إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

وبرع وتميز ونظم ونثر مع ظرف ولطف ومحاسن جمة ، ولكنه بواسطة خلطته لخاله عبد البر بن الشحنة الحنفي باع كتبه وموجوده وركبه الدين مرة بعد أخرى ثم انتظم حاله.

وناب في القضاء في القاهرة ودمشق وبلده وحسن حاله ، وكان بالقاهرة في سنة خمس وتسعين وثمانماية وزارني حينئذ. انتهى ما ذكره السخاوي.

توفي ليلة السبت تاسع عشري رجب سنة إحدى وعشرين وتسعمائة. وكان ذا فطنة وحافظة ورفاهية وجد في أمر الطهارة ، حتى نقل أنه كان يجعل غداه من الحلاوة السكرية أحيانا كثيرة ، فإذا دخل الحمّام فرش له في داخلها طنفسة صغيرة.

وولي قضاء حماة ثم قضاء حلب استقلالا ، وناط قضاء حلب بولده أقضى القضاة زين الدين عمر إلى أن أصيب بموته وعزل عن قضائها بعمي الكمال الشافعي ، ولما ولي قضاء حماة أنشده وقد قدم حلب بعض أحبابه حيث قال :

حماة مذ صرت بها قاضيا

استبشر الداني مع القاصي

وكل من فيها أتى طائعا

إليك وانقاد لك العاصي

وبلغني أنه اختصر جمع الجوامع في الأصول ، وأنه كتب كتابا كبيرا في غير مجلد جمع فيه من النوادر والأشعار ما لا يحصى كثرة.

وكان لهجا بتواريخ الناس وطريق أهل الأدب لا يمل محاضره من محاضرته ولا يمل في استطالة معاشرته.

وفي نسخة در الحبب التي في الحلوية زيادة على ما هنا ، منها : وللقاضي جلال الدين مضمنا :

بروحي من الأتراك ظبيا مهفهفا

إذا مارنا كنت المصاب بعينه

أتى زائرا ليلا فأشرق وجهه

كأن الثريا علقت في جبينه

وله تخميس الأبيات المشهورة للشاب الظريف محمد بن العفيف حيث قال :

غبتم فطرفي من الهجران ما غمضا

ولم أجد عنكم لي في الهوى عوضا

فيا عذولا بعبء اللوم قد نهضا

للعاشقين بأحكام الغرام رضى

فلا تكن يا فتى بالعذر معترضا

٣٦١

أنا الوفي بعهد ليس ينتقض

وإن هم نقضوا غزلي وإن رفضوا

فقلت لما لقتلي بالأسى فرضوا

روحي الفداء لأحبابي وإن نقضوا

عهد الوفيّ الذي للعهد ما نقضا

أحبابنا ليس لي عن عطفكم بدل

وعن غرامي ووجدي لست أنتقل

يا سائلي عن أحبائي وقد رحلوا

قف واستمع سيرة الصب الذي قتلوا

فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا

قد حمّلوه غراما فوق ما يسع

وعذبوا قلبه هجرا وما انتفعوا

دعي أجاب توالى سهده هجعوا

رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا

فسام صبرا فأعيا نيله فقضى

٦٩١ ـ عز الدين الصابوني المتوفى سنة ٩٢٢

عز الدين الصابوني الحنفي المعروف فيما يقال بابن عبد الغني وأنه كان ابن عم التقوي أبي بكر المعروف بابن الموازيني الماضي ذكره.

كان خطيبا جيدا خطب كثيرا بجامع تغري بردي بحلب ، ولما حل ركاب السلطان سليم بن عثمان بها سنة اثنتين وعشرين صلى الجمعة مرة بجامع الأطروش فكان هو الخطيب يومئذ ، وكان يصعد المنبر مع ما في قدميه من الانحناء والاعوجاج إلى طرف الداخل على وجه كان لا يتردد في الشوارع إلا راكبا على بغلة لعسر السير بهما عليه.

وما حصلت له الحظوة إلا في السنة المذكورة بخطبته المذكورة والسلطان المشار إليه حاضر الخطبة إلا ودعاه داعي المنون فتوفي إلى رحمة الله تعالى في تلك السنة.

٦٩٢ ـ حسين بن حسن البيري المتوفى سنة ٩٢٢

حسين بن حسن بن عمر ، الشيخ حسام الدين البيري ثم الحلبي الشافعي الصوفي.

ولد ببيرة الفرات ونشأ بها ، ثم انتقل إلى حلب وجاور بجامع الطواشي ثم بالألجهية ، ونزل عنده بها العلامة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن محمد الآمدي المعروف بشمس ، وأجاز له. وفي سنة أربع تولى النظر والمشيخة بمقام السلطان إبراهيم بن أدهم رضي الله

٣٦٢

عنه في دولة العادل قانصوه خال الناصر محمد بن قايتباي. وفي سنة اثنتين وعشرين توفي إلى رحمة الله تعالى. وكان له ذوق ونظم ونثر وإلمام بالفارسية والتركية. قال لي ولده الشهاب أحمد : وله رسالة في القطب والإمام ، قال : ونقل شيئا من كلام منطق الطير في التركية إلى العربية وشيئا من المثنوي من الفارسية إلى العربية ، ثم أنشدني من التعريب الأول قوله :

اسمعوا يا سادتي صوت اليراع

كيف يحكي من شكايات الوداع

مع أنني سمعت أنه تعريب رجل أصفهاني ، وقوله :

ما ترى قط حريصا قد شبع

ما حوى الدر الصدف حتى قنع

هكذا أنشدنيه بإسكان آخر صدف للضرورة ، وأنشدني له :

بقايا حظوظ النفس في الطبع أحكمت

كذلك أوصاف الأمور الذميمة

تحيرت في هذين والعمر قد مضى

إلهي عاملنا بحسن المشيئة

وأنشدني له الشيخ قاسم ابن الجبريني :

من البطون بسر اللطف رباني

إلى الظهور وذاك اللطف رباني

وقد بنى في وجودي والبناء بما

لو خلته قلت واشواقا إلى الباني

الله أكرمني الله أوهبني

الله أمنحني الله أعطاني

أنساني الغير بالإحسان واعجبا

فكيف أنسى لمن للغير أنساني

إنسان عيني مغمور بحكمته

واحيرتي كيف ما أدركت إنساني

ما ثم في الكون معبود سواه يرى

ولا له أبدا في ملكه ثاني

في طي أسمائه الحسنى له حكم

إذا نشرت ترى القاصي بها داني

ومما وقع له أنه اجتمع يوما بالشيخ محمد الخراساني النجمي في مجلس خير بك كافل حلب وكان ينكر على الشيخ استعمال الدف واليراع في مجالس السماع ، فقال له : ماذا يقول اليراع؟ فقال له الشيخ : اسكت ، أنت اليراع ، وكأنه أراد أنه مثله في خلو الباطن وأنه جماد مثله ، فلم يفهم إلا أنه جعله إياه حقيقة فأراد أن يؤذن الناس بأنه تكلم بكلام لا صحة له لينكروا عليه ، فلم يجسر أحد أن يصل إليه إلى أن وقع الإصلاح بينهما. قيل

٣٦٣

وكانت له جرأة على بلديه الشيخ محمد الكواكبي الصوفي.

٦٩٣ ـ صالح بن أحمد الحاضري المتوفى سنة ٩٢٢

صالح بن أحمد بن محمد بن عز الدين محمد الصغير ابن شيخ الإسلام عز الدين محمد الكبير ابن خليل أقضى القضاة صلاح الدين الحاضري الأصل الحلبي الحنفي.

ناب في القضاء بحلب عن قاضي القضاة جمال الدين يوسف سبط ابن آجا الحنفي ، وكان توقيعه الحمد لله رب العالمين. ومات سنة اثنتين وعشرين.

٦٩٤ ـ علي بن سعيد الملطي المتوفى سنة ٩٢٢

علي بن سعيد الملطي.

كان متمولا من أهل الخير ، أنشأ تتمة لجامع الصروي بمحلة البياضة بحلب وجعل بها إماما ومدرسا وطلبة ذوي حجرات ، وجعل المدرس بها شيخنا الشهاب أحمد الأنطاكي ووقف عليها أوقافا جيدة وأحدث له بها مدفنا (١) ، وكان شيخ محلة البياضة أولا ، ثم كان من أجناد الحلقة الحلبية.

وذكر الشيخ خليل الصيرفي أنه كان بيده أقاطيع سلطانية ، فلما جاء أقبردي الدوادار محاصرا حلب وعمل مكحلة عظيمة ليرمي بها على سورها الكائن بالجبيل عمد كافلها جان بلاط إلى أحجار وأخشاب ودفوف كان أخذها الأمير علي لمدرسته ، فأخذها وبنى الحجارة وراء السور المذكور وجعل الأخشاب والدفوف تساتير عليه ، فلما انشقت المكحلة بإذن الله تعالى وعاد آقبردي خائبا ثم كان جان بلاط ممن تسلطن بعد وفاة السلطان قايتباي ذهب إليه الأمير علي وطلب منه شراء شيء من أقاطيعه من وكيل بيت المال لينفقه على مدرسته ، فتذكر ما كان فعله في آلات عمارة المدرسة فقال له : قد كنت عون المسلمين بما أخذناه

__________________

(١) في وسط الجامع من الجهة الشرقية إيوان صغير فيه أربعة قبور أحدها قبر المترجم كتب عليه : هذه تربة منشىء هذا الجامع العبد الفقير إلى الله تعالى علي العلائي بن النجمي ابن سعيد بن يمن الملطي. توفي إلى رحمة الله تعالى يوم الجمعة من شهر شعبان المكرم سنة اثنتين وعشرين وتسعماية من الهجرة.

٣٦٤

من الآلات التي كانت لمدرستك ، والآن قد جعلنا ما بيدك من الأقاطيع لك لتنفقه عليها ، فلما عاد وقف عليها ما سمح له به.

ولما دخل السلطان سليم شاه حلب ومر بالبياضة وذلك في سنة اثنتين وعشرين جلس الأمير علي في أحد شبابيك مدرسته ليراه ويرى عسكره ، فلم يتم اليوم الثاني إلا وقد انتقل إلى رحمة الله تعالى.

٦٩٥ ـ أبو بكر بن أحمد بن السفّاح المتوفى سنة ٩٢٢

أبو بكر بن أحمد بن عمر بن صالح القاضي تقي الدين ابن الجناب الشهابي ابن القاضي زين الدين المعروف بابن أبي السفاح وبابن السفاح المرداسي الحلبي الشافعي كاتب سر حلب وناظر جيشها في آخر الدولة الجركسية.

ولي كلتا الوظيفتين أسوة جده عمر وغيره من الأجداد. وكانت له شهامة ورئاسة وسخاء وسكينة على صمم عنده ونقرس كان يعتريه.

مات مقتولا سنة اثنتين وعشرين ودفن بمقبرة جده بالسفّاحية.

وكان السبب في قتله أنه لما نزل السلطان سليم شاه بن عثمان على حلب تعرض لجماله طائفة من قبيلة زغب فسرقوا منها شرذمة وساقوها ولم ينتطح فيها عنزان ، ثم إن السلطان أبرز أمره لقراجا باشا أول من كفل حلب في دولته ولعبد الكريم جلبي دفتر دارها بأن يتتبعوا السراق ، واتفق أن مدلجا أمير الشام نزل عنده بحلب ومعه فرقة من زغب لم يكونوا من السراق إلا أنهم خافوا على أنفسهم من سطوة السلطان فأرسلوا إلى كافل حلب يطلبون منه الأمان على لسان القاضي تقي الدين بمساعدة مدلج ، فأمنهم فدخلوا حلب بأمانة ومشوا في رد الجمال وطلب الأمان للباقين ، فالتزم القاضي تقي الدين برد الباقين من قبيلتهم ورد ما سرقوه بعد التوجه إليهم متبرعا بالقول. ثم أبدى لعمي قاضي القضاة الكمالي الشافعي ما وقع من التزامه إليهم وهو منشرح الصدر ظنا منه أنه يفي بما وعد به وينال في مقابلته رفعة من قبل السلطان ، فأشار عليه بترك ذلك خوفا عليه من القتل ، فندم على ما صدر منه ، فعاد إلى كافل حلب ودفتر دارها فطلب منهما أن يعفى من هذه الورطة فلم يقبل منه ، فأرسل معه سرية فتوجه إليهم فقتلوه وقتلوا معه جماعة ثم جيء به من المفازة بعد

٣٦٥

هرب القاتلين ودفن بحلب. قيل وكان إذ توجه إليهم على فرس لا يجارى إلا أن المنية حضرت فلم يقدر على سوقها لنقرس اعتراه إذ ذاك رحمه‌الله تعالى.

وكان يقول لخير بك كافل حلب : أنا ملك القضاة كما أنك ملك الأمراء.

وجده أحمد هو الذي ذكره ابن خطيب الناصرية في تاريخه وقال : كان أخي من الرضاعة ، وبنى مدرسة ورتب مدرسا وخطيبا على مذهب الشافعي. وجده عمر هو الذي (ذكره الشيخ أبو ذر في تاريخه فقال :) (١) باع وقف مدرسة أبيه بحلب انتهى.

وقرأت بخط قاضي القضاة محب الدين أبي الفضل بن الشحنة في تاريخه أن هذه المدرسة وتسمى بالسفاحية بناها القاضي شهاب الدين سبط بني السفاح فلم يجعل بانيها من بني السفاح ، قال : ووقفها على الشافعية وشرط أن لا يكون لحنفي فيها حظ إلا في الصلاة انتهى.

وبالجملة فقد كان القاضي تقي الدين من بيت كبير بحلب ينتسبون إلى صالح بن مرداس الكلابي الذي ملك حلب سنة أربع عشرة وأربعمائة وكانت له وقائع ذكرها المؤرخون في محلها ، وهذا البيت يقال لهم تارة بيت أبي السفاح وأخرى بيت السفاح.

قال الشيخ أبو ذر : وهم رؤساء ولهم كرم وإحسان زائد على أهل حلب. ثم أنشد فيهم لابن الخراط :

لا تلمني على هوى حلب الشه

با فشوقي لربعها الفياح

جاد دمعي أبو عيوني بسيح

فعيوني بها بنو السفاح

٦٩٦ ـ السلطان قانصوه الغوري المتوفى سنة ٩٢٢

قانصوه السلطان الغوري ابن عبد الله الجركسي الملك الأشرف صاحب تخت مصر المشهور بالغوري نسبة إلى طبقة الغور بفتح المعجمة إحدى الطبقات التي كانت بمصر مدة لتعليم المؤدبين مماليك السلطان ، أي سلطان كان ، القرآن العظيم. إلا أنه كان قبل أن يتسلطن حاجب الحجاب بحلب ، فلما مات قايتباي سنة إحدى وتسعماية وتسلطن بعده

__________________

(١) ما بين قوسين زيادة من «در الحبب» : ليست في الأصل.

٣٦٦

من السلاطين عدة في قليل من المدة من ولده وغيره وقتل منهم من قتل وبقي منهم من بقي عصى إينال نائب حلب وهو كافلها إذ لم يكن من جملة محبي من تسلطن إذ ذاك ، فورد مرسوم شريف من قبل من تسلطن إذ ذاك بأن يرمى على إينال وهو بدار العدل من القلعة المنصورة بالمكاحل ويقبض عليه ويرفع إلى القلعة ، ففعلوا بعد أن كتب عليه جماعة من الطائعين منهم الغوري طلبا للقبض عليه. ثم ورد الخبر بسلطنة من كان إينال من محبيه ، فأطلق ، فلما أطلق أخذ في قتل جماعة ممن ركبوا عليه وقصد قتل الغوري ، فأحس به ، وكان حسين بن الميداني صاحبه فاحتال له وأخرجه من باب النصر ليلا وخرج معه وكان من أبطال الرجال ، فتوجه الغوري إلى حماة واختفى بها في بيت يهودي إلى أن قتلوا السلطان الآخر الذي كان يخشاه ، فتوجه إلى مصر فصار بها أميرا كبيرا ليس بعد السلطان في المرتبة أعلى منه ، ويعرف في اصطلاح الدولة الجركسية بأمير كبير ، فصار بعض المحدثين والرمالين يهنيه بالسلطنة ، فخرج إلى الصعيد ، وكان من عادة صاحب هذا المنصب أن يخرج إليه ، فقتلوا سلطانه في غيبته وأبرموا عليه في الجلوس على التخت ، فتحاشى خشية أن يقتلوه كما قتلوا غيره فقالوا سرا : اجلس إلى أن نستقر على من تختاره للسلطنة منا ، فعقدت له البيعة وجلس على التخت ، فأبى الله إلا أن يثبت في السلطنة ، فأخذ يتبع القرانصة وذوي الشوكة والقوة من أمراء الجراكسة فيقتلهم شيئا فشيئا ومن بعد منهم عنه كخير بك كافل حلب صار يخشى أن يدس إليه سما فيقتله به.

ثم فشا ظلمه بمصر وصار شيخ مشايخ الإسلام قاضي الشافعية بالديار المصرية زكريا الأنصاري يعرض بظلمه في الخطبة إذ كان يخطب والسلطان يستمع تحت منبره المرة بعد الأخرى ولا يبالي منه ، ثم حصل الإيذاء البالغ لشيخ الإسلام برهان الدين إبراهيم بن أبي شريف الشافعي ، وقد كان إذ ذاك عالم مصر ومدار الفتوى بها عليه بسبب الرجل الذي رمي بالزنا وأقربه بالتهديد والضرب ، ثم أنكر ، ثم أفتى بعصمة روحه وعدم رجمه ، فغضب عليه بسبب ذلك وعزله من مشيخة مدرسته التي جددها بالقاهرة وصلب الرجل على باب شيخ الإسلام حتى جزع الناس له واستعظموا هذا الأمر الشنيع مع مثله ، واستمر في منزله لا يخرج عنه والناس تقصده في أنواع العلوم إلى أن أخذ الله الغوري أخذا وبيلا وتوفي الشيخ بعده ولم يبرح في حال سلطنته في رفاهية من العيش وبلوغ الآمال من المأكل والمشرب والمنكح والمسمع والمحاضرة والمسامرة مع من كان جليسه وأنيسه قاضي القضاة عبد البر

٣٦٧

ابن الشحنة الحنفي مغتبطا بما هو عليه من كونه سلطان الحرمين الشريفين فما دونهما من سائر الأقطار الحجازية وسائر الممالك الإسلامية من المصرية والشامية آمنا ممن يخادعه أو ينازعه في مملكته جليل القدر عظيم الشان ، لو لا ما شاع بها من المظالم وتمسك بلواء ظلمه كل ظالم. وأولا قرب إليه شخصا عجميا كان يهوى عبدا حبشيا له ، فكان يصنع له المعاجين التي بها الكيفية المطربة فيستعملها ولا يبالي بإخلالها بحسن التدبير الذي هو من لوازم الملك ، بل ربما قيل إنه كان يستعمل الحشيشة. وكان العجمي ينسج المودة في الباطن بينه وبين شاه إسماعيل الصوفي صاحب تبريز لاحتياجه إلى ذلك بواسطة أنه كان قد أرهب الغوري في سنة سبع عشرة وتسعمائة إرهابا قصته أنه كان قد قتل صاحب هراة وولده قنبر خان فبعث برأس الأب إلى ملك الروم وبرأس الابن إلى الغوري وكتب للأول رسالة مطلعها هذه الأبيات حيث قال :

نحن أناس قد غدا شأننا

حب علي بن أبي طالب

يعيبنا الناس على حبه

فلعنة الله على العايب

وكتب للثاني رسالة مطلعها هذه الأبيات حيث قال :

السيف والخنجر ريحاننا

أف على النرجس والآس

وشربنا من دم أعدائنا

وكأسنا جمجمة الراس

فرد عليه الأول بهذين البيتين حيث قال :

ما عيبكم هذا ولكنكم

بغض الذي لقب بالصاحب

وكذبكم عنه وعن بنته

فلعنة الله على الكاذب

ورد عليه الثاني بمقاطيع منها هذه الأبيات حيث قال :

السيف والخنجر قد قصّرا

عن عزمنا في شدة الباس

لو لم يمازج حلمنا بأسنا

أفنى سلطاننا سائر الناس (١)

__________________

(١) عجز البيت مكسور ، ولعل الصواب : أفنى سطانا ، والسطا بمعنى السطوة والسلطان ، ولم تذكرها المعاجم على أنها وردت في أشعار العهد العثماني.

٣٦٨

وهذان البيتان للشيخ برهان الدين ابن أبي شريف وهما أحسن ما قيل في الرد.

ولما أن بادره قديما ملك الروم السلطان سليم شاه وكسر عسكره وفر هو منه فدخل تبريز قهرا عليه ، وكان معه الشيخ شمس الدين الواعظ المشهور بمنلا عرب الآتي ذكره ، فوعظ بها الناس وأفصح بأعلى لسان على مذمة الشيعة ، ثم عاد إلى تخته.

ثم صمم عزمه كرة أخرى فخرج من القسطنطينية لمبارزته ، فبلغ الغوري ذلك فهم بالنزول إلى حلب قصدا منه في الظاهر إلى الإصلاح بينهما وفي الباطن إلى إعانة شاه إسماعيل عليه خوفا منه على ملكه من السلطان سليم شاه ، فوصلت أوائل عسكره إلى حلب في أوائل سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة ، ثم لم تزل تتوارد شيئا فشيئا إلى أن وصل هو بخواصه وباقي عسكره فدخل حلب يوم الخميس عاشر شهر جمادى الآخرة من السنة المذكورة من باب المقام متوجها إلى الميدان الأخضر في موكب عظيم وأبهة زائدة ومعه جم غفير من الأمراء ومقدمي الألوف وعدتهم كما سمعنا ستة عشر مقدم ألف وصحبته القضاة الأربعة والخليفة المتوكل على الله العباسي وجماعة من مشايخ الصوفية ذوي الأتباع بما معهم من الأعلام وخير بك كافل حلب بجواره القبة والطير ، فنزل بالميدان المذكور. ثم حضرت إليه وهو بحلب كفّال مملكته بعساكرها.

والعجب أنه منذ خرج من التخت لم يشك أحد ممن يشتكي إليه (١) من ظلم كفّاله ، بل ضرب من شكا إليه من ظلم بذاق كافل حمص ورد من شكا إليه من ظلم سيباي كافل دمشق ، وكان من ظلمه أنه أحضر رجلا وامرأته فقال : بلغني أنك زنيت بها ، فقال له : من يدعي عليّ؟ فقال : أنا ، فقال : إنها بكر وهي زوجتي ، فقال : لا أعرف ذلك ، وأخذ ماله. وكان اللائق به أن ينشر معدلته ويطوي مظلمته ويجلب إلى حبه القلوب ويأخذ فيما هو عند الرعية أمر مرغوب.

وكان السلطان سليم شاه قد عجب من أخذه في النزول إلى حلب إذ لم يبد له عنده سبب ، فأرسل إليه قاضي عسكره زيرك زاده وقراجا باشا بهدية ليكشفوا له حقيقة أمره ، فما استقر هو في حلب إلا وقد وردا ووفدا عليه فأكرم مثواهما ، ثم إنهما اجتمعا به وحده فألانا له القول مخادعة ، فظن أنه على شيء تم به وبالخليفة ، فطلب الصلح بين مرسلهما

__________________

(١) في مطبوعة در الحبب : ... لم يشك أحدا ممن شكا إليه ..

٣٦٩

وبين شاه إسمعيل ، فضمنا له ذلك وهو لم يدر ما هنالك ، ثم جهل فبعث مع رسول خفية إلى شاه إسماعيل كتابا يتضمن إني معينك عليه وممسك قطري حذرا من أن يغزو (١) إليه ، فظفر السلطان سليم شاه بكتابه بعد أن رد إليه رسوليه ردا جميلا ، فهم بمبارزته ، وصار الغوري بعد ردا في اضطراب هو وجميع عسكره ، فأرسل كرتباي لكشف الأخبار فعاد هاربا يخبر ببلوغ السلطان سليم شاه إلى حد المملكة الغورية وتسليمه بالأمان مثل عينتاب والبيرة وملطية وغيرها ، فنادى بالرحيل لمبارزته. ورحل في النصف الأخير من رجب من السنة المذكورة إلى مرج دابق وصحب معه أيضا قضاة حلب إلّا عمّي الكمال الشافعي فإنه تمارض فتخلف بها ، وصحب معه جماعة من الصوفية منهم الخاتوني ومعهم الربعات والأعلام ومظهرا أنه بصدد الإصلاح بين السلاطين ، وصار الذباب يعلو ظهور عسكره عن كثرة زائدة يوم رحيل عسكره عن حلب حتى تفطن له الناس وتطيروا من ذلك حتى كان ما كان من انكسارهم. فلما وصل بمن معه إلى المرج مشرفا على الهرج والمرج عرض عليه عسكره فاستقله واشتدت مخافته ، ثم وقعت به مكيدة هي أنه ربط في ليلة من الليالي سطل أو جرص من النحاس في ذنب فرس وأطلق عليهم راكضا وهم نيام فأفزعهم بحيث ظنوا إلمام عدوهم بهم ، فعند ذلك طلب وضوءا فتوضأ وفرسا فأحضر له فاستصعب عليه فبدله بغيره فركبه وسار إلى أن التقي الجيشان وقامت الحرب على ساق وثار الغبار وارتفعت أدخنة المكاحل الرومية في سائر الأقطار ، فأمر بضرب خيمة ليقضي بها الحاجة فمنعوه ، فأمر برفع المصاحف على رؤوس الرجال وجعل يعض على إصبعه إلى أن اضطرب فرسه من هول المكاحل فلاقى قربوس السرج أنثييه وكان بهما قيل فسقط مغشيا عليه فنقله بعض خواصه إلى مكان عزلة فمات به فتركه فيه ولم يظهر خبره. وقيل إنه سقط ميتا موت الفجأة ، فتمزق عسكره وتفرق ووقع به السفك والفتك وذلك في الخامس والعشرين من الشهر المذكور.

ثم دخل حلب من بقي من عسكره في اليوم الثاني فما بعده ليلا ونهارا ، ووقع الرأي بعد وصول خير بك ودخوله دار العدل على توجهه وتوجه من بقي إلى الشام ، فتوجهوا وتحقق أوباش الناس وفاة سلطانهم فأوقعوا النهب فيمن تخلف عن التوجه إلى الشام ، ودخلوا

__________________

(١) في «در الحبب» : يفر.

٣٧٠

دار العدل فنهبوها وقتلوا من قتلوا ، وكان ممن فقد من عسكر الغوري كافل دمشق وكافل طرابلس وكافل حمص في خلايق لا يحصون عددا.

ثم في نهار الجمعة سلخ الشهر المذكور نزل السلطان سليم بمخيم الغوري بعد أن غارت مياه قناته كما تنكس صدر قناته ، ثم صلى بجامعها الأعظم بعد أن نادى بالأمان وتسلم قلعتها بالأمان ا ه. وتقدم في الجزء الثالث تفصيل هذه الوقائع.

٦٩٧ ـ محمد بن الحسين الداديخي المتوفى سنة ٩٢٣

محمد بن الحسين الداديخي ثم الحلبي الشافعي ، أحد شيوخ حلب في علم القراءة أخذه عن مغربي كان بقرية داديخ ثم برغ فيه وفي غيره ، وممن أخذ عنه البازلي بحماة ثم البدر السيوفي بحلب وهما أجل شيوخه. ثم كان يشغل الطلبة في فنه بجامع عبيس مع تأديب الأطفال به. توفي سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة.

٦٩٨ ـ إبراهيم بن علي بن الخواجه قاسم المتوفى سنة ٩٢٣

إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن قاسم الحلبي المعروف بابن الخواجه قاسم.

توفي سنة ثلاث وعشرين. وكان أحد أعيان التجار بحلب ، وكانت له أوقاف جليلة من قرى وحوانيت وغيرها ودنيا واسعة وشهامة زائدة ومكانة عند أرباب الدولة ، حتى كان بعض كفال حلب يأتي إلى منزله وإلى جنينته الكائنة بمحلته محلة المشارقة وهي التي كان إليها سرداب من داره برسم حريمه لأن كان متزوجا بإحدى قرائب الأميري الكبيري الكافي الفخري عثمان بن أغلبك. وكان خلائق شتى يأكلون من خيره إلى أن انحل عقده وانفصم عقده فباع كثيرا من الأوقاف الجارية عليه ولم يبق معه الدرهم الفرد ، حتى أدركته وعليه صوف أسود كستموني وهو في حيرة من نفسه.

قيل : وكان السلطان جقمق الجركسي مملوكا لأحد أجداده قبل أن يتسلطن ، فلما تسلطن أقبلت عليه الدنيا بواسطته وسأله في رفع مكس الزيت بحلب فرفعه حتى نقش رفعه بجدار الجامع الكبير بها أسوة مظالم أخرى كانت قد رفعت بحلب ، فنقش رفعها به.

٣٧١

٦٩٩ ـ أبو بكر بن عبد البر بن الشحنة المتوفى سنة ٩٢٣

أبو بكر بن عبد البر بن محمد أقضى القضاة سري الدين ابن قاضي القضاة محب الدين أبي الفضل بن الشحنة الحلبي الأصل المصري المولد الحنفي.

قدم حلب في ركاب السلطان الغوري سنة اثنتين وعشرين. وكانت تغلب عليه طريقة أمراء الجراكسية في اقتناء جياد الخيل والإلمام بالصيد واللعب بالرمح ونحوه ، بل كان يتكلم باللسان الجركسي كواحد منهم ، وتراه على ظهر فرسه كأنه الألف مع ما عنده من الشهامة وأبهة طول القامة والبقاء على أسلوب سلفه في الملبس والعمامة.

مات شهيدا كأخيه قاضي القضاة حسام الدين محمود فيمن قتلهم السلطان طومان باي سنة ثلاث وعشرين ممن أرسلهم إليه السلطان سليم بالأمان إذ كان طلب منه الأمان فبغى وقتلهم إلا من سلم منهم.

٧٠٠ ـ عبد الله الإربلي البويضاتي المتوفى سنة ٩٢٣

عبد الله بن محمود الإربلي ثم الحلبي البويضاتي.

توفي سنة ثلاث وعشرين.

وكانت له حانوت بسويقة علي يقلو بها البيض والباذنجان في أوله ويصطنع الحموضات والملوحات بها ويقصده كثير من العوام ليأكلوا عنده وينبسطوا بما عنده من النوادر والحكايات والهزليات المضحكة والمقاطيع الموردة بحسب اختلاف مشارب الواردين إليه والوافدين عليه ، وكان له أخ يشبهه في المضحكات القولية حتى اتفق له أنه لما دخل السلطان الغوري حلب وقعت الفتنة بين فرقتي حوّ وحاس وهما فرقتان متعاديتان من أوباش المصريين كقيس ويمن ومثلهما ما كان بحلب في دولة الجراكسة من قيس وجناب ، فإذا واحد من أحد الفريقين سكران وارد من حارة اليهود وقف على رأسه وهو بالسويقة المذكورة المجاورة للحارة المذكورة وقال له : أنت من حوّ أو من حاس؟ فخشي أن يوقع به فعلا يؤذيه إذ قال : أنا من حوّ لاحتمال أنه من حاس أو قال : أنا من حاس لاحتمال أنه من حوّ ، فقال له : يا أخي ، إني عن قريب كنت يهوديا وأسلمت ، وإلى الآن ما دخلت في حوّ ولا حاس ، فمن أي فرقة أكون؟ فقال له : كن من فرقة كذا ، وخلى سبيله.

٣٧٢

٧٠١ ـ محمد بن يوسف بن الأقرب المتوفى سنة ٩٢٣

محمد بن يوسف بن علي بن الشيخ المعدل شمس الدين المقري المصري الأصل الحلبي الدار الحنفي المعروف بابن الأقرب ، وربما قيل له ابن عقرب على وجه التحريف والصحيح الأول لما أنه كان ابن زوجة الشيخ المعدل شهاب الدين أحمد بن الأقرب الموقع بمحكمة العلاء بن جنغل المالكي الحلبي وولده العفيف في أوائل ولايته وأحد المنتسبين إلى العلامة الشروطي محمد بن عثمان بن عبد المؤمن بن الأقرب الحلبي صاحب الكتاب المشهور في الشروط.

كان الشيخ شمس الدين في بداية أمره يتعاطى التجارة ، فاستدان منه القاضي كمال الدين ابن المعري الحلبي حمل ثياب موصلية ليستعين به على ولاية كتابة سر حلب وهو بالقاهرة فلما تولاها من قبل السلطان وتعين عليه ألا يقيم بالقاهرة بعد أن تولاها كما هو العادة قيل للسلطان إنه أقام ببولاق ، فعزله بنفيه إلى الإسكندرية ، فاستمر بها إلى أن مات فيما ذكره ، فتضعضع حال الشيخ شمس الدين فأخذ في صنعة الشهادة والتوقيع فوقع بمحكمة جدي الجمال وعمي النظام الحنبليين.

وكان خطيبا بالجامع الأموي بحلب نيابة. توفي سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة.

وقد أنشدني ولد عمي القاضوي الجلالي جلال الدين قال : أنشدني الشيخ شمس الدين موقع والدي لبعضهم في ذم التزويج حيث قال :

رب ذئب أمسكوه

وتمادوا في عقابه

ثم قالوا زوجوه

وذروه في عذابه

٧٠٦ ـ محمد (١) بن عبد البر بن الشحنة المتوفى سنة ٩٢٣

محمد بن عبد البر بن محمد قاضي القضاة حسام الدين ابن قاضي القضاة سري الدين ابن قاضي القضاة محب الدين أبي الفضل ابن الشحنة الحلبي الأصل القاهري المولد الحنفي.

ولي قضاء حلب ، ثم كان آخر قضاة الحنفية بالقاهرة المعزية في الدولة الجركسية

__________________

(١) في «در الحبب» : محمود.

٣٧٣

الغورية ، ثم قتل شهيدا في سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة بواسطة أنه لما هرب السلطان طومان باي المنتصب بعد السلطان الغوري إلى الصعيد بعد وقعتين كانتا بينه وبين المقام الشريف السليمي وطلب الأمان منه أجابه فأرسل إليه الأمان قاضي القضاة حسام الدين وبعض رفقائه في القضاء ، فبغى عليه وقتله وغيره ممن كان معه إلا من سلم.

٧٠٣ ـ يونس بن يوسف الهمداني المتوفى سنة ٩٢٣

يونس بن يوسف ابن الشيخ إدريس الحلبي ثم الدمشقي الشافعي الصوفي الهمداني شرف الدين.

لبس الخرقة الهمدانية وتلقن الذكر من السيد عبد الله التستري الصوفي الهمداني وصار له أتباع كثيرون يتداولون الأوراد الفتحية بالمدرسة الرواحية بحلب بعد وفاته كما كان قبلها ، وبقي تداولها إلى وفاة مريده الشيخ محمد بن مغلباي في آخرين من مريديه ثم كان تركها.

وكان السبب في كثرة مريديه مزيد ظلم بحلب أفضى إلى أن كثيرا من المتهمين والدعار اتبعه ، وصار إذا صدر منه فساد وقبض عليه كافل حلب استشفع به ، فساء ذلك كافل حلب فبلغه فلم يسعه المكث بها ، فهاجر منها إلى دمشق.

وهو ممن ذكره شيخنا جار الله بن فهد المكي في معجم الشعراء فقال : أخبرني أن مولده سنة سبع وستين وثمانمائة بمدينة حلب وأنه اشتغل عليه جماعة في عدة علوم ، وتوجه إلى مكة ثلاث مرات حج وجاور في حدود الثمانين وسمع بها الحديث على شيخنا الحافظ السخاوي والإمام محب الدين الطبري ، وقرأ على ولده الإمام أبي السعادات في النحو. ثم سكن دمشق واجتمعت به فيها في سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة ، إلى أن رآه ساكنا في دار الحديث. ثم قال : بلغني أنه مات في يوم الاثنين عشرين من شهر شعبان سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة بدمشق ودفن بها. انتهى.

وقد بلغني أن شخصا كان يدعى أحمد الصباغ أحاله رجل على يهودي بمال ، فأنكر اليهودي الحوالة ، فأراد أحمد ابن الشيخ شرف الدين المساعدة فبعث إلى جدي قاضي القضاة جمال الدين الحنبلي شرذمة من مريديه يذكرون له أن لأحمد بينة ، ثم حضر أحمد وادعى فأنكر اليهودي فطلبت منه البينة فقال : لا بينة لي ، والشرذمة المذكورة حاضرة في مجلس

٣٧٤

الدعوى ، فلما لم يطابق قوله قولها أخذت تقول : هذا اليهودي يصدق والمسلم يكذب ، فأغلظ جدي عليها القول قائلا : متى تحصرمتم حتى تتزبزبوا (١) ، فمضوا وأخبروا شيخهم ، فكتب إلى جدي رقعة أغلظ فيها القول عليه على قصور في ألفاظه ، فأجابه بما حاصله بعد الحمد لله : أما بعد فإني أطالع مسامعكم المباركة بورود رقعتكم على الفقير مشتملة على ألفاظ منمقة وحشمة زائدة وإرشاد كامل ونصح بالغ كما هو مثبت في لوح قلبكم ، وأشرتم إلى أنكم أردتم أن يحمل منكم سلام إلى حضرة العبد الضعيف فأقمتم مجرد الإرادة مقام السلام ، ثم ثنيتم بقولكم : وعامة فحول الرجال وخاصتهم إذا خرجوا بشيء لله قولا كان أو فعلا لا يخلطوه بشيء يناقضه ، وهذه شيمة فتيان سادة الصوفية الذين استحقوا مراتب الإرشاد علما وعملا ، فهذا تحصيل حاصل ، وأما قولكم : إن الفقير (٢) عظّم فقراءكم المرسلين إليه في بداية الأمر غاية التعظيم ، ثم قولكم : ثم أردفتم المجلس بالألفاظ التي ما وردت لا عن أهل الشريعة ولا عن أهل الطريق وهي في غاية القبح من مثلكم عند ذوي البصائر حيث نسبتم إلى الشيخوخة وما سمعها من أطفال الطريق ، فالجواب أن الفقراء لما لم يطابق قولهم الصدق ثم شرعوا يقولون ما قالوا عرفهم الفقير أنه لا يعطى أحد بمجرد دعواه وأغلظ لهم القول لما عرّجوا عن الطريق ، ثم نموا عندكم ما أرادوا وكفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ، ثم إنكم قلتم : ما سمعتم قضية التحصرم والتزبزب (٣) ، فقد قال الناس أبلغ من ذلك وهو :

أعاذك الله من شيوخ

تمشيخوا قبل أن يشيخوا

وأحدودبوا وانحنوا رياء

فاحذرهم إنهم فخوخ

إلى غير ذلك. والله يعلم المفسد من المصلح.

٧٠٤ ـ رمضان بن خضر (٤) المتوفى ما بين ٩٢٢ ـ ٩٢٧

رمضان بن خضر بن محمد بن عبد الله أبو الفتح فتح الدين المنوفي الشافعي نزيل حلب.

__________________

(١) في در الحبب : تتزببوا.

(٢) في الأصل : وأما الفقير ، وهو خطأ.

(٣) في در الحبب : التزبب.

(٤) في در الحبب : نصر.

٣٧٥

تعاطى صنعة الشهادة وجلس بمركز العدول داخل باب النصر بها ، وكان لفرط ديانته لا يشهد على امرأة ، وربما كتب بخطه في الوثايق فتح الله رمضان ، وكان فتح الله لقبه. ومما اتفق له أن واحدا من رفقائه في الشهادة دس عليه في بعض الوثائق أن صحف كلمة فتح بقبح بقاف وموحدة وحاء مفتوحات ورفع الجلالة ، فلما رفع الوثيقة إلى القاضي الذي قصدا أن يؤديا عنده الشهادة نظر فإذا فيها ما فيها ، فقال له : ما هذا الذي كتبت بخطك؟ فلما رآه اضطرب اضطرابا شديدا وعلم أن ذلك من رفيقه بطريق العبث به ، فأخذ في القدح فيه حتى أضحك الحاضرين.

وكان مشهورا بالميل إلى العظيم من كل شيء ، فكانت عمامته عظمى وأكمامه في غاية الاتساع وجبته المصقولة في نهاية الصقالة وقبقابه في غاية الارتفاع ، وله دواة تناهز برنية صغيرة وقلم من القصب الفارسي وخط غليظ ، وكان له السخاء الزائد حتى كان يستعمل له عند الخباز رغفانا كبارا ولا يقنع بالرغفان المعتادة. ثم افتقر عند اضمحلال الدولة الجركسية لبطلان مكاتب العدول بحلب في الدولة الرومية وصار يلبس الكينك (١) في آخر عمره ويقنع بما له من معلوم الخطابة بالمدرسة السلطانية تجاه قلعة حلب ، إلى أن توفاه الله تعالى بين سنة اثنتين وعشرين وسبع وعشرين.

٧٠٥ ـ أحمد بن علي المشهور بابن الصوا المتوفى سنة ٩٢٤

أحمد بن علي بن إبراهيم الشيخ شهاب الدين ابن علاء الدين الباعوزي الأصل من باعوزا ، قرية من قرى الموصل ، الحلبي المولد والدار الشافعي المعروف بابن الصوا الأديب الشاعر المشهور أبوه بالصّغيّر (بالتصغير) ابن أخي خوجه شمس الدين محمد بن الصوا وكيل السلطان بحلب الذي أحرقه أهلها.

كان يتردد إلى شيخنا العلاء الموصلي ويناشده الأشعار ويعرض عليه بعض ما نظمه ، فأنشده ذات يوم أبياتا التزم فيها واوين في صدر كل مصراع وعجزه قائلا في مطلعها :

وواد به الغيد الحسان قد استووا

وورد ظباء الحي في ظله ثووا

ووافوا به من مهجتي في الهوى حووا

وولوا وعن عهد المحبين ما لووا

__________________

(١) الكينك : كلمة تركية معناها : القميص الداخلي.

٣٧٦

فناقشه في إعادة ضمير من يعقل وهو الواو إلى ما لا يعقل أعني ظباء الحي فلم يهتد إلى الجواب بأن المراد بظباء الحي الأحباب ، ولئن سلم أن المراد ظباء الصحراء فهذا من باب تنزيل ما لا يعقل منزلة من يعقل لشبه بينهما.

ومن عجيب نظمه قوله في جارية سوداء أمجرية وكان يهوى الجواري الحبش :

هويتها أمجرية قدّ

أضنت فؤادي ولم تواصل

كأنها البدر في الدياجي

أو هي كالشمس في الأصائل

وأنشدني له ولده الشيخ جمال الدين يوسف في نواعير حماة :

تفرج في نواعير وماء

على واد به خضر المروج

كأفلاك تدور على سماء

وأنجمها تخر من البروج

وأنشدني الشيخ شهاب الدين وقد ذكروا شعراء دمشق وما لها من زهر ونهر ، ومحاسن حلب وما بها من عوجات السعدي وغيرها :

لقد سبقت شهباؤنا كل سابق

إلى الحسن وامتازت على الزهر بالوردى

وفيها لنا باب الجنان وحورها

بفردوسها يرتعن في فلك السعدي

ومن شعره :

وعيشك ما الدنيا سوى ستر عورة

وبيت بها يأويك أو سد جوعة

فلا تتعبن النفس فيها لأجلها

فتوقعها في هلكة بعد هلكة

ومن شعره مع التضمين ما وجده ابن السيد منصور منقولا عنه :

بروحي تيّاه إذا رمت لثمه

فخلت جنىّ الورد في غير حينه

يخيّل من فرط الحياء لناظري

كأن الثريا علّقت في جبينه

وقد اجتمع به شيخنا جار الله بن فهد المكي في رحلته إلى حلب في سنة اثنتين وعشرين وذكره في معجم الشعراء الذين سمع منهم الشعر وأنشد له :

روحي الفداء لذي لحاظ قد غدت

بسوادها البيض الصحاح مراضا

كالغصن قدا والنسيم لطافة

والياسمين ترافة وبياضا

٣٧٧

وكانت وفاته بالحريق في داره سنة أربع وعشرين.

٧٠٦ ـ محمد بن أبي بكر الحيشي المتوفى سنة ٩٢٤

محمد بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر بن نصر بن عمر بن هلال الشيخ قوام الدين أبو يزيد الحيشي الأصل الحلبي الشافعي الماضي ذكر أبيه.

توفي في حياة أبيه في شوال سنة أربع وعشرين وتسعمائة ، وهو الذي صلى عليه إماما بالجامع الأعظم في مشهد عظيم ، ثم كان الخروج بجنازته من باب الجنان لدفنه بتربة أسلافه المشهورة بالأطعانية ودفن بجوار الشيخ محمد الأطعاني.

وكان عالما فاضلا مناظرا له حدة في مناظرته ذا ذكاء وحفظ عجيب.

درس بالجامع الأعظم عند محرابه الأعظم ، وربما كنت أحضر درسه. وكان قديما يعظ الناس بصحنه تارة بغربي الصحن وأخرى بشرقيه ويوضع له إذ ذاك علمان بجانب كرسيه كما كانا يوضعان للشمس المقدسي الواعظ حين يعظ بصحنه أيضا.

قال لي شيخ الشيوخ الموفق بن أبي ذر : وكان يأتي في مواعيده بنوادر الفوائد ، ولو عاش كانت له الحظوة التامة بحلب لما كان له من الحفظ والذكاء المفرط. قال : ومن عجيب شأنه أنه سرد يوما النسب فأورده طردا وعكسا.

وكان رحمه‌الله تعالى صوفيا بسطاميا كأبيه يلف على رأسه المئزر مع إرخاء العذبة مراعيا للسنة فيها.

وذكر السخاوي في «ضوئه» أنه حفظ الشاطبية وعرضها بحلب سنة ثلاث وثمانين وثمانمائة ، وسافر مع أبويه إلى بيت المقدس وعرض أماكن منها ، ومن الرائية على إمام الأقصى عبد الكريم بن أبي الوفا في سنة خمس وثمانين وثمانمائة ، ثم جاور بمكة سنتين واشتغل بها. قال : وسمع مع أبيه عليّ ومني أشياء.

زاد الزين الشماع في «قبسه» فقال : وقد ترقى واشتغل بعد عوده من مكة بحلب على عالمها الشيخ بدر الدين حسن السيوفي فبحث عليه الإرشاد لابن المقري بقراءته ، وسمعت بعض الدروس منه بجامعها الأعظم وقرأ الميعاد به. وكان يجتمع عنده كثير من

٣٧٨

العوام والنساء ، ثم رغب بأخرة عن ذلك بل عن حضور الجامع في الغالب ولزم الانجماع تارة بمنزلة وتارة تحت منارة الجامع وأعرض عن لبس الثياب الجميلة التي كنا نشاهدها من عادته بالنسبة إليه. انتهى.

وكانت شهرته الشيخ قوام الدين بكنيته دون اسمه ولقبه.

٧٠٧ ـ البدر حسن السيوفي المتوفى سنة ٩٢٥

حسن بن علي بن يوسف الإربلي الأصل الحصكفي الحلبي الشافعي الشيخ بدر الدين خاتمة الشافعية المعروف بابن السيوفي.

ذكره السخاوي في الضوء اللامع فقال : ولد تقريبا في سنة خمسين وثمانمائة بحصن كيفا ، وقرأت بخطه أنه قرأ كتاب الشاطبية والقراءات بمضمونها على شيخ القراء أبي محمد سليمان بن أبي بكر بن المبارك شاه الهروي ، وهو على الجلال أبي عبد الله يوسف بن رمضان ابن الخضر الهروي ، وهو على ابن الجزري ، وللأربعة عشر على الزين جعفر السنهوري بالقاهرة ، فإنه قدمها ولكن قال شيخه إنه لم يقرأ عليه إلا ثمن حزب أو دونه. وأخذ حينئذ على الشمس الجوجري في الفقه وغيره يسيرا ، وعن الخضيري رواية ، وكذا قرأ بعض السبع على أبي الحسن الجبرتي نزيل سطح الأزهر ، والشاطبية على الشمس السلامي الحلبي بها ، وعنه أخذ الفقه والحديث فقط عن أبي ذر ، وأصول الدين والمنطق والمعاني والبيان عن الشيخ علي قل درويش ، وأخذ أيضا عن الكمال بن أبي شريف وكذا عن البقاعي ظنا. وتميز وأقرأ الطلبة وربما أفتى ، وتنافس في مباحثة مع عبد النبي العربي حين قدم عليهم حلب. انتهى كلامه بحروفه.

قال الزين الشماع في قبسه : وهذه الترجمة لم يف بها صاحب الأصل للمترجم حقه بل سكت عن الكثير مما قرأه وسمعه ، ولعل ذلك لعدم اجتماعه به أو لقلة مخالطته ، والظاهر أنه لم يسمع كلامه الرائق ، ولم يشهد بحثه الفائق ، ولم يقف على تحقيقه ونظمه ونثره ، أو لعل ذلك حصل من قبل صاحب الترجمة ، فقد كان رحمه‌الله تعالى في بعض الأحيان يخفض قدر من ذكر عنده ولا يرفعه ، فلذلك وقع ما وقع في ترجمته من الانتقاد والإجحاف والخلل. وقد شاع في الطروس أن المجازاة من جنس العمل وإلا فهو شيخ بلدتنا الشهباء

٣٧٩

على الإطلاق ، ولم نر بها من يجاريه في مجموعه من القاطنين والواردين في حلبة السباق.

قرأ الحديث بحلب وغيرها من البلاد كدمشق والقاهرة ومكة ، وقد سمعت ذلك من لفظه غير مرة ، وقد أملى جملة ما قرأه وسمعه وألفه بلفظه العذب الشهي على صاحبه المحدث المفيد محب الدين جار الله ولد شيخنا العز بن فهد الهاشمي المكي ، فمنه كما شاهدته أثبته في معجمه فسح الله في مدته ونفع به ، وأن شيخنا صاحب الترجمة أخبره أنه ولد في سنة إحدى وخمسين وثمانمائة بمدينة حلب ونشأ بها وحفظ القرآن العظيم والمنهاج للنووي والإرشاد لابن المقري كلاهما في الفقه ، وألفية العراقي في الحديث ، والسيرة النبوية ومنهاج البيضاوي في أصول الفقه ، والشاطبية في القرآن ، وكافية ابن الحجاب وألفية ابن مالك كلاهما في النحو ، والطوالع للبيضاوي في الأصول ، والشمسية في المنطق ، وتصريف العزي في الصرف. واشتغل بالعلوم على جماعة فأخذ القراءات عن الشيخ جعفر السنهوري والشيخ علي الجبرتي والشيخ سليمان الهروي ، والفقه عن الشمس السلامي ، وسمع بعض الإرشاد على الشمس الجوجري ، وبعض الحاوي على الكمال ابن أبي شريف ، وأخذ عن الشيخ علي قل درويش شرح المواقف وشرح العضد في أصول الفقه وشرح الطوالع وشرح المقاصد ، وأخذ عن مولانا زاده الجرخي السمرقندي التفسير للقاضي البيضاوي ، وعن الشيخ ابن السلامي ألفيتي ابن مالك وابن معطي ، وعن الشيخ أبي ذر إعرابه للمنهاج ، وعن الشيخ نصر الله الكافية لابن الحاجب.

وسمع الحديث عن الشيخ أبي ذر فقرأ عليه صحيح البخاري ومسلم والشفا للقاضي عياض وغير ذلك ، وقرأ على الشيخ ابن السلامي الصحيحين وشرح ألفية العراقي.

وحج في سنة ست وستين وثمانمائة وأخذ بمكة عن التقي بن فهد وعن البرهان البقاعي سنة إحدى وثمانين ، وأخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن خليل الأذرعي سنة سبع وستين فسمع عليه بعض تأليفه : «بشارة المحبوب بتكفير الذنوب» وأجازه جماعة بالإفتاء والتدريس. ثم قال صاحبنا : وانتفع الناس بدروسه وإفادته وصار شيخ بلده مع التحقيق والديانة والإعجاب بنفسه وكثرة الدعوى والمشاححة لطلبة العلم في الألفاظ والفتيا. انتهى ما نقلته من قبس شيخنا (الزين الشماع).

وما ذكره من أن البدر السيوفي كان يخفض في بعض الأحيان قدر من ذكر عنده فصحيح ، حتى إنه كان يتعرض إلى الشيخ جبريل والشيخ إبراهيم العمادي وغيرهما من

٣٨٠