إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

فلما توفي الشيخ علوان عاد إلى حلب واستقر في مشيخة الزينبية وأخذ يربي بها المريدين ويتكلم فيها على الخواطر مواظبا على طاعة العليم وإطعام الطعام وإكرام من ورد عليه من الخواص والعوام وحسن الصمت ولين الكلام ووفور الصفة وفصاحة العبارة وولوج سبيل أهل الإشارة واستعمال التفسير والحديث وكلام الصوفية على الأساليب الكاملة الوفية.

وفي الزاوية المذكورة وغيرها قرأت عليه شرح المسايرة الموسوم بالمسامرة وغيره ، وحضرت كثيرا من مجالسه في التربية والكلام على الخواطر فانتعش بها ولله الحمد الخاطر.

ثم توفي مطعونا سنة تسع وثلاثين وتسعمائة وصلى عليه الشمس بن بلال في مشهد عظيم ودفن في مقابر الصالحين بوصية منه.

وكان بعض المحبين قد حفر له قبرا بمقبرة منلا موسى المذكور وغلب بعض الناس على أن يدفن فيه ، فلما خرجنا بالجنازة من باب قنسرين أبى الله تعالى أن يدفن بحيث أوصى فدفن بمقابر الصالحين بالقرب من قبر يوقنا من جهة القبلة رحمه‌الله تعالى.

٧٥٨ ـ مظفر الكتبي المتوفى سنة ٩٣٦

مظفر الدين بن محمود بن مظفر الدين بن أحمد الحلبي الشافعي الصوفي الأوحدي المشهور بالشيخ المظفر الكتبي.

شيخ معمر يلف على رأسه الميزر وينتسب إلى الشيخ أحمد الأوحدي الكرماني منشىء الزاوية المشهورة الآن بالمظفرية بالقرب من الزاوية النفيسية بحلب نسبة لها إلى ولده الشيخ مظفر الدين وإنما قيل له الكتبي لأنه كان يجلد الكتب على باب الجامع الكبير بحلب ، وكانت له الخبرة التامة بترميم المصاحف الرثة. وكان له صفاء قلب ونورانية وسريرة وملازمة لعمي قاضي القضاة كمال الدين الشافعي وهو شيخ شيوخ حلب ، ثم بقي عنده نقيب الرسل وهو قاضي طرابلس ثم حلب وصار له اسم في الوثائق الشرعية المعمولة إذ ذاك عنده.

توفي بحلب تقريبا سنة ست وثلاثين وتسعمائة.

٤٤١

٧٥٩ ـ أثير الدين محمد بن الحسين بن الشحنة المتوفى سنة ٩٣٦

محمد بن الحسين بن محمد الرئيس الأصيل أثير الدين أبو اليمن بن الشحنة الشافعي شقيق اللساني أحمد المتقدم ذكره.

اشتغل على العلاء الموصلي والبدر السيوفي قليلا وتولى وظائف سنية ورأس بها كعادة أسلافه. ثم توفي سنة ست وثلاثين وتسعمائة ولم يعقب ذكرا.

٧٦٠ ـ محمد بن طاس بصتى المتوفى سنة ٩٣٦

محمد بن الشيخ شمس الدين الحنفي البانقوسي المعروف بابن طاس بصتي.

تفقه على شيخنا عبد الرحمن بن فخر النسا الحنفي ودرس بالأتابكية البرانية ببراءة.

وكان صالحا مباركا قليل الكلام حسن الخط كبير السن كثير التهجد. وتوفي سنة ست وثلاثين وتسعمائة.

٧٦١ ـ أحمد بن محمد بن الشحنة المتوفى سنة ٩٣٦

أحمد بن محمد بن إبراهيم بن قاضي القضاة فتح الدين أبي البشرى عبد الرحمن بن العلامة الشيخ كمال الدين أبي الفضل محمد بن الشحنة الحلبي سبط دنكز نائب قلعة حلب وابن سبط المقر الناصري محمد ابن الأمير الجمالي يوسف ابن الأميري الناصري محمد بن مبارك الحلبي المشهور بابن المنقار.

توفي سنة ست وثلاثين ، وكان يعرف أيضا بابن المنقار لما أن أباه نشأ في كنف أخواله.

وكان منور الشيبة حسن الهيئة وافر الحشمة ، غير أنه لم يكن له حظ من العلم ولا من الجاه لاشتغاله في شبابه بصنعة العد (١) (هكذا) في حانوت بقرب آدر أخوال أبيه واستغنائه بما يصل إليه من نصف وقف جده القاضي فتح الدين ، فإن وقفه انحصر في

__________________

(١) في در الحبب : الفراء.

٤٤٢

ولده إبراهيم وبنته بوران المنتقل ريعها إلى ولدها الأمير الشرفي يونس أخي الناصري محمد المذكور ، ثم إلى أولاده يوسف ومحمد ويونس وفرج المنتقل ريعها الآخر إلى أولادها القاضي جلال الدين محمد والقاضي لسان الدين أحمد ولدي القاضي أثير الدين محمد ابن الشحنة وأمامة جدتي لأبي المنتقل نصيبها من أمها ومن آسية بنت عمها الميتة من غير ولد إلى أولادها والدي وعمّيّ ، وبما يصل إليه من غير هذا الوقف كوقف جده لأبيه الأمير حسام الدين محمود شحنة حلب ، إذ قد كان جده القاضي فتح الدين هذا هو الذي كان حنفيا ثم تحول مالكيا ورافقه في قضاء حلب قاضي القضاة علاء الدين ابن خطيب الناصرية الطائي الشافعي حتى ذكره في تاريخه وأثنى عليه بالمروءة والحشمة وأنشد له كما قال ابن حجر في إنبائه :

لا تلوموا الغمام إن صب دمعا

وتوالت لأجله الأنواء

فالليالي أكثرن فينا الرزايا

فبكت رحمة علينا السماء

ولم يكن دفن صاحب الترجمة بمقابر بني الشحنة بالأشقتمرية بل بمقابر أخوال أبيه بني المنقار عند أبيه حتى لا يفارقهم حيا ولا ميتا.

٧٦٢ ـ زين الدين عمر الشماع المتوفى سنة ٩٣٦

عمر بن أحمد بن علي بن محمود الشيخ الإمام أبو حفص زين الدين الشماع الحلبي الشافعي الفقيه الأثري الإخباري الصوفي شيخنا المشهور بالشيخ زين الدين.

ولد حسب ما وجدته بخطه سنة ثمانين وثمانمائة ظنا ، وعني بالقراءة على المحيوي الأبّار والجلال النصيبي وغيرهما من علماء حلب ، وحظي بالرواية بالسند العالي من قبل شيخنا التقي أبي بكر الحيشي الحلبي وغيره.

وارتحل في طلب العلم والحديث فحج وجاور بمكة مرات ، وحرص فيها على التحصيل والأخذ عن كل حقير وجليل من الرجال والنساء ، وكذا أخذ عن بعض أهل المدينة الشريفة وبيت المقدس ودمشق وحمص والقابون الفوقاني وصفد وبلبيس وظاهر أنبابه حسبما ذكره في فهرسته الصغير الذي سماه «تحفة الثقاة بأسانيد ما لعمر الشماع من المسموعات».

وصاحب بمكة الشيخ الزاهد العارف بالله تعالى سيدي محمد بن عراق حتى كان يهدي للشيخ هدايا والشيخ ببلدته حلب. ذكر شيخنا في كتابه «عيون الأخبار» أنه أهدى

٤٤٣

إليه عباءة كان يلبسها وعراقية وشيئا من ماء زمزم. ونقل شيخنا جار الله بن فهد المكي أنه لبس خرقة التصوف من يد سيدي محمد بن عراق ولقنه الذكر ، وأنه لما مات حزن عليه كثيرا وجمع ترجمته مع بعض كراماته الشهيرة.

ورحل إلى القاهرة وعني فيها بالأخذ عن علمائها لا سيما العلم المشهور الجلال السيوطي فإنه أكثر من الأخذ عنه والالتقاط من كتبه المهمة وتأليفاته الجمة. وكان الجلال النصيبي يدفع إليه على يده مسائل مشكلة ليرفع له إشكالها ويقول له : لا تعرضها على غيره فإني أعرف مقام غيره في العلم بالنسبة إليه.

ومن أعظم من أخذ عنه بالقاهرة قاضي القضاة زكريا الأنصاري ، وكان من حاله معه أول اجتماعه به أنه قال له : ما اسمك؟ فقال عمر ، قال شيخنا : فترنم لسماع هذا الاسم ثم قال : والله يا سيدي أنا أحب سيدي عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه وأحب من اسمه عمر لأجل سيدي عمر ، قال : ثم ذكر لي مناما رآه حاصله أنه رأى سيدنا عمر ابن الخطاب رضي‌الله‌عنه في منامه وهو طوال ، قال : فقلت له : اجعلني في صدرك أو في قلبك ، فقال له سيدنا عمر رضي‌الله‌عنه : يا زكريا أنت عين الوجود ، ثم ذكر أنه استيقظ وهو يجد لذة هذه الكلمة.

قال شيخنا : ثم ذكر لي أيضا أنه اختصم شخصان من أمراء الدولة في الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض صاحب الديوان المشهور فقال أحدهما : هو ولي الله تعالى ، وقال الآخر : هو كافر ، وأن القائل بكفره كتب صورة سؤال في كفره وطلب منه الكتابة ، قال : فامتنعت من ذلك واعتذرت بأن القول بكفر مسلم فيه خطر ، قال : فلما سمع القائل بولايته بذلك طمع في الكتابة بولايته ، فكتب صورة سؤال يطلب الكتابة بولايته ، فامتنعت أيضا واعتذرت بأن الجزم بولاية من لا تتحقق ولايته فيه خطر أيضا ، فلم يقنع به بل طلب الكتابة وترك السؤال عندي ، فذهبت بعد صلاة الجمعة إلى الجامع الأزهر لزيارة شخص كنت أعتقده لأستشيره في الكتابة بالولاية ، فلما رآني ابتدرني قبل أن أكلمه يقول : نحن مسلمون أم لا؟ قلت له : بل أنتم من خيار المسلمين ، قال : فما الذي يوقفك عن الكتابة؟ فقلت له : كنت انتظر هذا الإذن ، قال : ثم فتح علي بكتابة عظيمة في القول بولايته. قال الشيخ زين الدين : هذا محصل ما سمعته من لفظه.

٤٤٤

ودخل الشيخ زين الدين حماة فأخذ بها عن شيخ الإسلام العارف بالله تعالى سيدي علوان الحموي وأخذ هو عنه وصاحبه صحبة أكيدة حتى كان يرسل إليه وهو بحلب مطالعات يشكو فيها خواطر لنفسه ، فيجيبه عنها بأجوبة شديدة على النفس فيتلقاها بالقبول ولا يخفيها كأنه ينادي بها على نفسه. وقد حكى هو لشيخنا جار الله أن بعض تلامذة الشيخ جمعها في كراسة فكتب الشيخ عليها عند رؤيتها : «تشنيف الأسماع بما سئل عنه الفقير عمر بن الشماع» مظهرا للشيخ جار الله الاغتباط بها. ومما دل على أخذ سيدي علوان عنه ما أنشدنيه شيخنا له رواية عنه :

استبق للخير تغنم

وارحم الخلق لترحم

قد روينا في حديث

مسند ليس يكتّم

إنما رب البرايا

لأولي الرحمة يرحم

نجل شماع رواه

وروينا عنه فافهم

من طريق عن فريق

سلسلوه فتقدّم

وبالجملة فقد أكثر من الشيوخ والأخذ عمن دب ودرج حتى استجيز لأهل مكة ، فكتب لهم سنة ثلاث وثلاثين إجازة منطوية على استدعاء سطره الشيخ جار الله وضمنها أن شيوخه بالسماع والإجازة الخاصة قد زادوا على المائتين وأن شيوخه بالإجازة العامة مع الأولين ثلاث مائة مع قبول الزيادة عليها.

وكان لا يخل بالرواية والإسماع إذا حضر إليه جماعة ، ويكتب طبقتهم عنده مثبتا ما سمعوه عليه وأجاز لهم إياه.

وقد نظم ونثر وألف واختصر ، فمن أول ما ألفه ونظمه تخميس منظومة السهيلي التي مطلعها :

يا من يرى ما في الضمير ويسمع

أنت المعد لكل ما يتوقع

وسماه «باللمعة النورانية في تخميس السهيلية» ، وأكثر من التبرع بنسخ منه بخطه لأصحابه وبالإجازة به لصفاء خاطره. وتناوله منه ذات يوم سيدي علوان وقرأ صدره فتبسم ، ثم أنشده من نظمه قصيدة تشتمل على فوائد وحكم ثم قال : لما نظمت هذه القصيدة عرضتها على سيدي علي بن ميمون قدس الله سره فنظر إلى موضع منها أعني من

٤٤٥

حكمها أو مواعظها ثم قال لي : يا علوان أهكذا أنت أو أنت متصف بما ذكرت ، فإن يكن كذلك فبها ونعمت أو نحو هذا الكلام ، ثم قال له : يا أخي قولك :

يا من إليه بذلتي أتخضع

وبذكره أبدا لساني مولع

إن كنت كذلك فبها ونعمت أو فكن كما قلت أو نحو ذلك.

وله تخميس آخر سماه «فتح المنّان في تخميس رائية الشيخ علوان» وهي القصيدة التي مطلعها :

يا طالبا للوصال بادر

واخرج عن الكون ثم سافر

وله في معنى الحديث المسلسل بالأولية قوله فيما أنشدنيه :

كن راحما لجميع الخلق منبسطا

لهم وعاملهم بالبشر والبشر

من يرحم الناس يرحمه الإله كذا

جاء الحديث به عن سيد البشر

واتفق له في هذين البيتين أن أنشدهما بمكة ، فقال فاضل من فضلائها : ما أردتم بقولكم البشر؟ فقال : جمع بشارة ، فقال له : فعل هل يجمع عليه فعالة؟ فأوقفه إذ أشكل عليه ، فلقي آخر من فضلائها فذكر له الواقعة فقال له : أبشر فقد صنف بعضهم كتابا في فضائل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسماه «خير البشر بخير البشر» ، ثم ذهب إلى منزله فأوقفه عليه فسر به إذ دل على صحة استعمال هذا اللفظ ، ولو لا ذكره البشر وهو طلاقة الوجه مع البشر بالتحريك لم يجعل البشر بالتحريك جمع بشارة ، فلم يرد عليه ما ورد وإنما كان يجعله جمع بشرة من البشر الذي هو طلاقة الوجه مثل كسر في جمع كسرة كما في قول سالم بن مفرج السلمي المعري أحد رجال تاريخ ابن العديم :

له راحة ينهلّ من فيضها الندى

فينهل في معروفها البدو والحضر

ووجه يضيء البدر من قسماته

وأحسن ما في أوجه البشر البشر

ولشيخنا ما أنشده بعد إسماع أحاديث منها (اغتنم خمسا قبل خمس) من قوله :

تيقظ ونافس في المعالي بهمة

تجد نفسا فالنفس إن جدت جدّت

عليك بخمس قبل خمس ففز بها

وإياك خلّي قهر أخطر علّة

٤٤٦

غناء فراغ صحة قبل عكسها

بسقم وشغل مع توال لفاقة

شباب حياة قبل ضد كليهما

من الهرم المزري وخطف المنية

تمسك بنظم قد أجزت بعقده

غدا نثره في قول خير البرية

وكان يفعل أشياء لم يرها منقولة ثم تظهر له منقولة كما وجدته بخطه أنه قد كان من مدة من السنين جعل في ورده من أدعية الكرب (الله الله ربي لا أشرك به شيئا) ولم ير نصا على عدد فيه ، فألقي في قلبه أن يقوله سبع مرات ففعل ، فوقف على بعض «جمع الجوامع» في الحديث لشيخه السيوطي فرآه نقل عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه أنه إذا أصاب أحدكم هم أو حزن فليقل سبع مرات : الله الله ربي لا أشرك به شيئا.

ولحرصه على الرواية رأى في منامه شيخه البرهان ابن أبي الشريف المقدسي ثم القاهري وقد دخل منزله بحلب وهو مكفوف ، فاستأذنه في قراءة بعض مما نظمه الشيخ ليرويه عنه ، فأذن له ، قال : فمما قرأته عليه ظنا :

توقّ الهوى والنفس واجهد لتسلما

وجاهد لكي ترقى من العز سلّما

ومن مؤلفاته : «مورد الظمآن في شعب الإيمان» ومختصره «تنبيه الوسنان إلى شعب الإيمان» ، ومختصر شرح الروض وهو الذي سماه «مغني الراغب في روض الطالب» ، ومنها «بلغه المقتنع في آداب المتمتع» ، و «الدر الملتقط» الذي انتقاه من «الرياض النضرة في فضائل العشرة» رضي‌الله‌عنهم وعنا بهم ، و «العذب الزلال في مناقب الآل» ، و «اللآلي اللامعة في تراجم الأئمة الأربعة» ، ومنها تذكرة سماها «سفينة نوح» ، و «المنتخب من النظم الفايق في الزهد والرقايق» ، و «عرف الند في المنتخب من مؤلفات بني فهد» ، و «الفوائد الزاهرة في السلالة الطاهرة» ، و «المنتخب المرضي من مسند الشافعي» ، و «الدر المنضد من مسند أحمد» ، و «لقط المرجان من مسند أبي حنيفة النعمان» ، و «إتحاف العابد الناسك بالمنتقى من موطأ مالك» ، و «اليواقيت المكللة في الأحاديث المسلسلة» ، و «القبس الحاوي لغرر ضوء السخاوي» ، و «المواهب المكية» ، و «تحفة الأمجاد» ، والسيرة الموسومة «بالجواهر والدرر» ، و «محرك همم القاصرين بذكر الأئمة المجتهدين المعتبرين» ، و «النبذ الزاكية فيما يتعلق بذكر أنطاكية». وله تعليق سماه «عيون الأخبار فيما وقع لجامعه في الإقامة والأسفار» انتهى فيه إلى المحرم سنة ست وثلاثين

٤٤٧

وصدره بما لم أجده لغيره من ذكره الحمدلة سبع عشرة مرة حيث قال : الحمد لله مقدر السكون والحركات ، الحمد لله الحافظ لعباده في الإقامة والتردد في القفار والفلوات ، إلى أن قال : وقد يسمى هذا التعليق تحرير المقال في ضبط ما وقع لجامعه في الإقامة والارتحال ، أو الفوائد والدرر فيما وقع له في السفر والحضر ، أو ملء العيبة فيما وقع في الإقامة والغيبة ، أو التحفة فيما وقع في الإقامة والوجهة ، أو زبدة الخبر فيما وقع في الإقامة والسفر ، أو عيون الأخبار فيما وقع لجامعه في الإقامة والأسفار ، إلى أن قال : وقد سنح لي اختيار الأخير فهو عين الأسماء.

وله مجموع سماه «سلوة الحزين» ذكر فيه فوائد ، ومن غريب ما اتفق له فيه أنه كان يعلق فيه شيئا من خبر وقعة الحرة ، فدخل عليه رجل وأخبره أن الوزير الأعظم في الدولة السليمانية إبراهيم باشا ، وكان يومئذ بحلب في سنة إحدى وثلاثين ، قد أمر بقتل نائب قاضي حلب وأنه علقّ وأن الجم الغفير قد سر بذلك ، وهو يعلّق في خبر عبد الملك بن عبد الرحمن الذماري الصنعاني الأنباري القاضي وأنه ضربت عنقه.

وكان رحمه‌الله تعالى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولا يقبل هدية أهل الدنيا ولا يتولى شيئا من الوظائف والمناصب ويقنع بما يحصل له من كسب مال كان له على يد من يتجر له فيه متعففا متقشفا.

توفي بحلب في أواسط صفر سنة ست وثلاثين ودفن تحت سفح جبل جوشن عند الحارة التي يرد عليها من يرد من الأنطاكيين ، وتألم لفقده أهل حلب وغيرهم كسيدي علوان الحموي ، فإنه تأخر بالوفاة عنه في هذه السنة بما دون ثلاثة أشهر ، وعنه نقل بالواسطة شيخنا جار الله أنه قال في شأن الشيخ زين الدين وذلك بعد أن توفاه الله تعالى : انتهت إليه رياسة الحديث النبوي ومعرفة طرقه. وكان محافظا على السنة واقتفاء أثر السلف الصالح رحمه‌الله تعالى وإيانا.

قال في «الكواكب السائرة» ناقلا عن تاريخ ابن طولون الدمشقي : إنه بعد وفاته بسبعة عشر يوما توفيت زوجته ولم يعقب. ا ه.

وذكر الرضي ابن الحنبلي في ترجمة محمد أبي النجا محمد بن إبراهيم الشهير بابن الخياط الشافعي عم الزين عمر الشماع المتقدم ذكره أنه كان دينا خيرا حضر مجلسه في السماعات

٤٤٨

والإجازات وآلت كتب الشيخ زين الدين المذكور إليه. وكانت له على الناس في إعارة بعضها منة عظمى ، وكان ينتفع بها وينفع من سأله في عارية شيء منها إلى أن توفي سنة سبع وخمسين وتسعمائة فذهبت الكتب شذر مذر لاستيلاء أيدي الجهلة عليها.

أقول : أما قبره فقد درس ، وفتشت عليه كثيرا بين البقية الباقية من القبور التي في سفح جبل الجوشن التي اشتهرت عند العامة بقبور الجراكسة والتي درس معظمها منذ ثلاث سنين بسبب مستودع الكاز الكبير الذي عمر هناك فلم أعثر عليه.

وله من المؤلفات التي لم تذكر هنا «نزهة العين في رجال الصحيحين» وهو مجلد وسط رأيته بخطه في خزانة الشيخ محمد العقيلية بحلب وهو من نفائس الكتب وربما لا تجد لهذه النسخة ثانية.

ومن مؤلفاته التي لم تذكر في ترجمته ولا في كشف الظنون «الكواكب النيرات في الأربعين البلدانيات» وهي أربعون حديثا تلقاها في أربعين بلدا عن أربعين شيخا ، رأيتها في المكتبة المولوية بحلب وهي جديرة بالطبع أيضا لغرابتها كما رأيت. وله ثبت في مجلدين صغيرين رأيت الأول منه بخطه أيضا في المكتبة التي كانت عند الشيخ أحمد الزرقا وبيعت للمجلس البلدي في الإسكندرية افتتحه بإجازة من شيخه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري ، وفيه إجازته من شيخه الحافظ الجلال السيوطي والجلال المحلي بخطهما ، وفيه إجازات كثيرة لعلماء عصره من حلب ومصر والأقطار الحجازية وغيرها ، ومعظم تلك الخطوط لا تكاد تقرأ حتى إن خط الجلال السيوطي رحمه‌الله قرأته بعد جهد. وبالجملة فهو ثبت حافل نفيس لما اشتمل عليه من خطوط أعاظم علماء ذلك العصر. وقد ذكرنا مؤلفاته التاريخية في المقدمة.

٧٦٣ ـ علي بن أحمد الحاضري المتوفى سنة ٩٣٧

علي بن أحمد بن محمد بن عز الدين محمد الصغير ابن عز الدين محمد الكبير ابن خليل أقضى القضاة علاء الدين الحاضري الأصل الحلبي الحنفي.

أخذ عن الشمس الدلجي وغيره ، وجلس بمكتب العدول على باب جامع حلب الشرقي ، وناب بمحكمة الجمالي يوسف بن الخواجا إسكندر الحنفي ، وكتب بخطه الكثير

٤٤٩

من الكتب العلمية ، ووعظ بجامع حلب.

وكان صالحا عفيفا سليم الصدر.

توفي في شوال سنة سبع وثلاثين.

٧٦٤ ـ قاضي القضاة محمد بن فرفور المتوفى سنة ٩٣٧

محمد بن أحمد بن محمود قاضي القضاة ولي الدين أبو اللطف وأبو زرعة الدمشقي الشافعي الشهير بابن فرفور.

أخذ الفقه عن والده قاضي القضاة شهاب الدين ، وعن جماعة بدمشق ، منهم التقي ابن قاضي عجلون الشافعي ، وجماعة بمصر ، منهم قاضيا القضاة زكريا الأنصاري والبرهان ابن أبي شريف الشافعيان.

وأخذ الحديث عن جماعة ، منهم التقي عبد الرحيم ابن الشيخ محب الدين بن الأوجاوقي الشافعي ، ومنهم حفيده ولد ولده ، فإنه سمع من الأول المسلسل بالأولية ، وأجاز له الثاني رواية القرآن العظيم عنه برواياته التي فيها من السبعة المتواترة ورواية الصحيحين في كتب أخرى حديثية وغير حديثية ، وأذن له في لباس الخرقة القادرية ، وكتب له ثبتا سماه «بالقصر الثبوتي» المشهور لسكنى ولد شيخ الإسلام ابن فرفور وترجمه فيه وهو يومئذ شاب بسلالة العلماء الأكابر وبليل دوحة الفضل من أهل المناقب والمفاخر ، وترجم والده بشيخ مشايخ الإسلام ملك العلماء الأعلام صدر مصر والمدينة والشام ، وأفاد فيه أنه صحب جده الذي صحب جماعة أجلاء منهم سيدي أبو الفتح بن أبي الوفا والسيد الشريف أبو الصفا الوفائي المقدسي والشيخ الكبير المعمر سيدي محمد بن سلطان وسيدي الشيخ كمال الدين الملقب بالمجذوب ، وأن الولوي صحبه كما صحب هو جده ، فلاح لنا إذ صحبنا الولوي بحلب أنا كنا من المتشرفين بصحبته.

ثم إن الولوي ولي قضاء الشافعية بدمشق سنة اثنتي عشرة وتسعمائة واستمر بها قاضيا إلى دولة آل عثمان ، فعزل عنه ثم أعيد إليه مضافا إليه من غزة إلى حمص ، فلما توفي السلطان سليم وأراد جان بردي الغزالي العصيان بعد كفالة دمشق وما معها قصد الولوي بالسوء ، فرحل الولوي قاصدا الباب العالي السليماني للشكاية عليه ، فدخل على حلب وكافلها قراجا

٤٥٠

باشا فمنعه من التوجه وعرض له أحواله ، فأعطي قضاء حلب سنة ست وعشرين وتسعمائة فكان أول قاض تولى قضاء حلب ودمشق في الدولة العثمانية وآخر قاض تولى قضاء حلب من أبناء العرب فيها.

وبقي في حلب في عزة وشهامة وكرم وسخاء إلى أن تزوج بها الست حلب الأغلبكية الماضي ذكرها وسكن بها في بيت أزدمر الذي دخل الآن في خبر كان ، ثم عزل عن قضاء حلب فسافر إلى دمشق في أثناء صفر سنة سبع وعشرين وتسعمائة بعد خذلان جان بردي كافلها ، فولي قضاها ثاني مرة ، ثم كان من حقد عيسى باشا عليه حتى قدم حلب قدمة ثانية بنية التوجه إلى الباب العالي وشيخنا الهندي بها ، فذهب إليه لما كان له وهو بدمشق من العطف عليه ، وذهبنا معه ، ثم عاد إلى دمشق فتوفي بها لسم دسه إليه عيسى باشا سنة سبع وثلاثين وتسعمائة ودفن بمدرسته الكائنة خارج دمشق بجوار الشيخ أرسلان رضي‌الله‌عنه.

وكان مولده سنة أربع وتسعين وثمانمائة. ومع توليته القضاء في الدولة العثمانية لم ينتقل عن مذهبه بل كان متعبدا على قاعدته.

٧٦٥ ـ زين العابدين بن الحسن الخريزاتي المتوفى سنة ٩٣٧

زين العابدين بن الحسن بن عبد الله بن عمر بن علي بن عبد الله بن سليمان بن أحمد ابن الفقيه موسى بن يونس بن علاء الدين بن عبد الله بن عبد القادر بن عبد الوهاب بن حسين ابن الشيخ إلياس ابن الشيخ علي بن موسى بن جعفر بن خالد بن موسى ، المسمى بالشمّو ، المتصل نسبه بعاصم بن علي بن عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنه ، الجزري المولد الحلبي الموطن الخريزاتي العباسي.

توفي بحلب سنة سبع وثلاثين. وكان آباؤه وأجداده بقرية تسمى فقه موسيان بجنب النهر المسمى بهكار في ناحية ريكان العليا من عمل العمادية ، ثم جهل نسبه ، ثم رحل إلى العمادية فإذا بها بنو عمه فأثبت له نسبه القاضي إسماعيل بن محمد العمادي الريكاني قاضي الجزيرة سنة تسع وثمانين وثمانمائة ، ثم اتصل ذلك بعدد من القضاة ونوابهم واحدا بعد واحد إلى عمي الكمال الشافعي وهو خليفة الحكم العزيز بالديار المصرية سنة اثنتي

٤٥١

عشرة قبل أن يتولى فيها قضاء حلب وسائر أعمالها.

وكان في أول أمره يغسل الموتى ، ولما جاء الطاعون بحلب وكافلها يومئذ أزدمر الجركسي مات من مماليكه الجم الغفير ، وكان يملك ألف مملوك ، فكان يغسل من مات منهم ويأخذ جميع سلبه إلى أن أثرى ، وبقي على حرفته هذه إلى اخر وقت. ثم كان سر الحلقة عند عمي المشار إليه حين كان شيخ شيوخ حلب ، ثم تقهقر الزمان فصار شيخ شيوخها.

وكان قادريا سهرورديا رفاعيا ، وذلك أنه أذن له في سنة خمس في لبس الخرقة القادرية والجلوس على السجادة وأخذ العهد وقص الشعور السيد الشريف محيي الدين محمد بن محمد القادري أحد أسباط قطب الدائرة عبد القادر الكيلاني رضي‌الله‌عنه ، وأخذ عليه العهد السيد علي الخراساني السهروردي بحق أخذه عليه من قبل الشيخ زين الدين الخوافي بسنده ، وأجلسه على السجادة شيخ شيوخ حلب يومئذ السيد علي بن يوسف بن محمد الحسيني الرفاعي ولبس العمامة السوداء من يد المبدوء بذكره.

وكان لسنا مفوها ذا حيل ودهاء ، يعرف مع اللغة العربية الفارسية والتركية.

٧٦٦ ـ محمد بن سبيخ الطبيب المتوفى سنة ٩٣٧

محمد بن ناصر الدين بن سبيخ الطبيب الحلبي المعروف بشيخ الإسلام.

كان أخذه الطب عن طبيب يعرف بالحمصية لكثرة ما كان يأمر بإطعامها للضعفاء. وكان تلقيبه بشيخ الإسلام (من الغرائب ، إذ لم يكن له من العلوم سوى الطب ، وكأنه لقب بذلك على معنى أنه شيخ في الإسلام) (١) لداع دعا إلى ذلك.

توفي سنة سبع وثلاثين وتسعمائة.

(وكان الشيخ عبد الله بن ناصر الدين المتقدم ذكره أخاه لأبيه) (٢).

٧٦٧ ـ بوران بنت الشحنة الشاعرة المتوفاة سنة ٩٣٨

بوران بنت قاضي القضاة أثير الدين محمد بن الشحنة الحنفي.

__________________

(١) ما بين قوسين زيادة من «در الحبب» ليست في الأصل.

(٢) ما بين قوسين زيادة من «در الحبب» ليست في الأصل.

٤٥٢

ولدت بحلب سنة إحدى وستين وثمانمائة ، وقرأت القرآن العظيم وطالعت الكتب ونسختها ونظمت ونثرت وحجت مرتين. وكانت صالحة خيرة. ولما احتضرت جرى منها أن حمدت الله تعالى على أن لم يكن في صندوقها إذ ذاك درهم ولا دينار. وكانت مستأجرة لبعض الجهات تسعين سنة ممن أضربه الفقر ، ولم يمض من المدة سوى القليل فردته على المؤجر وسامحته في باقي الأجرة.

ومن شعرها ترثي أخويها العفيف الحسين والمحب عبد الباسط الآتي ذكرهما قولها :

يا بين بالغت في الأشجان والمحن

وجلت فينا بجد ليس بالحسن

أضرمت نار فؤادي والحشاء معا

أوليتني في الورى حزنا على حزن

أغلقت باب علوم ثم باب هدى

أخذت مني محب الدين من وطني

قد مات في غربة والشام مسكنه

يا ليتني قبل ذا أدرجت في كفني

وقد فقدت عفيف الدين وا أسفي

فليت بعد عفيف الدين لم أكن

قد كان موت محب الدين نائبة

واطول حزني لذالك المنظر الحسن

إلى أن قالت :

واطول حزني وواوجدي ووا أسفي

فيم الإقامة بالشهباء لا سكني

ولها ترثي المحب وحده :

دعوا دمعي بيوم البين يجري

فقد ذهب الأسى بجميل صبري

وكيف تصبرّي وأخي رهين

بأرض الشام في ظلمات قبر

فقدت أخي وكان أخي وظهري

على الحدثان سمّاعا لأمري

فإن عجزت عن الندب الغواني

بعثت الدمع نظما غير نثر

ولا يخفى أنما أرادت في المرثية الأولى بقولها لا سكني بها ولا ناقتي فيها ولا جملي على الاكتفاء أخذا من قول الطغرائي (فيم الإقامة بالزوراء لا سكني) البيت. وأرادت في المرثية الثانية بقولها (فقد ذهب الأسى بجميل صبري) يعني قد أذهب الأسى جميل صبري على نمط قوله عزوجل (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أي أذهبه ولم ترد ذهاب الأسى مع جميل الصبر على أن الباء للمعية لفساد المعنى حينئذ.

توفيت سنة ثمان وثلاثين.

٤٥٣

٧٦٨ ـ عمر بن محمد المرعشي المتوفى سنة ٩٣٨

عمر بن محمد ابن الشيخ الإمام العلامة الصوفي شهاب الدين أبي الفضائل أحمد بن أبي بكر ابن الشيخ زين الدين أبو حفص المرعشي الأصل الحلبي الحنفي الشهير بابن المرعشي أحد رؤساء حلب.

كان في أول شأنه فقيها شروطيا يجلس بمركز العدول المشهورة قديما بمكتب الصوفي بجوار جامع الزكي بحلب على فقر كان عنده وقناعة بما كان يحصله من صنعة الشهادة ووظيفة عالية كانت له بالجامع المذكور ، ثم انساقت إليه أموال جزيلة وزوجة جميلة من حيث لا يعلم ولا يدري ، كما قال الشاعر :

وما المال والأهلون إلا ودائع

ولا بد يوما أن ترد الودائع (١)

فعند ذلك رأس كما هو اللايق به ، إذ كان حفيد من ترجمه السخاوي بالتقدم في الفقه وغيره على ما علمت في ترجمته بعد ما كان يتجمل بمصاحبة شيخ الإسلام البدر السيوفي ويحظى بمجالسته لا سيما حيث كان يحضر الجامع الأعظم بحلب لشراء الكتب فيجلس بالقرب منه. ثم لما كانت الدولة العثمانية صار يحضر مع الأكابر في تفاتيش الأوقاف والأملاك بحلب ، وانتفع به جماعة في شهادته أو تزكيته ، وأحبه القاضي زين العابدين ابن الفناري ثاني قضاة حلب في هذه الدولة. ثم أجرى قلمه على صور الفتوى قيل بحكم سلطاني سعى في إخراجه ، وقيل لا ، ثم امتحن فسيق هو وأولاده مع من سيق إلى رودس من الحلبيين بواسطة قتل قرا قاضي ، ثم أطلق منها هو وأولاده وعاد إلى حلب باقيا على شهامته ورياسته وعلى ما كان بيده من المناصب الجليلة فيها إلى أن مات بها سنة ثمان وثلاثين وهو يحث عند الاحتضار من كان من الحضّار على الذكر والتلاوة ، إلى أن مات على أسلوب أبناء العرب في لبس العمامة الفقهية ، غير أنه كان يشد وسطه ويلبس السلاري المفتوح من فوق على الأسلوب الرومي.

٧٦٩ ـ محمد بن عمر المعروف بمنلا عرب الأنطاكي المتوفى سنة ٩٣٨

محمد بن عمر ابن الشيخ شرف الدين أبي المكارم حمزة بن عوض الأنطاكي الحنفي

__________________

(١) البيت للبيد بن ربيعة.

٤٥٤

الواعظ المعروف في الديار الرومية بمنلا عرب.

وعظ بحلب في دولة كافلها خير بك الجركسي. وكان ذا وجاهة في وعظه كثير القدح في شاه إسماعيل صاحب تبريز وفي شيعته ، فصيحا بليغا منطيقا ذا علم وعمل.

واتفق له في مجلس وعظه أن حضره شيعي متسلح من أتباع الإلجي الذي بعثه شاه إسماعيل إلى الغوري صاحب مصر ، فتوجه إليه وعاد من عنده إلى حلب فهمّ بإشهار سيفه ليقتله ، فقتله الحلبيون وحرقوه ، فتغير الإلجي من ذلك وكاتب الغوري في ذلك ، فاضطرب له فإذا بعرض خير بك قد وصل إلى الباب الشريف متضمنا لما فيه إخماد نار كان قد أوقدها الإلجي في مكاتبته ، فأزال ما في خاطر الغوري من الغيظ على الشيخ ، ثم بدا له فأرسل مكاتبة تتضمن الأمر بخروجه من حلب ، فاجتمع به خير بك وكان يعتقده ويحبه وأوحى إليه ما وردت به المكاتبة ، فأمره خفية بالمهاجرة فهاجر إلى الديار الرومية.

ثم لما اضمحلت الدولة الجركسية قدم إلى حلب ووعظ بها على جاري عادته بعد أن سافر صحبة السلطان سليم بن عثمان عند توجهه إلى فتح تبريز وأخذ في الوعظ بها والقدح في الرافضة على أكمل وجه ، إلا أنه أخذ في النهي عن أخذ أموالهم ، فقيل له : قد كنت بالأمس تبيحها فما لك اليوم تنهى عن أخذها؟ فقال : لأن الخنكار قد أمنهم.

وكان للشيخ قوة حافظة لا نظير لها بحيث حكى لنا شيخنا الشهاب الأنطاكي أنه سأله عن حالته في الحفظ فذكر له أنه إذا مر على الكراسة الورق التي في مسطرة خمس وعشرين مرة واحدة فإنه يحفظها ويفهم مضمونها.

توفي ببروسا من الديار الرومية سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة حسبما أخبرني بذلك صاحبنا ولده الشيخ محيي الدين محمد حين قدم إلى حلب سنة اثنتين وخمسين وتسعماية من جانب أرض الحجاز.

وكان محدثا مفسرا جامعا لفضائل شتى سالكا لطريق السنة في إرخاء العذبة ، وكانت عذبته طولى (١) برميها وراء ظهره.

ومما بلغني أن جده الشيخ حمزة كان يقري الكشاف بحلب ، وكان إذا جرى ذكر

__________________

(١) في الأصل : طولها.

٤٥٥

مؤلفه قال : رحمه‌الله إن كان مستحقا للرحمة ، فيقيد له دعاءه بالرحمة بهذا التقييد ، وأنه قال : اشتغلت بالعلم بالقدس الشريف عشر سنين ولي مشاية واحدة ، مشيرا إلى أنه كان يقتصر على المشي إلى محل درسه لا غير.

وأخبرنا شيخنا الشهاب أحمد الخطيب الأنطاكي أن أصله من شيخ الحديد وأن البدر السيوفي كان يغص منه ويقول : ليس هو منلا عرب بل من لا عرف ، ولا عبرة بقوله.

٧٧٠ ـ أبو الهدى النقشواني سنة ٩٣٩

أبو الهدى بن محمود النقشواني الحنفي.

دخل حلب وسكن بها بالكلتاوية وبها صحبته ، ثم بالأتابكية البرانية ، ثم مات بعين تاب سنة تسع وثلاثين وتسعمائة.

وكان عالما عاملا محققا مدققا منقطعا عن الناس قليل الأكل ، وإذا توجه إلى صلاة الجمعة لم يلتفت يمينا ولا شمالا. وكان تحصيله للعلم عن جماعة ، منهم منلا طالش الدريغي ومنلا مريد القراباغي وابن الشاعر ، وكان يميزه في الفضل على الأولين. وقد نظم منلا أبو الهدى الشعر باللسانين العربي والفارسي ، ومن قوله :

بدا الأحزان في قلبي

فهات الراح واغسلها

٧٧١ ـ مسعود بن عبد الله الشيرازي المتوفى سنة ٩٣٩

مسعود بن عبد الله العجمي الشيرازي الشافعي الواعظ نزيل حلب.

وعظ بجامعها الأعظم فنال قبولا من الناس وصارت له به في يوم الجمعة المجالس الحافلة ، وصار الوتارون بحلب من شيعته كما كانوا قديما من أتباع الشيخ محمد الخراساني النجمي ، فبلغ الشمس بن بلال أمره فزوجه بنته وصار لا يكلفه عليها درهما واحدا. ولم يزل يعظ الناس إلى أن توفي مطعونا سنة تسع وثلاثين وتسعمائة.

وكانت له مطالعات في التفسير والحديث وأخذ في الكلام عليها باللسان العربي ولكن مع لحنات فيه ومجازفات كانت تبدو من فيه. ومما اتفق لي معه في بعض المجالس أن أوردت

٤٥٦

حديث البخاري في شأن جبل أحد (هذا جبل يحبنا ونحبه) فضعفه مع أن الحافظ ابن حجر رواه في فتح الباري من غير ما طريق ولم يضعّفه. وكذا أوردت حديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كان يأكل البطيح بالرطب) ، فزعم أنه موضوع مع أن الدارمي رواه في كتاب الأطعمة غير حاكم بوضعه ، وناقشته فيما قال ، فلم يرد جوابا إذ لم يورد صوابا.

وكان من أتباعه هندي يدعى هلالا فبينما شيخنا الشهاب أحمد الهندي جالس إذ هو سائل إياه سؤالا صرفيا بقصد احتقاره ، وأخذ في أن يجلس فوق الشيخ ، فأنشده الشيخ :

إن الجهول إذا تصدّر بالغنى

في مجلس فوق العليم الفاضل

فهو المؤخر في المجالس كلها

كتقدم المفعول قبل الفاعل

ثم لما بلغ الشمس بن بلال ما جرى من هلال وسطع شهاب شيخنا الشهاب أضافه بمنزلة ضيافة عجيبة ونسج المودة بينه وبين صهره وأكرمه مزيد إكرام حتى قدم له الشمس السجادة بيده إذ قام القوم لصلاة العشاء.

٧٧٢ ـ فتح الله المرعشي المتوفى سنة ٩٣٩

فتح الله بن محمد بن العلامة شهاب الدين أبي الفضائل أحمد بن أبي بكر المرعشي الأصل ، الحلبي المولد والدار ، أحد أعيان التجار بحلب ، المعروف بابن المرعشي.

كانت له قدم في نظم الشعر التركي وذوق في الشعر العربي وكذا الفارسي ، ورأي مصيب وحدس جيد وهمة عالية وحمية تامة وخلطة ببعض أركان الدولة.

توفي مطعونا سنة تسع وثلاثين وتسعمائة.

٧٧٣ ـ الشهاب أحمد الهندي دفين الأطعانية المتوفى سنة ٩٣٩

الشهاب الهندي أحمد البنارسيّ الأصل الدّلوليّ الدار الشيخ المحقق المدقق شهاب الدين الهندي الحنفي شيخنا.

كان رحمه‌الله تعالى في بداية أمره من أرباب الديوان العسكري ، فاشتغل في بلاده بالعلوم العقلية والنقلية على جماعة ، منهم العالم العامل الصوفي السيد إبراهيم الدلي القادري

٤٥٧

والعماد الطارمي وغيرهما ، ثم آل أمره إلى أن صار عند داود وزير السلطان إسكندر شاه سلطان دلي (دهلي) نحو سبع سنين يعلم فيها أولاده العلم ، وكان يمنعه من التردد إلى أحد إلا إلى بعض أساتذته لشدة حرصه عليه ومحبته له. وكانت له خزانة كتب نفيسة فدفع مفتاحها إليه وأبقاه عنده في عيش رغد ، إلا أنه كان مغصوبا في الإقامة عنده لما كان يكره من عشرة ذوي الشوكة وأرباب السياسة وإن كان في بدء أمره عسكريا ، ولم يزل عنده إلى أن احتال على مفارقته بطلب الحج وأوهمه أنه يحج ويرجع ، فخرج من عنده ومر في سفره بمدينة كجرات من بلاد الهند ، فاجتمع فيها بشيخ الإسلام الخطيب أبي الفضل ابن نور الهدى الكازروني الصديقي تلميذ الجلال الدواني ومحشّي تفسير البيضاوي وشارح «الإرشاد» في النحو (١) للقاضي شهاب الدين أحمد الهندي ، وهو التأليف العجيب الغريب الذي التزم مؤلفه فيه بإيراد النظير في ضمن التعبير نحو قوله : ونكرة مخصوصة تقع مبتدأ ، وأخفى نفسه عند اجتماعه به وطلب القراءة عليه في حاشية الشريف قدس الله سره على شرح الشمسية ، فأذن له ودفع إليه من حواشيه المنطقية شيئا يطالع ، فأخذ شيخنا في مناقشته المرة بعد المرة ، فلما عرف مقامه أقرأه في شرح المواقف ، وكان قد سمع به هناك العلامة السيد صفي الدين الإيجي والد (٢) شيخنا القطب عيسى ، فقربه وأكرم مثواه ورتب له عشاء وغداء وخادما خاصا.

ثم توجه إلى مكة فحج وجاور فيها ، ثم إلى بيت المقدس فدخل في طريقه مصر وأقام بالأزهر مدة يقرأ عليه فيها أقوام ، واجتمع فيها بشيخ الإسلام ناصر الدين اللقاني المالكي ، فكان كل منهما يعجبه كمال صاحبه. ثم قدم دمشق قبل وفاة قاضي القضاة ولي الدين ابن الفرفور فأكرم مثواه ورتب له في كل يوم خمسة عثمانية سوى ما عينه له من الحنطة والكسوة في كل عام ، واشتغل عليه بها جماعة. ثم قدم حلب فأنزلناه بمنزلنا ، ثم قطن المدرسة الشرفية وأقبل عليه الناس للقراءة ، فامتحنه بعض الحسدة في مسائل علمية أجاب عنها من غير رؤية نقل ولا روية.

واقترح عليه آخرون «كشف الغطا عن مباحثة قصرت عن دركها الخطا» فكتب عليها ما كتب. وكنت أول من أخذ في القراءة عليه ، فقرأت عليه بجامع حلب الأموي

__________________

(١) في الأصل : إرشاد النحو.

(٢) في «در الحبب» : جد.

٤٥٨

في المطول وحواشيه للشريف الجرجاني.

ثم أكب الناس عليه في أنواع العلوم ووفد عليه جماعة من المحصلين والتفت إليه قاضي القضاة محيي الدين محمد بن قطب الدين الرومي الحنفي فعرض له في أدنى مدة في تداريس عدة ، فتوطن بحلب وتزوج بها بنت الشيخ الصالح القدوة الحسين العزازي المعروف بالأطعاني ، إلى أن مات بالطاعون في جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين ودفن بالأطعانية عند رجل ولي الله تعالى المعروف بالخباز رضي‌الله‌عنه ، وكان له يوم دفنه مشهد عظيم تنافس فيه الناس في رفع سريره.

وكنت أقرأ عليه قبل أن يطعن في مسألة القصر المتعلقة بقوله تعالى (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)(١) وأوردت الآية وما تضمنته مما أورده التفتازاني فيها من نسبة الهلاك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستصعب بعض أصحابنا الحاضرين لديه نسبة الهلاك دون الموت إليه ، فقال له الشيخ : قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(٢). ثم مسه الطاعون بعد هذه الواقعة بقليل فانقطع بالبيت. ثم لما أخذ في النزع سمعته يقرر في تفسير الفاتحة وهو يقول بالفارسية : خوب خوب (٣).

وكان رحمه‌الله تعالى طويل القامة حسن الوجه مهابا ذا لحية شديدة السواد بها بياض كثير هو أشد ما يكون من البياض ، ضحوك السن متواضعا صالحا محبا للفقراء محسنا إليهم معتقدا للأولياء معولا عليهم ، ترك ما كان له من الثروة ورغب في الفقر وأعرض عن الدنيا ، وقدم إلى ديارنا محلوق الشعر بعد أن كان ذا شعر بناء على ما هو دستورهم من حلق الشعر بعد تربيته إذا هم تركوا الدنيا وسلكوا مسلك أهل الفقر.

وكان ذا ذكاء مفرط واستنباط عجيب للمعاني الدقيقة بحاثا مناظرا سريع التقرير بديع التحرير لا يتوقف في كلامه ولا يتلعثم في إنهاء مرامه ، مع البلاغة والفصاحة والبراعة ، وكان يقول مع هذا : إنه بالفارسية أعلم منه بالعربية. وبلغ من فرط الذكاء إلى أن وصفه الشمس الخناجري بأنه ذو فكر يكاد يثقب الألماس.

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤.

(٢) القصص : ٨٨.

(٣) أي : حسن حسن.

٤٥٩

وكان صرفيا نحويا بيانيا عروضيا فقهيا أصوليا منطقيا كلاميا فرضيا ملما بفن القراءات والحديث وأصوله والتفسير وغير ذلك مستحضرا للطيف الأشعار غواصا على درر البحار مستحضرا أي استحضار. وكان له بديع حل لحاشية الهندي على الكافية ، وكثيرا ما كان يصحح لفظها من لفظه ويخبرنا أنها في ديارهم غير مدونة على هذا الأسلوب المشهور ، وإنما هي هناك مكتوبة على حواشي الكافية عادة.

وكان لا يتعرض لمناظرة أحد من العلماء إلا بعد أن يتعرض لمناظرته ويقول : أوصاني بعض شيوخي بذلك ، مع ما هو فيه من حب الانجماع عن الناس والرفاهية ونظافة الملبس والميل إلى لذيذ المأكل.

وفي مدحه قلت :

بماضي سيوف الهند كم أسرت قبلي

وما يممت من قتل حب سوى قتلي

أسيلة قدّ في الضمير تمكّنت

جليلة قدر لا تقابل بالمثل

ترنمها الغالي وطيب كلامها

بكل عقيب القطع تقت إلى الوصل

غدايرها ليل بهيم وفرقها

بهيّم معناه البهيّ ذوي العقل

إذا أقبلت في جمعها أظهرت لنا

صفات حسانا من محاجرها النجل

وإن أدبرت أبدت مثنّى ومرسلا

طويلا بديعا طوله صحّ في النقل

وإن رفعت عن وجهها برقع الحيا

جزمت بأن القلب مسكنها الأصلي

تسلّيت عن أسمائها وصرفتها

عن القلب إذ هند هي الغرض الكلي

فتاة بمعناها تعلّق خاطري

ولم أصب عنها واشتغلت عن الكل

فصدت وردت وانثنت وتشاغلت

وما قصدت إلا اختباري بالمطل

فثار غرامي واعتدت نار لوعتي

عليّ فقالت لي : أترغب في وصلي

فقلت : أجل إني لأرغب راغب

أجابت : لعمري إن ذا أسهل السهل

ومن بعد ذا غابت عن العين برهة

من الدهر حتى صرت من ذاك في شغل

فشمّرت ساق الجدّ في طلبي لها

لعلي أراها أو أصادف ذا فضل

فلم أر إلا سيبويه زمانه

وشيخ المعاني والبيان لذي الكل

من أمتاز بالهنديّ عن كل عالم

وصار شهابا باقيا في دجى الجهل

وقدّمه الناس اهتماما لشأنه

لما أنه في العلم ذو العقد والحل

٤٦٠