إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

بحلب المشهورة محاسن شهبائها ، واستمر يتفيأ من العز بظله الوريف ، إلى أن قيل له قد حان ما وعدت الحين أيها الشريف. انتهى.

توفي في سنة خمس وخمسين وسبعمائة بحلب عن نيف وسبعين سنة تغمده الله برحمته ا ه (الدر المنتخب).

٣٦٠ ـ عمر بن سعيد التلمساني القاضي المالكي المتوفى سنة ٧٥٦

عمر بن سعيد بن يحيى التلمساني المالكي ، قاضي القضاة بحلب.

ولي قضاء حلب على مذهبه في سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة عوضا عن القاضي شهاب الدين أحمد بن ياسين الرباحي ، وباشرها نحو خمسة أعوام (وبعد أن ذكر ثناء ابن حبيب عليه قال) :

وكانت وفاته بها عن نيف وستين سنة. وذكره غير ابن حبيب ووصفه بخلاف ما وصفه به ابن حبيب فقال الصفدي : إنه استقر في قضاء حلب بعد الرباحي بعد سعي شديد ، وتعجب الناس من إقدامه على ذلك لما يعرفونه من جهله المفرط وعدوها من المعضلات. قال : وخلف أموالا كثيرة وكتبا جمة. وكانت وفاته سنة ست وخمسين وسبعمائة في رجب ا ه. (الدر المنتخب).

٣٦١ ـ علي بن بلبان المتوفى سنة ٧٥٦

علي بن بلبان الأمير علاء الدين الحاجب.

مولده سنة بضع وسبعمائة. ولي حجوبية دمشق ثم حجوبية حلب وتردد بينهما.

وكان أميرا فاضلا ذكيا فطنا يستحضر كثيرا من أشعار المتقدمين والمتأخرين ، وأمعن التواريخ والوقايع ، مع حلاوة المنطق وفصاحة اللسان وكثرة الاستحضار والتمثل بالبيت النادر في وقته. وكان مع ذلك مشهورا بالكرم والفروسية. توفي سنة ست وخمسين وسبعمائة رحمه‌الله تعالى ا ه. (المنهل الصافي).

أقول : وهو أخو الحسن بن بلبان باني الجامع المعروف بالمهمندار والمشهور الآن

٢١

بالقاضي ، وقد وقفت على ترجمته في مختصر الدر المنتخب لابن الملا بخطه والمنهل الصافي ، وكلاهما لم يذكرا تاريخ وفاته لذا ذكرته هنا ، ويغلب على الظن أن وفاته في هذه السنين.

٣٦٢ ـ الحسن بن بلبان باني جامع القاضي

الحسن بن بلبان حسام الدين ابن المهمندار أخو الأمير علاء الدين أبي الحسن علي الذي كان حاجب الحجاب بحلب والأمير ناصر الدين محمد (١) أحد المقدمين بحلب ثم نائب القلعة بها.

وكان حسام الدين المذكور أميرا بحلب ، وبنى بها جامعا حسنا داخل باب اليهود المعروف الآن بباب النصر ووقف عليه وقفا ، ولما زلزلت حلب سنة ست وثمانماية انهدمت قبلية الجامع المذكور فأعادها بعض التجار من ماله كما كانت ا ه.

وفي الدر المنتخب : تربة بني المهمندار تجاه تربة موسى الحاجب (المتوفى سنة ٧٥٦ وتربته بالقرب من باب المقام).

الكلام على جامع المهمندار :

قال أبو ذر : بناه الحسن بن بلبان حسام الدين المهمندار ، كان من أمراء حلب ، ووقف عليه وقفا من جملته حصة بقرية السموقة وحصة بحمّام عزاز والبيت الذي تجاه الجامع المذكور. ثم إن جمال الدين (٣) يوسف ابن الأمير أحمد المهمندار ذكر أنه استبدل بهذا البيت مكانا (٢). ومن شرط واقفه كما رأيته في كتاب وقفه أن يكون له جاب ومعمار وشاد وقد ألحق فيه وعامل وذلك في عاشر شوال سنة اثنتين وسبعماية. وهذا الجامع نير كثير المياه له منارة لم يوجد في مملكة الشام أحسن منها ، بل ذكر لي أن ولا في مصر أظرف منها. وله منبر من الرخام الأصفر ، وكذلك سدته. وهذه المنارة فيها من الصنايع من أولها إلى رأس قبتها بحيث إن الناظر لا يميز حجرا من حجر من الأشكال المختلفة في نحتها

__________________

(١) كانت وفاته سنة ٧٩٢ ويظهر أنه ولد المترجم أو حفيده ، وقد سقط ذلك من الناسخ.

(٣) في مخطوطة «كنوز الذهب» التي صورتها بحوزة الأستاذ محمد كامل فارس : جار الله يوسف ..

(٢) هو المحكمة الشرعية الآن ، وقد عد ابن الشحنة في الدر المنتخب هذه الدار من جملة الدور العظام التي في حلب ، وكانت سكن الواقف وسكن ذريته من بعده إلى أن استبدلت.

٢٢

وتركيبها ودرابزينها من الأحجار المخرمة. وإلى جانب هذا الجامع مسجد قديم لم يغيره الواقف ، إنما جعله في جانب جامعه من الغرب وفتح بينهما. انتهى.

وبيت المهمندار كان بيت سعادة وحشمة ومعروف ورياسة وثروة كبيرة ، فآل ذلك إلى الأخوين وهما ناصر الدين محمد وشهاب الدين أحمد ، فتوفي شهاب الدين عن ولد ذكر ، وأما ناصر الدين فلم يتزوج قط ، وكان محتشما قليل الكلام ، وله ثروة عظيمة ، وكان يحب جمع الكتب النفيسة والأشياء النفيسة من كل فن. أخبرني القاضي علاء الدين الحاضري قال : اجتمعت به يوما وكان ابن أخيه يوسف صغيرا ، فخرج يلعب فزجره عمه فنهيته عن ذلك فقال لي : إن عمر هذا يبيع مسامير بيتنا. وتوفي ناصر الدين المذكور فورثه ابن أخيه يوسف فحبب إليه الحج ، فحج حجتين عظيمتين وأصرف عليهما أموالا كثيرة وبدرا (١) وباع الأملاك شيئا فشيئا ولم يبق له أثره لكن في أنواع الخير لا في معصية ا ه.

المكتوب على جدار الجامع المذكور بجانب الباب :

ملعون من تعاطى تصوير ما فيه روح بقرب هذا الجامع أو يرفع صورة ما فيها روح ليجمع الناس عليها أو يبيعها ، ومن فعل ذلك كان داخلا في عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إن أصحاب هذا الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم) ا ه وهي بغير تاريخ.

أقول : هذا الجامع في المحلة المعروفة بالفرافرة داخل باب النصر ، ويعرف عند الناس بجامع القاضي. وكان عمر بن موسى بن علي المهمندار بالمملكة الحلبية وقف بعد الثمانمائة وقفا كبيرا بحلب وعينتاب وفي بعض القرى وجعل ثلث ريعه لهذا الجامع ، ومنذ مائة سنة تغلبت الناس والحكومة ودائرة الأوقاف على هذه العقارات ولم يبق بيد المتولين شيء مما وقفه عمر بن موسى المذكور ، والباقي له الآن من العقارات ٢٥ دكانا منها ثمانية مخرجة من نفس الجامع ومنها ما هو مخرج من المحكمة الشرعية أخرج منها ثمان دكاكين والباقي هو في السوق المعروف بسويقة علي بالقرب من الجامع ، وله ربع حمّام السلطان التي هي تحت القلعة وسدس حمّام البشاشير في عينتاب المعروفة (بحمام إيكي قبولي) الواقعة في محلة ابن أيوب ، وتبلغ واردات أوقافه الآن نحو ستين ألفا أي نحو مائتين وعشرين ليرة عثمانية ذهبا.

__________________

(١) في مخطوطة «كنوز الذهب» : وبذر.

٢٣

وعلى إثر الزلزلة التي حصلت سنة ١٢٣٧ تخربت أروقة الجامع ولم يبق منه سوى قسم من القبلية ، وعقاراته كذلك كانت مشرفة على الخراب وأجرتها زهيدة جدا ، لذا سعي في إخراج الدكاكين من نفس الجامع وصاروا يولون على هذا الوقف من خيرة العلماء والصلحاء ، وآخر من ولي منهم الشيخ أحمد الكواكبي ، وبعد وفاته تولى عليه الشيخ عبد السلام الترمانيني ثم ولده الشيخ محمد بدر الدين الذي توفي سنة ١٣٠٩ ، وبعد وفاته ولي ولده صديقنا الأديب الفاضل الشيخ محمد بهاء الدين الترمانيني مدير نفوس ولاية حلب الآن ، فاهتم بعمارته وعمر رواقه الشرقي والشمالي وبنى في هذا حجرة واسعة داخلها قسطل ليتوضأ منه ويصلى هناك وقت الشتاء ، وبلط صحنه بالرخام الأبيض ، وفي سنة ١٣٤٣ سعى بترميمه وتدهينه فعادت إليه بهجته ، وكذا اهتم في ترميم وقفه حتى بلغ ريعها إلى ما تقدم.

وممن وقف على هذا الجامع الأمير مقبل بن عبد الله ، فإنه شرط في كتاب وقفه المؤرخ سنة ٩٤٢ أن يعين ثلاثة أشخاص من حفظة القرآن العظيم يقرؤون بين المنبر والمحراب كل يوم جمعة قبل الصلاة ، وعين لكل واحد منهم أربعين درهما فضة وهو من الأوقاف الأعشارية المضبوطة لدائرة أوقاف حلب.

ومنارة الجامع لم تزل باقية من عهد بناء الواقف ، وهي كما وصفها الشيخ أبو ذر يعجب الناظر لها لإحكام صنعتها وحسن هندستها يخالها من يراها أنها قطعة واحدة ، وهي في مقدمة الآثار العربية القديمة الباقية في حلب ، وإليك صورتها :

٢٤

٢٥

٣٦٣ ـ الأمير موسى بن عبد الله الناصري الحاجب المتوفى سنة ٧٥٦

قال أبو ذر : قال ابن حبيب : كان إماما كبيرا ، عارفا خبيرا ، حسن السياسة ، جزيل الرياسة ، ذا نعمة وافرة ، وحشمة وجوهها سافرة ، وخول وخيل ، وسير إلى الخير فسبق السيل ، ولي الحجوبية بحلب مدة أعوام ، وأظهر من مباشرته بالذخيرة خواطر الأقوام ، ثم انتقل إلى البيرة ، فأحسن فيها السيرة ، واستمر عالي الصوت والصيت ، إلى أن لحق بجوار من يحي ويميت. مات بالبيرة سنة ست وخمسين وسبعماية ، ودفن بالتربة التي أنشأها ظاهر حلب وهو من أبناء السبعين. وخارج مدفنه مدرسة له كان نظرها بيد شخص من الحنفية ، فانتزع النظر من العلامة محب الدين ابن الشحنة ، وكان الواقف جده لأمه ، وكان كثيرا ما ينشد :

تشفع بالنبيّ فكل عبد

يجار إذا تشفع بالنبيّ

ولا تجزع إذا ضاقت أمور

فكم لله من لطف خفيّ

الكلام على هذه التربة :

قال أبو ذر : تربة موسى الحاجب هذه بالقرب من باب المقام ، تشتمل على بوابة وعليها قبو ، وإلى جانبها حوض ماء كان يأتي إليه الماء من قناة حيلان ، أنشأها موسى بن عبد الله الناصري الأمير شرف الدين نائب السلطنة بالبيرة ثم حاجب حلب ا ه.

وقال ابن الشحنة في الكلام على الترب : تربة جدي لأمي الأمير موسى الحاجب ، وهي تشتمل على إيوان له شبابيك على الطريق جعله مدرسة يذكر فيها مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي‌الله‌عنه ، وداخلها تربة واسعة وجنينة بها بئر صغير يساق ماؤه إلى القسطل الذي بناه لصيق باب التربة ، وهذا الباب ذو قناطر ثلاثة وقبو مصلب معقود بالجملة على ميسرة الظاهر من المدينة ا ه.

٣٦٤ ـ أحمد بن يوسف بن السمين المتوفى سنة ٧٥٦

أحمد بن يوسف بن عبد الدايم بن محمد الحلبي شهاب الدين المقري النحوي المعروف بابن السمين نزيل القاهرة.

٢٦

تعانى النحو فمهر فيه ، ولازم أبا حيان إلى أن فاق أقرانه ، وأخذ القراءات على التقي الصائغ ومهر فيها ، وسمع الحديث من يونس الدبوسي وغيره ، وولي تدريس القرآن بجامع ابن طولون والإعادة بالشافعي ، وناب في الحكم وولي نظر الأوقاف. وله تفسير القرآن في عشرين مجلدة رأيته بخطه ، وإعراب القرآن سماه «الدر المصون» في ثلاثة أسفار بخطه صنفه في حياة شيخه وناقشه فيه مناقشات كثيرة غالبها جيدة ، وجمع كتابا في أحكام القرآن ، وشرح التسهيل والشاطبية. قال الأسنوي في الطبقات : كان فقيها بارعا في النحو والقراءات ويتكلم في الأصول ، خبيرا أديبا. مات في جمادى الآخرة وقيل في شعبان سنة ٧٥٦. (ومثله في بغية الوعاة نقلا عن الدرر الكامنة).

وكتابه «إعراب القرآن» موجود في مكتبة المدرسة الأحمدية بحلب في مجلدين ضخمين ، ومنه نسخة في مكتبة كوبريلي محمد باشا في الآستانة ورقمها ٩٩ ، ونسخة في مكتبة يكي جامع في الآستانة في ثلاثة أجزاء.

ومن مؤلفاته «عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ». قال في الكشف : وممن ألف في غريب القرآن ابن السمين الحلبي وهو أحسن الكتب المؤلفة في هذا الشان ا ه.

منه نسخة في العثمانية والأحمدية بحلب والسلطانية بمصر ، وفي مكتبة سرويلي في الآستانة منه نسختان ، وفي خزانة أحمد تيمور باشا بمصر ، قال في مقالته نوادر المخطوطات المنشورة في مجلة الهلال : وهو أوفى من مفردات الراغب.

٣٦٥ ـ إسماعيل بن فرفور المتوفى سنة ٧٥٧

إسماعيل بن إبراهيم الحلبي المعروف بابن فرفور عماد الدين. تنقل في الخدم وتقدم عند تنكز نائب الشام ، واقتنى الأملاك بدمشق وحلب ، وباشر توقيع الدست ونظر الخاص بدمشق. وكانت له معرفة بالحساب مع محبة الخير والدين والإيثار. مات في صفر سنة ٧٥٧.

الكلام على درب بني الفرافرة :

قال أبو ذر : نسبة إلى بني فرفور ، وكانوا رؤساء ، وكان بهذا الدرب مسكن نقباء

٢٧

الجيش الأمير شهاب الدين أحمد وشعبان أولاد كيكلدي وكانا من أهل الخير والصلاح يميلون إلى العدل ويحبون أهل الخير ، وكانا محبين لوالدي وغيره من أهل الخير. وكان شعبان المذكور يجلس عند حانوت الذي يبيع الشمع والذي يبيع الفاكهة شخصين يخبرانه بمن اشترى الفاكهة والشمع ، فيرسل إليه بكرة النهار ويقول له : بلغ النائب عنك أنك تفعل كذا وكذا وأراد إخراج إقطاعك فارجع عما أنت فيه وإلا أخرج إقطاعك. وإنما يفعل ذلك شفقة عليه لأنه إذا فعل المحرم احتاج إلى بيع الإقطاع.

وبهذا الدرب قسطل من أيام الظاهر غازي ، وكان عليه قبو فاندثر (١). ولما قدم الأشرف برسباي إلى حلب نزل بهذا الدرب العلامة بدر الدين العيني ا ه.

درب بني الريان :

قال : هو الدرب الآخذ من هذا الدرب (أي درب الفرافرة) إلى جهة القرناصية ، وتقدم الكلام على بني الريان. وهناك مساكن بني الأستاذ والخانكاه العادلية وخانكاه أخرى.

الكلام على الخانكاه العادلية :

وقال في الكلام على خوانك النساء : خانكاه أنشأتها ضيفه خاتون بنت العادل سيف الدين أبي بكر أم الملك العزيز محمد داخل باب أربعين مكتوب على بابها :

بنيت سنة خمس وثلاثين وستمائة.

وإلى جانبها من جهة الشرق زاوية أخي باك العجمي دخلتها مع ولده الخواجا أحمد. وتجاه هذه الخانكاه خانكاه القوامية أظنها نسبة لمن سكن بها لا لبانيها ، وهي وقف على البسطامية ا ه.

قال في الدر المنتخب : في هذا الباب (خانكاه) أنشأتها الملكة ضيفة خاتون بنت الملك العادل داخل باب الأربعين تجاه مسجد الشيخ الحافظ عبد الرحمن ابن الأستاذ.

أقول : لم تزل هذه الخانكاه في هذا الدرب تجاه المدرسة المعروفة الآن بالهاشمية والجامع

__________________

(١) في الهامش بخط ابن الموقع : هو القسطل الذي بقرب الخانكاه. ولا زال موجودا بقربها.

٢٨

المعروف بالزينبية ، وبابها تنزل إليها بدرجة وهو مؤلف من ثلاث أحجار سوداء كبيرة ، وهو باق من عهد بنائه ، وفوق هذا الباب حجرة مكتوب عليها :

(١) البسملة. وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا

(٢) لغفور شكور. الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب

(٣) ولا يمسنا فيها لغوب. أنشىء هذا الرباط المبارك في أيام مولانا السلطان

(٤) الملك الناصر صلاح الدنيا والدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر

(٥) غازي بن يوسف بن أيوب ناصر أمير المؤمنين في شهور سنة خمس وثلثين وستمائة ا ه.

وتجد بعد الباب دهليزا تدخل منه إلى صحن مربع طوله ٤٠ قدما وعرضه كذلك ، تجد في شماليه إيوانا واسعا عظيم الارتفاع قنطرته مبنية من حجارة ضخمة ، وفي الجنوب قبلية فيها محراب بديع بلغت فيه الصنعة منتهاها من الهندسة والهندام ، يكتنف المحراب عمودان من الرخام الأزرق يعلو كل واحد منهما تاج مرخم ترخيما بديعا يدلك على دقة صنعة وبراعة ، وعلى القنطرة أحجار مدورة يتخللها قطع صغيرة من الفسيفساء وهي ملونة تلوينا حسنا ، لكن الأوساخ المتراكمة على هذا المحراب ذهبت ببهجته وحسن بهائه.

وعن يمين القبلية ويسارها حجر صغيرة يعلوها طابق آخر فيه حجر ، لكن معظمها متهدم ، ويسكن هذا الحجر غرباء من العبيد والجواري والفقراء ، وفي وسط الصحن حوض صغير مؤلف من سبع أحجار على شكل الحوض الذي في رباط الفردوس ، غير أن ذاك أهم منه ، ومن هذا الصحن تدخل في دهليز آخر تخرج منه إلى صحن صغير فيه أربع حجر أيضا. والمكان من نحو مائتي سنة لم يدخل إليه المعمار لذا تراه سائرا إلى الخراب ، والمهم فيه هو ذلك المحراب العظيم.

٣٦٦ ـ خالد بن القيسراني الكاتب المتوفى سنة ٧٥٩

خالد بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن محمد بن خالد بن محمد بن نصر القاضي شرف الدين أبو البقاء بن عماد الدين المخزومي الشهير بابن القيسراني الحلبي ثم الدمشقي ، الكاتب البارع في الإنشاء.

٢٩

كان بارعا ماهرا بليغا ، وله مباشرة وفضل ، باشر ديوان الإنشاء ووكالة بيت المال بدمشق ، إلى أن توفي بها سنة تسع وخمسين وسبعمائة عن نيف وخمسين سنة رحمه‌الله تعالى.

٣٦٧ ـ إبراهيم بن الشهاب محمود المتوفى سنة ٧٦٠

إبراهيم بن محمود بن سلمان بن فهد الحلبي جمال الدين.

ولد سنة ٦٧٦ في شعبان ، وسمع من الدمياطي والأرموي (١) ، وحدث عن أبيه ، وأجازت له العجوز زينب بنت مكي حديثا عن الشيخ برهان الدين الشامي وغيره (٢). وكان قدومه القاهرة من حلب صحبة أبيه ، فكتب في الإنشاء. وكان علاء الدين بن الأثير يأنس به ويركن إليه. واستقر هو في كتابة السر بحلب بعد عزل عماد الدين بن القيسراني ، فباشرها ست عشرة سنة إلى أن صرف بتاج الدين بن الزين خضر في سنة ٣٣ ، ثم رتب في ديوان الإنشاء بمصر عن علاء الدين بن فضل الله وباشر توقيع الدست ، ثم أعيد إلى كتابة السر بحلب في سنة ٤٧ ، ثم عزل بابن السفاح ، ثم أعيد ، وكان ابنه كمال الدين يسد عنه إلى أن صرف في ربيع الأول سنة ٥٩ ، واستمر بطالا إلى أن مات يوم عرفة ، وقيل في ليلة سابعه. وأرخه شيخنا في شوال سنة ستين وسبعمائة ، والأول أقوى لأنه قول الصفدي وهو أخبر به.

ومن شعره :

إن اسم من أهواه تصحيفه

وصف لقلب المدنف العاني

وشطره من قبل تصحيفه

يقاد فيه المذنب الجاني

وقال في المنهل الصافي : سمع من والده وأجاز له جماعة من المشايخ وحدث بالقاهرة ، سمع بها عليه شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني والإمام شمس الدين محمد بن جابر وعبد الرحمن بن يوسف المزي وآخرون ، وحدث بحلب سمع منه بها الحافظ زين الدين العراقي والشيخ أبو الحسن نور الدين الهيثمي وابن البنا الدمشقي وابن حبيب والخطيب ناصر الدين

__________________

(١) في «الدرر الكامنة» : والأبرقوهي.

(٢) في «الدرر الكامنة» : وأجاز له الفخر وزينب بنت مكي ، حدثنا عنه الشيخ ...

٣٠

أبو المعالي محمد بن عشاير وأسباطه الشريف عز الدين أحمد وأخوه محمد وأختهما فاطمة أولاد الشريف أبي العباس أحمد الحسينيون ، وفتى والدهم طيبغا الشريفي وغيرهم. ومهر في الكتابة وبرع في الإنشاء ، وولي كتابة حلب وباشرها ثلاث مرات نيفا وعشرين سنة. وكان له النظم الرايق والنثر الفايق. وفيه وفي أبيه يقول الشريف شهاب الدين أبو عبد الله الحسيني المصري عندما باشر كتابة سر حلب ووالده إذ ذاك كاتب سر دمشق المحروسة :

إن محمود وابنه

بهما تشرف الرتب

فدمشق بذا سمت

وبهذا سمت حلب

وفيه يقول الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة رحمه‌الله من قصيدة (١) : (٢)

أجيراننا حيّا الربيع دياركم

وإن لم يكن فيها لطرفي مربع

ولما كان بحلب كتب إلى والده متشوقا من أبيات :

هل زمن ولى بكم عايد

أم هل ترى يرجع عيش مضى

فارقتكم بالرغم مني ولم

أختره لكني أطعت القضا

وهو ووالده من بيت كتابة وعلم وفضل وإنشاء ، ولهما النظم الرايق والنثر الفايق.

توفي في شوال سنة ستين وسبعماية بحلب. وكان رحمه‌الله كثير الفضايل اقتبس من محاسن والده ، وكان كثير الوقار عفيفا دينا مليح الخط فصيح اللسان متواضعا على طريقة السلف بارعا منشيا بليغا كثير البر والخير رحمه‌الله ا ه.

ولابن نباتة المصري فيه وفي أبيه المدائح الكثيرة والمراثي ، وهي في ديوانه المطبوع في مصر. قال وقد سافر ابن الشهاب محمود وقدم ابن مشكور في حلب :

كم تمسّكت بممدوحين في

حلب رفدهما لي ما عدم

فبمشكورين محمود مضى

وبمحمودين مشكور قدم

__________________

(١) لم أجد هذه القصيدة في ديوانه المطبوع.

(٢) البيت ثالث أبيات قصيدة مطلعها :

سرى طيفها حيث العواذل هجع

فنمّ علينا نشره المتضوع

٣١

٣٦٨ ـ إبراهيم بن محمد بن ناهض المتوفى سنة ٧٦١

إبراهيم بن محمد بن ناهض بن سالم بن نصر الله تقي الدين ابن الضرير.

ولد أول سنة ٦٩٨ بحلب. وسمع من أبيه ومحمود بن أبي بكر الأرموي وجماعة ، وأجاز له التقي سلمان وغيره ، وأخذ عن ابن الوكيل بحلب كثيرا من الأشعار ، حتى التزم مرة أنه ينشد عشرة آلاف بيت من حفظه على روي واحد ، ونسخ بخطه كثيرا من المصاحف وغيرها (١). وكان حسن العشرة جميل الصحبة أبي النفس. وكانت له منظرة بأعلى مشهد الفراديس (هكذا والصواب الفردوس المكان المشهور) لا يزال يدعو الأكابر إليها فلا يتصور أن أحدا من أكابر البلد ما صعد إليها لحسن عشرته. وإلى هذه الطبقة أشار ابن نباتة بقوله فيما كتبه إليه سباعية أولها (هنا بيتان لم أنقلهما لأن أكثر الكلمات تعذر عليّ فهمها) (٢).

وقال ابن حبيب : كان حسن المحاضرة ، مفيد المذاكرة ، جمع وسمع وحصل ودأب ، وكتب وتأدب ، وأم بفردوس حلب. ومات سنة ٧٦١ عن بضع وسبعين سنة ا ه.

٣٦٩ ـ محمد بن محمد سبط ابن السفاح المتوفى سنة ٧٦١

محمد بن محمد عز الدين الشافعي سبط ابن السفاح. ولد سنة ٧٢٨ ، واشتغل وأجيز

__________________

(١) انظر المجلد الرابع من مجلة المجمع العلمي العربي في صحيفة (٣٨٠).

(٢) الأبيات كما هي في ديوان ابن نباتة وقد وجهها إلى ابن أبي حجلة شهاب الدين :

أواه من جائرة جاره

فتانة الألحاظ سحاره

إن أصبحت للعهد نباذة

فعينها للعقل خماره

كأنها في السحر باللحظ من

لفظ شهاب الدين ممتاره

والفضل واللفظ الرفيع الذي

من دارة البدر انثنى داره

منظره ما بين زهر الدجى

أخبارها في الفضل طياره

يا نائيا أسطره قد نأت

فوحشة المشتاق كراره

باب البريد افتح بكتب فلي

عين بدمع الشوق فواره

وهناك خلاف بين رواية الديوان ورواية مخطوطة «الدر المنتخب» لابن خطيب الناصرية ـ النسخة التركية ـ التي يقوم بتحقيقها الأستاذ محمد كامل فارس ، ففي البيت الثالث : تقي الدين بدل شهاب الدين ، ورواية البيت الرابع :

النير الهادي بأفق التقى

من دارة البدر ابتنى داره

٣٢

بالإفتاء ، ودرس بالمشهد الحسيني ، ومات في ربيع الأول سنة ٧٦١.

٣٧٠ ـ الشريف علي بن محمد بن زهرة المتوفى سنة ٧٦١

علي بن محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن زيد بن جعفر بن أبي إبراهيم الممدوح الشريف زين الدين أبي العباس الحسيني الحلبي.

تقدم ذكر جده وجماعة من بيتهم.

قرأت في تاريخ الإمام ابن حبيب في ترجمته : سيد نسبه عريق ، وفرع أصله وريق ، وشرفه مرتفع ، وشمل أهله بتدبيره مجتمع. كان بهي المنظر ، عذب المورد والمصدر ، حسن البشر والوداد ، رافلا في ملأ من السيادة والسداد ، ذا حشمة زائدة ، وصلة منافعها على الطالبين عائدة ، وصمت وسكون ، وميل إلى فعل الخير وركون ، يتمسك بأفنان عز العزلة ، ويواظب جد القول فيترك هزله. ولي نقابة الأشراف بحلب فشرف قدرها وثمر وقفها وضبط أمرها ، واستجلب أدعية السادة من أقربائه ، ولم يبرح علي المنزلة إلى أن لحق بالسالفين من أولياء الله وأصفيائه. انتهى.

توفي رحمه‌الله تعالى سنة إحدى وستين وسبعمائة بحلب عن ست وستين سنة.

وفيه يقول الأديب زين الدين عبد الرحمن بن الخضر السخاوي لما ولي النقابة :

بني الحسين تولى أمركم رجل

يرضي أباكم عليّا في ألوّته

يعصي اللوائم في نسك وفي كرم

فقد أطاعه برا في أبوّته

وفيه يقول أيضا :

أبا الحسن المرضيّ سرت من التقى

بأحسن سير يا أبا الحسنين

ولا عجب أن قام بالحق أهله

وسار عليّ سيرة العمرين

ورثاه الأديب عز الدين أبو علي بن البنا العباسي بقصيدة منها :

تعفّت رسوم المجد بعد عليّها

وأصبح صبح الجود كالليل مظلما

وراح لسان الحمد في كل وجهة

عن النطق مشغول السريرة أبكما

ألا في سبيل الله من كان مجده

على كاهل الغبراء للمجد مخذما

٣٣

ومن كان في صدر المجالس للعلا

عصاما يراعي منه كفؤا مكرّما

ومن كان البحر الخضم سماحة

وصدرا وقولا مستقيما وأنعما

من الغرّآل المصطفى كم تسربلوا

نعيم عجاج سحبه تمطر الدما

إذا ظعنوا كانوا بدور غياهب

وإن نزلوا كانوا لوافدهم حمى

عليّ أبا المعروف قد كنت راضيا

إذا عرضت يوما له راحة همى

نعمت وأشقيت القريب كأنما

فراقك شب الحزن فيهم وأضرما

ليهنك مأواك الذي بت جوّه

جوار كريم بالترفّل منعما

ا ه. (الدر المنتخب لابن خطيب الناصرية).

٣٧١ ـ أغلبك بن عبد الله الجاشنكير المتوفى بعد ستين وسبعماية

أغلبك بن عبد الله الجاشنكير حاجب الحجاب.

كان أميرا دينا صارما مواظبا على الصلوات الخمس ، وله بر وأوقاف بحلب ، وله حرمة وافرة وشهامة ، وهو مشهور بالحزم والدين والصرامة والتطلع إلى مصالح الرعية ، إلا أنه كان يحدّ على الخمر كثيرا ويقول : ثمانون للحد والباقي لما يحصل منه من الفساد والافتراء. وكان مصمما على الأمور مراعيا للقانون السلطاني. توفي رحمة الله تعالى بحلب سنة ... وستين وسبعمائة ا ه. (الدر المنتخب).

قال أبو ذر : تربة أغلبك : ملاصقة للتربة البلقا [أي خارج باب المقام] وهي مشتملة على قبو على بابها وحوض ماء كان يأتي إليه الماء من دولاب داخل التربة ، وقد عطل ، ويدخل من باب هذه التربة إلى حوش وبه إيوان صغير وبيت للدولاب المذكور وعليه قبة ، ويدخل من هذا الحوش إلى حوش آخر به قبر الواقف وغيره. وبعد أن ترجمه بما تقدم قال : توفي بعد الستين وسبعمائة. ولهذه التربة قراء ا ه.

أقول : لم أقف على مكان هذه التربة ولعلها دثرت.

٣٧٢ ـ عبد الوهاب بن إبراهيم العجمي المتوفى سنة ٧٦٢

عبد الوهاب بن إبراهيم بن صالح بن هاشم بن أبي حامد عبد الله بن عبد الرحمن بن

٣٤

الحسين ابن العجمي الحلبي ، يلقب بتاج الدين.

ولد بعد السبعمائة ، وبرع هو في الشروط ، وكان محمود السيرة. مات سنة ٦٢.

ذكره ابن حبيب وقال : لم يبلغ الستين. وكان ظاهر الديانة وافر الأمانة.

قلت : وقد تقدم أبوه ، وكان مسند حلب في عصره.

٣٧٣ ـ الشريف محمد بن علي بن زهرة المتوفى سنة ٧٦٢

محمد بن علي بن حمزة بن علي بن الحسن بن زهرة الشريف بدر الدين الحسيني نقيب الأشراف بحلب.

ولد بالقاهرة ، وقدم حلب بعد موت أبيه فباشر الوظيفة إلى أن مات سنة ٧٦٢.

٣٧٤ ـ فاطمة بنت عمر بن الحسن بن حبيب المتوفاة سنة ٧٦٣

فاطمة بنت أبي القاسم عمر بن أبي الحسن بن عمر بن حبيب الحلبية.

أسمعها أبوها الكثير من سنقر والعماد النابلسي وغيرهما ، وكان مولدها سنة سبعمائة. وسمعت أيضا من التاج النصيبي وغيره وحدثت بسنن ابن ماجه وغير ذلك. ماتت سنة ٧٦٣.

٣٧٥ ـ محمد بن يعقوب المعروف بابن الصاحب المتوفى سنة ٧٦٣

محمد بن يعقوب بن عبد الكريم بن أبي المعالي الحلبي ثم الدمشقي ناصر الدين بن الصاحب شرف الدين.

كان أولا يعرف بابن الصاحب ، ثم صار يعرف بناصر الدين بن يعقوب. ولد سنة بضع وسبعمائة ، وتعانى الاشتغال وقرأ القرآن على الرومي ، وحفظ التنبيه ومختصر ابن الحاجب والحاجبية ، وقرأ على ابن إمام المشهد وابن خطيب جبرين والأثير الأبهري ، وأذن له ابن الزملكاني في الإفتاء لما كان قاضيا بحلب ، ودرس بحلب في النورية والأسدية. وكان

٣٥

على ذهنه من العلاج جملة ، ويستحضر كتاب القانون ومن المعاني والبيان كثيرا. ولي كتابة الإنشاء بحلب ثم توقيع الدست ، وكان أرغون يقربه ويكرمه ، ثم ولي كتابة السر بحلب عوضا عن الشهاب بن القطب سنة ٣٩ ، ثم ولي كتابة السر بدمشق سنة ٤٧ ، وولي بها تدريس الشاميتين ومشيخة الشيوخ. وكان ينظم سريعا ويكتب خطا حسنا ، واستمر بيده تدريس الأسدية بحلب وقضاء العسكر إلى أن مات بدمشق وحصل لأولاده الإقطاعات من إمرة العشرة فما دونها ولمماليكه وإلزامه والرواتب الوافرة على الديوان والجامع ، واقتنى من الكتب النفيسة شيئا كثيرا إلى الغاية من الأملاك والبساتين المعظمة بدمشق وبلادها وحلب ومعاملاتها ما شاء الله. وبحث على فخر الدين بن خطيب جبرين «الكشاف» ، وقرأ على أمين الدين الأبهري نصف التذكرة للطوسي في الهيئة ، وقرأ عليه رسائل الأسطرلاب.

قال الصفدي : ذكر لي أنه أحضر على سنقر الزيني في الرابعة ، وكان مولده سنة بضع وسبعمائة ، قال : وهذا لا ينتظم ، فإن وفاة سنقر سنة ست ، قلت : فتحمل على أنه ولد في أول سنة ثلاث ، ويفرع على أن البضع من ثلاث إلى تسع. ولابن نباتة فيه مدائح كثيرة (وذكر هنا بيتين من نظم المترجم تعذر علي فهمهما فأضربت عنهما) (١).

قال الصفدي : كان محظوظا إلى الغاية ، ولم يكن فيه شر مع الاحتمال الكثير وكظم الغيظ. ونقل إلى كتابة سر حلب في سنة ستين ، ثم أعيد إلى كتابة السر بدمشق في سنة ٦٢ فباشرها إلى أن مات. قال : وبيني وبينه مكاتبات ومراجعات. قال : وكتب إلي في ليلة مطيرة :

وكأن القطر في ساجي الدجى

لؤلؤ رصّع ثوبا أسودا

وإذا ما قارب الأرض غدا

فضة تشرق من بعد المدى

قال الصفدي : كان من رجالات الدهر حزما وعزما وسياسة ودربة ، ينال مقاصده ولو كانت عند النعائم ، ويتناول الثريا قاعدا غير قائم. وكان وجيها عند النواب يثني عليه أصحاب السيوف والأقلام مع السكون والأخلاق الرضية. وكان لا يواجه أحدا بما يكره.

__________________

(١) البيتان هما اللذان سيردان بعد قليل : مشبب شب ... نقلا عن أبي ذر. وقد وردا في «الدرر الكامنة» تحقيق محمد سيد جاد الحق.

٣٦

وقال مرة : أنا أوقع عن الله وعن رسوله وعن السلطان وعن النائب وعن قاضي القضاة. وقل أن اجتمعت هذه لغيره ، لأنه كان يفتي فهو يوقع عن الله ورسوله ، وكاتب سر وهو يوقع عن السلطان والنائب وكان بيده توقيع القاضي فاستمر.

وقال ابن كثير : كانت فيه نباهة وممارسة للعلم وجودة طباع وإحسان بحسب ما يقدر عليه فليس يتوسم (أو يتوهم) فيه سوء مع المهابة والعفة ، وقد حلف لي في وقت بالأيمان المغلظة إنه لم يرتكب فاحشة قط ولا خطر له ذلك.

وقال ابن رافع : سمع من إبراهيم بن العجمي وغيره وحدث وخرجت له مشيخة ، وكان متواضعا ذا مروءة وتودد. وكانت وفاته في سادس ذي القعدة سنة ٧٦٣ بدمشق ا ه.

وله ترجمة وجيزة في تاريخ أبي ذر. قال : وهو القائل :

مشبب شبّ في صناعته

ريحانة الوقت منشىء الطرب

كأن أنفاسه لآلته

روح تثير الحياة في القصب

قال الصلاح الصفدي في الوافي بالوفيات بعد أن ذكر من تلقى عنهم العلم : وكان قد تولى في حياة والده نظر الخاص المرتجع عن العربان بحلب مدة تقارب ثمانية أشهر ، ثم نقل بذلك إلى كتابة الإنشاء بحلب ، ثم لما كان الأمير سيف الدين أرغون بحلب نائبا جعله من موقعي الدست ، وكان يحبه كثيرا ويقول له : يا فقيه ، ويجلسه عنده في الليل. وتولى تدريس النورية والشعيبية بحلب في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ، وتولى تدريس الأسدية سنة أربع وأربعين وسبعمائة ، ورسم له بكتابة سر حلب عوضا عن القاضي شهاب الدين بن القطب سنة تسع وثلاثين وسبعمائة ، وتولى قضاء العسكر بحلب تلك السنة. ولم يزل بحلب إلى أن توفي تاج الدين بن الزين خضر بدمشق في أيام الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي ، فسير طلبه من الكامل أن يكون عنده بدمشق كاتب سر ، فرسم له بذلك ، فحضر إلى دمشق رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وسبعمائة ، وطلع الناس وتلقوه من [لعله مع] عز الدين طقطاي الدوادار والأمير سيف الدين تمر المهمندار والموقعين ، ولم أر أحدا دخل دخوله من كتاب السر إلى دمشق. ورأيته ساكنا محتملا مداريا ، لا يرى مشاققة أحد ولا منازعته ، كثير الإحسان إلى الفقراء والمساكين يبرهم

٣٧

ويقضي حوائجهم ، ويكتب كتابة حسنة وينظم وينثر سريعا ، ويستحضر قواعد الفقه فروعا وأصولا ، وقواعد أصول الدين وقواعد الإعراب والمعاني والهيئة وقواعد الطب ، ويستحضر من كليات الطب جملة. ولي دمشق سنة ثمان وأربعين. سمع صحيح مسلم على الشيخ محمد السلاوي ، وسمع سنن أبي داود على الشيخ شمس الدين محمد بن نباتة ، وعلى بنت الخباز ، وسمع عليها جملة من الأجزاء ومشيخة ابن عبد الدايم وغير ذلك. وكتب بمرج القشولة (١) صحبة الأمير سيف الدين يلبغا اليحيوي نائب الشام ، وقد وقع مطر كثير برعد وبرق :

كأن البرق حين تراه ليلا

ظبى في الجو قد خرجت بعنف

تخال الضوء منه نار جيش

أضاءت والرعود فجيش زحف

فكتبت الجواب :

يحاكي البرق بشرك يوم جود

إذا أعطيت ألفا بعد ألف

وصوت الرعد مثل حشا عدو

يخاف سطاك في حيف وحتف

فكتب الجواب إليّ :

لئن أوسعت إحسانا وفضلا

وجدت بنظم مدح فيك لايق

فهذا الفضل أخجل صوب سحب

وهذا البشر أخجل بشر بارق

ثم ذكر الصفدي ما دار بينه وبين المترجم من المحاورة في هذا الباب يكتب ذاك إلى هذا وهذا يجاوبه وفيه طول لذلك تركت نقله.

٣٧٦ ـ عمر بن عيسى بن عمر الباريني المتوفى سنة ٧٦٤

عمر بن عيسى بن عمر الشيخ الإمام زين الدين أبو حفص الباريني الشافعي نزيل حلب.

ولد ببارين سنة إحدى وسبعمائة ، وهي قرية من عمل حماة ، ثم جاء إلى حماة وأخذ

__________________

(١) في «الوافي بالوفيات» : الغشولة.

٣٨

عن ابن البارزي قاضيها وسمع على الحجار ، ثم انتقل إلى حلب وسكنها وحضر عند علمائها ، وسمع من العز إبراهيم بن العجمي ، وحدث بحلب. وكان إماما فاضلا فقيها فرضيا نحويا أديبا بارعا ورعا زاهدا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر. درس بالمدرسة النورية النفرية استقلالا وبالمدرسة الأسدية نيابة ، واشتغل بحلب. أخذ عنه العلم جماعة من مشايخنا كالإمام شمس الدين محمد بن الركن المعري والشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد البابي والشيخ زين الدين أبي حفص عمر الكركي ، وقرأ عليه أيضا الشيخ شرف الدين أبو بكر الداديخي وغيرهم. وله نظم ونثر وقواعد في النحو والفقه ، نظم ونثر وكتب الخط المنسوب وجوده كتب على ابن خطيب بعلبك.

ذكره الإمام الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر بن الملقن القاهري في كتابه «طبقات الشافعية» وقال : قدم علينا سنة أربع وستين واجتمع بي واجتمعت به غير مرة. ألف من الفرائض والعربية. انتهى.

أنشدنا شيخنا العلامة الحافظ برهان الدين أبو إسحق إبراهيم بن محمد الحلبي قال : أنشدنا الإمام الفاضل النحوي كمال الدين إبراهيم بن الحلاوي قال : أنشدنا شيخنا العلامة النحوي زين الدين أبو حفص الباريني لنفسه في أسماء الولائم :

لدعوة العرس أتى وليمه

وجاء للمصيبة الوضيمه

وللختان قد أتى الإعذار

وللبنا وكيرة تختار

ولقدوم الغائب النقيعه

وذي الضيافات أتت مسموعه

والخرس أو بالصاد للولاده

السابع العقيقة المعتاده

ووضعوا مأدبة لكل ما

يصنع لا بسبب تقدما (١)

توفي الشيخ زين الدين يوم الجمعة ثامن شوال سنة أربع وستين وسبعمائة بحلب ودفن خارج باب المقام بالقرب من المدرسة الظاهرية. وفيه يقول الإمام ابن حبيب :

حلب تغير حالها لما اختفى

من فضل زين الدين عنها ما ظهر

ومدارس العلماء منها أقفرت

من بعد عامرها أبي حفص عمر

انتهى (الدر المنتخب).

__________________

(١) وممن نظم في أسماء الولائم الإمام علي بن عثمان الطائي المتوفى سنة ٧٦٩ وستأتيك ترجمته قريبا.

٣٩

٣٧٧ ـ أحمد بن محمد النصيبي المتوفى سنة ٧٦٤

أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد القاهر بن هبة الله بن عبد القاهر بن عبد الواحد بن هبة الله بن طاهر بن يوسف الحلبي المعروف بابن النصيبي ، كمال الدين ابن تاج الدين ابن كمال الدين ابن زين الدين.

ولد سنة ٦٩٥ ، وأسمع على سنقر الزيني ورشيد بن كامل وجماعة من أصحاب ابن خليل ، وولي كتابة الإنشاء بحلب ، وكتب وجمع وعلق كثيرا. روى عنه ابن بردس (هكذا) وابن عشائر وابن ظهيرة. وأثنى عليه ابن حبيب وغيره. روى عن سنقر مسند الشافعي والبخاري ، وعلى إبراهيم بن عبد الرحمن الشيرازي جزء سبعين (١). مات بحلب في سنة ٧٦٤.

٣٧٨ ـ أحمد بن مغلطاي المتوفى سنة ٧٦٤

أحمد بن مغلطاي بن عبد الله الشمسي قراسنقر (٢) المنصوري.

كان أحد الأمراء بحلب ، وكان ذكيا شجاعا عارفا حسن المحاضرة والمذاكرة يحب أهل العلم والأدب ، وله نظم وسط. وولي بحلب الحجابة وشد الأوقاف ، وناب في مملكة أياس مدة. ومات في سنة ٦٤ عن بضع وخمسين سنة. ذكره ابن حبيب وقال : ناب بأياس وولي الحجوبية وشد الأوقاف بحلب ، وكان فاضلا خيرا يحب العلم والمذاكرة. مات سنة ٧٦٤ ، ومولده تقريبا سنة ٧١٣.

٣٧٩ ـ أحمد بن ياسين الرباحي المتوفى سنة ٧٦٤

أحمد بن ياسين بن محمد الرباحي ، بضم الراء وتخفيف الموحدة (٣) ، المالكي.

__________________

(١) في الهامش : صوابه بفتح فإنه لم يذكر في مشتبه النسبة الضم ، فالظاهر أن الناسخ رآها في خط شيخنا هكذا بضمه فصحفها والله أعلم.

(٢) كلمة «قراسنقر» غير واردة في «الدرر الكامنة».

(٣) في «الدرر الكامنة» : جزء سفيان.

٤٠