إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

نفعته دائما في كل واقعة

لولاك كان زري الحال في خلق

اختم بخير وكمل ما سمحت به

يا من فضائله كالعقد في العنق

لخصت مدحك يا مولاي مختصرا

في نبذة من قريض الشعر في نسق

قصيدة قد وهت في النظم سافلة

لكن بكم قد علت قدرا على الشفق

طرازها مدح مولانا وحلّتها

من فاخر المدح لا سحا من البثق

أتت لبابك تسعى وهي في خجل

ترجو القبول بعين القلب والحدق

نفيسة المدح من بحر البسيط أتت

بكر تزف بلا عيب ولا رتق

إن ردت تعرف ممدوحا ومادحه

فاجمع أوائل بيت النظم في نسق

ثم الصلاة على المختار من مضر

ما غنت الورق فوق الأيك في الورق

والآل والصحب والأتباع كلهم

ما انهل غيث على البطحاء مندفق

وكان القاضي علاء الدين في بداية أمره أحد عدول حلب بمكتب الزرد كاشية عارفا بصنعة الشروط سريع الكتابة ، ربما حفي قلمه فقطّه بسنه وكتب به خطا حسنا. وكان له اشتغال في العلم على الجلال النصيبي وحرص على اقتناء الكتب النفيسة.

توفي في العشر الأواخر من رجب سنة اثنتين وثلاثين. وكان طويل القامة طويل العمامة.

٧٣٥ ـ محمود بن أبي بكر بن محمود المعري سبط أبي ذر المتوفى سنة ٩٣٢

محمود بن أبي بكر بن محمود قاضي القضاة نور الدين المعري الأصل الحموي ثم الحلبي الشافعي سبط الشيخ أبي ذر بن الحافظ برهان الدين الحلبي.

ولي قضاء حماة بعد أبيه إلى آخر الدولة الجركسية.

وكان أبوه القاضي تقي الدين قد ذهب إلى القاهرة فاجتمع بالمقر المحبي ابن آجا كاتب الأسرار الشريفة بها فأبرم عليه أن يكون قاضي الشافعية بحلب ، فأبى رعاية منه لعمي الكمال قاضيها ، ففوض إليه الأمر السلطاني قضاء حماة ، فأبى وسعى فيه لولده هذا ، فبقي بها قاضيا إلى انقضاء الدولة الجركسية ، فلما مر على حماة المقام السليمي ذاهبا إلى القاهرة ليأخذها ولاه قضاها أيضا ، فلما أخذها وعاد بدا للقاضي نور الدين أن يترك القضاء

٤٢١

في هذه الدولة تورعا عما فيها من رقم ورسم وسجلات الحسبة ونحو ذلك ، فتركه وطلب شيئا من المناصب الحموية ، فأخرجت له براءة واحدة بنحو ثلاثين منصبا ما بين تدريس وتولية.

ثم أقام بحلب مع والده بالمدرسة الشمسية بمحلة سويقة حاتم وحريمه معه بها ، فلم تكن عتبتها مباركة عليه ولا على أبيه وأخيه المقر الشهابي المتقدم ذكرهما حتى ماتوا بعد قليل من مجيئهم من حماة.

وكانت وفاة القاضي نور الدين سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة.

٧٣٦ ـ يحيى بن علي بن الشاطر المتوفى سنة ٩٣٣

يحيى بن علي الشيخ المعمّر المنوّر شرف الدين الحصكفي ثم الحلبي الشافعي المعروف بابن الشاطر ، ابن معلم السلطان بحصن كيفا في دولة السلطان حسن بك ، وأخو المعلم يوسف معلم السلطان بحلب ، وابن عمة شيخنا العلاء الموصلي.

باشر صنعته في أوائل عمره بتقوى وديانة وبلغ فيها ما لم يبلغه غيره من الكمال ، ثم تركها واشتغل بالطاعة والعبادة وفعل الخير حتى كان هو السبب في وصول الماء إلى محلة سويقة الحجارين بحلب ، وذلك أنه سعى فيه عند يشبك الدوادار لما نزل على حلب متوجها إلى أخذ الرها من السلطان يعقوب بك بن حسن بك ، فسمح له بخمسة عشر ألفا فصرفها على عمل الحوض الكائن بها الآن مع ما ضمه إليها أهل الخير من المال.

وحج وجاور بالقدس الشريف قريبا من اثنتي عشرة سنة ، وأكرمه كل الإكرام بالإنفاق عليه شيخ الإسلام الشمس محمد بن أبي اللطف الحصكفي الشافعي. ولما كان بحلب قبل هذه المجاورة نسجت المودة بينه وبين ولي الله تعالى الشيخ علي بك بن المصارع البيري مريد الشيخ محمد الكواكبي وهو إذ ذاك بالبيرة إلى أن زار المثنى بذكره المبدوء بذكره ، فاجتذبه بالحال إلى البيرة فسكنها ، فبينما هو نائم ذات ليلة إذ رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منامه ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اخلع على الشيخ علي بك بن المصارع ، فقال : وماذا أخلع عليه يا رسول الله؟ فقال : هذا ، وكان عليه إذ ذاك لبّاد قصير يلبسه على القميص وينام به ، فلما استيقظ من نومه انتزعه من ساعته وطيّبه ورش

٤٢٢

عليه ماء الورد ، ثم توجه به إلى الشيخ علي بك بن المصارع وقص عليه القصة وأعطاه إياه ، فلبسه ولم يزل عليه إلى أن تقطع ورقعه مرة بعد أخرى.

ولم يزل الشيخ شرف الدين على عمل الخير والديانة والمثابرة على الطاعة ومطالعة كتب القوم والاحتفال بالنظر في إحياء علوم الدين إلى أن توفي سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة ودفن خارج باب الفرج قبلي تربة الخراساني في قبر حفره لنفسه بيده شيئا فشيئا. فبينما هو ذات يوم يتعاطى حفره إذ جاءه الشيخ محمد العريان السابق ذكره وقال : اخرج منه ، فخرج منه ، فنزل فعمل فيه شيئا ، فسر بذلك الشيخ شرف الدين وأخبر به أصحابه ، ولما فتح القبر لدفنه وجد فيه في المحل الذي يكون فيه خده حصيات ، فسئل عن شأنها فأخبر بعض إخوانه أنه كان قد قرأ على كل حصاة منها (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(١) ألف مرة. وكنت قد اجتمعت به بمحلته المذكورة قبل الوفاة والتمست بركته ، رحمنا الله تعالى وإياه.

٧٣٧ ـ إبراهيم بن أحمد القصيري المتوفى سنة ٩٣٣

إبراهيم فقيه اليشبكية ابن أحمد بن يعقوب الكردي القصيري الشافعي المشهور بفقيه اليشبكية.

ولد سنة خمسين وثمانماية تقريبا بعاره بالمهملتين : قرية من القصير من أعمال حلب. وأخبر أنه انتقل مع والده إلى حلب صغيرا فقطنها وحفظ القرآن ثم الحاوي الصغير ، وأنه رحل إلى دمشق فعرضه على البدر محمد بن قاضي شهبة والنجم ابن قاضي عجلون وأخيه التقي ، وأنه سمع الحديث بها ، وبالقاهرة على جماعة ، وبحلب على محدثها الموفق أبي ذر وغيره ، وأجازه الشيخ خطاب الدمشقي وغيره.

قال الزين عمر بن الشماع في كتابه «تشنيف الأسماع» : ولم يهتم بالحديث كما ظهر لي من كلامه ، وإنما اشتغل بالقاهرة بالعلوم العقلية والنقلية.

قلت : وقد كان دينا خيرا كثير التلاوة للقرآن ، معتقدا عند كل إنسان ، طارحا للتكلف ، سارحا في طريق التقشف ، مكفوف اللسان عن الاغتياب ، مثابرا على إفادة

__________________

(١) الإخلاص : ١.

٤٢٣

الطلاب. وكانت إفادته باليشبكية المجاورة لدار العدل بحلب بسبب تأديبه الأطفال بها وقناعته مع جلالة القدر بما له من المعلوم النزر ، ومن ثم اشتهر بفقيه اليشبكية ثم بمواضع شتى بحسب اختلاف مساكنه كالشرفية ومسجد النارنجة ومسجد زبيدة.

وقد انتفع به كثيرون من فنون كثيرة ، منها العربية والمنطق والحساب والفرائض والفقه والقراءات والتفسير ، وكنت ممن انتفع به في العربية والمنطق والتجويد إلى أواخر سنة ثلاثين وتسعمائة ، مع أنه شيخي بالإجازة أيضا حسب إجازته العامة للحلبيين ولمن أدرك أصوله المسطرة عنده بإذنه لانكفاف بصره في ذيل الاستدعاء المسطر بخط الزين عمر الشماع المحفوظ في ثبته المؤرخ بثالث عشر ذي القعدة سنة سبع وعشرين.

وكان مع انكفاف بصره في آخر عمره غير منكف عن الإفادة وعلى جاري العادة ، بحيث لم يعدل تقريره عن الصواب ، ولا أذنت شمس بصيرته بالأفول والذهاب.

وكان لما كف بصره قد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام قد وضع يده الشريفة على إحدى عينيه قال : فكانت لها بعد تلك الرؤيا رؤية كما نقل لنا عنه صاحبنا الشيخ الصالح برهان الدين إبراهيم الصهيوني.

ثم كانت وفاته ليلة الثلاثاء رابع عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين ودفن غربي حلب تجاه ضريح الشيخ ثعلب صاحب المزار المشهور ، رحمنا الله وإياه.

٧٣٨ ـ الست حلب بنت أغلبك المتوفاة سنة ٩٣٣

الست حلب المحجبة الكبرى بنت الأميري الكبيري الكافلي الفخري عثمان بن أغلبك الحلبي الحنفي والدها الماضي ذكره.

تزوجها المقر المحبي محمود بن آجا كاتب الأسرار الشريفة بالديار المصرية وسائر الممالك الإسلامية وحظي بها مالا كما حظيت به جمالا ، وأثرت من أوقاف أبيها ومنه قدرا لا يعبر عنه. وصارت وهي بالقاهرة تخرج في كل شهر إلى حضرة خوند زوجة السلطان الغوري فتعظمها ، إلى أن حضرت وهي هناك طاب الزمان الحبشية سرية قاضي القضاة عبد البر ابن الشحنة فجلست فوقها قائلة : إن سيدي أعلى درجة من زوجك منصبا وعلما ، فلم يجسر أحد من سائر الخوندات الحاضرات هناك على منعها ، وثارت العداوة من بعد بين

٤٢٤

سيدها وبين المحب فصار مبغضا من كان هو المحب. ثم كانت الست حلب تجلس على كرسي تأذن خوند بنصبه لها ولو تحت مجلسها حسما لمادة القيل والقال.

ومما اتفق لها أن وعك المحبي فخرج إلى بولاق فزاره السلطان الغوري بمن معه من مقدمي الألوف وعدتهم أربعة وعشرون مقدما ومن معهم من أتباعهم ، فهيأت لهم غداء وعشاء ولم تستعن فيهما بأحد ممن يطبخ سوى جواريها. وكان في ملكها في وقت واحد سبعون جارية بيضاء وسوداء من خزندارات وطشدارات وطباخات. وأصبح السلطان متوجها من بولاق للتنزه بمكان آخر فلحقته بسفينة مملوءة من الأطعمة العجيبة والحلويات الغريبة. ثم لما أخذت منه المملكة عادت الست حلب إلى بلدتها حلب فتوفي المحبي بها فمكثت بتربته سنة كاملة ، ثم لم تنزل منها حتى انعقد فيها عقد نكاحها على الولوي ابن الفرفور الدمشقي قاضي حلب يومئذ ، وصارت تظهر السرور به بعد الدخول مع شيخوختها وشبابه وتشبّب بذكره حتى عيب عليها ذلك بعد أكيد محبتها للمحبي. فلما عزل سافر بها إلى دمشق فماتت بها سنة ثلاث وثلاثين وتركت ما يناهز عشرين ألف قبرصي ، وصار إلى الخاصكي من تركتها بالطريق الشرعي ما لم يكن يصلح إلا لها من قرطين كانا بأذنيها وحلي من الذهب مرصع بالجواهر كان على رأسها.

٧٣٩ ـ محمد بن علي المعروف بابن هلال المتوفى سنة ٩٣٣

محمد بن علي العرضي الأصل الحلبي شمس الدين المعروف بابن هلال النحوي الشافعي.

قرأ بحلب على الشيخ محمد الداديخي ، ثم على شيخنا العلا الموصلي فلم يحصل على طائل مع وكده وكدّه ، فارتحل إلى القاهرة ولازم خالدا الأزهري في العربية مدة مديدة إلى أن مات ، فقدم إلى حلب ودرس بجامعها الأعظم عن شيخنا المذكور بحكم وفاته.

وألف عدة تآليف يعرفها من وقف عليها (١) كحاشية البيضاوي في مجلدين ولم

__________________

(١) قد تحامل العلامة ابن الحنبلي على العلامة ابن هلال في قوله هذا كما أفصح بذلك صاحب الكواكب السائرة وشذرات الذهب في أخبار من ذهب. ومن تآليف ابن هلال شرح الخبيصي المسمى «بالورد المفتح على الموشح» ، وعندي منه النصف الأول والثاني وعليهما خط العلامة جمال الدين ابن حسن ليه الحلبي في آخرهما ا ه. من ورقة كتبها لي السيد حامد عجان الحديد الكتبي الحلبي.

٤٢٥

يشتهر ، وكشرح التسهيل ، وشرح المراح (١) ، وحاشية «شرح التصريف» للزنجاني التي سماها «بالتصريف على شرح التصريف» ، وكنت قد كتبت عليها حاشية سميتها «التعريف بغلط التطريف» ، ثم بدا لي فمحوتها ، وكالرسالة التي أثبت فيها أن فرعون موسى آمن إيمانا مقبولا ، وهي الرسالة التي حمله على وضعها حسبما هو مذكور في صدرها روح الله القزويني حيث سأله في الكتابة على قوله تعالى (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ). ورد عليه ما ذكره فيها الشيخ محمد المنير في تأليف أفرده وذكر فيه أنه صار كمن دخل مكة ولا ذكر له فتغوط ببئر زمزم ليصير له ذكر بين الناس.

توفي نهار الأربعاء سادس عشر ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة من غير زوجة ولا ولد بزاوية الأحمدية بحلب.

وكان له شعر يابس وهجو فيه فاحش عفا الله عنا وعنه.

٧٤٠ ـ محمد بن عبد القادر الشراباتي الطيب المتوفى سنة ٩٣٣

محمد بن عبد القادر بن محمد بن محمد بن سليمان الرئيس الحاذق شمس الدين ابن الرئيس الحاذق زين الدين ابن الرئيس الحاذق شمس الدين ابن الرئيس الحاذق علم الدين الحلبي الشراباتي المتطبب أبا عن جد المعروف بابن شمس.

عهدناه وهو رئيس الأطباء بالمارستان الأرغوني صاحب وظيفة الشرابدارية به يباشر سقي الأشربة للضعفاء بنفسه وبيده مع ما كان عليه من شهامة النفس وعدم التردد إلى من يطلبه للمعالجة إلا وهو راكب فرسا غالبا. وكانت حانوته الملاصقة لداره برأس سوق الصابون الكبير يباع فيها الأشربة المؤنبقة والمعاجين النافعة واللعوقات والجوارشات وغير ذلك على يد مملوك له ، وربما جلس بها أحيانا ، ويكون يجلس عنده في طرفي بابها بعض مخاديم حلب إما طبا وإما حبا ، وكانت مملوءة بالتحف مع البراني والمراطبين الصيني وأواني النحاس المكفت وغير ذلك مما يعجب الرائي. وكذا كان بقربها حانوتان أخريان لبعض بني عمه مملوءتان بمثل ما ذكر على وجهه. قيل إنه لم يكن بمصر والشام لهذه الحوانيت الثلاث من نظير في كمالات الآلات.

__________________

(١) اسمه «الإصباح على مراح الراح» منه نسخة في مكتبة المدرسة الحلوية بحلب.

٤٢٦

وكانت وفاته سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة.

٧٤١ ـ أحمد بن أبي بكر المعري المتوفى سنة ٩٣٣

أحمد بن أبي بكر بن محمود الأصيل العريق بدر الدين ابن قاضي القضاة تقي الدين الحموي ثم الحلبي الشافعي المشهور بابن المعري ناظر الحرمين الشريفين بحلب.

كان ذا حشمة ورياسة وملبس نفيس وشكل بهي وذكاء عجيب واستحضار جيد لفوائد أصولية وفرعية ، غير أنه انحاز إلى القاضي علاء الدين الحنفي قاضي حماة الشهير بقرا قاضي وفتش معه أوقاف حلب وأملاكها وداخله في أمور السلطنة لما صار كاتب الإبل وناظر الأموال السلطانية ، وصارت له عنده الكلمة النافذة ، وهرع إليه الناس من أجل ذلك. وقربت منيته فصلى معه الجمعة بحجازية جامع حلب ، فلما قتله أهلها لما سيأتي في ترجمته سنة ثلاث وثلاثين قتلوه معه شهيدا.

ومن العجب أن قصّابا يسمى الملوخية شق بطنه وأخذ من شحمه شيئا في يده والناس يرونه رأي العين ، ولم يمكن الله تعالى أحدا من إمساكه لتعزيره أو إهلاكه ، ثم سحب إلى تلة عيشة بالقرب من السفاحية ليحرق فتداركه أهله ومحبوه فخلصوه وغسلوه وكفنوه ودفنوه على عجل وهم على وجل بمقبرة أقربائه.

٧٤٢ ـ أحمد بن علي الشماع المتوفى سنة ٩٣٤

أحمد بن علي البابي الأصل الحلبي الشماع المعروف بابن الكيمختي.

كان من الخيرين ، جدد رصيفا بالحدادين وبمواضع أخر بمباشرة الحاج أبي بكر بن الحصينة الحجار ، وكان ينهاه أن يظهر أن مصروف العمارة منه.

وكان له دين على بهاء الدين بن حمزة فطالبه فأغلظ له القول ولم يعطه شيئا. فناله منه غيظ زائد ، فعرض عليه في أسرع وقت فالج مات به في سنة أربع وثلاثين وسنه ثلاث وستون سنة حتى قال وقد أيقن بقرب وفاته : عشنا كما عاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونموت كما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤٢٧

٧٤٣ ـ حسين بن محمد الميداني المتوفى سنة ٩٣٤

حسين بن محمد شاه الحلبي المشهور بابن الميداني لأن أباه كان قيم الميدان الأخضر بحلب.

كان في مبدأ أمره من أبطال حلب ومردتها ، إلا أن رفقاءه إذا أكرهوا عفيفة ليزنوا بها نزعها من بين أيديهم شاؤوا أو أبوا ، حتى أعطاه الله كما كان يحكي لنا المنزلة العليا ، وذلك أنه لما كان قانصوه الغوري حاجب الحجاب بحلب عصى كافلها إينال ، فأمر من تسلطن بعد قايتباي بالقبض عليه ، فكان الغوري فيمن ركب عليه حتى قبض عليه ووضع في قلعة حلب لكونه من حزب من تسلطن ، فورد الخبر بقتله ونصب سلطان آخر كان إينال من حزبه ، فأطلق إينال وتبع الغوري وغيره ممن ركب عليه ، فشعر به الغوري وكان صاحب الترجمة مقربا عنده ، فاحتال لإخراجه من حلب ليلا فأخرجه فسلم ، فلما تسلطن بعث يستحثه على الحضور لديه فحضر فجعله كيخيا محلات قيس فحصل النفع به ، وكان كفؤا لمنصبه ولم يخلفه من بعده مثله ، وجعله أيضا من أمراء العشرات وألبسه الكلوتة والقباء الأبيض ، فكان يلبسهما وهو بحلب في الموكب. والكلوتة بفتح الكاف وسكون الواو بعدها تاءان : عمامة ملساء ذات قرنين منعطفين إلى أسفل يمنة ويسرة ، واسمها الصحيح الكلفتة بالفاء ، كذا وجدته بخط بعض الضابطين من المؤرخين.

ثم كثر ماله وظهر خيره فأنشأ الجامع المجاور للشيخ عبد الله بالقرب من قبور الغرباء بحلب ووقف عليه وقفا وعمر له مدفنا بقربه ، وجدد عمارة محكمة على المكان الذي قتل فيه الشيخ شهاب الدين السهرودي المعروف بالمقتول خارج باب الفرج ، ووسع جامع شرف بالقرب من الجديدة ، وجدد مسجدين عند عمارته خارج باب الجنان ، ومسجدين فوقانيا وتحتانيا بالبندرة. وبقي على جلالته وشهامته وقبول كلمته في الدولة العثمانية السليمية والسليمانية كما كانت في الدولة الجركسية الغورية.

ولما حاصر الغزالي حلب ووضع كافلها قراجا باشا على أسوارها حراسا بالليل صار هو يطوف عليهم ليلا ويشجعهم ويوقظ من نام منهم ويمنح كل فريق ما يليق به من عدة علب فيها الحلاوات السكرية إلى أن زال الحصار وصار للغزالي ما صار.

وكان له صدع بلسان الحق وحرمة زائدة ومهابة في أعين الناس العوام والخواص وعلو

٤٢٨

همة إذا انتدب في الأمور المهمة ، وتردد الكثير من الأكابر إليه.

حكى أنه ورد عليه في بعض الأيام خوجه فتح الله بن المرعشي وخوجه سعد الله الملطي وخوجه روح الله القزويني في طلب حاجة مهمة فأجابهم إلى ملتمسهم قائلا : كيف أراد فتح الله وسعد الله وروح الله وكل واحد منهم ينتسب إلى الله ، ما بقي لي فيكم حيلة باتفاقكم علي.

وكانت وفاته كما قيل بسمّ دسه إليه عيسى باشا وهو بدمشق مع واحد من جماعته ركب معه ذات يوم إلى خارج حلب فاحتال عليه وأطعمه ، فما عاد إلا وتوفي وذلك في سنة أربع وثلاثين رحمه‌الله تعالى.

الكلام على جامع الميداني :

موضع هذا الجامع في المحلة المعروفة بترب الغرباء شمالي الكنيسة التي هناك بينهما خطوات ، وهو عامر تقام فيه الصلوات الخمس والجمعة. طول قبليته نحو أربعين ذراعا وعرضها نحو سبعة أذرع ما عدا الجدران التي يبلغ سمكها نحو ذراعين ، وفيها محرابان.

وفي شرقيها حجرة تبلغ ثمانية أذرع في مثلها فيها ضريح يقال له الشيخ عبد الله وهو أقدم من بناء الجامع كما تقدم. وصحن المسجد على طول القبلية وعرضه نحو ثمانية أذرع ، وفيه مصطبة أنشأها الشيخ عبد القادر سالم سنة ١٣٢٤ ، وإلى جانبها حوض كبير كان صغيرا وسعه المذكور تلك السنة ، وكذلك جدد باب الجامع ووسعه وجاء تاريخه (تمت محاسن جامع الميداني ١٣٢٤). وشمالي الصحن حجرة يؤدب فيها بعض المشايخ الأطفال ، وفي شماليه بجانب هذه الحجرة منارة قصيرة فيها شيء من الزخرفة من وسطها إلى موقف المؤذنين على نسق منارة جامع السفاحية والجامع العمري. ووراء هذه المنارة وتلك الحجرة قبور كثيرة ، وكذا في غربي الصحن وفي مدخل باب الجامع.

وقد كان المتولي على هذا الجامع الشيخ سالم المهتدي ، وفي أثناء توليته وذلك في سنة ١٢٩٨ ه‍ و ١٨٨٠ م حكر أرضا واسعة قبلي الجامع كانت مقبرة للمسلمين تعرف بترب الغرباء وشرع في بنائها كنيسة ، فضج أهل المحلة لذلك وراجعوا جميل باشا الحاكم وقتئذ ، غير أنه لم يلتفت لمراجعتهم بل نفى منهم وقتئذ الحاج محمد النشار ومصطفى الخلاصي الطبيب ، ثم أرجعهما بعد مدة بتوسط جماعة بعد أن كان قضي الأمر وتم بناء الكنيسة ،

٤٢٩

وذلك لا يخلو من نفع ذاتي ولله الأمر.

ثم آلت التولية إلى ولده المتقدم بقي إلى سنة ١٣٣٤ ، ففيها استلمته دائرة الأوقاف وهو الآن في يدها ، وله من الأوقاف ستة دور في محلة الألمجي الملاصقة لهذه المحلة ودكان وحكر الأرض التي بنيت فيها الكنيسة وهو نحو ٣٠٠ قرش رائجة.

٧٤٤ ـ عبد القادر بن سعيد المتوفى سنة ٩٣٤

عبد القادر بن أبي بكر بن سعيد الشيخ محيي الدين الحلبي الشافعي المشهور بابن سعيد نسبة إلى جده سعيد. وكان أسلميا عن يهودية.

اشتغل بالعلم على جماعة من الحلبيين وغيرهم كالعلاء الموصلي وملا حبيب الله العجمي نزيل حلب ، وكالكمال ابن أبي شريف فإنه أخذ عنه بعض حاشيته على شرح العقائد النسفية وأجاز له روايتها عنه بالشرط المعتبر بعد أن ترجمه بفسكل الطلبة بعد قاشورها وجوّد الخط وجوّد عليه ، وكان يفتخر بتلك الترجمة على ما فيها ، فإن الفسكل من خيل السباق هو الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل كما ذكره الجوهري ، إلا أن المنقول عن الشيخ كمال الدين أنه قال هكذا فجعل القاشور غير الفسكل متقدما عليه ، والذي عليه الجوهري أنهما والسكّيت شيء واحد وهو الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل كما ذكرنا. ولم أجد للقاشور ذكرا فيما أنشده الصفدي في تاريخه لابن مالك النحوي جامعا لأسماء خيل السباق العشرة من قوله :

خيل السباق المجلّي يقتفيه مصلّ

والمسلّي وتال قبل مرتاح

وعاطف وحظيّ والمومّل وال

لطيم والفسكل السكّيت يا صاح

وكأنه تركه لأنه والفسكل والسكّيت واحد كما عليه الجوهري.

وكان الشيخ محيي الدين ذا همة علية في نسخ الكتب بخطه النفيس حتى كتب البخاري وما دونه في القدر ، وحشّى على هوامش المتون والشروح بخطه الحواشي المنمقة المنقولة من كلام الناس.

وطلب الرياسة فترقى إلى أن صار إمام قصروه كافل حلب في الدولة الجركسية ، ثم

٤٣٠

صحبه بدمشق وهو كافلها ، ثم بالقاهرة وقد ولي بها الإمرة الكبرى على إمامته عنده ، إلى أن قبض عليه بعض من صارت السلطنة إليه بعد السلطان قايتباي خوفا من أن يتسلطن قهرا عليه وحلف له أن لا يقتله ، ثم وضعه في حائط مجوف وسد عليه إلى أن مات ، فعاد الشيخ محيي الدين إلى حلب بعد أن صودر يسيرا واشتغل بها بحسب حاله وأفتى ورأس فركب الخيل وتجمل بالملبس النفيس ، وأنشأ في داره داخل باب المقام العماير الحسنة والكتبية المشتملة على الكتب النفيسة ، وصار مفتي دار العدل بحلب من غير أن يكون غيره مفتيا بها يومئذ وإن كانت في الزمن السابق ذات مفتيين على ما وجدته في تاريخ المحب أبي الفضل ابن الشحنة.

ثم كانت له في الدولة الرومية علوفة من المملحة فوق ماله من الثروة ، وولي فيها من المناصب مشيخة التغري ورمشية ومشيخة الزينبية ونظرها ونظر الأطروش.

ثم كانت وفاته سنة أربع وثلاثين ودفن بداره بوصية منه ، وصلى عليه إماما الزين عمر الشماع في ملأ عظيم.

وكان عنده شهامة وتعظيم عظيم لمن يعظه وإحسان لمن يرد على حلب من فضلاء العجم ، وصبر على تبكيت البدر السيوفي به ، غير أنه تعاظم على شيخه العلاء الموصلي فبلغه أنه صحف كلمة يشبه في المنهاج الفرعي من الشوب وهو الخلط بلفظ يشبه من الشبه ، وحمل ما ذكره البيضاوي في قوله تعالى (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) من قراءة التثقيل على تشديد القاف مع ضم الحاء مع أن المراد بها مجرد ضم الحاء من غير تشديد للقاف فهجاه بقوله :

يا سائلي عن جهول

يتيه في الجهل حمقا

لم يدر بين يشبه

وبين يشبه فرقا

وخالف الله فيما

أبداه في الذكر حقا

وقال فيه سحقّا

سحقا له ثم سحقا

وبالغ في هجوه من قال :

يا منتسبا إلى سعيد الذّمّي

ما بالك هكذا ثقيل الدمّ

إن دمت على ذاك فلا تذكر ما

قد قلت وما أقوله من ذمّ

٤٣١

ولا مؤاخذة على هذا القائل في تشديد ميم الدم في المصراع الثاني ، ففي كتاب «عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ» للشهاب ابن السمين تصريح بأن ميم الدم قد تشدد.

٧٤٥ ـ حسن ابن خطيب الناصرية المتوفى سنة ٩٣٤

حسن بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن سعد بن محمد الشيخ بدر الدين الجبريني الأصل الحلبي الطائي الشافعي.

توفي في شعبان سنة أربع وثلاثين. وكان مولده على ما وجدته بخط والده في المحرم سنة إحدى وثمانين وثمانمائة. وكان شروطيا حلو الطريقة في الخط غريبها.

رافق الزين الشماع في أخذ الفقه عن القاضي جلال الدين النصيبي ، ووقع بمحكمة القاضي عفيف الدين ابن جنغل المالكيّ ، واشتهر بابن خطيب الناصرية كأبيه الشيخ شمس الدين المعروف بمفرّج بالفاء والراء المشددة المكسورة والجيم أحد عدول حلب بمكتب سوق الصابون وجده أقضى القضاة برهان الدين الشافعي أخي قاضي القضاة علاء الدين ابن خطيب الناصرية صاحب التاريخ المشهور ، لا لأنه كان من ذرية أولاد عم أبيه الذكور لأنه لم يترك بنين فيما سمعنا وعلمنا وإنما ترك ثلاث بنات : إحداهن خديجة أم القاضي جمال الدين الحسفاوي ، والأخرى أم القاضي أثير الدين محمد بن الشحنة ، وشهدة أم القاضي جلال الدين ابن النصيبي ، ومن هنا استحق والدي في وقف قاضي القضاة علاء الدين لأنه سبط القاضي أثير الدين ، والثالثة هي التي تزوّجت بطاهر الحنبلي فولد لها منه بنت هي أم الشيخ شمس الدين ، ومن هنا استحق الشيخ شمس الدين وولده ومن يشركه.

وجده طاهر هذا هو أبو أحمد طاهر بن الجمال محمد الحرّاني قاضي الحنابلة بحلب في سنة تسع وثلاثين وثمانمائة ، وهو الذي قيل فيه :

تجادل مالكيّ وشافعيّ

وكلّ منهما في القول ظاهر

فقال الشافعيّ : الكلب رجس

وقال المالكيّ : الكلب طاهر

٧٤٦ ـ يوسف بن أحمد المهمندار المتوفى سنة ٩٣٤

يوسف بن أحمد بن يوسف بن الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير ناصر الدين محمد

٤٣٢

ابن بلبان الحلبي الشهير بابن المهمندار.

كان ترجمانا عند بعض قضاة حلب في الدولة الرومية ، فاتفق أن شكا الناس على شخص يدعى بجانم هو أحد أعوان القاضي علاء الدين المشهور بقرا قاضي الآتي ذكره لدى ابن المعمار قاضي حلب ، فطلبه لسماع ما عليه من الدعاوي فأبى عن الحضور ، فأقفل قاضي حلب المحكمة بتحسين صاحب الترجمة له ذلك ، فلما قتل الناس قرا قاضي بحلب وفتش عيسى باشا على قاتليه أخذ جانم في تعيين طائفة زعم أنهم كانوا الساعين في قتله ، فعينه منهم فقتله عيسى باشا فيمن قتله سنة أربع وثلاثين وتسعمائة.

وكان جده بلبان مهمندارا وأحد أمراء العشرات بحلب ، وهو الذي أنشأ بها الجامع المشهور به ووقف عليه أوقافا منها داره التي عدها المحب أبو الفضل بن الشحنة في تاريخه في الدور العظام التي بحلب وقال إنها تجاه جامعه هذا (هي المحكمة الشرعية) وإنها وقف عليه. وصحيح ما قال ، إلا أنها استبدلت في زماننا بالحمزية. ثم وقفها مالكها بطريق الاستبدال نصفين نصف على الجامع المذكور ونصف على فقراء الحرمين الشريفين.

وكان من خبر جده الأدنى أنه ورث من أبيه ما ينوف على مائة ألف دينار ، فصرف منها حصة عظمى في حجة حجها وبذل الباقي في طريق الخير محبة في الله تعالى دون معصية من معاصيه إلى أن صار فقيرا من فقراء المسلمين ، فجعل نفسه مؤذنا بجامع جده ، إلا أنه لصفاء خاطره كان إذا مرّ عليه أحد من تحت المنارة وكلمه في خلال كلمات الأذان مرتين فأكثر يكلمه ثم يعود إليه وهكذا. ولما قرب إلى الوفاة أوصى أن لا يجعل قبره إلا من التراب. ثم نسج ولده على منواله فأذّن بجامع جده كأبيه.

٧٤٧ ـ محمد بن أبي بكر القواس المتوفى سنة ٩٣٤

محمد بن أبي بكر بن الشيخ زين الدين عبد الواحد بن صدقة بن أبي بكر ابن الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف بن أبي العز الأصيل المعمّر ناصر الدين الحراني الأصل الحلبي المولد القواس هو وأبوه.

توفي سنة أربع وثلاثين وتسعمائة. وكان يعرف بالحراني ويسكن بالزقاق المعروف بزقاق بني الحراني وراء المسجد المعروف بشمس الدين محمد بن الحسامي حسن بن محمود

٤٣٣

الحراني. وكان الناصري يذكر أنه من جملة أجداده أيضا.

ولجده أبي بكر الأعلى وقف على الحدادية وعلى جده الشيخ شمس الدين وذريته وقف آخر منسوب إلى القاضي كمال الدين أبي الربيع سليمان بن أبي الحسن بن ريان الطائي ، وقد انحصر كلا الوقفين في الناصري ثم في بنته ثم في أولادها.

٧٤٨ ـ القاضي علي بن أحمد المعروف بقرا قاضي المتوفى سنة ٩٣٤

علي بن أحمد القاضي علاء الدين الرومي الحنفي قاضي حماة المشهور بقرا قاضي.

ولي كتابة الإبل وتفتيش أوقاف حلب وأملاكها والنظر على الأموال السلطانية فبالغ في جمعها وتثميرها حتى أخرج حكما سلطانيا يمنع توريث ذوي الأرحام من الشافعية بخصوصهم ، وضبط التركة لبيت المال ، وأراد أن يجعل ملح المملحة الذي صار مضبوطا لبيت المال أغلى من الفلفل ، قال لأن الناس أحوج إلى الملح منه ، ومنع من بيع حنطة كانت للخزائن الشريفة السليمانية في سنة كانت ذات قحط وهي سنة أربع وثلاثين.

ثم أحضرته المنية إلى الجامع الأموي بحلب يوم الجمعة خامس شعبان من السنة المذكورة فقامت غوغاء الناس وكثر طغامهم بعد صلاة الجمعة وأخذوا في التكبير عليه وقتلوه داخل الحجازية بالنعال والحجارة على وجه لم يعلم له قاتل معين ، وجروه بعد أن جردوه من ثيابه ليحرقوه ، فخلصه جماعة من أهل الخير ودسوه في ميضأة إلى ثاني يوم ، ثم غسلوه وكفنوه ودفنوه. ثم كان ما كان من تفتيش عيسى باشا على قاتليه ، والأمر لله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) وأنشد فيه بعضهم :

إن قرا قاضي سطا

ولم يزل معسّرا (١)

فاشكر لمن مضى وقل

أين قراجا من قرا

أراد قراجا باشا أول كفّال حلب في الدولة العثمانية ، وقد ذكره في الأحمدين مثنيا عليه.

__________________

(١) في الأصل : مقتعرا.

٤٣٤

٧٤٩ ـ قاسم العجمي المشهور بعفاريت المتوفى سنة ٩٣٤

قاسم العجمي المشهور بعفاريت.

كان من مريدي الشيخ محمد الخراساني النجمي ، وهو الذي لما كان يوم دفن الشيخ خرج في جنازته دائرا على قدميه كأنه فلكة مغزل من منزل الشيخ إلى تربته. ثم دخل أركان الدولة بالباب العالي فتولى نظر جامع حلب الأعظم ونظر المدرسة الجردكية وغيّر منها هيئة الواقف التي رضي بها ، فترك بقاء حجراتها الفوقانية وطاقاتها المشرفة على صحنها ، وجدد حائطا لا طاقة فيه ، ولم ينتطح فيها عنزان مع ما كنت عليه وأنا إمامها يومئذ من المبالغة في الكشف عن سوء حاله في رسالة سميتها «بالقول القاصم للقاسي قاسم» ونسجتها على منوال الخرقة لأهل الحرقة في النظم والنثر ، وضمنتها عدة مقاطيع منها هذه :

لا تركننّ لقاسم

إذ ليس فيه فائده

واعلم أخيّ بأنه

قاس بميم زائده

ومنها على الاقتباس :

شخص خبيث لو طلبت اسمه

من أحد يوصف بالضنّ

لبادر الحال إلى كشفه

وقال عفريت من الجنّ

وكان في سنة أربع وثلاثين وتسعمائة في الأحياء ، ثم مات بعدها برودس لسوقه إليها.

٧٥٠ ـ يوسف بن علي الحصكفي معلم السلطان المتوفى سنة ٩٣٤

يوسف بن علي الحصكفي الحلبي الحجار معلم السلطان بحلب ، وأخوه الشيخ يحيى المتقدم ذكره.

كانت له قدم راسخة في الهندسة والعمائر العظام كالتربة التي أنشأها لجدي الجمال الحنبلي خارج باب المقام فوضع له على بابها النقوش العجيبة والصنائع الغريبة مع الفسقية المقلوبة على الطريقة الحسنة المرغوبة ، كالمحراب الذي أنشأه له أيضا بالمسجد المعروف قديما بمسجد النارنجة المجاور للصباغين الذي كان له محكمة ، وهو محراب عجيب غريب (١).

__________________

(١) لم يزل باقيا إلى الآن في المسجد المعروف بمسجد النارنجة في محلة السويقة ، وهو كما قال الرضي الحنبلي.

٤٣٥

وكانت له الدراية الحسنة في تصوير ما يريد عمارته من جامع أو دار ونحوهما لمن أراد ذلك من الأكابر.

وقد بلغني أنه لما أرسل الملك الأشرف قايتباي رسوله ماميه إلى السلطان بايزيد بن عثمان بالصلح بعد الوقعة العظيمة الشهيرة التي كانت بينهما ثم عاد رسوله إليه وحسّن له أنه يجعل قلعة آذنة جامعا حسما لمادة النزاع بينهما ، فإنها كانت تارة تحت حكمه وتارة أخرى تحت حكم السلطنة البايزيدية ، وهكذا فأرسل السلطان قايتباي إلى كافل حلب بأن يرسل المحب محمود بن آجا قاضي الحنفية بحلب إلى القلعة المذكورة ومعه المعلم يوسف معلم السلطان بها فينظر إلى كم يحتاج من المال ليكون جامعا ، ففعل ، فلما عاد من آذنة صور له المعلم يوسف صورة الجامع التي سيكون على أسلوب يعجب ناظريه ممن كانوا حاضريه ، فلما وقف عليها برز أمره بالعمارة ، فما شرعوا في تهيئة أسبابها إلا وجاء خبر وفاته ، فلما تسلطن ولده أمر أيضا بذلك ثم لم يتم ذلك ولله الأمر من قبل ومن بعد.

وكانت وفاة المعلم بحلب سنة أربع وثلاثين وتسعمائة. وكان في صنعته صالحا ناصحا.

٧٥١ ـ محمد بن محمد العجيمي المتوفى سنة ٩٣٥

محمد بن محمد بن محمد بن زين الدين مسافر المشهور بابن العجيمي بالتصغير أحد أعيان التجار بحلب.

كان من أهل الخير هو ووالده. عمّر والده الحوض المعروف بقسطل العجيمي بالقرب من داره بمحلة باحسيتا وأجرى إليه الماء من قسطل الشماع بها ، ثم منع ماءه بعض أهل الشر باستيلائه عليه فانقطع عنه الماء ، فأخذته غيرة على قسطل والده فأخذ له حقا من محلة العوينة وأجراه إليه في سرداب بذل عليه أكثر من ألف دينار كبير سنة ثمان وعشرين وتسعمائة.

ثم كانت وفاته بالقاهرة سنة خمس وثلاثين وتسعمائة.

وكان جده الأدنى عجميا خراسانيا ، وكان معلم دار الضرب بحلب.

٤٣٦

٧٥٢ ـ محمد بن محمد البيلوني المتوفى سنة ٩٣٥

محمد بن محمد بن الحسن الشيخ الفاضل المشتغل المحصل شمس الدين أبو البركات البابي الأصل الحلبي الشافعي صاحبنا المشهور كأبيه المتقدم ذكره بإمام السفاحية وبابن البيلوني.

سمع بقراءة أبيه على الكمال محمد بن الناسخ ما مر ذكره في ترجمة أبيه وأجاز له ما أجاز لأبيه ، وسمع من الزين الشماع شمائل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للترمذي وأجاز له ، واشتغل على العلاء الموصلي في شرح ألفية ابن مالك لابن عقيل.

وجدد بالحجازية حجرة في جانبها الغربي وأرادوا منعه من تجديدها فلم يقدروا. كان يدرس بالحجازية أحيانا بعض الأفراد. وكانت له حظوة عند قاضي حلب عبيد الله سبط ابن الفناري.

وكانت وفاته بمنبج سنة خمس وثلاثين وتسعمائة وبها دفن وراء ضريح سيدي عقيل المنبجي رضي‌الله‌عنه بحيث لم يكن بين الضريحين إلا الجدار ولم يكن سنه لتبلغ أربعين سنة.

قال شيخنا في «عيون الأخبار» : وقد كان له حركة في السعي في تحصيل الدنيا ، وكنت قد عرضت له بذلك فذكر أنه إنما يطلب الدنيا لثلاثة مقاصد : الأول لتحصيل المؤنة وعدم الاحتياج إلى الناس ، الثاني ليستعين بذلك على الاشتغال بالعلم ، الثالث لتوسعته على المحتاجين والإنفاق في وجه البر ، أو كما قال شيخنا ، فعاجلته المنية ، ولم يظفر بالأمنية ، فالله يثيبه على نيته ، ويعامله بعفوه ورحمته ، ويجمعنا وسائر الأحباء في جنته ، بمنه وكرمه ونعمته. ا ه.

٧٥٣ ـ يحيى بن عبد الوهاب ابن أخت المحب ابن آجا المتوفى سنة ٩٣٥

يحيى بن عبد الوهاب الرئيس الشهم شرف الدين النابلسي الأصل الحلبي الحنفي ابن أخت المقر المحبي محمود بن آجا صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالديار المصرية وسائر الممالك الإسلامية.

كانت بيده مقاليد مهمات خاله وإليه المرجع في سائر أحواله. إلى أن زالت الدولة الجركسية. وقدم المملكة الحلبية وتوفي خاله بها فلزم بيته بها وتحاشى عن المناصب مع علمه

٤٣٧

بأنه لم يكن ليرى من العز والجاه من بعد ما كان من قبل رآه ، وقنع بماله من الجهات التي وقفها وجعل مآل وقفها إلى ذريته ثم ذرية أخيه لأمه القاضي الجمالي يوسف الحنفي ، إلى أن توفي سنة خمس وثلاثين وتسعمائة ودفن عند تربة خاله بجوار ضريح الشهاب أحمد ابن المرعشي رحمنا الله وإياهم.

٧٥٤ ـ يوسف بن محمد العكرمي المتوفى سنة ٩٣٥

يوسف بن محمد بن محمد بن محمد الأصيل جمال الدين ابن الشيخ شمس الدين الحلبي العكرمي المعروف بابن النديم.

كان والده من أقران الشيخ أبي ذر المحدث ، فأخذ عن بعض الشيوخ. وكان هو يبيع اللبوس بسوق السلاح بحلب ويذكر أنه من ذرية عكرمة بن مرة الخزرجي.

توفي سنة خمس وثلاثين وتسعمائة.

٧٥٥ ـ محمود بن مصطفى طيلان (١) المتوفى سنة ٩٣٥

محمود بن مصطفى بن موسى بن طيلان القصيري الأصل الحلبي المولد الحنفي المشهور بابن طيلان.

ولي خطابة الجامع الأعظم بحلب في الدولة العثمانية السليمية. وكانت له حظوة عند قراجا باشا وكفّالها في الدولة المذكورة. وكان فقيها جيدا.

توفي في رمضان سنة خمس وثلاثين وتسعمائة بعد أن حج.

وكان مقداما للقاء الأكابر وممن يصدع بالقول ولا يخاف في الله لومة لائم ، إلا أنه كان ذا حدة ، فاتفق أن لقيه الشمس محمد بن الحسن البيلوني مرات عديدة وهو يتواضع له بالقول بنحو عبيدكم ومميليككم بلفظ التصغير ، فحصل له عليه حدة فقال له الشمس : يا شيخ الكاس يفيض ، ثم مضى عنه.

__________________

(١) في «در الحبب» : طليان.

٤٣٨

٧٥٦ ـ يونس بن علي العادلي المتوفى سنة ٩٣٦

يونس بن علي الأمير شرف الدين الحلبي ثم الدمشقي المشهور بالعادلي وبابن البغدادي.

كان من تجار سوق الصابون بحلب ، وكانت بيده أيضا معلمية المصابن ، فضاقت يده ذات مرة فتوجه إلى القاهرة فوقف في خدمة ناظر الخاص المعروف بابن الصابوني ، واختاره للخدمة دون غيره حذقا منه لكونه صابونيا وكون المخدوم معروفا بابن الصابوني. وكانت الدولة الجركسية باقية وصار يتعاطى مهماته بهمة له عالية ولطافة وافرة ، فتقدم عنده مدة مديدة في دولة الأشرف قايتباي ، فلما توفي وتسلطن ولده ثم تسلطن العادل طومان باي داخله وصرف نفسه إلى مهماته ، فتقدم عنده أيضا وصار يعرف به حتى قيل له العادل.

ثم لما آلت السلطنة بعد حين إلى الأشرف قانصوه الغوري تقدم عنده جدا وجمع بجاهه أموالا عظاما. وكان مع ذلك يرفع إليه شيء من محصول معلمية الصابون بحلب. ولما أراد أن يبعث إلى سلطان الروم رسولا آثره على غيره لوجاهته فبعثه إليه رسولا.

ثم لما اضمحل أمر الدولة الغورية صارت له مكانة عند الوزير الأعظم في الدولة السليمية حتى أخرج له حكما شريفا بأنه تاجر المقام الشريف السليمي وأنه مسموح له من جميع المكوس والأعشار في سائر الممالك السليمية ، بل كان المقام الشريف يقول له : تمنّ عليّ ما تريد ، فيتمنع خوفا منه إذ كان من أتباع ضده ، فلما امتنع ازداد حبا له واعتقادا فيه ، وكان تمنعه من محكم تدبيره.

وبقي في هذه الدولة كما كان في الأولى في شهامة وأبهة وكرم وسخاء مؤثرا دمشق للتوطن على بلدته حلب.

ومن غريب ما حكي عن كرمه أنه في يوم من الأيام زاره بعض المخاديم أول النهار فصنع له مائدة تليق به ، فزاره آخر بعد رفع السماط فطلب سماطا آخر جديدا ، فقيل له : قد بقي من الأول ما يكفي ، فاستنكف من إعادة وضعه ، فأمر أن يطبخ غيره ، فطبخ ، فجاء زائر آخر فجدد له طعاما له ثالثا ، ثم وثم إلى تمام ثمانية زوار ورد آخرهم في آخر النهار.

وكانت وفاته بدمشق سنة ست وثلاثين وتسعمائة.

٤٣٩

الكلام على المصابن ودرب الصبّانة في حلب :

قال أبو ذر في الكلام على درب الصبّانة : به مطابخ للصابون عديدة تزيد على عشرين وذلك لكثرة أشجار الزيتون بمعاملة حلب. وقد كان الأحصّ كثير أشجار الزيتون لأنك كنت إذا خرجت من حلب إلى قرية بابلّى ثم أخذت في الرابية المطلة على بابلّى تدخل في أشجار الزيتون والتين ، ولذلك قلّ قرية من قرى الأحصّ إلا وبها معصرة للزيتون. وبحلب سوق يباع فيه الصابون يحمل منه أحمال عديدة وإلى ناحية الروم والعجم وغيرها.

وفي معاملة حلب في قراها عدة مطابخ للصابون أيضا والجميع يجلب إلى هذا السوق ويباع.

وبهذه الحارة مسجد يقال له مسجد بدران وله وقف على الصدقات برحا حاسين وغيرها وهو مدفون بهذا المسجد. ومن وقف هذا المسجد بعض رحا الحربلي. وبرأس التل مسجد وعند أسفله مسجد.

قال ابن شداد : قلت : وهذه الناحية الآن كثيرة المساجد ا ه.

وهناك مسجد معلق إلى جانب المصبنة المهدمة وقسطل ا ه.

٧٥٧ ـ موسى السرسولي المتوفى سنة ٩٣٦

محمد بن الحسين الملقب بعوض بن مسافر بن الحسن بن محمود الكردي اللاني (١) طائفة السرسولي ناحية وقرية الشافعي نزيل حلب شيخنا.

أخذ العلم عن جماعة ، منهم منلا محمد المعروف ببير قلعي.

وعمرت في أيامه مدرسة بالعمادية فجعله واقفها مدرسا بها ، ثم أقلع عنها وأقبل على التصوف ، فرحل إلى حماة وأخذ في السلوك عن سيدي علوان الحموي مع انتفاع غير واحد بها بالقراءة عليه. ثم قدم حلب لمداواة مرض عرض له ونزل بالمدرسة الشرفية فقرأ عليه غير واحد ، وكنت ممن فاز بالقراءة عليه بها في علم البلاغة. ثم مضى إلى حماة ،

__________________

(١) في «در الحبب» : الآلاني.

٤٤٠