفاء

وله المروءة والفتوة والوفا

وفضائل ومناقب وسخاء

هو كامل في كل فن عالم

وله التقى وفصاحة وذكاء

كملت مناقبه الحسان وغيره

كملت به الضراء والفحشاء

شتان ما بين اللئام وبينه

وبضدها تتميز الأشياء

لا زالت الأيام تخدم سعده

ما عوقب الأنوار والظلماء

وله فيه مدائح كثيرة جدا لأنه كان ممدوحه الذي يعرف به ، ومن جملتها قصيدة مطلعها :

هويت غزالا جعده وجبينه

وأجفانه والجيد جيمات أربع

__________________

(١) لعل الصواب : واستدت.

٤٧٠

وجمرة خديه وجوهر ثغره

وسابعها جيم العجيزة تتبع

كجنح دجى والفجر والجفن ينتضى

جرازا لقتلي والجداية تتلع

وجوريّ ورد والجمان منظما

وأمواج لج هائج تتدفع

ومن جملتها :

سواء على المحبوب إن صدّ أو وصل

وإن مرض الصب المعنى وإن نصل

أقلبك من قين شديد قساوة

على العاشق المسكين أم قدّ من جبل

تقرح جفني من دموعي ومهجتي

بها من غرام فيك جمر قد اشتعل

فتنت ببدر كل ما فيه فاتن

من الشعر والخد المؤثر والمقل

وجعد وجيد والنهود وصدره

كلوح من البلور والخصر والكفل

أقول له صلني فيضحك هازئا

ولا ينثني نحوي فيدركني الخجل

فقلت لقلبي دع هواك وسر بنا

إلى من له فخر ومجد قد اكتمل

وهي طويلة.

وذكر لنا ذات مرة مراتب الشعراء أن أشعرهم الخنديد ثم المفلق ثم الشاعر ثم الشويعر ثم الشعرور ، فأنشدته في نظم مراتبهم هذه لنفسي :

مراتب نظّام القوافي تفاوتت

وكل فصيح منهم فهو مشكور

فأشعرهم خنديدهم ثم مفلق

فشاعرهم ثم الشويعر شعرور

توفي في جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين عفا الله عنه.

٧٨٦ ـ يوسف الشرفي المعروف بابن المنقار المتوفى سنة ٩٤٣

يوسف ابن الأميري الشرفي يونس ابن الأميري الجمالي يوسف ابن الأمير الناصري محمد بن المبارك ، الحلبي ثم الدمشقي ، الحنفي الشهير بابن المنقار.

كان له ذكاء مفرط وفضائل متنوعة ومعرفة تامة بأمور أهل الدنيا وشغف زائد بتواريخ الناس ، حتى ألف تاريخا صالحا ، ثم بداله فأزاله من البين ، حتى لم تتمتع به عين ، ولم يكن له أثر ولا عين.

٤٧١

وتنقل في الوظائف السنية في كلتا الدولتين الجركسية والرومية ، فولي في دولة الجراكسة كتابة السر ونظر الجيش ونظر القلعة بحلب ، وكذا ولي أستدارية السلطان بها ، إلا أنه تجمع عليه للخزاين الشريفة مال جزيل فورد الأمر السلطاني برفعه إلى قلعتها ليؤخذ منه المال ، وساء به الحال ، فصمم العزم على الفرار منها إلى الأبواب الشريفة ليصلح أمره بها بمشارفة من له بها من الأصحاب ، ففعل ، فلما وصل إلى الأبواب الشريفة نصحه المقر المحبي بن أجا كاتب الأسرار الشريفة بالممالك الإسلامية وصمم عليه وهو مختف عنده في أن لا يقيم بهذه المملكة أصلا ، وأخبره أن السلطان الغوري يومئذ كان قد عورض من جهتك وهو حاجب الحجاب بحلب في أمر فلاح كنت منعته من مطالبته بحق كان له عليه لكونه من فلاحي جهات السلطنة المتصرف أنت فيها ، فإن ظهرت له ربما يوقع فيك أمرا ، فانتصح ومر من القاهرة في البحر إلى القسطنطينية ، فبينما هو فيها إذ داع دعاه إلى مفتيها فدخل عليه فإذا هو صاحب له قديم كان قد صحبه من حلب إلى القاهرة في سفرة قديمة للقاضي جمال الدين إليها رافقه هو فيها متوجها إلى الحج من طريق القاهرة وهو العلامة علاء الدين علي الجمالي والد فضيلة قاضي حلب المتقدم ذكره ، فأكرم عند ذلك مثواه لما أن القاضي جمال الدين من الأسخياء سفرا وحضرا. ثم صار له بها خمسون درهما عثمانيا من الخزائن الشريفة العثمانية البايزيدية ، فمكث بها مدة تزيد على ست عشرة سنة. ثم لما زالت الدولة الجركسية وزال ما كان يخشاه عاد إلى ديار العرب وتولى القضاء بسيجر وبإسعرد وبصفد ، وتولى على المدرسة الماردانية بصالحية دمشق ذاكرا أن توليتها له بشرط واقفها.

ورافق زين العابدين سبط ابن الفناري قاضي حلب مع ثالث لهما في تفتيش الأملاك والأوقاف لرد ما لا صاحب له إلى بيت المال ، فلم ير الحلبيون ذوو الأملاك والأوقاف منه ضررا ، غير أنه ذكر أنه كان على قرية من ستين جهة رماح معدودة ، وعرض ذلك على الحضرة الخنكارية خشية على نفسه من أن يقال في شأنه قد أخفى عنهما ما أخفى ، فلما عرض على الحضرة الخنكارية ما عرض حصل منها السماح لمن كانت عليه الرماح.

ثم كانت له من خزانة دمشق علوفة جيدة إلى أن توفي بصالحيتها من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة ودفن بجبل قاسيون بوصية منه بعد ما كان دفن أولاده بداره وأعد له قبرا. ولم يعقب ولدا ولا ولد ولد ولا من دونه.

٤٧٢

وكان جده محمد هذا وهو محمد بن مبارك بن عبد الله الحسامي أميرا جليلا صار أحد مقدمي الألوف بالشام عام ثلاث وثمانمائة ، وولي كفالة حماة في أيام السلطان فرج بن برقوق وجعله مدة باش عسكره ، وكان أولا يعرف بابن المهمندار وهو صاحب الوقف العظيم الباقي في أيدي ذريته الآن بحلب ، وكذا هو الذي لقب بالمنقار ، قيل لأنه كان بمطبخه طباخة مسنة وكان ينكر عليها حسن الطبخ مغضبا ، فقالت له يوما : إلى متى ترفع منقارك عليّ ، تريد بذلك رفع أنفه عليها عند غضبه ، فلقبه أعداؤه بالمنقار.

وأما جده الجمالي فإنه كان نائب إياس.

ورأيت مرسوما قديما ورد من قبل بعض السلاطين لبعض كفّال حلب يتضمن أنه قد أحاط علمنا ببني المهمندار بحلب وأنهم من ذوي البيوت العريقة وأنهم كانوا قطب المملكة الحلبية وعليهم مدارها وحقوق أسلافهم متواترة على الدول الشريفة قديما وحديثا مؤرخا لسنة ثلاث وخمسين وثمانمائة.

٧٨٧ ـ أحمد بن شاذ بك الطبيب المتوفى سنة ٩٤٤

أحمد بن شاذ بك بن عبد الله العلائي أحد رؤساء الطب الحذاق بحلب.

أخذ شيئا في المنطق عن شيخنا العلاء الموصلي ، ثم مهر في الطب ، ثم استولى عليه حب شرب الراح فصار يشربها ويخالط الناس ، فاختل نظام طبه.

وكان كثيرا ما يغض من شموال الأمشاطي الطبيب المصري نزيل حلب.

وكان أبوه شاذ بك العلائي عتيق قاضي القضاة علاء الدين ابن جنغل المالكي.

توفي تقريبا سنة أربع وأربعين رحمه‌الله تعالى.

٧٨٨ ـ الأمير جانم الحمزاوي المتوفى سنة ٩٤٤

جانم بن يوسف بن قرقماس الجركسي الأصل الحلبي المولد الأمير الكبير الشهير بابن الحمزاوي بالمهملة المكسورة والزاي.

كان اسمه محمدا فغلب لقبه عليه.

٤٧٣

وكان في الدولة الجركسية دوادارا ثالثا عند خاله خير بك كافل حلب ومقربا عنده جدا ، ثم لما تولي كفالة القاهرة في الدولة العثمانية السليمية بقي عنده فلم يبرح عنه ، ثم صار ناظر الأموال السلطانية بالديار المصرية والأقطار الحجازية فساس الناس في جمعها وجمع للخزاين الشريفة الأموال العظام وأنشأ له أملاكا وأوقافا جمة ورأس بالقاهرة رياسة كاملة باهرة ، وصار يجتمع عنده أكابر العلماء كقاضي القضاة نور الدين الطرابلسي الحنفي وقاضي القضاة شهاب الدين الحنبلي ابن النجار وشيخ المحققين النور البحيري الشافعي في آخرين منهم الشيخ المعمر الشمس الدلجي ، قيل وكان يلاقيه إلى باب منزله وينزله بيده من على دابته وهو منحن عليها لكبره ويقبل يده مرات ، يجمعهم عنده كل خميس واثنين فيقرأ أحدهم شيئا من الحديث ويتكلمون عليه ما تيسر وهو بين أظهرهم ، إلا في الأشهر الثلاثة الحرم فإنهم كانوا يحضرون عنده كل يوم ، وكان يتفقدهم في الأعياد والمواسم والعطايا.

وكان له في كل سنة زكوات يفرقها على أربابها وخبز يفرق على أهل جامع الأزهر عشية كل يوم قدر خمسمائة رغيف ، وخبز يفرق على المسجونين بسجن القاهرة واهتمام بشأن الحلبيين إذا قدموا عليه.

وعمر هناك تربة ووقف عليها وقفا وقرر لها شيخا وعشرة أشخاص يكونون حرسيين مقيمين بمساكن فيها وجعل لهم خبزا وماء وجوامك ودفن بها النورين المذكورين. وأمره الشيخ نور الدين محيسن القاهري وهو من المعتقدين أن يدفنه عندهما عسى أن يكون له بهما ثلاثة أنوار ينتفع بها يوم القيامة ففعل.

وكان له بالباب العالي الإكرام والاحترام غيبة وحضورا. ولما عزل سليمان باشا كافل القاهرة استنهضه في أن يكون معه في أخذ الهند بالأمر السلطاني إذا حصل الإذن السلطاني فيه ، فوافقه ، ثم رافقه في التوجه إلى الباب العالي ، فلما عرض الحال وقع الإذن في ذلك وأعيد سليمان باشا إلى كفالة القاهرة ، فلما شرع في تهيئة أمور السفر إلى الهند بدا للأمير جانم أن لا يسافر معه ، فأرسل إلى أخيه الأمير إبراهيم وكان بالباب العالي دائما أن يشفع فيه ويصرفه عن هذه السفرة ، فشاع بالباب العالي ما أسره لأخيه. واتفق أن الأمير إبراهيم توفي إلى رحمة الله تعالى قبل بلوغ أخيه ما يبغيه فوصل إلى مسامع سليمان باشا ما أسره

٤٧٤

لأخيه فلم يعرض فيه على التعيين حذرا أن لا يسمع فيه عرض ، فعرض أن جماعة بالقاهرة يعطلون على هذه السفرة التي وقع الإذن السلطاني بها ، فورد عليه حكم بفعل ما يريد ، فأحضره وحز رأسه وأحضر ولده الجمالي يوسف وحز رأسه وسلخهما وحشاهما تبنا وعلقهما بباب زويلة ، وكان ذلك في آخر ذي الحجة ختام سنة أربع وأربعين.

ثم سعى في أخذ الهند فضيع أموالا جزيلة ولم ينل مراده قبل.

قيل : وكان تدبير قتله وقتل ولده مع سليمان باشا من قاسم المغربي كما سيأتي في ترجمته.

وقد بلغني عن الأمير جانم أنه كان مع هذه السعة لا يرى الدعة ويتمنى أن لو كان ببلدته حلب منفردا عن الناس تحت ظل شجرة في داره بها ، حتى برز أمره بتجديد قاعة عظمى بجوار داره القديمة وبعث لها من القاهرة نفائس الرخام الملون فعمرت ولم ينل ما يريده من العزلة بها رحمه‌الله.

٧٨٩ ـ يوسف بن الأمير جانم الحمزاوي المتوفى سنة ٩٤٤

يوسف بن الأمير جانم بن الأمير الكبير يوسف الأمير جمال الدين الحمزاوي الحلبي القاهري.

ولي إمارة الحاج المصري. وقتله سليمان باشا الخادم كافل القاهرة سنة أربع وأربعين وتسعمائة على ما مر في ترجمة أبيه ، ولامه على قتله الشيخ شاهين الجركسي المنقطع إلى الله تعالى بالقرافة ، وكان سليمان يتردد إليه ويتبرك به ، فلما قتله وأباه تركه وأباه وقال : لا يعد سليمان يدخل عليّ ولا يتردد إليّ ، فما زال حتى اجتمع به فقال : إن أباه قتل في عمره من لا يستحق القتل فقتل به ، فما ذنب ولده؟ فقال : إني خشيت أن ينقاد إليه بعض بقايا الجراكسة فيفسد ملك مصر على الحضرة الخنكارية فقتلته.

وكان شكلا حسنا لا يروى راء من عذب رؤيته ولا يمل مطالع من شهود طلعته ، طويل القامة زائد الشهامة رحمنا الله تعالى وإياه.

٤٧٥

٧٩٠ ـ محمد بن عبد القادر الشماع المتوفى سنة ٩٤٤

محمد بن عبد القادر بن أبي بكر الشيخ شمس الدين بن محيي الدين القرشي العمري الحلبي الشهير بابن الشماع (١) الريس بالجامع الكبير ، كذا وجدته مرقوما بخط المحدث عبد العزيز بن عمر بن محمد بن فهد الهاشمي المكي في ثبت الزين الشماع حيث عده فيمن سمع منه الحديث المسلسل بالأولية كما هو المسطور هناك وكتب له بالإجازة عنه.

وقد كان الشيخ شمس الدين دينا خيرا فقيها موقتا مقداما في كلمة الحق ، حتى مر يوما بجامع حلب الأعظم وبه شاب يدرس من ذوي البيوت فقال بصريح العبارة : من تصدر وهو حدث فقد فاته علم كثير.

وكان إماما بالتغري ورمشية وبها قرأت عليه في الميقات. وكان له مع هذا الفضل دراية في علم بعض الأطعمة والحلويات النفيسة ، وذلك أنه كتب بخطه «وصلة الحبيب (٢) في الطيبات والطيب» وكان يطالعه ويعمل بموجبه.

سافر إلى دمشق فمرض بها فنقل إلى بيمارستانها فقال له كاتب البيمارستان : ماذا اكتب لك مما هو ملكك؟ فقال : اكتب أني فقير من فقراء المسلمين لا عليه ولا له.

وكانت وفاته سنة أربع وأربعين وتسعمائة.

٧٩١ ـ محمد بن عبد الرحمن السيرجي المتوفى سنة ٩٤٤

محمد بن عبد الرحمن الأمير ناصر الدين الحلبي الشهير بابن السيرجي.

توفي سنة أربع وأربعين وتسعمائة. وكان مهمندارا كبيرا بحلب من دولة قايتباي إلى انقراض دولة الغوري ، فإنه كان بحلب مهمنداران يقال لأحدهما مهمندار كبير ويقال للآخر مهمندار ثاني. ومن بديع ما اتفق له في دولة قايتباي أنه أرسل إليه يعقوب شاه مهمندار كبير بالأبواب الشريفة كتابا يذكر له فيه أن المهمندار الثاني سعى في أخذ

__________________

(١) في هامش إحدى النسخ المخطوطة من «در الحبب» : ابن الشحام.

(٢) طبع في جامعة حلب ـ معهد التراث العلمي العربي بتحقيق سليمى محجوب ودرية الخطيب باسم «الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب» تأليف كمال الدين بن العديم.

٤٧٦

المهمندارية الكبرى بحلب منك وكان صديقه ، فتوجه إلى الأبواب الشريفة في أربعة عشر يوما ، فلما اجتمع بقايتباي ظهر أن عمه كان من أصدقاء قايتباي قبل السلطنة ، فقرره على وظيفته وألبسه الخلعة ، فلما نزل بها إلى منزله أمر صديقه مهمندار كبير بالأبواب الشريفة عدوه الساعي عليه في وظيفته بأن يمشي معه بين يديه إلى منزله ، فلم يسعه المخالفة ، فلما وصل معه إلى منزلة اقتضت مروءة الناصري إذ تلاشى أمر عدوه وصلحت حاله أن نزع الخلعة وألبسه إياها كأنه لم يدر أنه سعى عليه ، فعند ذلك اهتم العدو بشأنه وأضافه ضيافة حافلة وبسط عذره له ، فيا لها مروءة أجراها المرء على عدوه ا ه.

أقول : وله وقف داخل في دائرة الأوقاف ومرتزقة يرتزقون منه.

٧٩٢ ـ الشيخ عبدو القصيري المتوفى سنة ٩٤٤

عبدو بن سليمان الكردي القصيري الشافعي الصوفي الخلوتي.

قدم حلب مرارا ونزل عند شيخنا البرهان العمادي وغيره. وكان أصله من خينو من قرى القصير ، فتركها مع نضارتها إلى قرية خربة بجبل الأقرع فعمر له بها دارا ، فعمر غيره بها دورا ، واعتزل بها إلى أن ورد عليه ولده الشيخ أحمد وقبل يديه وأظهر التوبة عما كان عليه من عدم الرضى بما عليه أبوه ، فجعله خليفته وانقطع لمجرد العبادة.

وبلغني من بعض الثقاة أنه توجه إلى زيارته فرأى حول داره دواب لا تحصى للزوار وغيرهم ، فحدثته نفسه بأن يشتري لدابته علفا خشية أن تموت بين تلك الدواب الكثيرة عند رجل فقير ، قال : فقدمت على الشيخ فقال لي بديهة : أتخاف عليها من الموت لعدم العلف؟ فعلمت أنه قد كاشفني أو كشف له.

توفي بوطنه سنة أربع وأربعين.

وكان من المجدين في العبادة فوق العادة ، يتعمم هو وأتباعه بالمئزر الأسود ويلبس التاج المضرّب دالات (١). وكان في مريديه كثرة إلا أنها لم تبلغ كثرة مريدي ولده المذكور ولا كان يشتغل في العلوم الظاهرة مثله.

__________________

(١) هذا التاج يلبسه أتباع الطريقة الصوفية المنسوبة إلى إبراهيم بن أدهم ، وهو قطعة قماش ضرب على ظاهرها ما يشبه الدالات.

٤٧٧

٧٩٣ ـ إبراهيم بن إبراهيم الأريحاوي المتوفى سنة ٩٤٥

إبراهيم بن إبراهيم بن أبي بكر الشيخ برهان الدين الأريحاوي الأصل الحلبي الدار الصيرفي الشافعي.

كان حريصا على خدمة جماعة من العلماء بالمال واليد ، صبورا على تحمل غليظ القول من بعضهم ، معتنيا بجمع نفايس الكتب الحديثية والطبية وغيرها ، سمحا بعاريتها.

قرأ على البرهان العمادي وابن مسلم وغيرهما وأعاد بالعصرونية في حلب عن المبدوء بذكره والشمس السفيري ، وولي وظيفة تلقين القرآن العظيم بجامعها الأعظم. وأعرض في آخر أمره عن حرفته وقنع بالقليل مكبا على خدمة العلم عفيفا متعففا. ورافقنا في أخذ العلم عن الزين عبد الرحمن بن فخر النسا وغيره.

ولما توفي سنة خمس وأربعين دفن وراء جدار مقابر الصالحين في أرض اشتراها أخوه أبو بكر الصيرفي ، ثم أزيل الجدار وترادف الدفن هناك حتى كان ممن دفن بها الشيخ الزاهد محمد الخاتوني وصارت المقبرتان مقبرة واحدة.

(على الهامش) : وممن دفن في تلك البقعة مصنف هذا التاريخ [الرضي الحنبلي] وبين قبره وقبر الخاتوني دون عشرة أذرع ، وقد زرتهما مرارا رحمهما ورحمنا الله تعالى. ا ه.

٧٩٤ ـ بهاء الدين ابن شيخ سوق الدهشة المتوفى سنة ٩٤٥

بهاء الدين بن علي بن حمزة المشهور بابن شيخ سوق الدهشة.

كان أحد أعيان تجار الصابون بحلب من بيت مهتم بالتشيع ، إلا أن صاحبه الشيخ يحيى الأريحاوي أخبر عنه إذ شهد احتضاره أنه أشهده عليه أنه بريء مما اتهم به من التشيع ، وأوصى أن لا يغسله فلان وذكر غاسلا اعتاد الشيعة غسله للموتى فغسله واحد من أهل السنة.

وكان الخواجا بهاء الدين قد رأس بحلب وصار له حشم وخدم وخيول ودواب وأسمطة عجيبة وملابس نفيسة وضيافات حافلة ووصلة بالحكام ليراعوه في الأحكام ، وبذل رشى

٤٧٨

لينال ما يروم ويشا ، حتى كاد يتخيل لرياسته أنه القاضي بهاء الدين ابن الخشاب الذي أنشأ منارة الجامع الأموي بحلب وكان من رؤسائها على تشيع فيه.

وكان الخواجا بهاء الدين وهابا نهابا ، ومتى حاول مالا كان في تحصيله محتالا ، حتى إن شخصا كان يدعى بمحمد شاه سيق فيمن سيق إلى طرابزون ، فحمله على أن وكله في تخليص مال كثير كان له في ذمم يهود فاستوفاه ، فلما أطلق منها وعاد إلى حلب طالبه فمطله ، وكان لا يبالي بالمطالبين على بابه قلوا أو كثروا ، ثم آل أمره معه إلى أن طلب منه دينارا فسوفه ، فنزل معه إلى درهمين يدفعهما إلى الحمامي لرفع جنابة عنه فلم يعطه ولم يبال بمنع إعطاء له لكثرة احتياله ودهائه.

وأخذ لشخص يدعى بصقر الكيلاني حريرا يقاوم مالا غزيرا فأكل غالبه عليه ، فأقام بحلب يطالبه المرة بعد المرة ، فنفذ منه ما أعطاه إياه ولم يحصل له الباقي ، فافتقر وأنف من عوده إلى دياره فقيرا ، فبقي بحلب بعباءة وقبقاب زحاف يأتي إليه فيقف من بعيد ليرق قلبه عليه فلا يلتفت إليه ، إلى أن مات بحلب مقهورا.

ولكن الله القهار سلط على الخواجا بهاء الدين شيخا هما أشبعه غما وهما يقال له المحبي وكيلا من قبل مستحقي أوقاف المصريين بحلب كوقف قانيباي الرماح وغيره ، فادعى عليه أجرة قاعته لكونها وقفا له ولأنه قبض أجوره فادعى استبدالها ، وآل أمره بعد اللتيا واللتي إلى أن حكم عليه القاضي بحلب محيي الدين ابن قطب الدين الرومي ، فلم يزده حكمه إلا جدالا واحتيالا ، غير أنه صار كلما احتال على المحبي غلبت حيلة المحبي عليه وطالت المرافعة بينهما إلى الحكام عدة أعوام. ومضى الخواجا بهاء الدين إلى القاهرة لمزيد ضيق يده ، فتبعه المحبي ولم يسلم فيها من مخاصمته والاستفتاء عليه. وقبل سفره كان قد أخرج لولده رياسة السبع بالجامع الأموي بحلب وكانت بيد المحيوي ابن الدغيم ، وأمر ولده يقرأ بعد تلاوة السبع منفردا قوله تعالى (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) لعداوة كانت بينه وبين المحيوي ، فبلغ ذلك المحيوي فصار يصرف عنه كل من أراد التردد إليه من الخواص المداهنين له حتى قهره بصرفهم عنه.

ولما عاد من سفره نزل بحماة وهو متحير في كيفية دخوله إلى حلب ولا شيء بيده يبذله لأركان الدولة ، فبينما هو في تحيره وتغيره إذ ورد عليه كتاب يتضمن وفاة زوج بنته

٤٧٩

الخواجا نور الدين الصابوني عن تركة فيها مزيد بركة ، فسر سرا وحزن جهرا. وجد في السفر إلى حلب فدخلها وخاض في التركة فمرض لاستيلاء أكل البرش (١) عليه في آخر عمره ، فلم يمض عليه مائة يوم إلا وانتقل إلى الله تعالى ودفن بغربية جامع البدري خارج باب أنطاكية بغير حق شرعي لأنه كان ناظرا على الجامع المذكور فتصرف فيها واتخذها مقبرة لنفسه وأتباعه وأشياعه ظلما واجتراء على بيت الله تعالى.

وكانت وفاته في أثناء سنة خمس وأربعين.

٧٩٥ ـ نور الدين الصابوني سنة ٩٤٥

نور الدين بن محيي الدين الصابوني.

كان أول أمره من الواقفين في خدمة الشيخ عز الدين الصابوني الخطيب المتوفى سنة ٩٢٢ ومن عملة سوق الصابون بحلب ، ثم طفح عليه المال فطلب أن يرأس كقريبه الخواجا بهاء الدين بن حمزة فلم يقبل هيكله ولا حركاته ولا سكناته الرياسة.

وكان اسمه قد صحف ببوز الدين (٢) ، ثم قيل له بوز الكلب ، ثم اختصر فقيل له البوز بالباء الموحدة والزاي.

وكان يتشيع ويقرب الشيعة ويرسل إلى المشهدين القناديل الفضة وغيرها. وكان الخواجا بهاء الدين يعيب عليه ويغض منه لفيض الدنيا عليه واتساع دائرته ويريد أن يأكله فلا يقدر عليه للقرابة التي بينهما ، إلى أن مات فسلطه الله على تركته فجعلها شذر مذر. وكانت بنته تحته فأرادت أن لا يدخل أبوها فيها حذرا من تبذيره ، فهددها وقال لها : إن لم تطلعيني على أموره وتسكتي أدخلت القسامين الآن وأطلعتهم على ما عنده من كتب الشيعة وسعيت في ذهاب تركته لبيت المال في الحال. فلم يسعها إلا أن سكتت وسكنت ، فخاض في التركة إلى ركبته.

وكانت وفاته في أوايل سنة خمس وأربعين وتسعمائة ، قيل لركوبه على سرج لم يشعر

__________________

(١) مادة ضمغية.

(٢) في بعض النسخ المخطوطة من در الحبب : الذيب. ولعل الصواب : الديب (بالدال).

٤٨٠