إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

طائر على قبة بركة جامع حلب قال : إن هذا رسولي أتاني يخبر بكذا ، ويكره سماع اليراع وينفر إذا سمعه في مقام السماع ، وإذا اجتمعت عنده مآكل متنوعة خلط بعضها ببعض ولو مع المنافرة بينها ، فقيل له ذلك فقال : إن الكل يجري في مجرى واحد. وربما نسبت إليه مكاشفات ومع هذا فقد كان متهما بمحبة النظر إلى الغلمان.

ولما قرب من الموت أوصى أن يدفن عند رجل رجل من أولياء الله تعالى مدفون بقبور الصالحين يعرف بالجمال كان من شأنه البلاهة واختلاط العقل في نظر الناس ، إلا أنه اتبع ذات يوم مع نسبته إلى ترك الصلاة فإذا هو قد وصل إلى عين مباركة فنزع ما كان عليه من لباس قبيح مشكوك في طهارته ولبس ثوبا آخر وهو غائب عن أعين الناس ، فصلى. ومما دل على سذاجة الشيخ حسن أو ظرافته ما أخبرني به الشهاب أحمد ابن الشيخ حسين البيري أنه أرسل إلى أبيه يطلب منه أن يعوده لمرض حل به ويحضر معه فلانا البيطار ، قال : فعجب والدي من ذلك لتجرد الشيخ حسن عن الخيل والبغال ، قال : فعاده والدي والبيطار معه فذكر له أن ظهره يؤلمه وأن طبعي من طبع الحمير ولا يعرف طبعها إلا البيطار ، فوصف له ذلك البيطار ما يليق من الدواء وفارقه. وكانت وفاته سنة سبع أو ثمان.

٦٦٧ ـ خليل الله اليزدي المتوفى سنة ٩٠٨

خليل الله بن نور الله اليزدي الشافعي تلميذ ملا علي القوشجي.

حل بحلب فأكب على القراءة عليه جماعة منهم الشمس السفيري ، وكتب على الفتوى وكان يختمها بخاتم له على طريقة الأعاجم ويخطىء البدر السيوفي في فتاواه وهو مصيب.

قيل : وكان يفتي من الرافعي الكبير بقوة المطالعة ، وكانت له مواعيد حسنة تجاه محراب الحنابلة بالجامع الأعظم بحلب ، وألف بها (رسالة في المحبة) على أسلوب الصوفية يستشهد فيها بأبيات من تائية ابن الفارض ذاكرا في ديباجتها أنه لما سئل عن (تنوير مصباح المحبة) وإيضاحها بتعريف يفهمه الصغير والكبير ولا يخالفه الألمعي النحرير ، فعلى قدر قدر السائل أتاه بجمرة من نيران آنس بها من جانب طور العشق والحيرة ، واقعة في قلب الشجرة المتعلقة بهبوب رياح الهوى في بيداء الفكرة والغيرة.

ووضع رسالة أخرى بين فيها نكتة التثنية في قوله تعالى (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُ

٣٤١

الْمَغْرِبَيْنِ)(١) مع الأفراد في قوله تعالى (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)(٢) وكذا نكتة الجمع في قوله تعالى (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ)(٣). ورسالة أخرى سماها «رسالة الفتوح في بيان ماهية النفس والروح» جعلها تحفة مهداة لدولتباي الجركسي كافل حلب ، وكأنه قصد استرفاده بها ولوح بذكر الفتوح في اسمها إلى الغرض من رسمها. وقد وقفت أنا على هذه الرسالة فإذا بها حكاية اتفاق الفلاسفة والغزالي وكثير من متأخري المتكلمين على أن النفس الناطقة مجردة وهي غير الروح ، وحكاية أن كثيرا من المتكلمين ذهبوا إلى أنها مادية وهي عين الروح ، ونقل فوائد عن الرازي منها أن الشيء الذي يشير إليه كل أحد بقوله أنا مغاير للشيء الذي يشير إليه كل واحد إلى غيره بقوله أنت ، قال الرازي : وذلك لأني إذا أشرت إلى تفسير قولي أنا فالمشار إليه ليس هو البدن ولا جزءا من أجزاء البدن ، لأني حال ما أكون شديد الاهتمام بتحصيل إدراك أو بتحصيل فعل فإني أقول : أنا فعلت كذا ، وعندما أقول هذا يكون المشار إليه بقولي أنا حاصلا في ذهني لا محالة مع أني في تلك الساعة أكون غافلا عن بدني وعن جميع أجزاء البدن ، وأما الذي أشير إليه بقولي أنت فليس إلا هذا البدن ، لأن المشار إليه بقولي أنت ليس إلا ما أدركه ببصري ، وما ذاك إلا هذا الجسم المخصوص. هذا كلامه فيما نقله عنه ، وهو غريب في الفرق بينهما ، إذا قد ينسب إليها شيء واحد مما لا تليق نسبته إلى ذلك الجسم المخصوص أو مما يليق ، فيكون الحكم بأن أحدهما هو دون الآخر تحكما لا يعتد به.

وكانت وفاته سنة ثمان وكافل حلب برسباي الجركسي ، فحمل سريره ودفن بتربة السفيري خارج باب المقام ، وتأسف لفقده لدى أفول شمسه في مغرب رمسه جمع من الفضلاء وعدة من النبلاء ، وإن كان البدر قد نفاه عن جلالة القدر لما تناظرا فقال له البدر في آخر الأمر : أنت لا تعلم جواب من قال لك نصر أي صيغة ، وحلف للحاضرين بالطلقات الثلاث إنه لا يعلم ذلك لما كان مسرجا ، فقال له ملا خليل الله : سبحان الله أنت تريد أن أعود إلى بطن أمي ، وقام عنه ، ثم صار يتتبع خطأ البدر ويخطيه كما مر.

__________________

(١) الرحمن : ١٧.

(٢) المزمل : ٩.

(٣) المعارج : ٤٠.

٣٤٢

٦٦٨ ـ عبد الرحمن الفلكي الجلّومي المتوفى سنة ٩١٠

عبد الرحمن بن الزين عبد اللطيف الحلبي الجلّومي المشهور بابن الفلكي. كان من أرباب الأقاطيع والأملاك والثروة الزائدة ، وتولى في دولة السلطان الغوري وظيفة الحجوبية بطرابلس ، ثم عزل منها فعاد إلى حلب ، فأوحى بعض أعدائه إلى السلطان أنه ظلم وأفحش في ظلمه وصار يضرب الفلاح فيستجير بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول له : أضربك إلى أن يخلصك مني محمد ، فطلبه السلطان ووضعه بالعرقانة وهي سجن مظلم جدا بالقاهرة وتركه بها تسع سنين لا يحلق له فيها شعرا ولا يقلم ظفرا ، حتى اختل بصره وطال شعره وظفره فوق الحد في هذه المدة الطولى ، ثم هون الإله جل جلاله فدخلت أخته جهة الجمال يوسف بن أبي إصبع إلى خوند جهة السلطان وسألتها في أن تشفع فيه عنده ففعلت ، فخرج من السجن وعاد إلى حلب وهو فقير الحال بالنسبة إلى ما كان عليه ، ومع ذلك لم يفتر عن تعاطي العمارة بآدره بالجلّوم لمزيد شغفه بالعمارة كأنما لم يعزل عن الإمارة ، إلى أن توفي بها في عشر سنين وتسعمائة.

وكان حلو الكلام حسن الملتقى اقتصر في آخر عمره على صحبة المقر الصلاحي ابن السفاح ومؤانسته.

٦٦٩ ـ سليمان بن نذر الكواكبي المتوفى سنة ٩١١

سليمان بن نذر ، بالنون والذال المعجمة ، العيني ثم الحلبي الحنفي خليفة الشيخ محمد الكواكبي الأردبيلي الطريقة.

كان من الصلحاء العباد والورعين الزهاد. قيل إنه قدم إلى شيخه هذا أول قدومه زائرا ، فامتحنه بأن أمره ببيع ماله في قريته من أغنام وخيول وأثاث ويأتيه بما جمعه من المال ، فامتثل أمره وأتاه به فأخذه وخبأه في الحقيقة له عنده ، فلم يكترث له ، فما شعر إلا وقد أصابت أهل قريته جائحة قتل ونهب مال ، فأخبر الشيخ بما وقع ، فعند ذلك أخرج له الشيخ جميع ما له بكماله وأذن له أن يعود إلى مأمنه ، فقوي اعتقاده في الشيخ فصار من مريديه ثم من خلفائه.

٣٤٣

وكان يقول : مثلي ومثل سليمان كمثل بئرين كان بينهما حائط فزال الحائط واختلط الماءان ، إلى أن توفي سنة إحدى عشرة ودفن بمقابر الصالحين بحلب وقبره بها معروف يزار.

٦٧٠ ـ عبد القادر بن شمس الطبيب سنة ٩١١

عبد القادر بن محمد بن محمد بن سليمان الرئيس الحاذق زين الدين ابن الرئيس ابن الرئيس ابن الرئيس علم الدين الحلبي الشراباتي المتطبب أبا عن جد المعروف بابن شمس.

كان طبيبا ماهرا. وكانت وفاته بالاستسقاء سنة إحدى عشرة ، ودفن بمقابر الأنصاريين بالقرب من القيمرية بوصية منه لأنه كان كجدي الجمال الحنبلي سبط الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الواحد بن علي الأنصاري السعدي العبادي.

٦٧١ ـ عمر بن محمد بن عمر النصيبي المتوفى سنة ٩١٢

عمر بن محمد بن عمر أقضى القضاة زين الدين أبو حفص ابن قاضي القضاة جلال الدين أبي بكر الحلبي الشافعي المشهور بابن النصيبي سبط الشيخ الإمام الشمس محمد ابن الشماع الأيوبي الماضي ذكره ، بل أحد أصايل الحلبيين.

كان شابا لطيفا ، ناب عن والده في قضاء حلب فصارت إليه مقاليده ، ثم أصيب بموته سنة اثنتي عشرة فدفنه حيث يسكن داخل المدرسة الشرفية ، وكان مقال والده يوم أصيب فيه : يا عمر يا عمر ، فرثاه بقوله بعضهم :

عمرت مكانا في حياتك سالما

وعمّرته من بعد موتك يا عمر

وعمّرت بالأحزان للأهل أربعا

ولكن ربع الصبر من بعدك اندثر

وفارقت أهليك الذين تركتهم

يحنّ عليهم كل صلد من الحجر

وأنحلت أجسادا وأبكيت أعينا

وفتت أكبادا وأورثتها شرر

وما كنت أدري أن بدر السما أخ

لطلعتك الغراء حتى جرى القدر

فمذ غبت غابت عن أهاليك شمسهم

وليلهم قد دام والصبح ما سفر

فيرحمك الرحمن ما دمت ميتا

صباحا وفي وقت المساء وفي السحر

٣٤٤

ويمنح خيرا من تركت معوضا

ويلهمهم صبرا ويافوز من صبر

٦٧٢ ـ أحمد بن أحمد الشهاب الحاضري المتوفى سنة ٩١٣

أحمد بن أحمد بن محمد بن عز الدين محمد بن عز الدين محمد بن خليل ، الشيخ شهاب الدين الحاضري الأصل الحلبي الحنفي.

تفقه على الشمس ابن أمير حاج الحلبي الحنفي ، ووعظ الناس بجامع حلب الوعظ النافع وأفتى ، وكان دينا خيرا يكاد يغيب عن نفسه في وعظه من فرط خشوعه ، وله استحضار للحديث ، تلمذ له شيخ شيوخ حلب الموفق ابن أبي ذر المحدث وأخبرني أنه كان يتمثل بقول القائل :

وكان فؤادي خاليا قبل حبكم

وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح

فلما دعا قلبي هواك أجابه

فلست أرى قلبي لغيرك يصلح

توفي سنة ثلاث عشرة وتسعمائة بحلب.

قال صاحب «عيون الأخبار» : وكان يعظ الناس بالجامع الكبير ويجلس غالبا بمكتب العدول بباب الجامع الشرقي ، وكان لا يخلو من سذاجة ، وتأسف كثير من الناس على فقده رحمه‌الله تعالى وإيانا. وجده العز الثاني هو قاضي الحنفية بحلب الذي كان رفيقه في الأخذ عن مشايخه الحافظ برهان الدين إبراهيم الحلبي سبط ابن العجمي.

٦٧٣ ـ أحمد بن منصور الأنطاكي المتوفى سنة ٩١٤

أحمد بن محمد بن علي بن منصور الشيخ شهاب الدين الأنطاكي الشافعي السهروردي المعروف بابن منصور.

كان موقعا عند جانم المكحل كافل حلب وكذا عند كافلها دولة باي ، وهو الذي أوحي إليه أنه سيعطى الحكم في بلدة ذات أشجار وأنهار ، وأنه ظهر له ذلك من الزايرجه السبتية لما أنه كان يدعي حلها ، فما مضت مدة إلا وقد أعطي كفالة دمشق ، فقوي قربه منه. وكان من ملازمي الشيخ شمس الدين محمد الأيوبي الحموي ثم الحلبي المعروف بابن

٣٤٥

الشماع ، وعنه كان يدعي حلها ، وكان هو والغرس خليل ابن اللنكي الحنفي يتناوبان قضاء أنطاكية ولاية وعزلا.

وكان له نظم ونثر واشتغال بأمر الأوفاق والحروف. ومن شعره كما وجدته بخط ولده الشيخ شرف الدين في ثبت الزين الشماع قوله :

يا من تلون بالوداد أما ترى

ورق الغصون إذا تلون يسقط

ولعله فاز بالمواردة وإلا فقد بلغني أن هذا البيت للشاب الظريف محمد بن عفيف وأن قبله :

حتام في حق الصديق تفرّط

ترضى بلا سبب عليه وتسخط

ومن شعره :

طاب الزمان وحلّت شمسه الحملا

وخفّ ثقل الشتا عمن له حملا

وله :

قلت لساق حسن

أنا عليك وارد

لا تسقني ثلاثة

فالقصد منك واحد

وكان يخطب الخطب الحسنة من إنشائه ليس إلا. وتوفي بالقاهرة كما أخبرني عنه الزيني سنة أربع عشرة أو خمس عشرة وتسعماية.

٦٧٤ ـ عبد القادر الأبّار المتوفى سنة ٩١٤

عبد القادر بن محمد بن عثمان الشيخ محيي الدين ابن الشيخ الفقيه المفتي شمس الدين المارديني الأصل الحلبي المولد والدار الشافعي المشهور بالأبّار لأنه كان يصنع الإبر في حانوت له.

كان فقيه حلب ومفتيها ، وكان شيخ بعض شيوخنا كالبرهان العمادي والزين الشماع. توفي في ذي القعدة سنة أربع عشرة. وكان يقول كما أخبرني عنه بعض أحفاده : نحن من بيت بماردين مشهور ببيت رسول ، وجدّنا الشيخ رسلان الدمشقي رضي‌الله‌عنه ، غير

٣٤٦

أني لا أحب بيان ذلك خوفا من أن أنسب إلى تحميل نسبي على الغير وأن يقدح فيّ بذلك.

وله في ضوء السخاوي ترجمة حسنة ساقها شيخنا الزين الشماع في القبس الحاوي لغرر ضوء السخاوي إلى أن زاد فقال : كان مع براعته في الفقه حسن العبارة شديد التحري في الطهارة طارحا للتكليف ظاهر التقشف حسن المحادثة حلو المذاكرة طلق الوجه كثير البشر مقبول الظاهر ، وهو علامة على استقامة السر ، لا تكاد تمل من محادثته ولا تسأم من مصاحبته ، اتفق على محبته والثناء عليه الكثير من العوام والخواص ، وعلى أقواله وأفعاله علامة أهل الصدق والإخلاص ، هذا ما زاده.

وحكى لي الحاج محمد الهويدي القصاب ، وكان يحضر مجلس وعظة ، أنه وعظ يوما بالقرب من المحراب الأعظم بالجامع الأموي بحلب فحصل له في نفسه عجب لجلالة ذلك المجلس ، فلما نزل عن الكرسي صافحه رجل وهو يقول له : غيرك يعمل أحسن مما عملت في هذا المجلس ، قال : فمرض الشيخ من أجل مقالته خمسة عشر يوما. وقيل لي إنه ترفع عليه بعض الجهلة في عقد مجلس صار بدار العدل بحلب فجلس في مكان أرفع من مكانه ، فلامه بعض المخاديم على ذلك وقال له : لم تركته يجلس فوقك ، فقال : والله يا أخي لو جلس فوقي لرضّني رضّا.

أقول : وترجمه الغزي في «الكواكب السائرة» بنحو ما هنا وزاد قوله : وممن أخذ عنه الفقه الجوجري المصري ، سمع عليه معظم التنبيه وأجازه به وبغيره وأذن له بالإفتاء والتدريس بعد أن أثنى عليه كثيرا وأنشده لنفسه ملمحا مضمنا :

كانت مسائلة الركبان تخبرنا

عن علمكم ثم عنكم أحسن الخبر

ثم التقينا وشاهدنا العجائب من

غزير علم حمته دقة النظر

فقلت حينئذ والله ما سمعت

أذناي أحسن مما قد رأى بصري

والمشهور أن الشيخ أرسلان الدمشقي لم يعقب كما أجاب بذلك الحافظ برهان الدين الناجي حين سئل عن ذلك ، وألف في ذلك مؤلفا لطيفا ا ه.

٦٧٥ ـ خليل بن محمد القلعي المتوفى في هذا العقد ظنا

خليل بن محمد بن محمد بن محمد بن خليل بن فضل الله الأميري الكبيري ، غرس

٣٤٧

الدين الحلبي القلعي المعروف بابن الأقتابي.

كان متولي الحجر وآغا سائر البحرية بالقلعة الحلبية في آخر الدولة الجركسية ، وذلك أنه كان بها أكثر من مائة بحري يفترقون خمس طوايف لكل طائفة منهم آغا يجلس بهم على بابها ثلاثة أيام ثم يعود إليها غيره بمن معه ثم وثم ، وكان الأمير غرس الدين آغا الخمسة ، بل كان أيضا أمير عشرة ، حتى كان يلبس الكلفتة في المواكب ، وكان من شأن من كان متولي الحجر بالقلعة أن يكون مفاتيح أبوابها عنده إذا مات كافلها المسمى يومئذ بنائب القلعة أو عزل إلى أن يتسلمها كافلها الجديد. وكان الأمير غرس الدين لديانته واستقامته معتقدا للسلطان قايتباي حتى كان يترقب حضوره بين يديه ، فكان يسافر إليه المرة بعد الأخرى ، وكذا كان معتقدا للسلطان الغوري ومعظما عنده لما له فوق الديانة من الأصالة والعراقة على ما أخبرني به الشيخ عبد الكريم القلعي إمام جامع حلب من أنه كان من ذرية نور الدين الشهيد رحمه‌الله ، وكان ممن ابتلي في شيخوخته بحب زوجته مع بغضها إياه لكبر سنه ، فماتت قبله ولم تظفر بشاب بعده كشيخ الإسلام البدر السيوفي عالم حلب ، فإنه تزوج مع علو سنة فعلق بحب زوجته وأبغضته ولم تزل له قبلة إلى أن توفيت قبله (١).

وقد أدركت أن الأمير الغرسي وهو شيخ كبير فان له أبهة وحشمة زائدة وشيبة مقبولة نيرة.

٦٧٦ ـ أبو بكر الدليواتي المتوفى بعد ٩١٥

أبو بكر المصري الأصل ثم الحلبي الصوفي المشهور بالدليواتي صاحب المزار المشهور.

كان فيما نقل عنه يمر على باب بعض الحمّامات التي فيها النساء فيكف بصره وليس على بابها أحد منهن ، فقيل له في ذلك فقال : إني إذا مررت كشفهن الله تعالى فأراهن. قيل : وكان يعرف الكيمياء وله عند السلطان قايتباي مكان حتى أنعم عليه ببعض جوالي طرابلس وبعشر بزمده.

__________________

(١) بعدها في «در الحبب» ، تحقيق محمود حمد الفاخوري ويحيى زكريا عبارة ، ط وزارة الثقافة ، دمشق ١٩٧٤ :

ولم تذق من فم شاب قبلة.

٣٤٨

وكان يميل إلى جدي الجمال الحنبلي وجدي يميل إليه ويساعده في مهماته كما أخبرني بذلك والدي ، وربما عاد يوم الموكب إلى منزله ودخل في طريقه إليه وتبرك به.

قال لي حفيده الشيخ علاء الدين : وكانت خرقته قادرية أدربيلية ، وكان رفيقا للشيخ محمد الكواكبي في أخذ الطريق عن الشيخ باكير عن الشيخ إبراهيم السبتي عن خوجه علي صاحب المزار المشهور ببيت المقدس عن أخيه خوجه صدر الدين الأردبيلي بسنده المشهور.

توفي بعد سنة خمس عشرة ودفن شرقي القبلية التي كانت مسجدا لله تعالى داثرا ، فسعى في تجديده بعد أن كان لدثوره مرمى لكناسات الناس ، فلما توفي دفنوه بجانب منه. قال لي حفيده : ولما قرب والدي من الموت أوصى أن يدفن بمقابر الصالحين إذ لم يستحل أن يدفن بجنب والده ، فصمم أتباعه وأنا إذ ذاك مسافر على دفنه بجنبه ، وأما أنا فكذلك لا أرضى إلا بما عليه والدي ، فإن الدنيا لا تغني عن الأخرى. قال : وأما قصة المرور على بعض الحمّامات وكذا قصة أن جدي كان يدلي دلوه فيخرج له في دلوه ذهب فمن الأكاذيب عليه ، إنما كان طريقه الماء والمحراب ومجاهدة النفس والقيام لله تعالى. قال : وذلك مثلما جرى له مع الشيخ إبراهيم بن معبد البابي إذ كان يتعاطى الدفوف والمواصيل في السماعات ، فأنكر جدي عليه ، فتعصب معه على جدي جماعة بحلب وقصدوا تعزيره ، فانقاد إلى قاضي القضاة جمال الدين الحنبلي فساعده عليهم وأخبرهم أن طريقته لا تقتضي إباحة ذلك وإن كانت طريقتكم تقتضيها فما لكم وله ا ه.

أقول : إن المسجد الذي دفن به المترجم عرف به وهو في محلة الفرافرة ، وسيأتي ذكره في ترجمة محمد أسعد باشا الجابري المتوفى سنة ١٣٣٤ إن شاء الله تعالى.

٦٧٧ ـ الشريف أحمد بن عبد الله الإسحاقي المتوفى سنة ٩١٥

أحمد بن عبد الله بن حمزة بن عبد الله بن محمد بن محمد بن عبد المحسن بن زهرة ابن الحسن بن الحسن بن عز الدين أبي المكارم حمزة القاضي شهاب الدين أبي القاضي صفي الدين الحسيني الإسحاقي الشافعي ، أحد بني زهرة الحسينيين بحلب ، جدي والد والدتي.

كان جوادا فياضا مقداما لدى الحكام منطيقا إذا أخذ في الكلام ، وولي قضاء الفوعة

٣٤٩

مع نسبة أهلها إلى التشيع طمعا منه في دنياهم ظنا أنهم يوالونه إذا هو في الظاهر والاهم وأنهم يعظمونه على العادة في تعظيمهم لأهل السيادة ، فاطلعوا على أنه من أهل السنة والجماعة ، فخرجوا بالحط عليه عن ربقة الإطاعة ، فعاد منها إلى حلب ولم يوجه إلى قضائها الطلب ، ورأى أن لا تهلكه فوعة الفوعة وأن يكون شرور أهلها عنه مرفوعة ، وصار ديوانا بحلب عند وكلاء السلطان بها إلى أن مات تقريبا سنة خمس عشرة ودفن وراء مشهد الحسين رضي‌الله‌عنه بحلب بسفح الجبل بمقبرة جده السيد الشريف أبي المكارم حمزة ، وهو حمزة بن علي بن زهرة بن علي بن محمد بن محمد بن أبي إبراهيم محمد الممدوح بن أحمد بن محمد بن الحسين بن إسحق (١) المؤتمن بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه. وزهرة هذا لا زهرة السابق ذكره هو الذي ينسب إليه بنو زهرة أحد بيوتات حلب المذكورين في تاريخ الشيخ أبي ذر.

قال : وكان من أكابر الأشراف وذوي الرأي والوجاهة مقدما ببلده يرجع الناس إلى أمره ونهيه. قال : وهو بإسكان الهاء خلافا للنجم المعروف فإنه بفتحها كما قال صاحب الجمهرة ، إلى أن عد من هذا البيت جماعة كانوا نقباء حلب وتعرض لتشيع واحد منهم هو نقيبها ورئيسها وعالمها الحسن بن زهرة بن الحسن بن زهرة أبي هذا البيت ، وأفاد أن بني زهرة عند الذهبي طائفة أخرى شيعة بحلب كانوا بيت علم ونظم ونثر وكتابة ورئاسة ومكارم أخلاق وحشمة وأنهم انقرضوا ، وأفاد أيضا أن الإمام الكبير أبا إبراهيم محمدا الممدوح أول من كان قدم حلب من الأشراف من أولاد إسحق المؤتمن وهل كان شيعيا أم لا. ذكر جد والدي لأمه المحب أبو الفضل بن الشحنة ومن خطه نقلت عن الحافظ برهان الدين الحلبي قال : قال لي والدي : كانت أهل حلب كلهم أهل سنة وكلهم حنفية لا يعرفون غير ذلك ، حتى قدم شخص من العراق فظهر فيهم التشيع وظهر مذهب الشافعي ، لأنهم كانوا يتسترون بمذهبه. قال : فلم أسأله عن القادم ، ثم ذكر لي مرة ثانية ثم ثالثة ثم قال لي : مالك لا تسألني عن القادم المذكور؟ قال : فقلت : من هو؟ قال :

__________________

(١) قوله الحسين بن إسحق رأيت في الكتاب الموسوم «بصحاح الأخبار في نسب السادة الفاطمية الأخيار» للسيد الشريف عبد الله محمد سراج الدين الرفاعي ما نصه : ومنهم (أي ومن ذرية الحسين بن إسحق) الشريف أبو إبراهيم محمد الحراني ممدوح أبي العلاء المعري ابن أحمد الحجازي بن محمد بن الحسين بن إسحق المؤتمن ابن الإمام جعفر الصادق وعقب الشريف محمد الحراني من رجلين جعفر نقيب حلب ومحمد ولهم بقية بحلب وحران والخابور ، وهم بيت فضل وإمارة وملك وعلم ومجد وسيادة ا ه.

٣٥٠

الشريف أبو إبراهيم الممدوح انتهى. هذا ما بلغني ، ثم بلغني أن السيد عز الدين أبا المكارم حمزة قد أثبت في وثيقة بالطريق الشرعي أن ذريته من الذكور قد انقرضوا ، فعلى هذا لا يكون جدنا القاضي شهاب الدين من ذرية المذكور وإن كان من بني زهرة ، وذلك بأن يكون من ذرية عمه الذي هو الحسن المتقدم ذكر تشيع ابن ابنه أو من ذرية أخ له.

٦٧٨ ـ أحمد بن محمد الشهير بابن أمير غفلة المتوفى سنة ٩١٥

أحمد بن محمد بن عثمان الشهاب ابن الفخر أبو العباس الشهير بابن أمير غفلة ، وكذا بابن قريمزان الحلبي الحنفي.

كان عالما عاملا منور الشكل حسن السمت فقيها فرضيا حيسوبا ، تلمذ للعلامة الفرضي الحيسوب جمال الدين أبي النجا يوسف الأسعردي ثم الحلبي ، وعلق على نزهة الحساب تعليقا حسنا حمله على وضعه شيخنا العلاء الموصلي كما نبه على ذلك في ديباجته.

ولم يزل على ديانته يتعاطى صنعة التجارة إلى أن مات سنة خمس عشرة رحمه‌الله.

٦٧٩ ـ موسى بن أحمد النحلاوي الريحاوي المتوفى سنة ٩١٥

موسى بن أحمد النحلاوي أصلا الحلبي دارا الأردبيلي خرقة الشافعي المشهور بالشيخ موسى الريحاوي لسكناه بأريحا قديما.

حكى أنه لما قدم الشيخ باكير والشيخ داود الصوفيان الأردبيليان إلى أرض الشام كان قدوم الأول (لتربية الشيخ محمد الكواكبي البيري ثم الحلبي ، وقدوم الثاني) (١) لتربية الشيخ موسى هذا ، وكان الشيخ داود يقف وهو ببعض القرى متوجها إلى قرية الشيخ موسى قائلا : إني لأجد ريح يوسف ، ثم لما اجتمع بالشيخ اطلع الشيخ على أنه أخذ في الكتابة والقراءة وأن مؤدب الأطفال قد شرع في كتابة الحروف الهجائية له ، فنهاه عما كان بصدده وأدخله الخلوة الأربعينية ، ثم استفسره عما رآه بها فأخبره أنه رأى أنه لابس (درعا من الورق لا كتابة عليه ، فأمره بالمقام بها ، إلى أن كان اليوم السابع والثلاثون. فسأله عما رآه ، فأخبره أنه رأى أنه لابس درعا) (٢) مكتوبا وأنه قرأ جميع ما فيه ، فأمره بقراءة

__________________

(١) ما بين قوسين ساقط في الأصل.

٣٥١

المصحف فقرأه بإذن الله تعالى ، ثم أمره أن يطالع كتاب قمع النفوس. ولم يزل يزوره بنية التربية حتى اعتقده أهل قريته وكثير من أهل القرى وصار له سماط وبساط ، ثم أقام بحلب يدرس الفقه ، وكان راسخ القدم فيه ، وكان ممن انتفع به عمي القاضي كمال الدين الشافعي ، ثم كانت وفاته بها في آخر ذي الحجة سنة خمس عشرة أو أوائل المحرم سنة ست عشرة وتسعماية ودفن بالقرب من التربة الخشابية (١) داخل باب قنسرين بعد مكاشفة بوفاته حصلت من الشيخ محمد الخراساني النجمي ، فإنه عزم ذات يوم على زيارة الشيخ موسى ، فبينما هو في الطريق إذ سأل سائل عن محل توجهه فأخبره أنه بصدد زيارة الشيخ لقرب مضيه إلى عالم البرزخ ، فلما زاره حصل بينهما من البسط ما الله أعلم به بعد أن كان الشيخ موسى من المنكرين عليه قبل اجتماعه به ، ثم كان مرضه داعيا له ، رحمنا الله تعالى وإياه.

وستأتي ترجمة ولده يحيى المتوفى سنة ٩٥٣ وولد ولده موسى واقف الوقف على ذريته ومصالح زاوية جده هذا الكائنة في محلة باب قنسرين.

٦٨٠ ـ حسين بن محمد بن الشحنة المتوفى سنة ٩١٦

حسين بن محمد بن محمد قاضي القضاة أبو الطيب عفيف الدين ابن قاضي القضاة أبي اليمن أثير الدين ابن قاضي القضاة أبي الفضل محب الدين ابن الشحنة الشافعي خال والدي.

ولد على ما وجدته بخط والده سنة ثمان وخمسين وثمانمائة ، وولي قضاء حلب وكتابة السر بعد أن حصل بالقاهرة طرفا من العلم وأجيز بصحيح البخاري بها قراءة سنة سبع وسبعين عن الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد القادر بن محمد بن طريف الشاوي بالشين المعجمة المصري الحنفي الصوفي ، وهو خاتمة من يروي عن أبي المجد الخطيب الدمشقي ، ومن شيوخه بحلب العلم المشهور ملا علي الشهير بقل درويش الخوارزمي قرأ عليه بها شرح جمع الجوامع للمحلي عن أخيه في نسخة كتبها بيده ، ولما أكمل قراءتها عليه أثنى

__________________

(١) أي في الزاوية المعروفة به إلى الآن لكن لا أثر لقبره الآن ولعله كان في حجرة هناك.

٣٥٢

عليه بخطه في ذيلها بأنه قرأ عليه قراءة بحث وتحقيق ومناظرة وتدقيق مع تحليل التركيبات والمباني وتفاسير الألفاظ وتحقيقات المعاني ، إلى أن أثنى عليه بأنه أفاد واستفاد وزاد واستزاد وكرر النظر وأجاد ، وأنه سريع الفهم سريع الانتقال بليغ الحكم قوي الجدال ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وكانت وفاته سنة ست عشرة رحمه‌الله تعالى ورحمنا.

٦٨١ ـ محمد المغربي الديّوني المتوفى سنة ٩١٦

محمد المغربي المالكي المشهور بالديّوني أمين المصبنة المهدية بحلب.

كان عنده علم وله أبهة ، وكان بعض تجار الصابون قد اتهمه بخيانة فاستعان عليه بأبرك الجركسي نائب القلعة ، فضرب ضربا مبرحا ليقر فمات من الضرب مظلوما سنة ست عشرة وتسعماية ، واضطربت المغاربة لأجل ذلك حتى كادوا لا يدفونه حتى يأخذوا بثأره.

٦٨٢ ـ أحمد الكردي الشافعي المتوفى سنة ٩١٧

أحمد الشيخ شهاب الدين الكردي الشافعي مذهبا الأحمدي خرقة ، القواس.

كان يعمل القسي وينقشها ويذهبها بالمدرسة الشرفية بحلب في حجرة من حجرها مع ما كان عنده من الفضائل العلمية لاشتغاله فيها على عمه الفخر عثمان الآتي ذكره ومن حسن الخط حتى أخذ عنه جماعة الخط الحسن منهم والدي ، وكان له مزيد اعتناء بشرح بديعية ابن حجة ، وانتصار له على مخالفيه فيه وإقامة حجة. توفي سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة ، وكان سبب وفاته أن صعد ذات يوم إلى حجرة له أخرى فوقانية لكنسها فرمى من كناستها شيئا من شباكها فسقط على رأسه فلم تسمع منه كلمة سوى قوله الله ، وبقي على ذلك أياما إلى أن توفي رحمنا الله تعالى وإياه.

٦٨٣ ـ محمد بن عبد الله النبهاني المتوفى سنة ٩١٩

محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله الشيخ كمال الدين ابن الشيخ جمال الدين الشيحي النبهاني الحلبي الشافعي.

٣٥٣

كان شيخا صالحا مطرحا للتكليف يعتاد دون غيره من أبناء جنسه استعمال الشد (١) الوبر في عنقه. وكان يقرأ الحديث على الكرسي الموضوع بشمالية جامع حلب ، فإذا رأى شيخنا الموصلي يدرس تحته قرأه تحت الكرسي بمجلس درسه تأدبا معه. وكانت له المنامات الصادقة فيما أخبرني به والدي ، فقد كان يحب والدي ويحبه والدي وبينهما الصداقة التامة. وكانت له العناية برمي النشاب في أيام الشباب ، توفي سنة تسع عشرة أو سنة عشرين وتسعمائة.

وكان أبوه أحد المعدودين بمكتب سوق الصابون بحلب ، وكان واحد من أجداده فيما بلغني معدودا من أرباب الأحوال وعتيقا لقدوة البلاد الحلبية الشيخ العابد محمد بن نبهان الحلبي الجبريني الذي كانت إقامته بجبرين وله بها الزاوية المشهورة وفيها مزاره لوفاته بها سنة أربع وأربعين وسبعمائة. وفيه يقول ابن الوردي كما ذكره الشيخ أبو ذر في تاريخه :

وكنت إذا قابلت جبرين زائرا

يكون لقلبي بالمقابلة الجبر

كأن بني نبهان يوم وفاته

نجوم سماء خرّ من بينها البدر

٦٨٤ ـ محمد العريان المجذوب المتوفى سنة ٩١٩

محمد العريان مجذوب معتقد. كان سبب جذبته أنه كان في بداية أمره مسرفا على نفسه ، فشرب ذات يوم خمرا وجرح إنسانا ، فلما جرى دمه هاله ذلك الأمر المحظور الذي ارتكبه كأنه ندم على ما فرط منه وما اجترأ عليه ، فاضطرب عقله وصار يختلط بطائفة المؤذنين بجامع الزكي بحلب ويعمل أعمالهم ، ثم تجرد عن الملبس وأوى إلى قبة من اللبن بين الكروم مجاورة لقبة بها مدفن الولي المعروف بالشيخ بولاد ، وهو عريان لا يستر سوى عورته الغليظة ، وبين يديه كلاب كثيرة يمنعون من ينوي زيارته إلا بإشارة منه ، وإذا أهدى له زائر شيئا من الأكل بادر إلى إطعامهم منه ، وربما منع الناس من الوصول إليه بالحجارة. وكان لا يزال نظيفا وربما وجد عليه آثار الغزاة من جروح وغيرها.

وكان خير بك كافل حلب يعتقده لما أنه قدم يوما والناس محتاجون إلى المطر قدوما

__________________

(١) في بعض النسخ المخطوطة من در الحبب : المشد.

٣٥٤

خرق فيه عادته من الإقامة بمكانه ذلك وقال له : مالك لا تنادي بالاستمطار؟ فسأله الدعاء ونادى بالاستمطار ، فدعوا فأمطروا. واتفق له أنه زاره يوما ومعه الأمير حسين الميداني ، فأحضر وعاء فيه دجاج وغيره لضيافة كافل حلب المذكور ، فسأل الشيخ وهو في داخل قبته في الأكل معهم ، فخرج وأخذ يلقم لكل كلب دجاجة ، ثم إنه ألقى الوعاء على وجهه ونادى الكلاب قائلا : إنه لا يصلح طعام الكلاب إلا للكلاب.

ولما قدم من القاهرة الأمير علان الدوادار الثاني الذي جاء من قبل الأشرف قانصوه الغوري إلى سلطان المملكة الرومية ونوى السفر من حلب أشار عليه كافلها بزيارته فزاره صحبة الكافل ، فلما تمم دعاءه قال : روح من هنا ، وأشار إلى جانب الروم ، فلما عاد متوجها إلى القاهرة أعاد زيارته فقال له : روح من هنا ، وأشار إلى جانب القاهرة بعد أن أمسك الشيخ لحيته في المرة الأولى فصبر عليه ولم يكترث له. وكانت وفاته ودفنه بالقبة المذكورة سنة تسع عشرة وتسعمائة.

٦٨٥ ـ محمد التركماني المشهور بمنلادراز المتوفى سنة ٩٢٠

محمد التركماني الحنفي المشهور بمنلادراز وبمنلاسيدي بفتح السين وسكون المثناة التحتية.

كان من أكابر تلامذة الجلال الدوّاني وممن قطن حلب فقرأ عليه جماعة وهو في حجرة بالمدرسة الجاولية. توفي سنة عشرين وتسعمائة. قال تلميذه الشمس بن بلال : ولما مات رأيته في المنام فسألته : ما فعل الله بك؟ فقال : عاتبني عتابا كثيرا ثم غفر لي بما في صدري من العلم أو كلاما يشبهه.

٦٨٦ ـ محمد بن إبراهيم العرضي المتوفى سنة ٩٢٠

محمد بن إبراهيم بن محمود القاضي شمس الدين العرضي الأصل الحلبي النقيب الشافعي.

لازم العلاء الشرابي وصارت له فضيلة علمية إلى أن وقع بينه وبين البدر السيوفي شنآن

٣٥٥

في مسألة (ليس في الإمكان أبدع مما كان). فاستطال على البدر بجاه سيباي كافل حلب لما كان إمامه. فأرضى عليه العوام البدر حتى نفّره من مخالطتهم وضيق حضيرته لأخذهم في عرضه ، فاضطر إلى أن طلب من عمي الكمال الشافعي أن يستنيبه في القضاء ليرد أفواه الناس عنه ، ففعل وأصلح بينه وبين البدر ، ولم يزل نائبه إلى أن مات بغزة سنة عشرين وتسعماية.

وكان ممن قرأ صحيح البخاري على الكمال بن الناسخ الطرابلسي المالكي تلميذ البرهان المحدث الحلبي لما قدم إلى حلب ، فاهتم بعض الحلبيين بالسماع عليه لعلو سنده ، وقرأ على المحيوي عبد القادر الأبار وغيره ، وصار إمام خير بك كافل حلب.

٦٨٧ ـ إبراهيم بن عثمان شيخ سوق الظاهرية المتوفى سنة ٩٢١

إبراهيم بن عثمان بن إبراهيم بن موسى الأصيل برهان الدين ابن الشيخ الإمام برهان الدين بن شرف الدين التركماني الأصل الحلبي المشهور بشيخ سوق الظاهرية.

كان شيخ سوق الظاهرية بحلب وأحد أعيان التجار بها ، كثير المال سابغ النوال سخيا نخيا متنزها مترفها في المآكل والمشارب والمناكح ، تتنوع في منزله الأطعمة الغريبة والحلويات العجيبة. ومما حكي عنه أنه كان في زمان الشباب مولعا برماية النشاب حتى إنه التزم فيها ألطف مخاطرة ووفى بها توفية عجيبة ظاهرة. وكان قد أنشأ له عمارة لطيفة بجوار زاوية الشيخ بيرام بالدرب الأبيض وجعل له بها مدفنا وجنينة ، فصار يخرج إلى جنينته ويتنزه بها ويدعو إليها عدة من الأكابر كالخواجا سعد الله الملطي وأضرابه بحيث لا يدع أحدا منهم يبعث إليه شيئا من المستظرفات ولا غيرها ليثقل عليه مجيئه إليه ، وكان ينصب له بها كرسي فيجلس عليه والطباخ ومن يتعاطون ما يأمرهم به في أمر الأطعمة والحلويات وغيرها ، فإذا أنّق ما أنّق عاد إلى مجلس أخوانه وخلانه.

وكان خير بك الجركسي كافل حلب يحبه ويعظمه ويتشهى عليه الملاذ فيصنعها له ويرسلها إليه أو يرسلها إليه من غير طلب. ولما نزل بأرض حلب مراد خان ابن أخت السلطان حسن بك هاربا من شاه إسماعيل الصوفي بعث خير بك إلى الشيخ إبراهيم يستنهضه في عمل نفائس المآكل له ، وخرج خير بك إليه بجميع مماليكه وكانوا يناهزون الألف

٣٥٦

بلبوسهم وسلاحهم وما معهم من رماحهم ونزل إليه فسلم عليه وجلس معه ، فحضرت مآكل الشيخ إبراهيم على رؤوس الحمالين في أربعين زوجا من المطابق النحاس كل زوج أربعة ، وكانت بحلب مصطبة حمالي الأقفص فبطلت ، ثم حضرت مآكل أخرى من تاجر آخر حلبي يعرف بابن الأسود ، فمد السماط وأكل الفريقان والمآكل تنادي هل من آكل. ولما مرض الشيخ إبراهيم عاده خير بك مرات وكان يقول له : أبي ، فلما توفي حضر جنازته وحمل سريره ثلاث مرات ومشى معه إلى تربته. وكانت وفاته بين سنة عشرين وسنة اثنتين وعشرين.

٦٨٨ ـ القاضي سري الدين أحمد بن محمد النحريري المالكي

المتوفى سنة ٩٢١

أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله قاضي القضاة سري الدين ابن قاضي القضاة عز الدين ابن قاضي القضاة شمس الدين ابن قاضي القضاة جمال الدين ، النحريري الأصل الحلبي المالكي هو وأبوه وجداه.

وجده الجمالي هو الذي كان قد قام مع قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن أبي الرضى الشافعي وهما قاضيا حلب على الملك الظاهر برقوق الجركسي لما خرج عليه يلبغا الناصري وسجنه ، وصار ابن أبي الرضى يفتي بأنه من المفسدين العصاة الخارجين ، فإن سلطنته ما صادفت محلا إلى أن خرج من السجن وتسلطن ثانيا فقتله ، ثم جاء مرسومه بإمساك الجمال فأحس به فهرب إلى بغداد ، ثم كان بتبريز ، ثم تحول إلى حصن كيفا فأكرمه صاحبها فأقام عنده ، ثم حج ، ثم رجع قاصدا إليه فمات بسرمين من أعمال حلب سنة سبع وثمانمائة.

وكان كما قال ابن خطيب الناصرية من أعيان الحلبيين ، إماما فاضلا فقيها يحب العلم وأهله.

وأما ابن أبي الرضى فسبقه بالوفاة سنة إحدى وتسعين ، وأما القاضي سري الدين فإنه كان ذا هيئة حسنة وشيبة منورة وحشمة زائدة ، غير أنه حصل له خرف فكانوا يقربون له أن يتزوج بفلانة بنت فلان الفلاني فيقول : نعم أتزوجها قاطعا بذلك ، ثم يحسنون له

٣٥٧

بأخرى فيقول : نعم هذه هي اللائقة ، ثم يذكرون له ثالثة ويرجحونها على الأوليين فتراه يستصوب رأيهم فيها ولا يعدل عما هم عليه ، ثم يقبحون شأنها فيعدل عنها. وكان والدي يعظمه جدا لما أن جدي الجمال الحنبلي كان ممن يتعاطى بمحكمة والده صنعة التوقيع والتوريق ، ولما أنه كان من ذوي البيوت ، بل كان أيضا قاضي المالكية بطرابلس في الدولة الجركسية إلى أن عزل نفسه من قضائها ، ثم عاد إلى حلب وبقي بها إلى أن مات سنة إحدى وعشرين.

٦٨٩ ـ عبد البر ابن الشحنة المتوفى سنة ٩٢١

عبد البر بن محمد بن محمد قاضي القضاة أبو البركات سري الدين ابن قاضي القضاة أبي الفضل محب الدين ابن قاضي القضاة أبي الوليد محب الدين الحلبي ثم القاهري الحنفي المشهور بابن الشحنة سبط قاضي القضاة ولي الدين محمد السفطي قاضي الشافعية بالديار المصرية في الدولة الجركسية.

ولد بحلب سنة إحدى وخمسين وثمانمائة ، ثم انتقل منها إلى القاهرة فاشتغل بها في علوم شتى على شيوخ متعددة ذكرهم السخاوي في ضوئه في ترجمة له حافلة ، ودرس وأفتى وتولى قضاء حلب ، ثم تولى قضاء القاهرة وصار جليس السلطان الغوري وسميره ، ونظم ونثر وألف كتبا كثيرة منها «شرح الوهبانية في فقه الحنفية» ومنها «شرح الماية البديعية والعشرين» التي نظمها جده أبو الوليد في عشرة علوم ، ومنها كتاب له لطيف في حوض دون ثلاثة أذرع هل يجوز فيه الوضوء أولا ، وهل يصير مستعملا بالتوضي فيه أو لا أفاد فيه أن المفتى به في الماء المستعمل قول محمد أنه طاهر غير طهور وأن المتقاطر من الوضوء طاهر قليل لاقى طهورا أكثر منه فلا يسلبه الطهورية ، وجوز فيه الاغتراف منه والتوضي خارجه لا فيه ، وأثبت فيه أن إدخال اليد في الحوض الصغير بقصد التوضي فيه سالب عن الماء الطهورية لارتفاع الحدث والتقرب بإدخال اليد ونزعها باتفاق علمائنا الأربعة رضي‌الله‌عنهم ، وأنه إذا تجرد عن هذا القصد لم يؤثر وأن أبا حنيفة وصاحبيه متفقون على تأثير المستعمل في الطهور وسلبه عنه الطهورية إذا وقع فيه وإن كان أقل منه ، ومنها «الذخائر الأشرفية في ألغاز الحنفية» وهو كتاب جمع فيه إلى ألغاز ابن العز الحنفي ألغازا

٣٥٨

ابتكرها وأخرى نقلها من كتب علمائنا الحنفية فذكرها مع إضافة شيء قليل من كتب الشافعية ، وكثيرا ما أودعه أجوبة نظما عن أسئلة أوردها ابن العز في كتابه منظومة ، وربما نظم بعض الأسئلة كما قال :

أيا علماء الشرع يا من بفضلهم

يضيء لنا وجه الزمان ويزهر

أبينوا لنا عن سارق لدارهم

من الحرز عن ألف تزيد وتكثر

وقد ثبتت في الشرع سرقته لها

ولا شبهة في أخذه المال تظهر

ولا ذاك مال للزكاة مميّز

ولا مال ذي غصب ولا جهل يذكر

ويوصف بالتكليف هذا وأخذه

لها دفعة قد كان والقطع يهدر

وفي جوابه قلت :

ألا خذ جوابا وجهه لك مسفر

وأسراره تبدو لديك وتظهر

لئن كان هذا سارقا مال غيره

ولا شبهة في الأخذ فالقطع يهدر

بناء على أن اثنتين وواحدا

أقيموا شهودا عند ما صار ينكر

وبانت لدى تلك الشهادة شبهة

بها الحد أضحى بعد لا يتقرر

فخذه جوابا هينا لينا حكت

معانيه حتى إنما هي سكّر

ونظم أبياتا ذكر فيها البكائين من الصحابة رضي‌الله‌عنهم في غزوة تبوك الذين نزلت فيهم (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ)(١) الآية وبين فيها اختلاف المفسرين وأهل السير فيهم ، ثم شرحها في رسالة لطيفة.

وكان بليغا منطقيا مهيبا شهما سخيا متوسعا في لذات الدنيا لا يمسك في يده الدرهم الفرد ولا ما فوقه ، ومن شأنه الافتخار وعد المناقب الكبار كما قال في صدر قصيدة :

أضار وها مناقبي الكبار

وبي والله للدنيا الفخار

علا في سؤدد وعلوم شرع

لها في سائر الدنيا انتشار

ومجد شامخ في بيت علم

مفاخرهم بها الركبان ساروا

__________________

(١) التوبة : ٩٢.

٣٥٩

وهمة لوذع شهم تسامى

بفرق الفرقدين لها قرار

وفكر صائب في كل فن

إلى تحقيقه أبدا يصار

إلى أن قال :

سموت لمنصب الإفتاء طفلا

وكان له إلى قربي ابتدار

وكم قررت في الكشاف درسا

عظيما قبل ما دار العذار

في أبيات أخرى. ومع ذلك لم يسلم من هجو السلموني إياه وأخذه في أذاه إلى أن قابله على هجوه وآذاه. توفي بالقاهرة سنة إحدى وعشرين.

٦٩٠ ـ محمد بن عمر بن النصيبي المتوفى سنة ٩٢١

محمد بن عمر بن محمد بن عمر بن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن عبد القاهر بن هبة الله الحلبي أبو بكر الزين أبي جعفر (١) ابن الضيا بن النصيبي الشافعي سبط المحب أبي الفضل ابن الشحنة الحنفي.

قال السخاوي في «الضوء اللامع» : ولد في ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وثمانمائة بحلب ، وقدم القاهرة وقرأ على جده لأمه في سنة ست وسبعين وغيرها ، وكان قد حفظ القرآن وصلى به بالجامع الكبير وهو ابن ثمان سنين ، والمنهاجين والألفيتين ثم جمع الجوامع على الجمال الباعوني وأخيه البرهان والبدر ابن قاضي شهبة والنجم بن قاضي عجلون ، وأخذ الفقه عن أبي ذر وفيه وفي أصوله ، والنحو عن السلامي ووالده الزيني عمر ، وبالقاهرة عن الفخر المقسي في تقسيمين والجوجري. وقرأ على العبادي في الفقه وعلى الشمني في شرح نظم أبيه المتفحية والقليل من شرح الألفية لابن أم قاسم ، وكذا أخذ في النحو وحضر عند جده المحب في دروسه وغيرها كثيرا ، وأخذ عني بقراءته في الجواهر وفي غيرها. وجمع أشياء منها تعليق على المنهاج سماه «الإبهاج» في أربع مجلدات قرظه له الكمال ابن أبي شريف ، وهو ممن قرأ عليه الفقه وحاشيته على المحلي والبيضاوي وبالغ في تعظيمه.

__________________

(١) في مطبوعة در الحبب : أبو بكر بن الزين أبي حفص ...

٣٦٠