إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

ولا يخفى ما فيه من إسكان راء يصبر للضرورة.

ومن شعره في صوفي ظاهري :

لله صوفيّ وقت حاز أربعة

لاحت لنا من معانيها عبارات

دقن ودلق وعكاز ومسبحة

وكان ذا زكرة فيها فشارات

وله :

مهفهف من لطفه

أعطافه ترنّحت

وخده لشقوتي

وردته تفتّحت

توفي ليلة عيد الفطر سنة ست وعشرين وتسعماية رحمه‌الله وإيانا.

٧١٧ ـ تاج الدين بن زهرة المتوفى سنة ٩٢٧

تاج الدين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن محمد بن محمد بن عبد المحسن بن الحسن ابن زهرة بن الحسن بن عز الدين أبي المكارم حمزة الحسيني الإسحاقي الحلبي ثم الفوعي عم جدي لأمي القاضي شهاب الدين أحمد المتقدم ذكره.

كان شيخا كبيرا معمرا ، رحل إلى بلاد العجم وحصل بها جانبا من العلم والمال وبقي بها غائبا قريبا من سبع عشرة سنة.

وعني بعلم الأنساب فكان نسّابة عارفا بها جدا يدعي أن عنده كتابا يسمى «ببحر الأنساب» على تشيع عنده به. وكان لأهل الفوعة فيه مزيد الاعتقاد حتى انتصبوا معه لعداوة خالي الشريف شرف الدين عبد الله الآتي ذكره وكادوا يقتلونه ، ولما عاد من العجم حسّن عند خالي أن يتوجه إليه ويسلم عليه ففعل ، فلما دنا خالي منه في ملأ عظيم من أهل الفوعة مد يده إلى عمامته فنقضها وحقره فيما بينهم وسلط عليه من يواجهه بالسيوف نهارا ، فلم يمكنه الله تعالى منه.

ثم كانت وفاته سنة سبع وعشرين.

٤٠١

٧١٨ ـ إبراهيم بن أحمد الدوركي نزيل حلب المتوفى بعد ٩٢٨

إبراهيم الدوركي نزيل حلب المشهور بتاج الدين.

كان حسن الكتابة فوقّع في آخر أمره بمحكمة قاضي حلب حيدر في الدولة السليمانية وعني عنده بأخذ الرشى له ولنفسه ، فكثر ماله وصار يخاف شره أكابر حلب فضلا عن أصاغرهم ، حتى مشي في ختان أولاده ، فهرع إليه الأكابر وأرسلوا إليه وافر الهدايا وحضر منهم من حضر في مطبخ وليمته وحضر الآخرون على سماط وليمته حتى الشيخ شمس الدين ابن بلال ، إلا أنه لم يأكل منه ، إلى أن فتش على حيدر وعليه بالجامع الأعظم بحلب سنة ثمان وعشرين فصار يحضر إليه في زنجير من الحديد والناس يسبونه ويبصقون في وجهه. ثم آل أمره إلى أن باع داره بحلب وذهب إلى بلاده فمات بها.

٧١٩ ـ الأمير خاير بك الأشرفي كافل حلب المتوفى سنة ٩٢٨

خاير بك ابن مال باي بن عبد الله الجركسي الملكي الأشرفي ثم الملكي المظفري كافل حلب بل آخر كفّالها في الدولة الجركسية.

وكان أبوه جركسيا إلا أنه كان مسلما من تجار المماليك الجراكسة ، وكان قد سمى ولده هذا بخليل ولقبه بخاير بك فاشتهر بلقبه.

وكانت ولايته لكفالة حلب عن سيباي ولم يكن سيباي من أهل البطش ، فلما قام مقامه نشر شخصا من المفسدين نصفين فقال الحلبيون : ذهب سيباي الفشّار وجاء خاير بك النشّار.

وسلك بحلب مسلك كفّالها المتقدمين فركب في كل خميس واثنين بالكلفتة والقباء الأبيض وركب معه مقدمو الألوف وعدتهم ثمانية ، موضوع كل واحد أن يكون أمير مائة فارس مملوك له ومقدم ألف فارس غير مملوك له ، وركب معه أرباب المناصب والجند وساروا إلى قبة المارداني والجاليشية بين يديه يصعقون ، ثم عاد فوقف تحت القلعة راكبا والمنادي ينادي بالأمان والاطمئنان وإظهار العدل للرعية ، فإذا قابل باب القلعة اصطفت البحرية الذين دأبهم أن يجلسوا على بابها وقوفا له حتى يسلم عليهم. ثم دخل دار العدل

٤٠٢

وحاجب الحجاب يمشي في خدمته وعصاه في يده إلى أن يجلس في محله فيقرأ بين يديه ما يرفع من القصص إليه لتفصل الخصومات لديه بحضرة قضاة القضاة ومفتي دار العدل على وجه يكون الشافعي عن يمينه وتحته الحنبلي والحنفي عن يساره ودونه المالكي. ثم يقوم حاجب الحجاب فينادي لقضاة القضاة بالانصراف. ويسمى ذلك اليوم بيوم الموكب لتقدم الموكب فيه على الجلوس بدار العدل الفصل بين الخصوم بالعدل.

وكان له موكب إذا صلى الجمعة بالجامع الأعظم بحلب وبين يديه فيه ماشيان بأيديهما طبران نفيسان مكفتان بالذهب والفضة ووراءه خمسة من الخيل مجنوبة مع ما معه من مماليكه الذين كانوا مع مماليكه الكتابية الذين في الأطباق (١) يناهزون ألفا ، فإذا استقر بمقصورته بالجامع كان بها الشربدار ومعه طبق نفيس مغطى بغطاء نفيس يشتمل على أشربة سكرية متنوعة ، وتراه إذا رفع إليه شيء منها أخذ منه قليلا في وعاء صغير وهو يراه فشربه ، وهو المسمى بالششني ، المقصود بشربه الأمن من دس السم إلى ذلك المخدوم. وكانت عدة ماله من الأطباق التي فيها من يؤدب مماليكه ويعلمهم الكتابة وقراءة القرآن تسعة أطباق. مع كثرة مماليكه كان قد استبد وهو كافل حلب باستخدام شرذمة يرمون بالتفنكات كما في عساكر المملكة الرومية ويركبون معه في بعض مواكبه ، وكان له موكب عظيم إذا صلى صلاتي العيد ، غير أنه كان يصلي صلاة عيد النحر بجامع الأطروش فإذا خرج من الصلاة ناوله استدادار الصحبة سكينا ماضية للنحر وفوطة نفيسة يقي بها ثيابه من الدم ، وقدم له أولا جمل فنحره على باب الجامع وهذا لا يأخذه إلا مؤذنوه ، ثم قدم له ما كان من البقر والأغنام فنحر وذبح شيئا فشيئا إلى أن يصل وهو ماش إلى باب دار العدل وتسمى دار السعادة أيضا ، كل ذلك للفقراء ، فإذا دخلها نحر بها وذبح لنفسه ولمن كان من سكانها بعد أن كان بعث في يوم عرفة لبيوت قضاة القضاة في آخرين عدة من البقر والأغنام.

وكان طوالا أسمر اللون غرابيا لم يظهر الشيب في لحيته مع كبر سنه ، ذا شهامة وأبهة وهيبة ، حلو اللسان حسن التدبير محكما لأمر الدنيا متمولا جدا ، حتى عمر بحلب عدة خانات منها خانه الأعظم (لا زال عامرا معروفا بخان خير بك). وكان مما دخل فيه دور

__________________

(١) الأطباق والطباق : ثكنات الجيش المملوكي بالقلعة ، وفيها يتلقى المماليك الكتابة والتعليم الديني وفنون الفروسية.

٤٠٣

بني العديم وهو بيت مشهور بحلب خربها فإذا فيها دفين استعان به في عمارته وعمر بها داره المشهورة بمحلة سويقة علي ، ولم تكن قاعتها العظمى من إنشائه وإنما كانت من جملة الدار التي أدخلها في داره ، وكانت تعرف في زماننا بدار ابن المعري وقبل ذلك بدار ابن الفخري ، وهي إحدى الدور العظام التي ذكرها المحب أبو الفضل ابن الشحنة في تاريخه قال : وهي وقف ابن الصاحب على مدرسته (أمام خان الوزير) بالقرب من المصبغة (١). قال : وفي ظني أن قراجا دوادار الأمير قصروه كان استبدلها استبدالا لا يصح. انتهى.

وكان السلطان الغوري يخشى غدره به ويريد قتله بدس السم إليه ، بل دسه إليه مرة وعوفي منه بإذن الله تعالى على يد طبيب يهودي إلى أن غدر به هو وجان بردي الغزالي بعد نزول السلطان الغوري إلى حلب وعزمه على التوجه إلى المقام الشريف السليمي ، وارتفعت منزلته عنده بعد أخذه ملك مصر وقبله حتى أمنه على لسان وزيره يونس باشا إذ لحقه بحماة ، وكان قد عاد بعد التقاء العسكرين بدابق إلى حلب فخرج منها بمن معه على جرائد الخيل ومعه إحدى زوجتيه المحظية عنده في صورة رجل وعليها برنس يسترها ، فعاد به إلى حلب فأكرمه المقام الشريف السليمي غاية الإكرام. ثم لما أخذ مصر جعله كافلها فبقي بها إلى أن مات سنة ثمان وعشرين وتسعماية ا ه.

وله في بدائع الزهور لابن إياس المصري ترجمة مطولة نقتطف منها ما يأتي :

قال في حوادث سنة ٩٢٨ : وفي شهر ذي القعدة أشيع أن ملك الأمراء خاير بك قد مرض ولزم الفراش ، ولما قوي عليه المرض صار يتصدق على الأطفال الذين بالمكاتب بالقاهرة قاطبة لكل صغير نصف فضة كبير بنصفين وربع ، وصار أحد الخزندارية ، وابن الظريف المقري يدفع لكل صغير النصف في يده ويعطي الفقيه خمسة أنصاف كبار والعريف ثلاثة أنصاف كبار ويقولون لهم : اقرؤوا الفاتحة وادعوا بالشفاء لملك الأمراء والعافية.

وفي ثالث عشره أشيع أنه قد نزل به النزع وأنه أرسل خلف الأمير سنان بك العثماني ، فلما طلع إليه وجده في حال التلف ، فدفع إليه خاتم الملك الذي كان السلطان سليم شاه

__________________

(١) منذ نحو عشر سنين اتخذت هذه المصبغة مخزنا كبيرا وهي قبلي مسجد النارنجة في السويقة.

٤٠٤

أعطاه له ثم قال له : على قدر الأموال التي في الخزائن ، وكانت ستمائة ألف دينار ذهبا عينا هذا خارجا عما كان في بيت المال. وخلف من الخيول والجمال والبغال ما لا ينحصر ومن الغلال والأغنام والأبقار أشياء كثيرة. ومع وجود هذه الأموال التي تركها كان يكسر جوامك الجراكسة ستة أشهر لم يعطهم شيئا ويشكي أن بيت المال مشحوت من المال.

قال : وأصله من مماليك الأشرف قايتباي وهو جركسي الجنس أباظيا. وكان أبوه اسمه (١) ملباي ، ولهذا كان يدعى خاير بك ملباي. ولما مات أخو قانصوه المحمدي نائب الشام نقل السلطان الأمير سيباي من نيابة حلب إلى الشام وعين لنيابة حلب خاير بك عوضا عن سيباي ، وذلك في سنة عشر وتسعماية ، واستمر على ذلك حتى تحرك الخوندكار (٢) سليم شاه بن عثمان على السلطان الغوري وانكسر ، وكان خاير بك سببا لكسرة الغوري.

وولاه السلطان سليم نيابة مصر في شعبان سنة ثلاث وعشرين ، فاستمر على نيابته إلى أن مات رابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وتسعماية.

وأما ما عد من مساويه فإنه كان جبارا عنيدا سفاكا للدماء ، قتل في مدة ولايته مالا يحصى من الخلائق وشنق رجلا على عود خيار شنبر (أخذه من جنينة) (٣). وشنق من الناس ووسّط وخوزق جماعة كثيرة ، واقترح لهم أشياء في عذابهم فكان يخوزقهم من أضلاعهم ويسميه شك الباذنجان ، فقتل بمصر وحلب فوق العشرة آلاف رجل وغالبهم راح ظلما.

ومنها أنه أتلف معاملة الديار المصرية من الذهب والفضة والفلوس الجدد وسلط إبراهيم اليهودي معلم دار الضرب على أخذ أموال المسلمين. ومنها أنه شوش على جماعة من المباشرين الأعيان وضربهم وبهدلهم وعوقهم في الترسيم نحو خمسة أشهر. وأخذ من الشهاب أحمد بن الجيعان فوق السبعين ألف دينار حتى باع جميع أملاكه وقماشه ورزقه وبقي على الأرض. ومنها أنه كان سببا لخراب الديار المصرية ودخول سليم شاه ، وحسّن له عبارة

__________________

(١) في الأصل : أباه سماه ؛ والصواب ما أثبتناه نقلا عن بدائع الزهور.

(٢) في الأصل : الخنكار ، والصواب ما أثبتناه نقلا عن بدائع الزهور.

(٣) إضافة من بدائع الزهور ليست في الأصل.

٤٠٥

أخذ مصر ، وضمن له أخذها من غير مانع وعرفه كيف يصنع حتى ملكها وجرى منه ما جرى ، وقتل الأمراء والمماليك الجراكسة وشنق السلطان طومان باي على باب زويلة وكل ذلك بترتيبه.

وكان كثير الحيل والخداع والمكر ، وكان من دهاة العالم لا يعلم له حال ولو ذكرت مساويه كلها لطال الشرح.

آثاره بحلب :

من آثاره بحلب تربة واسعة أنشأها خارج باب المقام بالقرب من الباب وفيها قبتان كبيرتان بينهما إيوان في وسطه قبر ، وفي صحن التربة قبر الشيخ علي شاتيلا المجذوب المتوفى سنة ١٢١٢.

وفي جدار التربة الغربي من الخارج كتابة حسنة الخط بقلم جاف وهي بعد البسملة : (أنشأ هذه التربة المباركة المقر الأشرف الكريم العالي المولوي الكافلي السيفي خاير بك الأشرفي كافل المملكة الحلبية المحروسة أعز الله تعالى أنصاره بتاريخ شهر ربيع الأول عام عشرين وتسعمائة).

وهذه الكتابة البديعة بخط الشيخ أحمد بن الداية الدهان المتوفى سنة ٩٥١ الآتي ذكره.

وهذا البناء وتلك الكتابة يعدان في جملة الآثار القديمة التي بحلب ، غير أن المكان مشرف على الخراب ولا سائل عنه.

٧٢٠ ـ خليل بن سالم الحريري المتوفى سنة ٩٢٨

خليل بن سالم الشيخ الصوفي خرقة الحريري حرفة ، أحد أهل محلة جب أسد الله بحلب ويعرف بالنفّاش بالفاء.

كان له صدع في النهي عن المنكر واهتمام بترميم كثير من المساجد من ماله حتى اتهمه في الدولة الجركسية الأستادار بدفين (١) ظفر به وأراد أن يأخذ منه مالا بطريق الجور ، فصدعه بالقول وهول عليه فلم يقدر أن يصل إليه.

__________________

(١) المقصود ما يدفن مع الموتى من حلي ونقود ومجوهرات.

٤٠٦

توفي عن سن عالية سنة ثمان وعشرين أو بعدها ، وكان كثير التردد إلى البدر السيوفي وعمي الحنبلي والشافعي ، مقداما في الكلام حاد اللسان ولو مع الحكام يخشاه كثير من الخواص فضلا عن العوام.

٧٢١ ـ محمد بن الحسن البيلوني المتوفى سنة ٩٢٩

محمد بن الحسن بن محمد بن أبي بكر الشيخ شمس الدين أبو عبد الله بن الشيخ الصالح المقري بدر الدين البابي المولد الحلبي المنشأ الشافعي المعروف بابن البيلوني الكبير.

عالم عامل صالح ، ولي إمامة السفاحية والحجازية بالجامع الأموي بحلب دهرا ، ولازم البدر السيوفي وأخذ عنه وأجاز له جماعة كتبوا له خطوطهم في ثبته منهم الحافظ السخاوي الشافعي ، وبخطه وجدت أنه ألبسه الطاقية وصافحه بعد أن سمع منه الحديث المسلسل بالمصافحة وبلباس الخرقة بحق روايته عنهما عن الشمس بن عبد الله بن المصري شيخ الصوفية بالباسطية فيما أجاز له عن أبي حفص المزي بلباسه من العز أبي العباس الفاروشي بلباسه من الإمام أبي حفص السهروردي قال : لبسهما من الشيخ عبد القادر الكيلاني بسنده ، ومنهم الشيخ العلامة يحيى بن حسن المغربي الربعي الحنفي نزيل حلب ومكة والأخوان الكمال والبرهان ابنا أبي شريف الشافعيان ، وترجمه الأول منهما بالشيخ الفاضل زين الأماثل ، والثاني بالشيخ الفاضل المتفنن ، وذلك كله من اجتماعه بهم وقراءته عليهم.

وقرأ أيضا على الكمال ابن محمد الناسخ الطرابلسي وهو نزيل حلب في شعبان سنة خمس وتسعمائة من أول صحيح البخاري إلى أول سورة مريم وأجاز له ولمن معه جميع ما يجوز له وعنه روايته.

وقد سمعت أنا ولله الحمد من لفظ الشيخ شمس الدين شيئا من صحيح البخاري وذلك أنه كان محدثا بالجامع المذكور أيضا ، وكان يحضر به في اليوم الموعود بالقراءة على الكرسي شماليته ، فإذا شيخنا العلاء الموصلي يدرس تحته فيحترمه ويجلس إلى جنبه فيقرأ من الصحيح ما تيسر منه قراءة حسنة يراعي فيها قواعد التجويد كما يراعي عند تلاوة القرآن المجيد.

وكانت وفاته يوم السبت الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة تسع وعشرين

٤٠٧

وتسعمائة ، وصلى عليه الزين الشماع ودفن بالرحبي وذلك بعد أن كان خطب بالجامع المذكور أمس السبت ، ولما فرغ من دفنه سمع الزين الشماع جماعة العلاء الكيزواني يقرؤون شيئا من النظم على قبره ، فغضب من ذلك لكونه بدعة ابتدعوها واستوجبوا أن يقال لهم دعوها ، فكتب إلى سيدي علوان الحموي يعلمه بالواقعة ويقدح في الناس بأنهم لا يميلون إلا إلى هوى أنفسهم ، فأجابه برسالة طولى ذكرها في كتاب «عيون الأخبار» ، ومن جملة ما تضمنه أنه يجب على العاقل أن يكون في الغضب والرضى ملاحظا لمولاه فيغضب عند مخالفة الشرع ويرضى عند الموافقة ، فإذا كان رضاه في المدح لنفسه فيرضى موافقة وعبودية أو بالعكس فبالعكس ، وإذا رضي لحظة وغضب كذلك فهذه منازعة للربوبية وأنه لا يحسم مادة الاشتغال بذكر عيوب الخلق إلا بذكر الحق كما أشار إليه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ)(١).

ومما تضمنه أيضا قوله مخاطبا له : كان الواجب عليكم إذا رأيتم البدعة في الجنازة أن تنكروا على المبتدع شفاها كفاحا إن كان المحل قابلا وكذلك في غيرها ، فإن لم يكن فبالقلب فذلك أضعف الإيمان والسلام.

وكان الشيخ شمس الدين رحمنا الله وإياه متحاشيا عن فاخر الثياب مقصرا ثيابه إلى أنصاف ساقيه عملا بالسنة فهو تقصير ليس فيه تقصير ، متواضعا للناس مكثرا من أن يعبر عن نفسه بكلمة عبيدكم بصيغة التصغير تحقيرا لنفسه ، وكان يستعمل أحيانا صيغة التصغير في حق غيره مثل أن يقول : كيف وليدكم وعبيدكم ، فناقشه بعض الناس في ذلك صورة فأجاب بأنه قصد بصيغة التصغير التعظيم كما هو مذهب الكوفيين.

٧٢٢ ـ علي بن حسن السرميني المتوفى سنة ٩٢٩

علي بن الحسن السرميني ثم الحلبي الفرضي الحيسوب الشافعي شيخنا الملقب بالنعش المخلع.

أخذ الفرائض والحساب عن الجمال الأسعردي ومهر فيهما واشتهر بهما ، وكان له مكتب على باب دار العدل بحلب يطلب منه لكتابة الوثايق المتعلقة بدار العدل وغيرها كما

__________________

(١) الحجرات : ١١.

٤٠٨

كان لشيخنا العلاء الموصلي مكتب تجاه باب قلعة حلب يطلب منه لكتابة الوثايق المتعلقة بها وبغيرها ، ثم لما كانت الدولة العثمانية وأبطلت مكاتب الشهود بحلب أخذ في نسخ المصاحف والانتفاع بثمنها وفي تأديب الأطفال بمكتب داخل باب أنطاكية ، وبه قرأت عليه طرفا من العلوم الحسابية سنة سبع وعشرين. ثم كانت وفاته في رمضان سنة تسع وعشرين ودفن بالسنيبلة غربي حلب.

٧٢٣ ـ يوسف بن إسكندر المشهور بابن أبجق المتوفى سنة ٩٢٩

يوسف بن إسكندر بن محمد قاضي القضاة جمال الدين أبو المحاسن الحلبي الحنفي الشافعي المشهور كوالده المتقدم ذكره بابن أبجق ، سبط المقر المحبي محمود بن آجا كاتب الأسرار الشريفة بالممالك الإسلامية.

اشتغل في الفقه وغيره على الزين عبد الرحمن بن فخر النسا وغيره ، وسمع على الجمال إبراهيم بن القلقشندي بن عبد الله أربعين حديثا خرجها بعض الفضلاء عن أربعين شيخا من مشايخه ، وعلى المحب أبي القاسم محمد بن جرباش بن عبد الله الحنفي جميع سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمحمد بن إسحق وتهذيب الإمام عبد الملك بن هشام ، وأجاز كلاهما له أن يروي ذلك عنهما وجميع ما يجوز لهما وعنهما روايته.

وتولى قضاء حلب بعناية خاله واستمر فيه إلى انقضاء الدولة الجركسية فكان آخر قاض حنفي فيها بحلب ، وكان توقيعه في صدور الوثائق الشرعية : الحمد لله ذي العز والجمال. ثم لما كانت الدولة الرومية السليمية تولى بحلب تدريس الحلوية ووظائف أخرى. ثم هاجر إلى القاهرة فأكرم مثواه كافلها خير بك الأشرفي المظفري وراعاه الأمير جانم الحمزاوي لمواخاة وجيزة كانت بينهما.

وتولى بالقاهرة مشيخة المؤيدية وسار فيها السيرة المرضية إلى أن حج فقدمها موعوكا فمات بها سنة تسع وعشرين وتسعمائة.

وكان شكلا حسنا ذا شهامة وجلالة ووداد وخلالة ، يهوى الرياسة ويحب لبس ماله من نفاسة. وكان لما عنده من الفقه قد زاحم أرباب التأليف في وضع رسالة تتضمن تقوية مذهب الإمام أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه في عدم رفع اليدين قبل الركوع وبعده ، وممن مدحه شيخنا العلا الموصلي بقصيدة طولى.

٤٠٩

٧٢٤ ـ الشيخ موسى اللاني (١) المتوفى سنة ٩٣٠

موسى بن الحسن الكردي من طائفة اللان بالنون (ناحية) ، الشافعي ، نزيل حلب ، شيخنا في علم البلاغة.

اشتغل في العلم في مراغة وغيرها على جماعة منهم منلا محمد المشهور ببير قلعي محشي الخبيصي وغيره والشمس البازلي نزيل حماة ، ومنهم منلا محمد إسماعيل الشرواني أحد مريدي خوجه عبيد نقش بندي فإنه أخذ عنه بمكة «تفسير البيضاوي» ، ومنهم الشهاب أحمد بن كلف ، فإنه أخذ عنه بأنطاكية «شرح التجريد» مع حاشيته و «متن الجغميني» في الهيئة.

ثم قدم حلب وأكب على المطالعة ونسخ الكتب العلمية لنفسه والتدريس بزاوية الشيخ عبد الكريم الخافي بها ، مع كثيرة الصيام والقيام والزهد والسخاء والصبر على الطلب وسلوك طريق من لا يخاف في الله لومة لائم.

توفي مطعونا في شعبان سنة ثلاثين وتسعمائة ودفن بتربة أولاد ملوك خارج باب قنسرين بعد أن ماتت زوجته من قبله وغسلها بيده على قاعدة مذهبه. وفي الليلة المسفر صباحها عن يوم دفنه رأى شخص في المنام من يكنس داخل باب قنسرين ، فسأله : لم ذلك؟ فقال : لأجل جنازة الشيخ أو نحو ذلك. وكان عند الشيخ ثوب غليظ من الخام ، فلما مات وقع الرأي على تكفينه فيه مع بذل جماعة من معتقديه أكفانا نفيسة له يوم الدفن رحمنا الله وإياه.

٧٢٥ ـ أمين الدين الشيخ جبريل الكردي المتوفى سنة ٩٣٠

جبريل بن أحمد بن إسماعيل الشيخ أمين الدين أبو الوحي الكردي ثم الحلبي الشافعي.

كان أحد المدرسين والمفتين بها ، وكان له القدم الراسخة في الفقه والكتابة الحسنة المعربة على رقعة الفتوى ، إلا أن البدر السيوفي كان يغض منه ويسميه جبريل الأرض ، بل كان يغض من فضلاء الأكراد ويقول : اكردوهم إلى الجبال ، تلميحا إلى ما ذكره صاحب «سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون» في ترجمة الضحاك بن الأهبوب بن

__________________

(١) في «در الحبب» : الآلاني.

٤١٠

عويح بن طهمورث بن آدم وكان زمنه بعد الطوفان ، قال : كان على كتفه سلعتان يحركهما إذا شاء ، فادعى أنهما حيتان يهول بهما وذكر أنهما يضربان عليه فلا يسكنان حتى يطليهما بدماغي إنسانين يذبحان له كل يوم ، وكان له وزير صالح فكان يستحيي أحدهما ويضع مكان دماغه دماغ كبش ويأمر الرجل باللحوق بالجبال ولا يأوي الأمصار ، قال : فيقال إن الأكراد من تلك القوم لكردهم إلى الجبال ، انتهى كلامه.

وكان يذكر مثل ما يذكره الثعلبي في قصص الأنبياء من أن الذي أشار بتحريق إبراهيم عليه‌السلام بالنار كردي اسمه هبرن ونحو ذلك مما فيه شناعة على الأكراد ، وبئس الصنيع هذا التشنيع ، لا سيما مع مرافقة الشيخ أمين الدين للبدري في الأخذ عن بعض الشيوخ ، فقد وجدت بخط البدر أنه سمع على السيد علاء الدين محمد بن السيد عفيف الدين محمد ابن السيد نور الدين الإيجي بالحلاوية بحلب سنة سبعين وثمانمائة الحديثين الأولين من «صحيح البخاري» وجميع ثلاثياته وجميع «جمع الجوامع في الأحاديث» جمع المستمع وجميع العشرة العشارية لحافظ الإسلام ابن حجر بسماع المستمع لها من لفظ مؤلفها وثلاثيات الدارمي وثلاثيات ابن ماجه بروايته عن ابن حجر وغيره ، وأن السيد علاء الدين أجاز له وللشيخ أمين الدين جميع ما يجوز له وعنه روايته متلفظا بذلك بقراءة البدر.

وممن أخذ عنه الشيخ أمين الدين الكمال محمد بن الناسخ أخذ عنه جميع صحيح البخاري ومسلم بحق قراءته لهما على الحافظ برهان الدين الحلبي وكتب له إجازة صدرها بعد البسملة بقوله : الحمد لله الذي جعل سيدنا محمدا في السماء وفي الأرض أمينا ، وأنجز له ما وعده من الفتح على لسان جبريل فقال : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)(١).

وكان الشيخ أمين الدين ديّنا خيرا متواضعا ترابيا حتى لف المئزر على رأسه في آخر عمره ، وكان مشغولا بإشغال الطلبة في الفقه والعربية وغيرهما. وكان له تردد إلى منزل عمي نظام الدين الحنبلي لأخذ صحيح مسلم عنه ، فورد يوما إليه ليقرأه عليه فإذا عنده بعض المخاديم في محل خلوة ، فخرج إليه ظريف منهم وهو يقول : إن جبريل لم يهبط إلى الأرض بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففطن أن المحل غير قابل للقراءة عليه فذهب من ساعته.

__________________

(١) الفتح : ١.

٤١١

توفي رحمه‌الله سنة ثلاثين ودفن بمقبرة الخراساني خارج باب الفرج رحمنا الله وإياه.

٧٢٦ ـ حسن بن أحمد الخياط الصوفي المتوفى سنة ٩٣٠

حسن بن أحمد الصوفي الوفائي الخياط الحلبي من زقاق الكّلاسة بحلب ، وهو غير محلة الكلّاسة بحلب.

كان رجلا أسمر اللون مسترسل شعر الرأس ، له مدلوكة من صوف أسود وعمامة سوداء وعباءة يلبسها سوداء. ولم يزل على التقشف وخشونة الملبس وتعاني الذكر مع مريديه في مسجد بقرب داره ومذاكرة بعض الأخوان في طريق القوم بجامع البختي سالكا كأبيه طريقة سيدي علي بن أبي الوفا رضي الله تعالى عنه متعاطيا صنعة الخياطة ، والمحبون له يترددون إلى حانوته ، وكثيرا ما كان يخيط لنا فنتبرك به إلى أن توفي تقريبا سنة ثلاثين ودفن بالقبة التي أنشأها أبوه بأرنبيا خارج حلب.

٧٢٧ ـ خديجة بنت البيلوني المتوفاة سنة ٩٣٠

خديجة بنت الشمس محمد بن الحسن البابي المشهور بابن البيلوني الشيخة الصالحة القارئة الكاتبة المتفقهة الحنفية.

أجاز لها رواية البخاري الكمال ابن الناسخ وغيره ، ولحفظ طهارتها عن الانتقاض بما عسى أن يحدث من مس الزوج لها تركت مذهب والدها واختارت مذهب أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه فحفظت فيه كتابا لتراعي به سائر مذهبه.

ولم تبرح على ديانتها وصيانتها وعبادتها إلى أن توفيت في رمضان سنة ثلاثين.

٧٢٨ ـ أبو بكر بن محمد الحيشي المتوفى سنة ٩٣٠

أبو بكر بن محمد بن أبي بكر بن نصر بن عمر الشيخ تقي الدين الحيشي الأصل الحلبي الشافعي البسطامي المعروف بابن الحيشي.

أدركته وقد عمر وعلى رأسه تاج البسطامية وفي وجهه نور السادة الصوفية. وحدثني

٤١٢

ووالدي بالحديث المسلسل بالأولية بقاعة سكنه الملاصقة لدار القراءة العشائرية المعروفة الآن بالحيشية ، وأجاز لي وله جميع ما يجوز له وعنه روايته بشرطه. وسمعته يقرأ الحديث مرارا على الكرسي الموضوع لدى شباك الدار المذكورة المطل على الجامع الأعظم.

وقد ذكره السخاوي في «الضوء اللامع» فقال بعد أن لقبه بالشرف : ولد في مستهل جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وثمانمائة بحلب ونشأ بها فلازم والده في التسلك ، وقرأ وسمع على أبي ذر ابن البرهان الحافظ وتدرب به في كثير من المبهمات والغريب والرجال ، بل وتفقه به وبالشمس البابي إمام جامع الكبير بحلب وأبي عبد الله بن القيم وإبراهيم الضعيف ، وكذا على العلاء ابن السيد عفيف الدين حسين وزاد عليهم في آخرين ، بل ذكر لي أن شيخنا (يريد به الحافظ ابن حجر العسقلاني) والعلم البلقيني والزين عبد الرحمن بن داود أجازوا له في بعض الاستدعاءات في آخرين ممن أخذ عنهم الفقه والحديث. وخلف والده في المشيخة بحلب وصارت له وجاهة.

وزار بيت المقدس ، ولقيني بمكة في سنتي ست وثمانين والتي بعدها فلازمني حتى حمل عني أشياء من مروياتي ومصنفاتي وكتب بخطه منها جملة واغتبط بذلك ، وكتبت له إجازة أشرت لمقاصدها في الكبير. ونعم الرجل أدبا وفهما وسمتا وتواضعا واشتغالا بنفسه وإقبالا على الخير وتعففا وعفة. انتهى كلامه.

وتلاه الزين الشماع فقال : وسمع ثلاثيات البخاري على المسند المعمر برهان الدين ابن العفيف الحلبي ورأيت خطه ، وسمع عليه أيضا تسعة أحاديث من الأربعين النووية ، وسمع كتاب الشمائل جميعه على مسند الدنيا أبي عبد الله محمد بن مقبل الحلبي بها وكتب له خطة بالإجازة ، وقد استوهبت خطه بذلك مع خط البرهان بن العفيف من شيخنا صاحب الترجمة فوهب لي ذلك مع جملة من المؤلفات ، وقد أودعت ما ذكر من خطي ابن مقبل وابن الضعيف في ثبتي تبركا بخطهما وحفظهما. وكذلك سمع المسلسل بالأولية على المسندة أم محمد زينب الشويكية ، وانفرد بالرواية عنهم بحلب بل انفرد بالسماع على ابن مقبل مطلقا فلا يشاركه فيه أحد بحلب ولا بدمشق ولا بالقاهرة ولا بمكة المشرفة فيما حررته. انتهى بحروفه.

ولم أر واحدا من السخاوي والزين رفع نسبه فوق ما ذكر ، ثم ظفرت بخطه فإذا

٤١٣

هو قد رفع نسبه إلى زيد الخيل الذي غير اسمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى زيد الخير فقال : أبو بكر بن محمد بن أبي بكر الحيشي بن نصر بن عمر بن هلال بن معدي كرب ابن زيد بن أبي يزيد بن عشائر بن عشلة بن أحمد بن أبي الكرم بن عبد الله بن عبد الغفار ابن مهلهل بن عروة بن عمرو بن معدي كرب بن زيد الخير الطائي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكانت وفاته في العشر الأول من رجب سنة ثلاثين رحمنا الله تعالى وإياه.

٧٢٩ ـ عبد الرحمن بن فخر النساء شيخ الرضي الحنبلي المتوفى سنة ٩٣٠

عبد الرحمن بن محمد بن يوسف بن عبد الله الشيخ زين الدين أبو الفرج بن الشمس ابن الجمال الكلسي الأصل الحلبي الحنفي سبط الفخر الرومي شيخنا المعروف بابن فخر النساء.

قال السخاوي في ضوئه : ولد بعد الستين والثمانمائة بحلب ، ولقيني بمكة فذكر لي أن والده كان مدرسا عالما مفيدا ، وأن جده كان مقرئا ، وأنه هو اشتغل على زوج أمه ، وكذا اشتغل بمكة حين مجاورته في النحو والصرف على بعض الشيرازيين. ولازمني حتى حمل عني الكثير وكتبت له إجازة أشرت لها في الكبير ، ولم يتعرض لتاريخ وفاته لأنه مات قبله. وقد ظفرت بصورة الإجازة المذكورة بخط المجيز ، ومن مضمونها أنه كلّسي الأصل ، هكذا بكسر الكاف واللام المشددة معا ، وأنه سمع من لفظه الحديث المسلسل بالأولية وحديث زهير بن صرد أخذ ما عنده من «العشاريات العلية والبلدانيات العليات» له و «الجواهر المكللة في الأخبار المرسلة» له ، وسمع بقراءة غيره من تصانيفه أيضا «القول البديع في الصلاة على الشفيع» والكثير من شرح ألفية العراقي وجميع «القول التام في فضل الرمي بالسهام» و «القول النافع وعمدة القارىء والسامع في ختم صحيح البخاري الجامع» و «تحرير المقال والبيان في الكلام على الميزان» ، ومن تصانيف غيره البخاري وجل مسلم وغير ذلك ، وأنه أجاز رواية ذلك عنه مع جميع مروياته ومؤلفاته. قال : وكان ذلك في مجالس آخرها في ذي القعدة الحرام سنة ست وثمانمائة. وفي هذه السنة أجازت له زينب الشويكية رواية ما سمعه عليها بمكة بقراءة أحمد بن سليمان بن محمد الحوراني ثم الغزي الحنفي نزيل مكة من سنن ابن ماجه من باب صفة الجنة والنار إلى آخر الكتاب ومن أوله

٤١٤

إلى الباب الأول منه مع ثلاثياته ثم ثلاثيات البخاري ، وأذنت له في رواية سائر مروياتها بسؤله في ذلك كما وجدته بخط القاري المذكور. وبهذا ظهر صدق قول شيخنا الزين الشماع في كتابه «تشنيف الأسماع» بعد ذكره شيخنا صاحب الترجمة : وقد ذكر أنه سمع على المسندة الجليلة زينب الشويكية ، وهو ممكن فقد جاور بمكة وكانت بها وهو ثقة في أخباره.

وفي سنة خمس وتسعين أذن له بالإفتاء والتدريس الشمس البازلي بحماة وأجاز له أن يروي عنه ما صح له أنه من روايته ومسموعاته ومقروءاته ومستجازاته ، ونعته بالإمام العالم العلامة الجامع بين المعقول والمنقول المتبحر في الأصول والفروع ، ووصفه بأنه بحر لا يخاض وإمام في فنون هو فيها مرتاض.

وفي عام ست وتسعين أذن له العلامة محمد بن محمد الطرابلسي الحنفي في التدريس في سائر العلوم الشرعية بعد أن قرأ عليه في تنقيح الأصول. وفي سنة خمس وتسعمائة أذن له الكمال ابن أبي شريف المقدسي أن يروي عنه كتابه «المسامرة بشرح المسايرة» وسائر مؤلفاته وما تجوز له وعنه روايته بشرطه بعد أن قرأ عليه من كتابه هذا شيئا من مبحث التوحيد. وفي سنة سبع أجاز له الحافظ الديمي جميع ما يجوز له وعنه روايته بشرطه من الموطأ رواية محمد بن الحسن الشيباني وغيره من القدوري والمختار والكنز والمنار ومجمع البحرين بحق رواية الحافظ الديمي بها عن الحافظ ابن حجر بأسانيده المعروفة بعد أن سمع عليه بقراءة غيره بعضا من هذه الكتب سوى الموطأ.

وقد تفقهت أنا ولله الحمد على شيخنا صاحب الترجمة قراءة وسمعت عليه سماع دراية جانبا من شرح الشافية للجاربردي وجانبا من شرح الكافية للهندي بقراءة البرهان الصيرفي الأريحاوي وقطعة من صدر الشريعة بقراءة الشمس محمد بن طاس بصتي ، وكان الشيخ قد قرأه على العلاء قل درويش الخوارزمي مع أنه في غير مذهبه إذ هو من جملة شيوخه بحلب كالشهاب أحمد التونسي المعروف بشقير ، فإنه من شيوخه بمصر فيما بلغني.

توفي شيخنا بحلب في ذي الحجة سنة ثلاثين ودفن بالقرب من مزار الشيخ يبرق.

وكان رحمه‌الله تعالى قصير القامة نحيفا لطيف الجثة حسن المفاكهة كثير الملاطفة سخيا نخيا أصيلا عريقا ، سمعته يقول : إن له نسبة إلى أبي البركات النسفي صاحب المنار والكنز وغيرهما. وكان له إلمام بالفارسية كالتركية واعتناء بالتنزهات والخروج إلى البساتين مع الديانة والصيانة.

٤١٥

ولي في مدحه أبيات مطلعها :

كلامك أحلى من سواه وأعذب

وتقريرك الشافي ألذ وأطيب

وكان يدرس بجامع الحدادين بحلب ، ثم ولي تدريس الجاولية في الدولة الرومية فصار يدرس بها رحمه‌الله تعالى وإيانا.

٧٣٠ ـ قاسم البيري الصابوني المتوفى سنة ٩٣٠

قاسم بن محمود القاضي شرف الدين البيري الأصل الحلبي الدار الشافعي المعروف بابن الصابوني.

ولي نيابة القضاء بمحكمة قاضي القضاة عز الدين محمد المشهور بابن الحسفاوي وغيره وجعل توقيعه : الحمد لله قاسم الأرزاق ، فاتفق أن ناقشه بعض أعدائه في ذلك قائلا : إن وجه التورية ههنا كفر.

وأخبر ولده الشمس محمد أنه ولي قديما قضاء البيرة استقلالا ، وكذا قضاء بيت المقدس ثلاث سنين لما أن كافله يومئذ من مماليك القاضي شرف الدين ، فباعه لسلطان الوقت فترقى عنده إلى أن صار كافل بيت المقدس ، فجذب سيده القديم إليه شكرا لنعمته القديمة عليه. توفي القاضي شرف الدين سنة ثلاثين وتسعمائة وكان قد سقط كثير من أسنانه فجمعها عنده في خرقة وأوصى أن تدفن معه.

وكان رحمه‌الله تعالى رئيسا سخيا يحفظ أخبار الناس وتواريخهم ويحب والدنا ويحبه والدنا ويبسطه بالكلام. ولما قدم حلب المقر المحبي ابن آجا كاتب الأسرار الشريفة بالممالك الإسلامية في ركاب السلطان الغوري سأل عن القاضي شرف الدين لأنه كان من خلانه في آخرين من الأكابر ، فقيل له : إنه قل ما بيده واستقر أمينا بمصبنة مجاورة لمنزله ، فطلب من بعض المخاديم أن يحضره إليه ليجري إنعامه العامة عليه ، فسأله عن الحضور فعزت نفسه عن الحضور فلم يتوجه إليه.

٧٣١ ـ أبو بكر بن محمود المعري قاضي القضاة المتوفى سنة ٩٣١

أبو بكر بن محمود قاضي القضاة ، تقي الدين المعري ، الحموي الأصل ، ثم الحلبي الشافعي ، الشهير بابن المعري.

٤١٦

توفي بحلب سنة إحدى وثلاثين وكان في الدولة الجركسية قاضيا بحماة ، ثم تحاشى عن منصب القضاء واختار العزلة ليكون العز له ، فبقي بها إلى أن كانت الدولة العثمانية فهاجر إلى حلب ومكث بها على حشمته ورياسته وأبهته وجلالته بحيث لا يخرج من منزله بسويقة حاتم إلا للصلاة بالجامع الأعظم. وكان إذا جاء لصلاة جمعة أو عيد جاء هو وولداه قاضي القضاة نور الدين والمقر البدري بدر الدين ومن معهم من الأتباع على أسلوب الأكابر في المسير حيث يتقدم هو ، ثم يتلوه ولده الأول ثم الثاني ثم الأتباع ، وفي الجلوس على السجادات بترتيبهم ذلك. ومع ذلك فلم يسلم هو وولداه عند اجتماعهم من قول بعض أعاديهم : انظروا هذا أقضى القضاة وذلك قاضي القضاة وذلك شيخ الإسلام ، وهذا منه مبني على الفرق الذي كان في الدولة الجركسية بجعل أقضى القضاة لمن كان نائبا في القضاء وقاضي القضاة لمن كان مستقلا به بناء على أن قاضي القضاة أرفع من أقضى القضاة خلافا للزمخشري فإنه عكس حيث قال في قوله تعالى في هود (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ)(١) أي أعلم الحكام وأعدلهم ، إذ لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعدل والعلم. ورب غريق في الجهل والجور من متقلدي زماننا قد لقب أقضى القضاة ومعناه أحكم الحاكمين ، أي والحال أن معناه ذلك.

وقد صرح الفاضل ناصر الدين أحمد المالكي في كتابه «الانتصاف من الكشاف» بأن العكس رأيه ، قال : والذي يلاحظونه الآن أن القضاة يشاركون أقضاهم في الوصف وإن فضل عليهم فترفعوا أن يشركهم أحد فأفردوا رئيسهم بنعته بقاضي القضاة أي هو الذي يقضي بين القضاة لا يشاركه أحد في وصفه ، وجعلوا أقضى القضاة يليه في الرتبة. قال : وقد أطلق على عليّ أقضى القضاة فلا حرج أن يطلق على أعدل قضاة الزمان وأجلهم وأعلمهم قاضي القضاة وأقضى القضاة أي في زمنه وبلدته. وأنشدوا :

وكل قرن ناجم في زمن

فهو شبيه زمن فيه بدا

وعلى هذا الذي قاله فلعل عليا رضي‌الله‌عنه هو أول من لقب أقضى القضاة ، كما أن القاضي أبا يوسف صاحب الإمام الأعظم هو أول من لقب قاضي القضاة على ما هو مسطور في بعض كتب التاريخ.

__________________

(١) هود : ٤٥.

٤١٧

٧٣٢ ـ شرف الدين بن علي بن حمزة المتوفى سنة ٩٣٢

شرف الدين بن علي بن حمزة الحلبي المشهور بابن شيخ سوق الدهشة.

كان من أعيان التجار بحلب من بيت متهم بالتشيع ، إلا أني سمعت الشيخ الصالح أبا بكر ابن الحصنية وكان مقربا عنده شهد ببراءته والله أعلم بما كان في ضميره.

وكانت له حظوة عند خير بك كافل حلب بعد أن آذاه بواسطة أنه كان قدم من الحجاز ومعه عبدان صغيران فلم يشعر وهو بحانوته إلا وقد قيل له : إن أحدهما قد شنق داخل باب دارك ، فعلم أن بعض عداه هو الذي فعل ذلك ، فذهب من ساعته إلى خير بك وأخبره فقال له : أنت تشنق بيدك كأنما بحلب كافلان ، فاعتذر ومضى ما مضى. ثم دخلت داره من غير شعوره امرأة متهمة فأرسل وراءه وأغلظ له القول وسلمه إلى دواداره فضربه وأضرّبه ، فلما أطلقه ذهب إلى دمشق فندم خير بك وأراد أن يتلافى خاطره فطلب حضوره فأبى وعزم على التوجه إلى مكة ، فحمّ ثم عوفي فعزم فحمّ أيضا ، فذهب إلى شيخ له بدمشق كان يقرأ عليه في مذهب أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه لأنه كان يذكر أنه حنفي ، فاستشاره وقص له القصة فأمره بالسفر إلى حلب بنية زيارة أمه ، فنواها وعزم فتيسر له السفر إليها ، فقدمها واتصل بخير بك جدا حتى جعله ناظرا على دواوينه في ضبط مصارف خانه الأعظم ، ولما آل أمره إلى إمارة القاهرة وكفالتها في الدولة الرومية تولى بعنايته شاه بندر جدة ، ثم عزل ودخل مصر فصادره أحمد باشا كافلها لما عصى على المقام الشريف ، وصادر التجار وأخذ منه ما قيمته عشرون ألف قبرصي ، ثم عاد إلى مكة وتوفي بها سنة اثنتين وثلاثين ودفن بالمعلاة.

٧٣٣ ـ عبد الله بن أحمد الإسحاقي المتوفى سنة ٩٣٢

عبد الله بن أحمد القاضي شرف الدين ابن القاضي شهاب الدين الحسيني الإسحاقي الشافعي خالي المتقدم ذكر والده حسبا ونسبا.

كان جوادا فياضا كوالده ، وولي قضاء الفوعة فلم يكن محظوظا من أهلها كأبيه لتشيع فيهم ، وكان في أوان قضائه بها في الدولة الجركسية مقربا معظما عند خير بك كافل حلب ، ولم يكن قضاؤه بها كأبيه نيابة فقد كان لها في تلك الدولة قاض مستقل حتى كأن قاضيها

٤١٨

استقلالا القاضي عماد الدين إسماعيل بن الزيرباج الفوعي الشافعي الشاعر صاحب الديوان المشهور ، وكان ينسب إلى التشيع على ما ذكره الشيخ أبو ذر في تاريخه عند ذكر وفاته سنة خمس وخمسين وثمانمائة.

توفي خالي القاضي شرف الدين بالقاهرة دون بلدته حلب سنة اثنتين وثلاثين.

٧٣٤ ـ علي بن عبد الله العشاري المتوفى سنة ٩٣٢

علي بن عبد الله القاضي علاء الدين العشاري نسبة إلى عشارة بضم العين المهملة ، بلدة قريبة من الدير ، الحلبي الشافعي المعروف بابن القطان.

ولي قضاء عزاز وكذا سرمين من قبل قاضي الشافعية بحلب عز الدين أبي البقاء محمد ابن إبراهيم الحسفائي الشافعي ، ووقع بمحكمة عمي الكمال الشافعي سنين متعددة ، وناب عنه في أواخر الدولة الجركسية ، وله فيه مدائح كثيرة منها :

مولاي عبدك في هم وفي قلق

صفر اليدين بلا ورق ولا ورق

واهي المعيشة في ضيق وفي نكد

وسوء حال من الإفلاس والحرق

لا مال في يده والفقر أوهنه

وأنت منقذه من لجة الغرق

أخبار جودك قد جاءت مسلسلة

صحت روايتها من سائر الطرق

نلت المعالي بفعل المكرمات وها

روايح المسك لا تخفى لمنتشق

أنت الجواد الذي أضحت مكارمه

كالغيث هلّ فعم الناس مندفق

قاض غدا جوده كالبحر فاض ندى

ودام وافره كالصيّب الغدق

أقلامه الخضر بالإحسان مثمرة

من كفه قد جرت بالسعد في الورق

ضاءت بمنصبه الشهباء وهو بها

لنصرة الحق لا وان ولا قلق

يؤمه العاجز الملهوف ينجده

نعم ويخرجه من أضيق الطرق

أب اليتيم وللمحتاج نعم أخ

وللغريب معين والضعيف يقي

له السيادة في الدنيا مؤيدة

على الدوام مدى الأيام في نسق

قاضي القضاة رقى بالمجد منزلة

تعلو على الدهر والأفلاك والأفق

ضاهاك بدر الدجى عند الكمال وها

أنت الكمال بحسن الخلق والخلق

٤١٩

إليك تأتي أمور الناس قاطبة

عرب وروم وأعجام من الفرق

هل أنت غرة هذا الدهر واحده

فريد في عصره مسعود غير شقي

كافي المهمات حاوي الفضل كنز تقى

مصباح بهجته كالبدر في الغسق

مهذب العقل مغني الراغبين أتى

تصحيح ألفاظه كالدر في نسق

أما ومكة والأقصى وخيف منى

وسورة النور والأعراف والفلق

لقد سما لك ذكر طيّب وثنا

تضوع كالمسك أو كالعنبر العبق

أوضحت بالحق منهاجا لطالبه

ومنهج العدل والإرشاد للفرق

لك اليراع إذا ما اهتز في ورق

رأيت بحر الندى قد فاض بالورق

دامت لياليك في أمن وفي خفر

ونجم سعدك وهّاج على الشفق

يا من به حلب أحوالها صلحت

وبات ساكنها بالأمن من فرق

نوال كفيك مبسوط ومتصل

يا كامل الفضل كم مدّيت من رمق

أنت الإمام كمال الدين من كملت

أوصافه الغر لا تحصى من الورق

لله درك يا مولاي من رجل

لسانه ناطق بالحق منطلق

شاد المعالي وساد الأقدمين وقد

زهت مناقبه كالزهر حين سقي

أبقاه مولاه في الدنيا لنا سندا

حتى نعيش به في أطيب العبق

فمن يكن بكمال الدين متثقا

بعد الإله فلا يخشى من الغرق

عين الوجود ورأس الناس في حلب

كهف المساكين شيخ المسلمين تقي

يقوم بالليل والقرآن يسرده

بالفكر والذكر والتدبير في الغسق

خال من الغش ذو نصح وصدق وفا

وسيرة ظهرت في أحسن الطرق

دارت بسعدك أفلاك السعود وقد

علوت قدرا وإجلالا على الأفق

مات العدو وقد شقت مرارته

وكبده ذاب من غيظ ومن حنق

هلّت مدامعه كالسحب من حسد

وبات في قلق من شدة الأرق

عليل مسقوم في ذل وفي حزن

وقلبه من أليم الحقد في حرق

لا زلت ترقى على الأفلاك مرتفعا

أوج المعالي فلا تخشى من الزلق

يهدى برأيك أصحاب العقول كما

يهدى المضل بسير النجم في الطرق

أوليتني نعما قلّدتني مننا

ألبستني خلعا تغلو على الوشق

بادر لعبدك يا مولاي والحظه

وانظر إليه وأنقذه من الأرق

٤٢٠