إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

يفرقها به سدس القاسارية التي تدخل إليها من وسط سوق داخل باب النصر بحلب على شرط ذكره في كتاب وقفه ا ه. (در الحبب).

٦٥١ ـ أثير الدين محمد بن محمد بن الشحنة المتوفى ٨٩٨

محمد بن محمد بن محمد ابن قاضي القضاة أثير الدين أبو اليمن بن المحب أبي الفضل ابن المحب أبي الوليد الحلبي الحنفي المشهور بابن الشحنة ، سبط قاضي القضاة علاء الدين ابن خطيب الناصرية ، الطائي الشافعي.

ولد في صفر سنة أربع وعشرين وثمانماية ، وتوفي في سنة ثمان وتسعين وثمانماية. ولي قضاء حلب وكتابة السر ونظر الجيش بها ، وحدث بها بالمدرسة السلطانية تجاه قلعتها ، وكان يحضر مجلسه الأكابر ، ولو لم يكن منهم حاضر إلا الشيخ قل درويش الخوارزمي لكفى ، فإنه على فضائله كان يجلس بين يديه هناك لما له من السند العالي والمجد والمعالي والشمس محمد بن البيلوني.

وضبط الأفواه بمجلس الحديث إذ ذاك. قيل وكانت له الحشمة الزائدة ولو لبس أدنى الملبس ، وكان مغرما بالتزوج والتسري كثير الأولاد من الذكور والإناث. ا ه. (در الحبب).

وترجمه في الضوء اللامع ومما قاله : حفظ العمدة والوقاية والمنار والملحة وعرض بعضها على البرهان الحلبي ، بل سمع عليه أشياء ، وكذا قرأ على البدر ابن سلامة بعض محفوظاته ، وأخذ عن أبيه ، وناب عنه في القضاء ببلده من سنة تسع وثلاثين وعن جده لأمه في خطابة الجامع الكبير بها أيضا ، ثم استقل بالقضاء في عاشر المحرم سنة ست وخمسين إلى أن تركه لولده لسان الدين نصر وباشر نظر جيشها وقلعتها ومن التداريس بعضها ، وقدم الديار المصرية على أبيه غير مرة وحج معه ، وكثرت مخالطتي له فيها بل وفي بلده وسمعت خطبته بها. وهو حسن الشكالة جيد التصور كثير التودد خير من أخيه عبد البر ولكن ذاك أفضل في الجملة مع سكون هذا وتواضعه وأدبه. مات في جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين بحلب. ا ه.

٣٢١

٦٥٣ ـ الشيخ عثمان الكردي المتوفى سنة ٨٩٨

عثمان بن سليمان بن إبراهيم بن سليمان بن خليل شيخ الإسلام فخر الدين الجزري ثم الحلبي الشافعي المشهور بالشيخ عثمان الكردي أحد سكان محلة المشارقة بحلب.

أفتى ودرس وكان من العلماء العاملين ، سليم الفطرة نير الشيبة مراعيا للسنة في إرخاء العذبة عظيم الهمة في إراقة الخمور. قال السخاوي : مات فجأة سنة ثمان وتسعين وثمانماية. ا ه (در الحبب).

٦٥٣ ـ شيخ الشيوخ الشريف محمد الهاشمي المتوفى سنة ٨٩٩

محمد بن علي الشريف الحسيب النسيب عز الدين أبو عبد الله الهاشمي الحلبي الشافعي شيخ الشيوخ بحلب.

توفي سنة تسع وتسعين وثمانماية ، وبحكم وفاته أخذ جدي الجمال الحنبلي عنه مشيخة الشيوخ مضافة إلى ما بيده من وظيفة القضاء وغيرها. وكان من كبراء حلب ورؤسائها كأبيه شيخ الشيوخ علاء الدين علي ابن شيخ الشيوخ عماد الدين محمد ابن النقيب شهاب الدين أحمد الهاشمي الحلبي الحنفي أحد شيوخ أبي ذر ابن الحافظ برهان الدين الحلبي بالإجازة حسبما وجدته في ثبت له بخط العلامة محمد المدعو عمر بن محمد بن فهد الهاشمي المكي وغيره يتضمن ذكر وفاته في سنة اثنتين وستين وثمانماية ودفنه في تربة أسلافه خارج باب المقام. وكان يدعي أنه من نسل الحسن بن علي لا من نسل العباس. قال الشيخ أبو ذر : وقد قلت مرة بحضرته : السيد عباسي فاغتاظ من ذلك وقال : أنا حسني. ا ه. (در الحبب).

٦٥٤ ـ محمد بن إبراهيم السلامي المتوفى سنة ٨٩٩

محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن يوسف بن يونس ، الشمس أبو عبد الله السلامي البيري الأصل الحلبي الشافعي.

ولد تقريبا سنة إحدى عشرة وثمانماية بالبيرة ، وقرأ بها القرآن على عمه. وقدم حلب

٣٢٢

فحفظ المنهاج الفرعي والألفيتين وغيرهما ، وعرض على جماعة ، ولازم البرهان الحلبي فأكثر عنه ، وكذا أخذ عن شيخنا النخبة وشرحها والأربعين وغير ذلك ، بل قرأ عليهما مجتمعين مسند الشافعي في آخرين ، وأجاز له الشرف عبد الله بن محمد بن مفلح الحنبلي القاضي وعائشة ابنة ابن الشرائحي وخلق. وتفقه بعبد الملك بن أبي المنى وابن خطيب الناصرية ، وأخذ العربية والأصلين وغيرهما عن جماعة ، وكتب المنسوب على ابن مجروح ، وكتب التوقيع عند ابن خطيب الناصرية ، بل ناب في القضاء عنه بالبيرة ثم بحلب عن التاج عبد الوهاب الحسيني الدمشقي. وتصدى للإقراء فانتفع به جماعة. وحج وزار بيت المقدس. وقدم القاهرة فأقام بها مدة وتكرر اجتماعي معه بها.

وكان فقيها فاضلا مفننا دينا متواضعا حسن الخط لطيف العشرة ، كتب على الرحبية شرحا ونسخ بخطه الكثير بالأجرة وغيرها. وممن أخذ عنه أبو ذر ابن شيخه.

مات في ربيع الأول سنة تسع وتسعين ولم يخلف في الشافعية بحلب مثله رحمه‌الله.

٦٥٥ ـ القاضي كمال الدين محمد بن محمود المعري

المتوفى أواخر هذا القرن ظنا

محمد بن محمود المقر الكمالي كمال الدين الشافعي الشهير بابن المعري ، كاتب السر وناظر الجيش بحلب في دولة السلطان قايتباي.

اتفق لجدي الجمال الحنبلي معه أن تلاقيا ذات مرة في الطريق فسلم جدي عليه فلم يرد عليه‌السلام ، فسأله : ما الموجب لترك هذا الواجب؟ فقال : سعيك في كلتا وظيفتي ، فأوضح له أنه لم يسع فلم يصغ وفارقه ، وأرسل من ساعته إلى السلطان قايتباي وكان صديقه من قبل السلطنة يسأله في كلتيهما ، فبعث له خفية مرسوما شريفا بتقريره فيهما وأواصاه أن لا يظهره حتى يرسل إليه ما يعتمد عليه ، فما مضت مدة يسيرة إلا وقدم بنفسه إلى حلب حين نزل إلى المملكة الشامية سنة اثنتين وثمانين وثمانماية فحاسب المقر الكمالي فخرج عليه ستة آلاف دينار ، فألبس جدي خلعة الوظيفتين (وفوض إليه تخليصها منه ، فبقي عليه منها بقية ، فأخذها من جدي وكيل السلطان بطريق العدوان ، فرفع أمره إلى الأبواب الشريفة ، فورد مرسوم شريف لكافل حلب بأخذ البقية ليأخذها

٣٢٣

جدي عوضا عما أخذ منه ، فعزل بعد قليل من الوظيفتين) (١). وفاته أخذهما ، ولما أظهر السلطان قايتباي لجدي أنه قرره في الوظيفتين من قبل أن يلبسه الخلعة أرسل جدي إلى المقر الكمال إبراهيم بن شمس الجمالي من ساعته ، فإذا هو في محل ولايته ودواته مفتوحة بين يديه ، فصعد إليها وأغلقها بعنف وشدة قائلا له : لقد عزلتم ، ونزل في الحال ذاهبا عنه. ا ه. (در الحبب).

٦٥٦ ـ حفصة ابنة ابن خطيب الناصرية المتوفاة في هذا العقد ظنا

حفصة ابنة العلاء علي بن محمد بن سعد بن محمد الطائية الحلبية المعروف أبوها كما مضى بابن خطيب الناصرية.

ولدت سنة عشر وثمانماية تقريبا. ذكرها البقاعي مجردا ا ه.

ولم يذكر السخاوي تاريخ وفاتها فوضعتها في هذا العقد.

٦٥٧ ـ محمد بن محمد بن خنفس المتوفى أواخر هذا القرن ظنا

محمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن عبد الواحد الشيخ شمس الدين الأنصاري السعدي العبادي الحلبي الحنفي المشهور بخنفس ابن ابن خال جدي الجمال الحنبلي.

كان فقيها عظيما من جملة تلامذة ابن أمير حاج الحنفي يتعاطى صنعة الشهادة بمكتب العدول بسوق يشبك ، ووقّع لدى قضاتها ولم يشهد على امرأة قط. وكان دينا خيرا. وكان يكتب على الفتوى وينسخ بخطه الكتب لنفسه ، إلا أن قاضي الباب ابن سراج عبث به فأنشد فيه :

الله مد لمدتي فتطاولت

حتى رأيت من الزمان عجيبا

الخنفسا ولد القضاة موقعا

والتيس أضحى عاملا وخطيبا

أراد بالتيس تاج الدين ابن المعزاية الحراني لما كان بينه وبينه من المهاجاة.

__________________

(١) ما بين قوسين زيادة من «در الحبب».

٣٢٤

واتفق له ذات يوم أنه حضر بمجلس قاض لأداء شهادة فجرى هناك ذكر رجل حقير ارتكب أمرا حقيرا فظنه أمرا عظيما ، فقال بعض الحاضرين بنية ضرب المثل : بالت البغلة ، عامت الزبلة ، ركبت الخنفسا ، فتغير مزاجه في الحال واعتقد أن ذلك في حقه إلى أن أزالوا ما في خاطره ا ه. (در الحبب).

٦٥٨ ـ محمد بن السيد منصور المتوفى في هذا العقد ظنا

محمد بن محمد بن علي بن هاشم بن مرهف بن محمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين ابن عبد الله بن أحمد المعالم ابن الحسين المقدم بالكوفة ابن حسن الكبير ابن عيسى بن عبد الله بن موسى الكاظم السيد الشريف قاضي القضاة رضي الدين أبو بكر وأبو جعفر الموسوي الحسيني الحلبي الحنبلي المشهور بابن السيد منصور المرفوع نسبه إلى موسى الكاظم رضي‌الله‌عنه ، هكذا قال على حسب ما وجدته بخطه في مجموع وإن لم يكن فيه اسم منصور ، لأن هذا الاسم كان لقبا لأبيه محمد وكان نشاويا وبه كانت شهرته في الوثايق الشرعية المكتتبة بمحكمته وغيرها.

كان القاضي رضي الدين في مبتدأ أمره يتعانى الأدب وينظم الشعر ويجلس بمركز العدول بسوق الصابون ، ثم أخذ في تحصيل العلم والحديث عن جماعة من الحلبيين منهم البرهان ابن الضعيف الشافعي والعلاء بن مفلح الحنبلي قاضي حلب والشمس السلامي ، ثم رحل القاضي رضي الدين إلى القاهرة فكان ممن أخذ عنه الحديث وغيره قراءة وسماعا في سنة سبع وثمانين وثمانماية المحب أبو الفضل ابن الشحنة بمشاركة صهره الحافظ جمال الدين بن شاهين الكركي سبط الحافظ الناقد ابن حجر وولده القاضي أثير الدين وسبط ولده هذا عمي النظام الحنبلي. ثم تنفس له الدهر فرأس وخالط أركان الدولة ، وحدثته نفسه بتولي المناصب السنية والمناصبة فيها والمزاحمة عليها كما زاحم أرباب التصانيف ، فشرع في كتاب سماه «التراجم المحررة المزادة على التذكرة» ولم يتمه لم يكتب منه إلا اليسير على ما وجدته بخطه ، وهو الذي قصد أن يضمنه تراجم ظفر بها ما لم يذكره البرهان الحلبي في كتابه «تذكرة الطالب المعلم عمن يقال إنه مخضرم». ثم ولي عن جدي الجمال الحنبلي كتابة السر ونظر الجيش ونظر القلعة الحلبية سنة تسعين ، وبعث من القاهرة إلى شيخه الجلال النصيبي يستنيبه في مناصبه إلى أن يحضر ، فأساء الأدب معه إذ ترفع عليه ، فصمم على

٣٢٥

بيع بيته بحلب ورحل إلى حماة ورأى أن لا يكون بحلب وذاك بها ، إلى أن آل البيت إلى حفيده البدر حسن وعاد الماء إلى مجراه. ثم أضيف إلى القاضي رضي الدين قضاء الحنابلة بحلب سنة ثمانماية وإحدى وتسعين فجعل توقيعه (الحمد لله مظهر الحق). ثم عزل بجدي سنة خمس وتسعين. وكان قد تجمع عليه للخزائن الشريفة بسبب كتابة السر ونظر الجيش مال ، فامتحن بالاعتقال بحلب.

ومن شعره ما ضمنه مصراعا للشريف الرضي الموسوي :

إن المكارم والأخلاق ترفعني

إلى العلا أتخطى كل مختدم

جدي النبي وأمي بنته وأبي

وصيه وجدودي خيرة الأمم

وقوله في مطلع مدح :

قسما بنار في الحشا تتسعر

وأسى يزيد ومهجة تتفطر

وصبابة لا منتهى لأقلها

وجوى يفيض ومقلة تتقطر

إني على عهد المحبة ثابت

تتغير الدنيا ولا أتغير

لا أنقض الود الذي أبرمته

حاشا لمثلي في هواكم يغدر

أنا حبكم قد حل بين جوانحي

فلذا السلو بخاطري لا يخطر

إلى أن قال :

ولرب دهر قد تناعس وانثنى

وغدت سهام خطوبه لي توتر

أمضى صوارمه لنحري عامدا

فكأنه شرر لحربي ينظر

وأراه للحرمان مبتسما ولي

يفتر عن أنيابه ويكشر

ثم قال :

هذي أسايا الدهر يخفض كاملا

والنذل فيها لا يزال يصدّر

جار الأعادي في المظالم وافتروا

وأتوا ببغي زائد وتكبروا

ثم قال :

إن أبرموا سوءا فربي حسبنا

هو ملجأي إن أضرموا أو أضمروا

٣٢٦

إن أجمعوا الخذلان لست بواجم

إن كان شمس الدين لي قد ينصر

ا ه. (در الحبب).

٦٥٩ ـ يوسف بن عبد الرحمن الحنبلي المتوفى سنة ٩٠٠

يوسف بن عبد الرحمن بن الحسن قاضي القضاة زين الدين أبي البشرى عبد الرحمن التادفي الحلبي الحنبلي جدي سبط الشهاب أحمد بن عبد الواحد بن علي بن محمد بن يوسف ابن محمد ابن الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن يوسف بن عبد الواحد الأنصاري السعدي العبادي الحلبي الحنفي.

ولد كما أخبرني من أثق به عنه سنة خمس وعشرين وثمانمائة.

وكان من خبره أن والده توفي عنه صغيرا فنشأ تحت كنف خاله ، وحفظ القرآن العظيم وجود الخط وأخذ عن أخواله الأنصاريين صنعة التوريق ومعرفة الشروط لأنهم كانوا عدولا بحلب فضلاء عارفين بشروط الوثايق الشرعية ، ولازم بها محاكم قضاة القضاة الأجلاء المتقدمين بمشيخة الإسلام من ذوي المذاهب الأربعة كالمحب أبي الفضل محمد بن الشحنة الحنفي والبرهان إبراهيم السوبيني الشافعي ـ وكان كما قال السخاوي من أوعية العلم مطرح التكلف على طريق السلف محمود السيرة ـ والعز النحريري المالكي وقاضي الحنابلة سالم ابن سلامة الحموي ، حتى قال السخاوي : إنه حنبله ووقع بين يديه بل ناب عنه ، وهذا منه مشعر بأنه لم يكن حنبليا ، وليس ببعيد لما أنه نشأ بين أظهر أخواله ، وإنما كانوا مقلدين أبا حنيفة رضي‌الله‌عنه.

ونسخ بخطه كثيرا من المبسوطات كالبخاري وغيره ، وقابل وصحح وطالع وتصفح ، وكثيرا ما أفتى لمن له استفتى. واتفق له في مقابلة شمائل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للترمذي على نسخة البرهان الحلبي أنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منامه ، ووقف على قواعد ابن رجب في مذهب الحنابلة فإذا هو كتاب يفتقر إلى التهذيب وحسن الترتيب فهذبه تهذيبا ورتبه ترتيبا عجيبا وعرض ما وضعه وهو يومئذ بالقاهرة على الإمامين الجليلين الحنبليين الشهاب أحمد الشيشني والبدر محمد السعدي ، فقرظا له تقريظا حسنا ، وناهيك بالمثنّى

٣٢٧

بذكره عالما ، فقد خضع له شيخ حنابلة الشام العلاء المرداوي وأذعن له إذ أخطأ في أشياء كائنة في تصانيفه.

وولي جدي قضاء الركب الحجازي. وفي ثالث عشر شهر رجب سنة ثمان وأربعين وثمانماية ولاه العز النحريري الحكم بمدينة ديركوش وأعمالها ، ثم ولاه السوبيني وظيفة الحكم والقضاء بمدينتي كلّس والراوندان سنة خمسين وثمانماية ، وفيها أذن له أمير المؤمنين المستكفي بالله العباسي في العقود الحكمية بحلب وأعمالها وفي الفسوخ على قاعدة مذهبه وكتب له خطه بالإذن على هامش قصة رفعها إليه. وفي ثالث ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وثمانماية ولاه الأثير ابن الشحنة الحنفي خلافة الحكم بمدينة الباب ، وكان كل قاض مأذونا له في نصب من يحكم في الوقايع على قاعدة مذهبه حيث لا خلاف بين الناصب والمنصوب.

ثم تولى قضاء حلب في حدود الستين على ما ذكره قاضي القضاة مجير الدين المقدسي الحنبلي في تاريخه المسمى «بالتاريخ المعتبر في أنباء من عبر» حيث قال في ترجمته : وكان من أهل الفضل حسن الشكل وخطه حسن وله مروءة وشهامة ، وكانت ولايته لمنصب القضاء بحلب في دولة الملك الأشرف إينال في حدود الستين وثمانماية عوضا عن قاضي القضاة علاء الدين مفلح رحمه‌الله تعالى. انتهى.

وذكر في موضع آخر في تاريخه هذا أن العزل والولاية وقعا لجدي به مرات ، ويعضد ما ذكر تصريح الشيخ أبي ذر في تاريخه بوقوع ولاية جدي به في صفر سنة ستين وثمانماية ، فلما كانت دولة الملك الظاهر خشقدم كتبت إليه مكاتبة من قبله مؤرخة في ربيع الأول سنة ثمان وستين وثمانماية تتضمن إعلامه بأن المقر الزيني بن مزهر الأنصاري الشافعي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية فاوض مسامعه الشريفة في أمره وتزايد شكره فيه وثناؤه عليه وأنه قرره على ما بيده من قضاء الحنابلة بحلب ، وبعث له خلعة أمر كافلها في مثال (١) كتبه إليه بأن يلبسه إياها بدار العدل ، ثم عزل عنه ثم ولاه إياه سنة إحدى وسبعين وثمانماية وكتب له توقيع ، وهو المسمى الآن بالبراءة ، متوج بما نصه : الحمد لله الذي أعاد لمنصب الشريعة المطهرة الحاكم الذي تحلى من العلوم بحلل الجمال ،

__________________

(١) في الأصل : كتاب ، وفي «در الحبب» : مثال. والمثال : هو الأمر العادي أو القرار الذي يصدره السلطان لإنهاء أي خبر ، بالإضافة إلى دلالته عن معنى الوثيقة الإقطاعية.

٣٢٨

ونصب لرفع مناره من العلماء من إذا تكلم في الأحكام أزال اللبس والإشكال ، وكان مسددا في الأقوال والأفعال. ثم كتب له توقيع ثان في السنة الثانية متوج بما نصه : الحمد لله الذي أعلى منار الشرع وزانه بجماله ، وجلا دجاه بمن تحسده البدور في الأفق ليالي التمام على كماله ، وشيد ركنه بمن يقصر باع السيف في جلاده عند جداله ، وحفظ قواعده بمن إذا أمسك قلم فتاويه تفيأت الأحكام تحت ظلاله.

ثم لما نزل الملك الأشرف قايتباي إلى المملكة الشامية سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة أنعم عليه باستقراره في كتابة السر ونظر الجيش ونظر القلعة مضافة إلى منصب القضاء كما أفاد ذلك القاضي مجير الدين في تاريخه. ثم قرر الرضي بن السيد منصور الحنبلي (المترجم قبل هذا) في الوظايف الثلاث في أواسط سنة تسعين وثمانماية ، وبرز أمره برفع جدي إلى القلعة الحلبية ، وطلب خمسة آلاف دينار منه لأن أيامه كانت أيام مصادرات ، فرفع إلى مقام الخليل عليه‌السلام فبقي بها ستة أشهر يختم في كل يومين منها ختمة ، وبعث إلى صديقه (قانصوه خمسماية) يستنهضه في رفع هذه المحنة ، فسأل المقام الشريف في ذلك فسمح بإطلاقه من القلعة ولم يسامح عن الخمسة آلاف دينار بخمسمائة ، بل طلبه إلى القاهرة وطالبه بها في صورة أنها باقية عليه من متحصل الوظايف وقال له : أين مالي؟ فقال له : في خزائن مولانا ، فلما رآه قد أغلظ عليه بالقول عزله عن قضاء الحنابلة أيضا وسجنه ، فبقي بالسجن نحو ثلاث سنين يتعاطى فيها التلاوة والأوراد والتسبيح والتأليف ، وكتب له وهو بالسجن وصية خالية عن حرف الألف تعرضنا لذكر بعضها في كتابنا المسمى «بحدائق أحداق الأزهار ومصابيح أنوار الأنوار» وقصيدة أغلظ فيها القول أيضا موميا فيها إلى الرضي بن السيد منصور الحنبلي. (قائلا في مطلعها (١) :

قل للذي عم الخلائق بأسه

يا أيها الملك العظيم الأشرف

انظر لخلق الله نظرة رحمة

في آخر العمر الذي لا يخلف

واستر عوار الملك يا من عزمه

هدّ الجبال وعقله لا يوصف

في مثل هذا الوقت تنصب صبية

لم يعرفوا والله أن يتصرفوا

وتعود أحوال البلاد قطيعة

والناس فوضى ما لهم من ينصف

__________________

(١) أثبتنا ما بين قوسين عن «در الحبب».

٣٢٩

حلب تريد لها رجالا كمّلا

ليدبروا أمر العباد وينصفوا

وإذا بغى باغ تولوا قمعه

بسديد رأي صائب وتألفوا

واستجلبوا الدعوات من صلحائهم

لملوكهم وتضرعوا وتلهفوا)

وكتب للمقر الزيني أبي بكر بن مزهر الشافعي يطلب منه إسعافه قصة خالية عن حرف الألف خطا ورفعها إليه على يد عمي القاضي نظام الدين يحيى ، إلا أنه لم يكتب له هذه إلا وهو في ترسيم خاصكي بعد آخر (هكذا) إلى أن آل أمره إلى السجن فرفع وهو فيه إلى الأشرف قايتباي نظير هذه القصة كما علمت. ثم ألف له وهو فيه أيضا كتابة الموسوم «بمفاتيح الكنوز الثنية المشتملة على الأدعية المروية الجالبة للخيرات الدنيوية والأخروية المهداة إلى الخزائن الأشرفية» ورفعه إليه يوم الموكب على يد إبراهيم بن شمس الجمالي فقال له : قل للقاضي جمال الدين يرسل لنا من كنوزه ، فقال في جوابه بديهة. كيف وقد صارت مفاتيحها بيد مولانا السلطان ، فأعجبه الجواب ففرج عن جدي وجبر قلبه وولاه قضاء الحنابلة بحلب كما كان سنة خمس وتسعين.

قال السخاوي : وكذا ولي نظر القلعة والجوالي ، وطلب مرة أخرى في أيام سلطنته إلى الأبواب الشريفة لشكاية بعض الحلبيين عليه بأنه حكم بصحة بيع وقف عامر آل ريعه إليه ، فسأله قاضي الجنابلة بالديار المصرية بدر الدين السعدي : على أي نقل مسوغ لهذا البيع اعتمدت؟ فسكت طويلا ، فأعاد عليه سؤاله فأطال سكوته ثانيا ، فكرر السؤال ثالثا فأخذ يقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر المرة بعد المرة ، إلى أن قال : اعتمادي على نقل في الكتاب الفلاني وكان النقل من خبايا زواياه ، فأنكر عليه قوله وشدد عليه في السؤال رابع مرة إلى أن ظهر النقل حيث لا يعهد ذكره فيه ، فظهر أن الحق بيده ، فأثنى عليه قاضي القضاة السعدي ، وبلغ ذلك السلطان قايتباي فأذن له إذنا خاصا في إجراء الأحكام الشرعية بالقاهرة بين طائفتين من الحلبيين كانوا قد توجهوا إليها في دعاوي مشكلة تتعلق بأوقافهم من جهة الاستحقاق والحجب عنه ، فكان قضاتها يعجزون عن فصلها لعدم خبرتهم بأنساب أهلها ، فحكم بينهم بالأمر السلطاني ، وعاد إلى حلب وهو على وظيفته بل وظائفه.

وفي سنة تسع وتسعين وثمانمائة ولي مشيخة الشيوخ بحلب مضافة إلى منصب القضاء وما معه بعد أن اجتمع بدار العدل بهما ، وكافلها يومئذ السيفي أزدمر ، وجماعة من قضاة

٣٣٠

القضاة ومشايخ الإسلام وجم غفير من الفقراء القادرية والرفاعية وغيرهم ، ورضوا به أن يكون شيخ شيوخ حلب ، فألبسه الخلعة كافلها ، فذهب بها إلى منزله وهم معه في يوم مشهود مد لهم فيه السماط على جاري العادة ، وكانت خرقته قادرية ألبسه إياها السيد الشريف عبد الرزاق الحموي الكيلاني وأجاز له أن يجلس على سجادة المشيخة وأن يأخذ عهد التوبة على كل طالب وراغب وأن يتصرف مع سائر طوائف الفقراء تصرفا عاما مقيدا بالكتاب والسنة ، وكتب له درجا حافلا بالإجازة مؤرخا بشهر صفر الخير من السنة المذكورة مرقوما في صدره بعد البسملة : الحمد لله الذي نره مكنون سر جماله المصون عن الحلول ، وقدس لطيف ألطاف نور كماله عن الغياب والأفول.

وفي أواخر عمره منع الموقعين ببابه أن يترجموا له في الوثايق الشرعية الترجمة المبسوطة ، التي كادت تكون بمجاوزة الحد منوطة ، وأمرهم أن لا يترجموا له بأكثر من قاضي المسلمين تالي كلام رب العالمين خادم سنة سيد المرسلين محب الفقراء والمساكين.

وعند ما قرب أوان وفاته رأى في منامه كأنه سقط في حفرة دولاب ووضعت عليه اللبنات كما في القبر ، فأصبح محموما وهو يخبر أن تلك الحفرة ما هي إلا القبر وأنه يموت بتلك الحمى ، وكان الأمر كما قال ، ولم يزل عند الاحتضار يذكر الله تعالى إلى أن خفي صوته شيئا فشيئا وفارق الدنيا. وكانت وفاته في المحرم سنة تسعمائة ودفن بتربته التي أنشأها خارج باب المقام ، واختلق عليه بعض الحساد أنه سماها إرم ذات العماد ، ورفع ذلك إلى مسامع السلطان قايتباي حتى كانت منه المصادرة لتوهم أن له الأموال الكثيرة الوافرة.

وقد بلغني أنه كان مع ما له من الفضائل العلمية والمآثر العملية لسنا جهوري الصوت حسن التلاوة حسن النية معمور الطوية معتقدا لسان المجالس وترجمان المحافل مقدام كل خطب ، حلّال كل أمر صعب ، منور الشيبة ووافر الهيبة ، مخفوض الجناح ومائلا إلى أرباب أهل الصلاح ، يقول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم كما هو الأحق. ونظم ونثر ورفع إليه الكثير من أشعار الأدباء وقصائد النجباء. وممن نطق بمدحه وأشار إلى علو صرحه قاضي القضاة الجلال النصيبي الشافعي. قيل وممن مدحه شيخنا العلاء الموصلي والشهاب أحمد ابن الكاتب الحنفي وعلي السروي الأزهري. ثم مع ما قيل فيه من المدح لم يكن سالما من القدح ، وذلك أن السخاوي ذكر في تاريخه أنه تزوج امرأة يقال لها الصفيرا ثم فارقها

٣٣١

وتزوج بابنة الشمس الأنصاري وهي سمراء اللون أمها أمة سوداء ، فقال قاضي الباب الشهاب ابن السراج فيه :

ولرب قاض أحمر من كعبه

ما كان قط له يد بيضاء

لعبت به الصفراء أول عمره

والآن قد لعبت به السوداء

قلت : وهجاء قاضي الباب إنما صدر منه في حقه بواسطة أنهما كانا يتناوبان قضاء الباب عزلا وتولية ، وعدو المرء من يعمل بعمله فلا يقبل منه ما كان صدر عنه.

وهذا قاضي القضاة شيخ الإسلام العز محمد بن خليل بن هلال الحاضري الحلبي الحنفي والد العز محمد الذي كان تولى قضاء سرمين قد أثنى عليه وهو رفيقه في الأخذ عن مشايخ عدة كثيرا سماعا واشتغالا في الرحلة وغيرها ، منهم الحافظ برهان الدين الحلبي فقال : لا أعلم بالشام كلها مثله ولا بالقاهرة مثل مجموعه الذي اجتمع فيه من العلم الغزير والتواضع الكثير والدين المتين والذكر والتلاوة. ثم كان قدح المحب أبي الفضل ابن الشحنة فيه لاشتغاله بقضاء حلب بعد أبيه. قال في «اقتطاف الأزاهر في ذيل روض المناظر» : وكان حسن الذات والأدوات مطرحا للتكليف لا يعاب بشيء سوى التصون وشراء حاجته بنفسه ومراعاته للدولة ، وعدم مخالفة ولده عز الدين أبي المحامد وأنه أغراه على الإذن للفرنج المقيمين بسرمين بإعادة الكنيسة بها والحكم بذلك بخدمة له ولولده عادت عليها نقمة ، فإن ذلك فتح عليهما بابا واسعا في أعراضهما ا ه. (در الحبب).

هذا ما ترجمه به حفيده الرضي الحنبلي ، وإذا تأملت في حواشي كلامه تجد أنه لم يكن في الاستقامة والصيانة في الدرجة التي ذكرها حفيده الرضي.

وله ترجمة موجزة في ضوء السخاوي تؤيد ما قلناه ، فقد قال : إنه اختص بسالم بن سلامة بن سلمان الحموي قاضي الحنابلة بحلب فحنبله ووقع بين يديه بل وناب عنه ، وامتحن بالضرب والإشهار من الشهاب الزهري لشهادة شهدها للمحب ابن الشحنة ، ثم لما قتل مخدومه سالم رام من العلاء بن مفلح الاستنابة فامتنع لقرب عهده مما تقدم ، فانتمى للزين عمر بن السفاح فساعده عند الجمالي ناظر الخاص بحيث إن العلاء لما انتقل لقضاء دمشق استقر عوضه في حلب ببذل معجز وتقرير سنوي ، وتكرر صرفه عنه إلى أن ولاه الأشرف قايتباي كتابة سرها ونظر الجيش أيضا عوضا عن الكمال المعري حين

٣٣٢

حبسه بالقلعة مضافا للقضاء ، ثم صرف عن الثلاثة بالسيد ابن أبي منصور بسفارة الخيضري مع مال بذله وتقرير أيضا ، وطلب هذا إلى القاهرة فنقم عليه أنه باطن في قتل ابن الصوة وحبس بالمقشرة بحجة ما تأخر عليه من المال الملتزم به ، فدام بها نحو خمس سنين إلى أن أطلق بعناية يشبك الجمالي وأعيد للقضاء في سنة خمس وتسعين. (ثم قال) : وذكر بفضل ، بل قيل إنه صنف مما فرضه له السعدي قاضي مصر ، وهو حسن الشكالة والكتابة فصيح العبارة مصاهر لبيت ابن الشحنة ا ه.

٣٣٣

(أعيان القرن العاشر)

٦٦٠ ـ علي علاء الدين العربي المتوفى سنة ٩٠١ (١)

المولى علي علاء الدين العربي. قال في «الشقايق النعمانية» : كان أصله من نواحي حلب ، قرأ أولا على علماء حلب ، ثم قدم بلاد الروم وقرأ على المولى الكوراني وهو مدرس بمدينة بروسة ، ثم وصل إلى خدمة المولى خضر بك ابن جلال الدين وحصل عنده علوما كثيرة ، ثم إنه صار معيدا له بأدرنة بمدرسة دار الحديث وصنف هناك حواشي شرح العقائد ، ثم صار مدرسا بمدرسة السلطان مراد خان بن أورخان الغازي بمدينة بروسة ، واتفق أن جاء الشيخ علاء الدين من رؤساء الطائفة الخلوتية فذهب يوما إلى دار المولى العربي ودق بابه فخرج وسلم هو عليه ثم أدخله بيت مطالعته وأحضر له الطعام وتحدث معه في فن التصوف ، فانجذب إليه المولى العربي انجذابا شديدا حتى اختار صحبته على التدريس وأكمل عنده الطريقة الصوفية حتى أجازه في الإرشاد. ولما اجتمع الناس على الشيخ علاء الدين المذكور لقوة جذبته حصل منه الخوف للسلطان محمد خان ، فنفاه من البلد. وأراد المولى علاء الدين أن يجادل عنه ويجيب لخصمائه فنفوه معه إلى بلدة مغنيسا وكان أميرها وقتئذ السلطان مصطفى ابن السلطان محمد خان ، فصاحب هو مع المولى علاء الدين العربي المزبور وأخيه محبة عظيمة فشفع له إلى أبيه ، فأعطاه أبوه مدرسة ببلدة مغنيسا فاشتغل هناك بالعلم غاية الاشتغال ، واشتغل أيضا بطريقة التصوف فجمع بين رياستي العلم والعمل. يحكى عنه أنه سكن فوق جبل هناك في أيام الصيف ، فزاره يوما واحد من أئمة بعض القرى فقال المولى المذكور : إني أجد منك رائحة النجاسة ، ففتش الإمام ثيابه فلم يجد شيئا ، فلما أراد أن يجلس سقط من حضنه رسالة وهي واردات الشيخ بدر الدين ابن

__________________

(١) تنبيه : ما نذكره في هذا القرن بدون عزو فهو منقول عن «در الحبب» للرضي الحنبلي.

٣٣٤

قاضي سماوة (١) ، فنظر فيها المولى المذكور فوجد فيها ما يخالف الإجماع ، وقال المولى : كأن الريح المذكور لهذه الرسالة ، فأمره بإحراقها ، فخالفه الإمام ولم يرض بذلك ، وقال له المولى المذكور : عليك بإحراقها ولا يحصل لك منها الخير ، وبينما هما في ذلك الكلام ظهر من بعيد أثر النار ، فنظر الإمام وقال : إنها في قريتي ، ثم نظر بعد ذلك وتأمل وقال : أوّه إنها في بيتي ، فتوجه الإمام إلى بيته نادما على مخالفته.

وروي أنه كان لبعض أبنائه ولد فمرض في بعض الأيام مرضا شديدا حتى قرب من الموت ، فذهب والده إلى بيت المولى المذكور وهو في الخلوة الأربعينية فتضرع بأن يذهب إلى المريض ويدعو له ، فلم يرض بذلك ، ثم أبرم عليه غاية الإبرام فخرج من الخلوة ودخل على المريض وهو في آخر رمق من الحياة ، فمكث ساعة مراقبا ثم دعا له بالشفاء ، فاستجاب الله دعوته حتى قام المريض من فراشه ، فأخذ المولى المذكور بيده فأخرجه من البيت كأن لم يمسه مرض أصلا ، وعاش ذلك الولد بعد وفاة المولى المذكور مدة كبيرة.

ثم صار المولى العربي مدرسا بإحدى المدرستين المتجاورتين بأدرنة ثم بإحدى المدارس الثمان ، وكان في كل جمعة يعقد في الجامع مجلس الذكر مع المريدين له.

وكثيرا ما يغلب عليه الحال في ذلك المجلس ويغيب عن نفسه ، ولهذا كان لا يقدر على الدرس يوم السبت ويدرس بدله يوم الاثنين. ثم عين له السلطان محمد خان في آخر سلطنته كل يوم ثمانين درهما ، فلما جلس السلطان بايزيد خان على سرير السلطنة غيّر ذلك وعيّن له خمسين درهما ، وكان ذلك رغما من جانب بعض الوزراء ، فتردد في القبول فنصحوا له فقبل ثم جعلوا له ثمانين درهما.

ثم صار مفتيا بقسطنطينية وعين له كل يوم مائة درهم ، مات وهو مفت بها سنة إحدى وتسعمائة.

وكان رحمه‌الله تعالى عالما بالعلوم العقلية والشرعية سيما بالحديث والتفسير وعلم أصول الفقه ، وكان كتاب التلويح في حفظه ويدرس منه كل يوم ورقتين. قال المولى الوالد :

كنت في خدمته مقدار سنتين وقرأت عليه كتاب التلويح من الركن الأول إلى آخر الكتاب ،

__________________

(١) في «الشقائق النعمانية» : سمادنة. وفي طبعة إستانبول للشقائق : سماوند.

٣٣٥

وكان يمتحن الطلاب في المواضع المشكلة ويصرح بالاستحسان لمن أصاب. قال : وكان رجلا طويلا عظيم اللحية قوي المزاج حتى إنه كان يجلس عند الدرس مكشوف الرأس في أيام الشتاء ، وكان له ذكر قلبي كنا نسمعه من بعيد ، وربما يغلب صوت الذكر من قلبه على صوته في أثناء تقرير المسألة ويمكث ساعة حتى يدفع صوت قلبه ثم يشرع في تقرير كلامه.

وكان يجامع كل ليلة مع جواريه ويغتسل في بيته في أيام الشتاء ثم يصلي مائة ركعة ، ثم ينام ساعة ، ثم يقوم للتهجد ، ثم يطالع إلى الصبح. وقد ولد من صلبه سبع وستون نفسا وخلف منهم خمسة عشر أو نحو ذلك. وكان لا يدخل الحمّام أصلا استحياء من ذلك. ولما مرض مرض الموت عاده الوزراء الأربعة ومعهم طبيب ، فأمر له الطبيب بالاستحمام فلم يرض بذلك ، فأجلسه الوزراء جبرا على سرير فقبض كل واحد منهم طرفا منه وذهبوا به إلى الحمّام.

وله حواش على المقدمات الأربع قرأها والدي عليه غير بعضا من المواضع منها. ا ه.

أقول : وقد ذكر طاشكبري ولدين من أولاد المترجم وهما عبد الرحيم ذكره في الشقايق وقال : إنه توفي سنة ٩٢٣ في الآستانة ، وعبد الباقي ذكره في العقد المنظوم وقال : إنه توفي سنة ٩٧١ في الآستانة أيضا وكلاهما عالمان فاضلان.

٦٦١ ـ حسن الكبيسي المتوفى سنة ٩٠١

حسن بن أحمد الشيخ بدر الدين الكبيسي ثم الحلبي.

كان معتقدا عند الناس كثير المحبة للعلماء والصلحاء عظيم الميل إلى مجالس العلم والعظة والذكر ، ومن المجالس التي حضرها مجلس سمع فيه التقي أبو بكر بن محمد بن الحيشي ثلاثة أحاديث من أول باب صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشمائل على الرّحلة مسند الدنيا الشيخ محمد بن مقبل بن عبد الله المؤذن بالجامع الأموي بحلب وأجاز لهما ، وإن كان التقي قد استوعب الكتاب سماعا عليه على ما مر في ترجمته.

واتفق لوالدي والكمال النبهاني معه أنهما ترددا في الرواح إلى مكان وتحيرا أيتوجهان إليه أم لا ،؟ فبينما هما داخلان إلى الجامع المذكور إذا هو بين أيديهما وهو يقول : السلام

٣٣٦

عليكما أروح أو ما أروح؟ فقالا له : ونحن أيضا نروح أو ما نروح؟ فقال : روحوا ، فقالا له أيضا : وأنت رح.

قيل : ولم يضبط عنه أنه حلف يوما على نفي ولا إثبات. وأثنى عليه الزين الشماع في عيون الأخبار فقال : لم تر عيني من هو في مجموعه في شدة ضبطه للسانه وتمسكه بالشريعة ا ه.

وبلغني أنه لما قربت وفاته أوصى أن يكفن في شاش كان على رأسه ، فكفن فيه بعد أن تبرع له معتقدوه بأكفان كثيرة. مات في سنة إحدى أو بعدها.

٦٦٢ ـ يوسف بن قرقماس الحمزاوي المتوفى سنة ٩٠٢

يوسف بن قرقماس السيفي قانيباي (١) الحمزاوي ، الأمير الكبير الجمالي جمال الدين أبو المحاسن الحلبي الحنفي.

كان والده من مماليك قانيباي الحمزاوي كافل حلب ، فمات عنه وهو صغير ، فربته زوجة سيده الكافلي إلى أن كبر وكثر ماله واتسعت أملاكه وحصلت له حظوة زائدة عند قانصوه اليحياوي ، وكان من أقرانه بالسلطنة لما أن الجمالي كان من الأساتذة المهرة في العلوم الفلكية وكذا الحسابية وغيرها ، فبرز أمر قايتباي أن يكون أمير الركب الحجازي بحلب وكان بها في دولته أميرا له ، فامتثل أمره ولم يدفع إليه شيئا من الخزاين الشريفة أسوة من كان قبله من أمراء الحج بها ، فصرف من ماله جميع ما كانت تفتقر إليه إمارة الحاج في تلك السنة ، ثم برز أمره بذلك في السنة الثانية ثم في الثالثة والجمالي يتمثل أمره ويصرف من خالص ماله إلى أن آلت به إلى رثاثة حاله ، وكان ما كان مصادرة له أجر فيها ، وقد يؤجر المرء على رغم أنفه.

ثم لما توفي السلطان قايتباي ذهب إلى القاهرة وبقي بها إلى أن توفي في سنة اثنتين أو بعدها وتسعمائة.

وقانيباي الحمزاوي كافل حلب هو الذي صار من بعد كافل دمشق ومات بها سنة

__________________

(١) في الأصل وفي «در الحبب» : قايتباي الحمزاوي. والصواب ما أثبتناه.

٣٣٧

ثلاث وستين وثمانمائة بعد ما جدد بها هو وزوجته شعيل مئذنة العروس ليالي الجمع إلى أن أبطلها المحدث برهان الدين الناجي الشافعي على ما ذكره صاحب «حوادث الزمان ووفيات الشيوخ والأقران» ا ه.

٦٦٣ ـ عبد الباسط ابن الشحنة المتوفى سنة ٩٠٣

عبد الباسط بن محمد بن محمد ، الزكي الفاضل أبو الفضل محب الدين ابن قاضي القضاة أثير الدين ابن قاضي القضاة شيخ الإسلام محب الدين أبي الفضل ابن الشحنة الحنفي.

ولد بالقاهرة سنة سبع وسبعين وثمانماية ، وسمع بها الحديث على جده هذا والجمال ابن شاهين سبط الحافظ ابن حجر وعلى والده وأجازوا له. ثم قدم حلب مع والده فاشتغل بالعربية والمنطق على العلاء قل درويش وغيره ، ونزل له والده عن وظايف تكون له فيها كل يوم نحو ماية وخمسين درهما منها الخطابة بالجامع الأموي بحلب ونظر الكلتاوية ونصف نظر البيمارستان النوري ، ثم طلب الزيادة في الدنيا لما كان عنده من السخاء وحب الرياسة ، فرحل إلى القاهرة في دولة السلطان الملك الناصر محمد بن قايتباي فاعتنى به وولاه نظر الجوالي بدمشق عن محب الدين الأسلمي مباشر قانصوه اليحياوي كافل حلب قديما وهو الذي كان سامريا فأسلم بالإكراه وصار يدعي الصلاح ودوام الصيام ذريعة إلى أن لا يأكل من أكل المسلمين لو سألوه فيه ويتقيأ ما ألزم بأكله منه مدعيا فساد معدته. ثم لم يزل المقر المحبي بدمشق إلى أن توفي بها قريبا من سنة ثلاث وتسعماية ودفن بمقبرة أويس القرني رضي‌الله‌عنه في قبر القاضي عبد الرزاق الحلبي المشهور بالكلزي لاهتمام أمه لقرابة بينها وبين بني الشحنة بتنزيله فيه.

ولما رحل إلى القاهرة قيل إنه دخل في طريقه إلى ولي الله تعالى الشيخ محمد الجلجولي الرملي فألبسه طاقيته وكان إذا لبسها أحد مات في سنته ، فكان أمر المقر المحبي هكذا.

وكما قيل لي كان ذا شكل بهي وذكاء مفرط وهمة عالية وشهامة زائدة وميل كلي إلى الاجتماع بالإخوان وبسط اليد للخلان ، لا سيما ابن أخته والدي طالما كان له به الاتحاد الزايد والمخالطة السارة في أوقات المذاكرة والمحاضرة والمباحثة والمحادثة وقدح الأفكار في

٣٣٨

قرض الأشعار. ومن شعره القصيدة التي كتب بها إليه بعد توجهه إلى القاهرة وقال في صدرها :

إلى حلب واطول شوقي وحسرتي

هي الورد في نومي وقومي وسرحتي

ففي مائها الشافي شفاء تولّعي

ولطف هواها زاد وجدي ولوعتي

محاسنها أضحت كنار توقدت

على علم ليلا بريح مهبة

وكيف ولا والحال أن أحبتي

وأهلي بها أضحوا عليهم تحيتي

لبعدهم قد صار عيشي منغصا

وجسمي براه البين بري الخلالة

إلى أن قال :

جرى القلم الجاري عليّ ببعدهم

وجاز زماني في شتاتي وفرقتي

وأصبحت صبا في هواهم متيما

أكابد أنواع الجفا والقطيعة

فجسمي معتل ونومي ناقص

كحظي أحبابي فجودوا بزورة

٦٦٤ ـ علي بن محمد الأنصاري المتوفى بعد ٩٠٠

علي بن محمد بن أحمد بن عبد الواحد بن علي بن محمد بن يوسف بن محمد ابن الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن يوسف بن عبد الواحد ، القاضي علاء الدين ابن الشيخ شمس الدين المشهور بالدبل ، بفتح الموحدة ، الأنصاري السعدي العبادي الحلبي الحنفي ، والد سعد المتقدم ذكره.

تولى قضاء كلز في الدولة الجركسية ، واتفقت له بها حادثة في سنة أربع وثمانين وثمانمائة هي أن الكيخيا بها عمر بن ككجا والد الشيخ محمد الآتي ذكره كان قد وقع بينه وبينه خصومة آلت إلى أن ضربه على رأسه ، فحضر إلى حلب شاكيا عليه ، فبعث على إثره كتابا بما تمج الأسماع ذكره لبعض أركان الدولة ، ثم اتفق حضور جدي الجمال الحنبلي وقاضي الحنفية بحلب الشهاب ابن الحلاوي بمجلس حاجب الحجاب بحلب ومعهما القاضي علاء الدين ، فلما استقروا به طلب السكر فسقاهم ، ثم استدعى الكيخيا ، فلما حضر قام له وتكلف القاضيان القيام فطلب صاحب المجلس الصلح ، فقال له جدي : ما كان الأمل منك يا أمير أن نفعل هذا وتكون سببا لإهانة هذه الطائفة ، هذا الرجل جزاؤه أن

٣٣٩

يضرب ويشهر ويهان حق الإهانة. ثم نفر من عنده القاضيان فتوجها إلى قاضي الشافعية العز ابن الحسفاوي وعرفاه بما جرى ، فأمرهما بالامتناع من الحكم فامتنعوا هم وقاضي المالكية عنه ، وأرسل هو إلى مكاتب العدول بحلب يأمرهم بالكف عن الجلوس بها ففعلوا إلى أن سعى الفخر عثمان الكردي في الصلح بين القضاة وحاجب الحجاب ، وكان كرديا لا جركسيا ، فامتنع الشافعي وصمم على ضرب الكيخيا وإشهاره في شوارع حلب إلى أن أوقع الصلح بدار العدل بحضرة القضاة ، إلا الشافعي فإنه تكرر الإرسال وراءه فلم يحضر ، وإنما أرسل نائبه اهتماما منه بشأن الشريعة وقضاتها.

وكان القاضي علاء الدين مزّاحا خفيف الروح فارسا له دربة حسنة في حلبة السباق. توفي بمنزل عمي الكمال الشافعي بعد سنة تسعمائة.

٦٦٥ ـ محمد بن عثمان الدغيم المتوفى سنة ٩٠٥

محمد بن عثمان بن إسماعيل قاضي القضاة شمس الدين بن الدغيم البابي الحلبي الشافعي قاضي الشافعية بحلب وكاتب سرها وناظر جيشها.

توفي سنة خمس وتسعماية. وكان رحمه‌الله ذكيا فقيها متمولا ، سعى في دولة الأشرف قايتباي بمال كثير في أن يتولى قضاء الحنابلة بحلب فلم يسمع له ، وصار السلطان يقول له : متى وضعت في زير الصباغ فصرت أو خرجت حنبليا ، فبقي على شافعيته. ولما ولي قضاء الشافعية بحلب استناب عمي الكمال الشافعي وقرب إليه حتى زوجه ابنته.

٦٦٦ ـ حسن الطحينة المتوفى سنة ٩٠٧

حسن الحلبي الشافعي المشهور بالطحينة.

كان من فقهاء الشيخ عبد القادر الأبار ، ثم صار من مريدي الشيخ موسى الأريحاوي ، وانقطع بالجامع الكبير بحلب بالرواق المعروف يومئذ بمصطبة الطحينة قريبا من أربعين سنة بحيث لا يتغير من مكانه صيفا ولا شتاء ، وله هناك ستارة يرخيها ويسميها البشخاناه. وصار الناس يهرعون إليه بالأموال وغيرها وهو يصرف ذلك في وجوه الخير من عمل بعض الركايا وإصلاح كثير من الطرقات بإزالة ما فيها من الخروقات وغيرها. وكان إذا وقف

٣٤٠