إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

علماء الأكراد فيقول : اكردوهم إلى الجبال ، وذلك أن الناس اختلفوا في الأكراد فمنهم من رأى أنهم من ربيعة ومضر ، ومنهم من ألحقهم ببعض إماء سليمان بن داود عليهما‌السلام حين سلب الملك ووقع على إمائه المنافقات بعض الشياطين دون المؤمنات منهن ، فلما رد الله عليه ملكه ووضعت تلك الإماء الحوامل قال : اكردوهم إلى الجبال والأودية ، فرمتهم أمهاتهم وتناكحوا وتناسلوا ، فذلك بدء الأكراد كما أشار إلى ذلك الشيخ أبو ذر في تاريخه.

وكان يقول للشيخ إبراهيم الصيرفي : أنت بهيم ما أنت إبراهيم. وبقي على شيخنا من شيوخ البلد آخرون.

ومن مقروءاته بقية أخرى ، فقد قرأ البدر على شاه الهروي العروضي كتاب القسطاس للزمخشري أنهاه قراءة عليه بحلب حسبما وجدته بخطه في ذيل نسخته بهذا الكتاب ، وقرأ على الكمال ابن أبي شريف حاشيته على شرح العقائد وأجازه بها إجازة حسنة ووقفت عليها ، وقرأ عليه شيئا من شرحه على الكتاب المسمى بالمسايرة للإمام ابن الهمام وذلك ببيت المقدس حسبما وجدته بخط البدر كذلك على هامش نسخة بالشرح المذكور بخط شيخنا الشهاب أحمد الأنطاكي ، وقرأ عليه شيئا من حاشيته على المحلي الأصلي ، وكان قد كتب على هوامش نسخته أنظارا على الكمال وذهل عنها ، فلما دفع إليه نسخته ليكتب له عليها الإحازة تذكرها فتكدر حياء من شيخه ، فاتفق أن الشيخ اطلع عليها وردها عن آخرها وأجازه من غير اكتراث ولا تغير خاطر منه رضي‌الله‌عنه.

ووقفت على مكاتبة كان أرسلها عند عوده من الحج ، ومن مضمونها أنه كتب من أجزاء الحديث بالشام وبمكة أجزاء كثيرة قرأ أكثرها على المشايخ ذوي الأسانيد العالية ، وأنه قرأ ألفية العراقي على زاهد دمشق وإمام جامعها الأموي حفظا بقراءته لها على المؤلف رحمه‌الله تعالى.

وله من مشاهير الشيوخ ملا عبد الرحمن الجامي وناهيك به ، فقد وجدت على هامش شرح الشافعي للرضي حيث قال : يجيء التصغير للتعظيم فيكون من باب الكناية يكنى بالتصغير عن بلوغ الغاية في العظم ، لأن الشيء إذا جاوز حده جانس ضده ما نصه : أقول : ومن هذا قول شيخنا ملا عبد الرحمن الجامي رحمه‌الله في مدح ملك التجار :

٣٨١

نزاعي إلى لقياك جاوز حده

بحيث أخاف الانقلاب إلى الضد

وقد أدركت البدر وحضرت بعض مجالسه وسمعت بعض مواعيده الحديثية المشتملة على استعمال أنواع العلوم واستعمال الأنغام بصوته الحسن الجهوري ولم تقدر لي القراءة عليه ، غير أني حضرت مع والدي بين يديه وسمعنا من لفظه الحديث المسلسل بالأولية وأجاز لنا أن نرويه عنه وجميع ما يجوز له وعنه روايته بشرطه.

وكان البدر طويل القامة نير الشيبة مهابا من رآه لا يشك في أنه من كبار العلماء وعظام النبلاء ، غير أنه فيما بلغني أنه كان يخضب لحيته بالسواد قديما ، فاتفق أنه وقع بينه وبين أركماس الجركسي كافل حلب شنآن بواسطة أنه أفتى لرجل بحل تزوج ابنة أخيه من الزنا على قاعدة مذهبه بعد هدية حافلة أهداها إليه ، فتزوجها وكانت فتواه على خلاف مراد أركماس ، فتوعده بالقتل إن دخل دار العدل. ثم إن أركماس عمل ذات يوم مأدبة أحضر فيها الخاص والعام من أهل حلب ، فحضر فيها الشيخ بنفسه من غير أن يدعوه إليها فقال له أركماس في الملأ العام : شفعني يا شيخ في لحيتك أو ما شاكل هذا الكلام ، فخجل منه ، فأخذ جدي الجمال الحنبلي يسوق شيئا من كتاب الشيب والخضاب لابن الجوزي مما يقتضي مشروعية الخضاب ، ولم يكن الشيخ وقف على هذا المؤلف ، فطلبه من جدي فأرسله إليه وانتسجت بينهم المودة الزائدة من يومئذ ، ثم كان تركه للخضاب من بعد ذلك الخطاب.

وكانت وفاته رحمه‌الله تعالى في ربيع الأول سنة خمس وعشرين عن نائبة ألمت به بغير حق من قبل زين العابدين ابن الفناري قاضي حلب كما يأتي في ترجمته.

وكان له إذ صلي عليه بالجامع الكبير مشهد عظيم ودفن بمقابر الحجاج ووضع تحت رأسه طاقية الشيخ الصالح الورع المنعقد علاء الدين علي بن يوسف بن صبر الدين الجبرتي التي وهبها له بوصية منه ، وكان الشيخ علاء الدين من أكابر المعتقدين بالقاهرة ، توفي بها في ذي القعدة سنة تسعمائة ، ومن خطه المبارك نقلت أن جده صبر الدين هكذا بالباء وإن تعارف الناس بصدر الدين بالدال ، ولما مضى عليه وهو بقبره عشرة أشهر واثنا عشر يوما رآه أحد ولديه في المنام وهو يشكو من سقوط لبن القبر على ضلعه فتوجه إليه ولده والحاج أبو بكر الحجار المعروف بابن الحصينة فنظرا فإذا هو قد سقط عليه ما ذكر.

٣٨٢

قال الحاج أبو بكر وهو صادق فيما يقول : فكشفت عليه فوجدته لم يتغير ولا ظهرت له رائحة كريهة وإنما تقطع الكفن من عند كتفه قليلا.

ومن شعره في مؤذن اسمه قاسم لم يكن حسن الصوت :

إذا ما صاح قاسم في المنار

بصوت منكر شبه الحمار

فكم سبّابة في وسط أذن

وكم سبّابة في كل دار

وكان قد قدم مرة من دمشق فأنشده شيخنا العلاء الموصلي لنفسه :

لبابك بدر الدين أهديت مدحة

تفوق بذكراك المعتقة الصهبا

لقد كنت عينا في دمشق ولم تزل

تجاوز في ميدان شقرائها الشهبا

فلا غرو أن فقت النفوس مكانة

بطلعتك الغراء في حلب الشهبا

فأجابه ملقبا له بنور الدين على عادة المصريين في تلقيب علي به فقال :

لنظمك نور الدين فضل طلاوة

غدا ينهب الألباب رونقها نهبا

وفيه معان يسلب العقل سحرها

ويسكرنا أضعاف ما تسكر الصهبا

وندّك لم يلحقك فيه لأجل ذا

علوت على الأنداد في حلب الشهبا

نقلت من خط الشيخ إبراهيم بن أحمد الملا على هامش نسخته در الحبب ما نصه : أنشدني العلامة والدي قال : أنشدني شيخنا شيخ الإسلام يعني صاحب هذا التاريخ الرضي محمد ابن الحنبلي قال : مما وجدته بخط صاحب الترجمة العلامة البدر السيوفي من نظمه مداعبا شيخا بحلب يدعى بابن المنيّر هذين المقطوعين :

ابن المنيّر قد سما

أقرانه بفضائله

أرسوا ببحر علومه

وسينزلون بساحله

ولا يخفى عليك ما فيهما من المدح الذي يشبه الذم والقدح ا ه.

أقول : وله ترجمة حافلة في الكواكب السائرة للغزي بمعنى ما هنا ، غير أنه قال : وله من المؤلفات حاشية على شرح المنهاج للمحلي وحاشية على شرح الكافية المتوسط للسيد ركن الدين ، ومن شعره ما كتب على غطاء علبة :

٣٨٣

إلهي فاحفظني ولا تكشف الغطا

إذا ما كشفت الستر عن كل مضمر

ولكن غطاء القلب فاكشفه سيدي

وأشهدني الأسرار في كل مظهر

وله :

إذا ما نالت السفهاء عرضي

ولم يخشوا من العقلاء لوما

كسوت من السكوت فمي لثاما

وقلت نذرت للرحمن صوما

أما النائبة التي ألمت به من قبل قاضي حلب زين العابدين محمد بن الفناري التي تقدمت الإشارة إليها فهي أن البدر ابن السيوفي عقد بعض الأنكحة في أيامه من غير استئذان منه بناء على ما كان يعهده في الدولة الجركسية من عدم توقف عقود الأنكحة على إذن القضاة إذ لا يفتقر إلى إذنهم شرعا لعدم أخذهم عليها رسما ، فبلغه ذلك فأمره بأن يستأذنه كلما بدا له أن يعقد نكاحا لمن أراد بحيث يكون الرسم له وإن تعددت الرسوم بتعدد العقود ، فلم يبال بما أمر به وعقد لواحد نكاحا من غير استئذان ، فأرسل وراءه من حضر به إلى بابه ماشيا والأمر لله ، فلما دخل عليه قال له : يا كذا يا جاهل اقطع يدك ، فقال له الشيخ : ما أنا إلا حامي هذه الديار بالعلم ، وإن قدر على يدي القطع فلا مرد له ، أو كلاما يشبه هذا ، وكان الشيخ قد أرسل إلى عمي الكمال الشافعي إذ دخل عليه المحضر بأن يسبقه إلى مجلس القاضي ، فلما سبقه إليه أحجم عن أن يوقع به ما لا يليق به ، فأمر بأن يكون في بيت المحضر باشي تلك الليلة إلى أن يفعل به ما يريد ، فقال له عمي بعد أن أخرج من عنده : أتريد يا أفندي أن تفعل به ما يوجب اجتماع السواد الأعظم على بابك ، هذا شيء لا يمكن ، ثم خرج من عنده وعاد إليه ومعه الشيخ زين الدين عمر بن المرعشي وكان بينه وبين القاضي أنس ، فأبرما عليه في أن لا يؤاخذه ، ففعل ، فلم يمض زمن قليل إلا ومات القاضي المذكور وذلك في سنة ست وعشرين.

٧٠٨ ـ علي بن محمد العلاء الموصلي المتوفى سنة ٩٢٥

علي بن محمد بن عبد الرحيم بن محمد بن علي بن إبراهيم بن مسعود بن محمد العلاء ابن الشمس الحصكفي الموصلي الشافعي نزيل حلب.

قطن دمشق أولا مع أبيه وقرأ بها على ابن خطيب السقيفة وابن المعتمد وغيرهما. وحج

٣٨٤

مرتين ماشيا ثم قدم وحده إلى حلب فقطنها وقرأ بها على الفخر عثمان الكردي وملا قل درويش والبدر السيوفي وعلى الشمس البازلي لما قدم إلى حلب ، ودرس وقتا فوقتا. وأما الفتوى فربما أفتى وجلس بمكتب الشهادة بحلب تحت قلعتها ، وتردد طلاب الفضائل إليه لكونه ابن بجدتها.

ولم يزل معدودا من العدول بل من فضلاء المعقول والمنقول على رغم العذول ، يربي الطالبين ويلبي دعوة الراغبين ، ويوضح لهم ما أشكل ويفصل لهم ما كان من مجمل ، إلى أن تلقى منه بطريق الاستفادة جمع جم من الأفاضل وترقى به إلى ذروة الإفادة كثير من طلابه الأماثل ، ولم يبرح على ذلك فيها هنالك إلى أن زالت الدولة الجركسية وعدل عن مكاتب العدول بالكلية ، فأبرم على الإفادة مثل ما كان وزيادة لمن جد وطلب بشمالية جامع حلب ، وبها كنت اشتغلت عليه في القواعد الصرفية والنحوية والعروضية والمنطقية ، واستفدت من غالي أشعاره في أسعاره ومن بديع نثره العالي بل نثاره ، إلى أن طرقته المنية ولم نظفر منه بتمام الأمنية ، ومات في يوم الثلاثاء سابع شوال سنة خمس وعشرين ودفن بمقابر حارة المشارقة في يوم مشهود هبت فيه ريح عظيمة سقط منها رأس منارة زاوية الأطعاني ودرابزين منارة جامع الصفي وبعض حجارتها ورأس شرافة باب قبلية الجامع الأموي بحلب ، وجلس شرذمة ممن كان صحبة جنازته إلى جنب حائط من حيطان مقبرته فما ذهبوا عنه إلا وقد سقط ، فعدت سلامتهم من بركته.

وبالجملة فقد كان شيخ الطلبة ومرشد من طلبه ، وكان في علوم العربية فارسا لا يجارى وفي الفنون الأدبية مناظرا لا يمارى ، ذا باع طويل وافي في العروض والقوافي ، وتقرير في الفقه شافي معروف به كل خافي ، ومنظوم سلسل رقيق أزرى برقة الرحيق ، ومنثور ما ضاع نشره العبيق إلا وشق ثوبه الشقيق ، ويا طالما نهج المنهج القويم لتحصيل غاية المأمول ، وصدق في مقاله المحرر الذي حصلت للقلوب منه بهجة وقبول ، وكشف عن وجه المعاني النقاب حتى كأنها شمس ذات إسفار ، وقطع بعقله مادة الارتياب عما هو مطوي في بطون الأسفار ، وعني بجبر قلوب الطلاب ، فلا كسر ولا قص ، وعري عما يرمي به أو يعاب ، فلا قدح فيه ولا نقص وما برح منعوتا بمحاسن جمال الأفعال ، مغنيا لكل لبيب من صلة فوائده في كل حال ، منصفا في مقام البحث ، مقابلا لخفي الأسرار العلمية بالنث والبث ، لطيف المحاضرة ، مرضي المذاكرة ، حسن المعاشرة ، يذكر كل

٣٨٥

شعر ونادرة ، له أو لغيره ، ممن سار مثيل سيره. ولم يكن ليدون أشعاره ، إذ لم يكن قرض القريض شعاره ، إنما كان يلم به أحيانا ولا يضيع فيه أزمانا. ومنه قوله :

تمر الليالي والحوادث تنقضي

كأضغاث أحلام ونحن رقود

وأعجب من ذا أنها كل ساعة

تجد بنا سيرا ونحن قعود

وقوله :

إذا ما رمت تحقيقا لعلم

فلذ بالمنطق العدل القويم

ولا تدخل إليه بغير نحو

فإن النحو مفتاح العلوم

وقال ملغزا :

يا إماما في النحو شرقا وغربا

من له بان سره المكنون

أي ما اسم قد جاء ممنوع صرف

وأتى الجر فيه والتنوين

فقلت مجيبا :

لي جواب عما سئلت متين

جيّد قد تضمنته المتون

علم كان للمؤنث جمعا

سالما جمع ذين فيه يكون

وقال محاجيا في عين تاب :

يا صاح ما اسم بلدة

كم قد حوت بدرا طلع

قريبة من حلب

رادفها طرف رجع

وقال يمدح «البهجة الوردية» :

لقد أحسن الورديّ بالبهجة التي

تنظم فيها الفقه كالدر في العقد

لها أصبح المنثور يومي بإصبع

حنانيك كل الحسن من بهجة الوردي

وقال مضمنا فيما أنشدنيه عند الشمس السفيري في تفضيل النسوان على الغلمان :

لئن فتن المرد الملاح أولي النهى

وأودت عيون منهم وحواجب

فحب النساء الخرّد البيض مذهبي

وللناس فيما يعشقون مذاهب

٣٨٦

وقال مخاطبا صاحبا له يدعى عبد العزيز وله ولد اسمه عمر :

عمر نجلك السعيد تسمى

بابن عبد العزيز وهو لطيفه

ينتشي عالما ويحيى سعيدا

وينال المنى ويبقى خليفه

وقال يمدح إيوانا عليه رفرف :

وإيوان يقول لمن رآه

علا سعدي على شرفي وأشرف

ألم تر أن طير العز أضحى

يحوم بساحتي وعلي رفرف

وقال ملغزا في ثلج :

اسم الذي ألغزته

يطفي شرار اللهب

مقلوبه مصحفا

وجدته في حلب

وقال في مليح عروضي :

هويت عروضيا مديد صبابتي

ببحر هواه كامل الحسن وافره

على خدّه البدر المكمّل دارة

وفي وجهه الشمس المنيرة دايره

وقال يرثي عشيرين له اتفق موتهما في يوم الأحد وكان يعاشرهما في يوم الثلاثاء مواليا :

على الأديب الحريريّ والأديب الزين

فارقت صبري ورافقت البكا والحين

يوم الثلاثاء بهم كانت تقر العين

فارقتهم في الأحد وانصبت في الأثنين

وقال يمدح النووي :

إلى الشيخ محيي الدين علّامة الورى

وروضته تعزى الدراية في الفتوى

دقائقه كنز وأذكاره هدى

ومنهاجه السامي هو الغاية القصوى

وحكي عنه أنه رأى في المنام شخصا عانق شخصا وبكى وأخذ يقول :

خلا كل محبوب أتى بحبيبه

فاستيقظ من منامه وهو يحفظه فقال مضمنا :

ولما تلاقينا بكى كل عاشق

وما مل من عظم السرور الذي به

٣٨٧

فقمنا وصلينا على الهجر بعد ما

خلا كل محبوب أتى بحبيبه

ومثل هذا ما وقع لوالدي أنه رأى في منامه قائلا يقول :

بالله خذلي صباحا من ثناياه

فأخذته وجعلته صدر قصيدة قائلا في مطلعها :

بالله خذ لي صباحا من ثناياه

وإن ترد فنهارا من محيّاه

فإن ليلي صفا من صدره وعفا

جسمي وأضحى رميما من بلاياه

وأنشد بعض فضلاء النحو سائلا :

سلم على شيخ النحاة وقل له

عندي سؤال من يجبه يعظم

أنا إن شككت وجدتموني جازما

وإذا جزمت فإنني لم أجزم

فأجاب الشيخ زين الدين ابن الوردي :

هذا سؤال غامض عن كلمتي

شرط وإن وإذا جواب مكلم

إن إن أتيت بها فإنك جازم

وإذا إذا تأتي بها لم تجزم

وأوضح شيخنا الجواب فقال :

قل في الجواب بأنّ إن في شرطها

جزمت ومعناها التردد فاعلم

وإذا لجزم الحكم إن شرطية

وقعت ولكن لفظها لم يجزم

ووقف شيخنا على ما ذكره ابن هشام في بحث الترخيم في كتابه «شرح قطر الندى» حيث قال : روي أنه قيل لابن عباس : إن ابن مسعود قرأ : ونادوا يا مال وقفا ، فقال : ما أشغل (١) أهل النار عن الترخيم ، ذكره الزمخشري وغيره.

وعن بعضهم أن الذي حسّن الترخيم هنا أن فيه الإشارة إلى أنهم يقطعون بعض الاسم لضعفهم عن إتمامه. انتهى كلامه. فلمح شيخنا ما نقله عن بعضهم فقال :

ما كان أغنى أهل نار جهنم

إذ رخموا يا مال وسط جحيم

__________________

(١) في شرح قطر الندى : ما كان أشغل.

٣٨٨

عجزوا عن استكمال كلمة مالك

فلأجل ذا نادوه بالترخيم

وأراد بالمصراع الأول الاستفهام ، والمعنى ، أي شيء كان صيرهم أغنياء عن آخر كلمة مالك ، ولهذا أجاب بالبيت الثاني. ويحتمل التعجب على معنى ما كان أشدهم غني عن آخر كلمة مالك حتى حذفوها كما قال ابن عباس في الرد على ابن مسعود : ما أشغل أهل النار عن الترخيم ، غير أن شيخنا زاد كان بعد ما التعجبية كما يقال ما كان أحسن زيدا وهو سايغ شايع ، ولما كان هذا التعجب مظنة أن يقال : لم استغنوا عن آخر تلك الكلمة أجاب بالبيت الثاني ، إلا أن الوجه الأول أولى.

ومما يحكى عنه أنه كان بسجن القلعة المنصورة بدوي يقال له سيف ، فأخرج وقصد أن يكتب له شيخنا مستندا يتعلق ببعض أموره ، فكتب له فلم يعظه معلومه أو أعطاه النزر القليل منه ، فأنشد :

كان من الرأي والصواب

أن يترك السيف في القراب

قد كان في غمده مضرا

فكيف إن سل للحراب

وأنشد له صاحبنا القاضي سعد الأنصاري :

قد ذهب الأطيبان مني

وفرقتني يد الهموم

كأنني قرية خراب

لم يبق منها سوى الرسوم

وقال يمدح عمي الكمال الشافعي :

ألا أبلغ كمال الدين أني

وصلت به إلى رتب المعالي

وكم فخرت به قوم وأني

كملت به وما لهم كمالي

وفيه التورية الحسنة كما لا يخفى.

وأخبرني الشمس السفيري أن الشيخ اتخذه سفيرا بينه وبين بعض المخاديم لقضاء حاجة مهمة ، قال : فقضيتها له كما أراد ، فأنشدني ارتجالا :

قصدت لحاجتي خلّا وفيّا

فما ألفيت كالبحر السفيري

به نلت الذي قد كنت أرجو

وأحسنت السفارة بالسفير

٣٨٩

ومن النوادر التي وقعت له أنه أخذ يكتب في ذيل وثيقة كتبه : علي بن محمد بن عبد الرحيم الموصلي كما هي عادته ، فكتب هكذا : كتبه علي بن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا هو مخطىء هذا الخطأ الغريب ، فلم يسعه إلا أنه أخذ ذلك المداد بلسانه في طرفة عين لائما نفسه على ما صدر منه.

ولنا في مرثية شيخنا :

لنا عالم مذمات أورثنا المحن

وقد كان يولينا منى فله المنن

مفيد له بالطالبين عناية

بدت وله الإرشاد في السر والعلن

وكم من سنا قد لاح من زند فكره

فزال به الإشكال واتضح السنن

وكم من خفايا مرتج نال مرتج

بما كان من إقليد تقريره الحسن

وكم لمّض الجلاب من علمه فتى

وكم منح الطلاب منه ولم يضن

وكم لم يخف في الله لومة لايم

فأظهر قول الحق من بعد ما بطن

ثراء مزاياه تغيّب في الثرى

فلم نلف من جدوى سوى منح المحن

وعز علينا بعد ما مات مثله

وفي القلب جبر الهم والغم قد قطن

فواحسرتي من بعده وتلهفي

وواسرحتي في حزن ما بي من حزن

ويا طول وجدي فيه وجدي ولوعتي

ومحنة ما قد مر من حادث الزمن

عنيت وفاة العالم الفاضل الذي

أفدناك فيما قبل أن له المنن

وذاك الإمام الموصلي الذي اسمه

علي ولم يبرح له الخلق الحسن

همام له في العلم همة قسور

وقيس به في الحكم قد قيس واقترن

وإن ساير الطلاب ساروا لبابه

ترقى إلى الإعزاز كل فما وهن

كبير ولكن قدره ومعمر

ولكن بأنحاء البلاغة واللسن

كثير أنحناء بل حنوّ فما سكن

إليه الفتى إلا وكان له سكن

يبين المعاني للمعاني بمنطق

فصيح صحيح إن يكن ثم من لحن

ففي الشعر والآداب أبرز ما اختفى

وفي منعه الإعراب أظهر ما استكن

هو الأخفش النحوي في نحوه فقل

بأرفع صوت ذا علي أبو الحسن

وفي نظم أنحاء القريض ابن هانىء

فأبلغ به إذ جال في ذلك السنن

وفي فقهه الوردي ذو البهجة التي

صفا وردها حتى غدت ركن من ركن

٣٩٠

وأما حديث المصطفى فلكم صفا

لنا منه ورد إذ غدا صاحب السنن

سقانا شراب الحزن صرفا معتقا

وأبكى لنا طرفا تكحل بالوسن

وأعطش أكبادا وأجرى مدامعا

وصار حمام الأيك يبكي على الفنن

ولكنّ ذا أمر إليه مصيرنا

ومن ذا الذي لم يمض بالقطن والكفن

كساه مبيد الخلق حلة رحمة

ومن ذا الذي يكسو سواه ومن ومن

وأهدي لخير الخلق خير تحية

وأزكى صلاة دون قطع لها ومن

٧٠٩ ـ محمود بن محمد بن آجا المتوفى سنة ٩٢٥

محمود بن محمد بن محمود بن خليل بن آجا المقر الأشرف محب الدين أبو الثنا الغزنوي الأصل الحلبي ثم القاهري الحنفي كاتب الأسرار الشريفة بالممالك الإسلامية المعروف بابن آجا.

وقد كانت وظيفة كاتب السر في الدولة الجركسية التوقيع عن الملك والاطلاع على أسراره التي يكاتب بها وعنه كانت تصدر التواقيع بالتولية والعزل.

ولد المقر المحبي كما قال السخاوي سنة أربع وخمسين وثمانماية بحلب ، ودام بالقاهرة بالاشتغال بالعلم إلى سنة ثمان وثمانين ، ثم رجع إلى حلب وزار بيت المقدس. وتميز بذكائه ولطيف عشرته. وولي قضاء الحنفية ببلدته بعد ابن الشهاب الحلاوي في شهر رمضان سنة تسعين بالبذل ، وحج سنة تسعمائة في ضخامة.

وذكره شيخنا جار الله بن فهد المكي في تاريخه فقال : انتهت إليه رياسة البلاد الشامية والمملكة المصرية ، وطلبه سلطانها الأشرف قانصوه الغوري من حلب وولاه كتابة السر بالقاهرة عوض القاضي صلاح الدين بن الجيعان في أول ولايته سنة ست وتسعمائة ، واستمر فيها مدة ولايته بل إلى آخر دولة الجراكسة ، فكان آخر من ولي كتابة السر. قال : ولما حج في عظمته عام عشرين وتسعماية قرأت عليه بمكة أربعين حديثا عن عشرين شيخا من مروياته عنهم أخرجتها له وسميتها «تحقيق الرجا لعلو المقر المحبي ابن آجا» فأعجبه ذلك واغتبط به وأنعم علي بلبس من ملبوسه وقال لي عند الفراغ من القراءة : لا فض الله فاك وبارك فيك كما بورك في أبيك ، قال : وبعد فراغه من المناسك عاد إلى القاهرة وصحبه

٣٩١

صاحب مكة أبو زهر بركات بن محمد الحسني ليبلغه من السلطان المقام العلي وعليه أبهة وشكالة حسنة وشيبة نيرة ، لكنه ضعيف الجسد مع كثرة الأسقام وملازمة وجع المفاصل له مدة من الأعوام ، حتى لم يطف بالكعبة الشريفة إلا مرتين أو ثلاثا مع الجلوس في بعض الأشواط ، إلى أن ذكر أنه بعد دخوله القاهرة توجع مدة فركب إليه السلطان وزاره لتعظيمه ومحبته له.

قال : وتردد إلى منزله العلماء والأمراء والأكابر.

ثم تعرض لذكر سفره مع السلطان سنة اثنتين وعشرين وتسعماية إلى بلدته حلب وصحة بدنه بها لألفه هواها وإقامته بها إلى أن قتل الغوري وهرب عسكره إلى القاهرة ، فتبعهم إليها فولاه الأشرف طومان باي ابن أخي الغوري المتولي للسلطنة بعده كتابة السر بها.

وتعرض لذكر إكرام السلطان سليم له لما دخل القاهرة ، وأنه عرض عليه وظيفته فاستعفى عنها واعتذر بكبر سنه وضعف بدنه ، وأنه أراد الاستعفاء في تلك الدولة فخشي على نفسه فعفا عنه وأسكن عنده برضاه زيرك زاده قاضي عسكر روم إيلي فانتفع به وصار مسموع الكلمة عند السلطان سليم ووزرائه حتى سأله في الإقامة بحلب فأجابه ، ولما عاد من القاهرة عاد معه وقر في منزله إلى أن توفي في رجب سنة خمس وعشرين وتسعماية.

وقد بلغني أنه كان السبب في أن ولي قضاء الحنفية بحلب هو أنه أقام بينة شهدت على الكمال بن المعري كاتب سر حلب وناظر جيشها وهو معزول عن كلتا وظيفتيه أنه علّق الطلقات الثلاث من زوجته الست حلب الآتي ذكرها بصفة وهو يلعب بالشطرنج مغلوبا أو نحو ذلك ، وأن الصفة وجدت ، فحكم الحاكم الشرعي بطلاقها ثلاثا ، ثم إنه تزوجها ودخل بها فشكا عليه الكمال بالأبواب الشريفة فطلب فبذل للسلطة خفية عشرة آلاف دينار على تنفيذ حجة الطلاق وإعطاء قضاء حلب ليحظى فيها بحلب ، فكان الأمر كما طلب.

ثم لما ولي كتابة السر بالقاهرة بقي قضاء حلب في يده مضافا إليها يباشر فيها نوابه ويرفعون إليه محصوله وهو بالقاهرة إلى أن عزل نفسه عنه ورسخ في كتابة السر بالقاهرة وعمر بها مدرسة وتربة. ثم كان من انقراض الدولة الجركسية وعوده مع المقام الشريف السليمي إلى حلب ، فاختار مقام العزلة ومكث بالبيت النفيس المشهور ببيت أزدمر كافل

٣٩٢

حلب ملكا إلى أن توفي بعد أن أوصى بماله وعليه وبقدر ما يصرف في تجهيزه وإلى عتقائه من بيض وسود سوى من كان أعتقهم بعد عوده من الحجة الثانية من نحو ستين رقيقا وإلى جواري زوجته ، وبأن يوضع على قبره عشرة مصاحف ثم يطلب عشرة من القراء المحسنين للقراءة فيقرؤون فيها كل ليلة ليتم ختمة واحدة ، وهكذا إلى تمام عشر ليال يتمها عشر ختمات ، على أن يكون لكل شخص عن كل ليلة خمسون درهما ، وأشهد عليه أنه كان قد جعل حصة بمعرة أحوان من قرى حلب وقفا على مصارف كان شرط أن تصرف بتربته التي أنشأها بجوار الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه بالقاهرة وأنه رجع عن وقفها على تلك المصارف بها إلى وقفها على تربته بحلب بمقتضى أنه شرط في كتاب وقفه الأول أنه له أن يزيد ما شاء وينقص ما شاء ويمنع من شاء ويخرج من شاء ويغير ما شاء ، وأنه جعل النظر لابن أخته قاضي القضاة جمال الدين يوسف الحنفي ثم الأرشد فالأرشد من ذريته ونسله وعقبه وحكم بذلك الحاكم الشرعي.

ثم لما توفي ضبطت تركته فنافت عن سبعمائة ألف درهم وناف المبلغ المخرج لتنفيذ وصاياه عن سبع وثمانين ألف درهم.

وقد كنت أحضر مع والدي في حضرته وأشاهد ما كان من نورانيته ونظرته ومن لطيف محاورته ومحاضرته ، فإذا له نور شيبة يلوح عليها أنوار الهيبة ، ومزيد يد حشمة ورئاسة ، وفرط ظرافة وكياسة ، يهوى ذكر تواريخ الناس ، ويرغب في خلطة وجوه الناس للاستيناس ، لا يشبع رائيه من شهوده ، ويعترف له بمقام الجمال بحضرة شهوده. وكان يحب والدي ويعظمه حتى بلغ والدي عنه والسلطان الغوري بحلب أنه قال : إذا عاد السلطان إلى تخته فإني أسعى لابن أختي في قضاء الحنفية بالقاهرة وآخذ عنه قضاء حلب للشيخ برهان الدين بن الحنبلي. ثم بلغه عن والدي أنه غم من أجل ذلك لأنه يرغب في القضا ولا يذهب إلى الضيق عن الفضا ، فأقلع عما صمم عليه إذ لم يقع به الرضى ، فتوجه والدي إليه ليتشكر فضله إذ أقلع عما أقلع وأنا معه ، فرفعت إليه رقعة بخطي فيها من نظم والدي هذان البيتان :

مدحي وحمدي فيك قد زادني

فخرا وأوليت به جودا

فدم مدى الدهر لنا سالما

لا زلت ممدوحا ومحمودا

فلما وصل في القراءة إلى لفظ وأوليت قرأ : وأوذيت مداعبا ، فقال له والدي : مثل

٣٩٣

مولانا قاضي القضاة لا يؤذي ولا يؤذى ، فتبسم ضاحكا وأخذ يذكر ما كان لصحبة جدي الجمالي الحنبلي وهو رفيقه في قضاء حلب ويتأسف على تلك الأيام ويواجه والدي بأوجه كلام.

وقد مدحه من الشعراء من لا يحصون كثرة ، ولو لم يكن ممن مدحه إلا الأديبة الأريبة العالمة العاملة الشيخة الصوفية عائشة الدمشقية المشهورة ببنت الباعوني صاحبة البديعية المشهورة وشرحها لكفت. كانت قد رحلت إلى القاهرة ونزلت بها في منزله عند زوجته الست حلب ومدحته بقصيدة طولى نحو أربعين بيتا ، وكتب إليها وهو بالقاهرة أيضا لغزا في اسم المقر المحبي محمود مستطردا فيه إلى مدحه لما أنها كانت نازلة بشامخ صرحه : شيخنا بالإجازة شيخ العلم والأدب الشريف عبد الرحيم العباسي الشافعي ، فأجابته على لغزه مادحة للمحبي أيضا بقصيدة طولى.

٧١٠ ـ محمد بن علي بن الدهن المتوفى سنة ٩٢٥

محمد بن علي بن أحمد بن الدهن الشيخ المعمر المنوّر شمس الدين الحلبي الشافعي الشهير بابن الدهن شيخ القراء والإقراء بحلب وإمام الحجازية بجامعها الأعظم.

قرأ على جماعة منهم الشيخ الإمام العالم الورع الزاهد منلا سليمان بن أبي بكر المقري الهروي ، ومنهم الشيخ الإمام العالم العامل الورع الناسك الذي لم يوجد في عصره مثله الإمام منلا زاده شهاب الدين أحمد بن عثمان الجرخي ، فالأول قرأ عليه لخمسة مشايخ هم نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي إفرادا وقرأ حرز الأماني كامله وأخبره أنه قرأ بها على أكمل المقرئين وأفضل المحدثين أبي الخير محمد بن أحمد الحريري الشافعي ، والثاني قرأ عليه لابن عامر وحمزة إفرادا وبالقراءات السبع جمعا بمضموني الشاطبية والتيسير ، وقرأ عليه حرز الأماني كامله ، وأخبره أنه قرأ بما قرأ عليه على الحافظ المقري الجليل مولانا نور الدين محمود البزازي ، وأخبره أنه قرأ بما عليه قرأ على شيخ القراء والمحدثين محمد بن محمد ابن محمد الجزري الشافعي ، كذا لقيت بخط صاحب الترجمة في أخباره سطّره للشمس محمد بن أمير غفلة. توفي في رمضان سنة خمس وعشرين وتسعمائة.

٣٩٤

٧١١ ـ إبراهيم الهمداني المتوفى سنة ٩٢٥

إبراهيم بن إدريس الحلبي الشافعي الهمداني القاطن بالمدرسة الرواحية بحلب.

كان مريد السيد عبيد الله التستري وخليفة لابن أخيه الشيخ يونس ، فإنه خلفه عند أخذه السفر إلى دمشق. وكان صالحا سليم الصدر متجردا لم يتزوج قط. وكان من دأبه أن يجمع عنده في كل سنة شيئا من الزبيب والقلوب ، وكلما دخل عليه طفل وهو بالرواحية بإناء لأخذ ماء من بركتها أعطاه كفا من ذلك. ولم يزل فيها ملازما للأوراد الفتحية في طائفة كثيرة من المريدين إلى أن توفي سنة خمس وعشرين وتسعمائة ودفن شرقي مزار الشيخ ثعلب على الجادة بعد أن صلى عليه صاحبه الشيخ زين الدين الشماع في مشهد عظيم كان له. وكنت ممن حضره مع والدي عند احتضاره فإذا وجهه في نورانيته كالشمس ، وإذا العرق في جبينه كاللؤلؤ.

وكان من شأنه أنه أخبر بزوال الدولة الجركسية بعد حلول سلطانها قانصوه الغوري بحلب لمنام رأى فيه رجلا قصيرا راكبا على فرس وأمامه آخر يذود الناس بين يديه باللسان التركي ، وقد سأل عنه سائل من هو فقيل له : إنه سلطان الروم.

قيل : وكان للشيخ جد سيوفي بدمشق من أولياء الله تعالى متى ضرب بسيفه من يستحق القتل قطع وإلا لم يقطع ، وأخت عابدة رآها تكبّر يوما تكبيرة الإحرام ثلاثا كما هي عادتها ، فسألها ما السبب في ذلك فقالت : إني لا أرى الكعبة الشريفة إلا في ثالث مرة.

٧١٢ ـ الشيخ محمد الخراساني المتوفى سنة ٩٢٥

محمد الخراساني النجمي نزيل حلب. قيل إنه كان يمني الأصل وذا سيادة.

وأخبرني نزيله الشيخ الصالح محمد الكيلاني التروسي أن سنده في لبس الخرقة يتصل بنجم الدين الكبير رحمة الله عليه ، وأن من جملة كراماته أنه لما قدم حلب أنكر عليه القاضي جلال الدين النصيبي والشيخ جبرائيل الكردي ما كان عليه من سماع الموصول والشبابة ، فقيل للأول لا بأس بالاجتماع به وإلا فلا وجه للإنكار عليه مجانا ، فلما توجه إليه قال في نفسه : إن كان الشيخ وليا فإنه يضيفني اليوم خبزا ولبنا وعسلا وإنه يسألني عن

٣٩٥

مسألتين. فلما حضر مجلسه أمر بإحضار الخبز واللبن والعسل وعرفه أنه أضمر السؤال عن مسألتين. وأما الثاني فإنه طرق عليه الباب ذات يوم ودخل عليه فاعتنقه الشيخ ، فقال للشيخ : اجعلني في حل مما كان يصدر مني من الغيبة لك ، فإني قد وجدت نفسي وأنا نائم تائها في مفازة وإذا بك قلت لي : افتح فمك ، ففتحته فألقيت فيه شيئا فلم أقدر على ابتلاعه ولا على إلقائه ، فذكرتني أني أغيبك فتبت ، فلما تبت صار الذي في حلقي كأنه سكر فابتلعته ، وأخذتني وأخرجتني من التيه. فلما تمم له القصة جعله الشيخ في حل من ذلك رضي‌الله‌عنهما.

وقد حضرت سماعاته صحبة والدي ، وأخبرني أنه رأى ذات ليلة في منامه شيئا فتوجه إليه ليقص عليه ، فإذا عنده رجل يقرأ في كتاب الله ، فلما دخل والدي أطبق كتاب الله ، فقال الشيخ للقارىء قبل أن يكلمه والدي في أمر المنام : افتح الكتاب واقرأ ، فإذا هو يقرأ : و «منهم من رأى في منامه».

وقد كان رضي‌الله‌عنه عالما عاملا مطروح التكلفات وأسبابها ، يقدم النعال لأربابها ، جمالي المشرب ، يضرب بمواعظه ويطرب ، ذا حظوة في مجالس الأفراح ، وخمرة تزري بخندريس الأقداح ، لطيفا ظريفا جاذبا لقلوب الناس ، ملينا لكل قلب قاس.

مات رضي‌الله‌عنه في ذي الحجة سنة خمس وعشرين وتسعمائة ودفن في يوم كان مشهودا شهده الخاص والعام ، وعمرت على قبره عمارة بباب الفرج من مدينة حلب أنشأها الأمير يونس العادلي.

ومما حكى عنه شيخ الشيوخ الموفق بن أبي ذر المحدث أنه كان ذات حين بين النوم واليقظة ، فإذا طائر وقف على مكان من داره واضطرب ساعة ، قال : فاستيقظت مذعورا فأخذت الغطا على رأسي وإذا هاتف يقول : هذه روح الشيخ محمد الخراساني ، فما مضى قليل من الأيام إلا وانتقل إلى رحمة الله تعالى.

قال : وكان يقول : من لم يتخلّع يتقلّع.

٧١٣ ـ محمد بن أحمد المهمازي المتوفى سنة ٩٢٦

محمد بن أحمد بن علي بن إبراهيم أقضى القضاة ناصر الدين أبو عبد الله العجمي الأصل

٣٩٦

الحلبي المولد الأردبيلي الخرقة والطريقة الحسيني الحنبلي المشهور بالسيد المهمازي.

كان شيخا معمرا له علامة خضراء مستطيلة فوق العادة موضوعة على عمامته بإبرتين في طرفها. ناب في القضاء بمحكمة جدي الجمال وعمي النظام الحنبليين ولم يشك أحد في مدة نيابته. وكان توقيعه : الحمد لله خير الحاكمين. قيل : وكان في تطويل العمامة تابعا لوالده بل جده السيد إبراهيم إذ قدم حلب من بلاده فطلب من نقيب الأشراف بها إذ ذاك ما للواردين عليه من الأشراف من المعلوم المعتاد ، فطلب منه ما يشهد له بالشرف ، فذكر أنه ليس معه شيء من ذلك ، فأبى إعطاءه ونزع علامته وكانت قصيرة على العادة ، فاتفق أن كافل حلب رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام ومعه السيد إبراهيم والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينكر على نقيب الأشراف حيث أنكر نسبه إليه ويقول : هذا ابني أو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذا رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضع له علامة مستطيلة ، فلما استيقظ أرسل وراء نقيب الأشراف ، فإذا نقيب الأشراف رأى مثل ما رأى ، فما وسعه إلا أن أدى إليه حقه وأكرمه ، فعند ذلك أحضر الكافل شقة خضراء وقص منها بقدر ما رأى من العلامة التي وضعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووضع ذلك على عمامة السيد إبراهيم على أسلوب ما رأى ، ثم صار ذلك شعار ولده وولد ولده.

وكانت وفاة السيد ناصر سنة ست وعشرين وتسعمائة بالمهمازية خارج باب المقام وهي تربة ابن قراسنقر الذي استقر بها جده السيد كمال الدين إبراهيم المهمازي الحسيني لما أنه كان له قبول عند الناصر يوسف صاحب حلب حتى سلمها إليه ، فاستقر بها ووقف عليه حمّام السلطان بحلب كما ذكره ابن الوردي في تاريخه.

وفي تاريخ الشيخ أبي ذر أنه كان عجمي الدار وأنه صاحب الأحوال رضي‌الله‌عنه. ومن غريب ما كان عليه السيد ناصر الدين أنه كان يحمل خنجرا تحت ثوبه إما بنية الغزاة على توهم حصولها أو لخشيته وتوهمه أن واحدا ممن حكم عليه يقتله وهو سبب ذلك.

٧١٤ ـ علاء الدين الإربلي الطبيب المتوفى سنة ٩٢٦

علاء الدين بن ولي الدين الإربلي ثم الحلبي الطبيب المشهور بابن ولي.

كان له حانوت بسوق الزرد كاشية بحلب ، وهو سوق كانت تعمل فيه الزرديات

٣٩٧

واللبوس في الدولة الجركسية ، ثم خرب وبني في مكانه السوق المشهور بالسوق الجديد إنشاء محمد باشا كافل حلب.

وكان طبيبا حاذقا ذا يد مباركة ، مقبولا عند الخواص والعوام ، قنوعا منقادا لكل من طلبه. وكان شيخه في الطب عجميا اسمه أبو بكر شاه سبقه بالوفاة فدفن بجنبه سنة ست وعشرين.

٧١٥ ـ قطلوبك (١) القطلاوي (٢) المتوفى سنة ٩٢٦

قطلوبك بن محمد بن محمد الأمير ناصر الدين الحلبي العمري المشهور بابن القطلاوي.

توفي في رجب سنة ست وعشرين وتسعمائة. وكان ممن ينتسب إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه. وتولى على الزاوية القطلاوية بالحدادين بحلب المشروطة للطائفة الكازرونية فقيل : كان من ذرية منشيها الشيخ صالح الحاج جنيد بن عمر الإسحاقي نسبة إلى الشيخ المرشد أبي إسحق إبراهيم شهريار الكازروني ، وقيل لا.

وكان الأمير ناصر الدين ذا ثروة ومال ، وربما لبس الفرو الوشق ، إلا أنه كان مماجنا مزّاحا مضحكا يقدح أهل المجلس في عرضه مجانا فلا يبالي بقدحهم ويمزحون معه قبيح المزح فلا يتأثر من قبيح مزحهم ، وكذا يقدح في عرض من حضر من صحبه فلا يبالون بما منه ينالون وإن كانوا من رؤساء الناس.

وكانت له وقائع غريبة منها أنه حلف ليطعمن فلانا فحما وفلان حاضر ليغيظه ، فإذا اغتاظ ضحك عليه فازداد غيظا فازداد عليه ضحكا فأضحك عليه الحاضرين ، ثم تناساه مدة مديدة ، ثم حضر معه في مجلس المخاديم الذين كانوا حاضرين مجلس الحلف وأحضر معه شيئا أسود مستطيلا محدود الرأس طيب الرائحة مموها بشيء من ورق الذهب ، وأخبر أنه دخل السوق فاشتراه بثمن زائد ، وذكر أنه يسمى قلم بك وأن له كما ذكر من الخاصية كذا وكذا ، وعبس وجهه في وجوه الحاضرين ولم يضحك أصلا ، فقال له المحلوف عليه :

__________________

(١) في الأصل قطوبك.

(٢) في «در الحبب» : القطماوي.

٣٩٨

أعطني إياه ، فامتنع من إعطائه وسمح له بأكل قطعة منه في وقت آخر وأظهر بخله عليه ، فصمم أنه يعطيه إياه فأبى ، ثم أذن له أن يأخذ من رأسه المحدود شيئا قليلا بفمه فإن قليله في النفع كثير ، فأخذ فلم ير له مطعما ليرى له فيه مطعما (١) فكاد يمجه من فمه ، فقال له : ابتلعه لتنال نفعه ، فابتلعه فقال : اشهدوا يا مخاديم أني أطعمته فحما وأني بررت في يميني يوم كذا ، فضحكوا وانشرحوا ، وظهر أنه اصطنع فحمة على تلك الهيئة ودهنها أو نحوه وذهّبها وسماها من عند نفسه.

ومنها أنه حضر بمصر في مجلس الأمير جمال الدين بن أبي إصبع الحلبي ، فقال له في الملأ العام : يا قواد ، فقال : إني أشتهي أن لو كنت قوادا ، ولم يظهر ضم التاء من قوله كنت ولا فتحها بل سكنها ، وأشار إلى الأمير جمال الدين بيده أي أنت ، فضحك الحاضرون والمقر الجمالي لم يفطن له إلا بعد حين ، فقذفه فلم يبال بقذفه له ولا قطع كلامه فيه كأنه لم يسمع منه قدحا بل مدحا.

٧١٦ ـ إبراهيم الحمّامي الشاعر المتوفى سنة ٩٢٦

إبراهيم الأنطاكي ثم الحلبي المعروف بأصطا إبراهيم الحمّامي.

كان شاعرا ذا ذكاء وذوق مع كونه عاميا. وله موشحات وتصانيف وأعمال مويسيقية مشهورة على لحن فيها وديوان حافل سماه «برهان البرهان». ومن شعره مضمنا :

وبي رشأ حاز الجمال بأسره

له طلعة فاقت على شفق الفجر

تحير فيه الواصفون لحسنه

وقالوا عجزنا عنه بالفكر والذكر

فقلت لهم هذا الذي صح أنه

كما شاعت الأخبار في البر والبحر

تراءى ومرآة الزمان صقيلة

فأثر فيها وجهه صورة البدر

وله أيضا :

مقلتي يوم النوى إذ رحلوا

طلقت من أجلهم طيب الكرى

إن تسل عما جرى من أدمعي

فوق خدي بعدهم ياما جرى

__________________

(١) في بعض النسخ المخطوطة : مطمعا.

٣٩٩

وقال يهجو بعض الأمراء على طريق الاكتفاء :

أميرنا ذو معان

محرّك للسواكن

حوى حلاوة لفظ

حلو اللسان ولكن

وقال من قصيدة :

باكر يا صاح لرشف قدح

فزناد الخمرة فيه قدح

واشرب قدحا وانف ترحا

واجنح مرحا والمح لملح

بكر في الكاس إذا جليت

بالبسط أكاد أطير فرح

تنفي الأحزان بساحتها

وبنشأتها كما شح سمح (١)

في شرح معاني بهجتها

قدح منها للصدر شرح

تنفي الأسقام من الأجسا

م بها من هام ورام نصح

فاشرب في صبح غبقتها

فالديك على الندمان صدح

والوقت صفا والحب وفا

والكاس شفا والهم نزح

والحال حلا والبدر جلا

والطير تلا والكاس طفح

إلى أن قال :

ما زلت مسائي مغتبقا

في الحضرة حتى الصبح وضح

من عظم سروري في فرحي

أيقنت بأن العقل شطح

ومن شعره :

إذا لم أجد خلا وفيا على المدى

مقيما على الحالين في الحر والبرد

جلوت عروس الراح في وسط راحتي

فعاينتها بكرا خلوت بها وحدي

ومن شعره :

أحبابنا من بعدكم

أجريتمو مدامعي

من لي معينا في الهوى

يصبر على المدى معي

__________________

(١) لعل الصواب : من شح سمح ، كما رجح محققا در الحبب.

٤٠٠