إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

٦٢٧ ـ محمد بن علي الحارس المتوفى سنة ٨٨٢

محمد بن علي الحلبي الواعظ ، ويعرف بابن الحارس لكون أبيه كان حارسا في بعض أسواق حلب وربما كان يتعاطى خدمة البرهان الحلبي.

طاف البلاد في عمل المواليد المشتملة على الأكاذيب بحيث ظهرت بذلك صحة فراسة شيخنا ، فإنه أقامه من بين يديه كما سبقت حكايته في الجواهر ، ومع ذلك فكانت له وجاهة بين العوام. ولما اشتد الخطب بسوار ورام نائب حلب برديك البشمقدار إلزام أهل حلب بمال يستخدم به جيشا أو رجالا قام في منع ذلك بالغوغاء ونحوهم بحيث كبروا على المنارات وعلى أبواب الجوامع وتوارى كل من أبي ذر وابن أمير حاج خشية من نسبة ذلك لهما وما وسع النائب إلا السكوت ، ثم أعمل حيلة في مسك المشار إليه والناس محرمون بصلاة الصبح وجيء به فأمر بضربه بين يديه بالمقارع وأظهر حنقا زائدا ، ثم حمل إلى بيته ، وانزعج الظاهر خشقدم حين بلغه ذلك لكراهته في النائب لا لمحبته المضروب. وعاش حتى مات بحلب في أواخر صفر سنة اثنتين وثمانين ودفن بالسنيبلة ظاهر باب أنطاكية وقد قارب الستين. وكان ذكيا جريئا مقداما وربما أفتى العوام ببعض المعضلات عفا الله عنه ا ه.

٦٢٨ ـ علي بن أبي بكر بن مفلح المتوفى سنة ٨٨٢

علي بن أبي بكر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج العلاء حفيد التقي أبي عبد الله ابن الشمس صاحب الفروع المقدسي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي والد الصدر عبد المنعم وقريب إبراهيم بن محمد ابن الشرف عبد الله الماضيين وابن أخي النظام عمر آلاتي ، ويعرف كسلفه بابن مفلح.

ولد سنة خمس عشرة وثمانماية بصالحية دمشق ونشأ بها ، فقرأ القرآن عند الشمس ابن كاتب الغيبة وسالم وغيرهما ، وحفظ «المقنع» و «الملحة» وغيرهما ، وعرض على عم والده الشرف عبد الله بن مفلح والعز البغدادي المقدسي ، وعن الشرف المذكور وغيره أخذ الفقه ، بل وسمع عليه في الحديث ، وأجاز له ابن المحب الأعرج والتاج ابن بردس وغيرهما. وناب في القضاء بدمشق عن عمه وبالقاهرة عن البدر البغدادي ، ثم استقل بقضاء حلب وتكرر له ولايتها ، وكذا ولي كتابة السر بالشام في أول سنة ثلاث وستين عوضا

٢٨١

عن الخيضري ، ثم انفصل عنها بعد سنتين به وولي قضاءها مرة بعد أخرى ثم نظر الجيش بحلب.

وحج وزار بيت المقدس مرارا. لقيته بحلب وغيرها وحمدت لقيه وإحسانه.

وكان إنسانا حسنا متواضعا كريما متوددا خبيرا بالأحكام ذا إلمام بطريق الوعظ وكذا بالعلم في الجملة. أقام بحلب منفصلا عن القضاء وغيره نحو ثلاث سنين حتى مات شهيدا بالبطن بل وبالطاعون بعد إقامته نحو خمسين يوما متعللا عشية ليلة السبت عاشر صفر سنة اثنتين وثمانين وصلي عليه من الغد بالجامع الكبير في محفل تقدمهم أبو ذر ابن البرهان بوصية منه ، ودفن ظاهر باب المقام رحمه‌الله وإيانا ا ه.

وله ترجمة في در الحبب إلا أنه ذكر وفاته سنة ٨٨١ ، وكذا في الدر المنضد لكنها موجزة.

٦٢٩ ـ أحمد أبو ذر المؤرخ ابن الحافظ الكبير البرهان المتوفى سنة ٨٨٤

أحمد بن إبراهيم بن محمد بن خليل الشيخ موفق الدين أبو ذر ابن الحافظ البرهان أبي الوفا ، الطرابلسي الأصل ثم الحلبي المولد والدار ، الشافعي ، والد أبي بكر الآتي وهو بكنيته أشهر.

ولد في ليلة الجمعة تاسع صفر سنة ثمان عشرة وثمانماية بحلب ونشأ بها ، فحفظ القرآن وجوده على أبيه والمنهاجين الفرعي والأصلي وألفيتي الحديث والنحو ، وعرض على العلاء ابن خطيب الناصرية فمن دونه من طلبة أبيه ، وتفقه بالعلاءين المذكور وابن مكتوب الرحبي والشمس السلامي وبه انتفع فيه وفي العربية وآخرين ، وكذا أخذ العربية عن ابن الأعزازي والشمس الملطي والزين الخرزي وجماعة ، والعروض عن صدقة ، وعلوم الحديث عن والده وشيخنا وسمع عليهما وعلى غيرهما من شيوخ بلده والقادمين إليها. ودخل الشام في توجهه للحج فسمع بها على ابن ناصر الدين وابن الطحان وابن الفخر المصري وعائشة ابنة ابن الشرايحي ولم يكثر بل جل سماعه على أبيه. وأجاز له جماعة باستدعاء صاحب ابن فهد.

وتعانى في ابتدائه فنون الأدب فبرع فيها وجمع فيها تصانيف نظما ونثرا ، ثم أذهبها حسبما أخبرني به عن آخرها. ومن ذلك : «عروس الأفراح فيما يقال في الراح» ، و «عقد

٢٨٢

الدرر واللآل فيما يقال في السلسال» ، و «ستر الحال فيما قيل في الخال» ، و «الهلال المستنير في العذار المستدير» ، و «البدر إذا استنار فيما قيل في العذار».

وكذا تعانى الشروط ومهر فيها أيضا بحيث كتب التوقيع بباب ابن خطيب الناصرية ، ثم أعرض عنها أيضا ولزم الاعتناء بالحديث والفقه وأفرد مبهمات البخاري (١) وكذا إعرابه ، بل جمع عليه تعليقا لطيفا لخصه من الكرماني والبرماوي وشيخنا وآخر أخصر منه. وله «التوضيح للأوهام الواقعة في الصحيح» ، و «مبهمات مسلم» ، و «قرة العين في فضل الشيخين والصهرين والسبطين» (٢) ، و «شرح الشفا والمصابيح» لكنه لم يكمل ، و «الذيل على تاريخ ابن خطيب الناصرية» وغير ذلك.

وأدمن قراءة الصحيحين والشفا خصوصا بعد وفاة والده وصار متقدما في لغاتها ومبهماتها وضبط رجالها لا يشذ عنه من ذلك إلا النادر.

ولما كان شيخنا بحلب لازمه واغتبط به وأحبه لذكائه وخفة روحه حتى إنه كتب عنه من نظمه [مواليا] :

الطرف أحور حوى رقى غنج نعاس

وقد قدّ القنا أهيف نضر مياس

ريقتك ماء الحيا يا عاطر الأنفاس

عذارك الخضر يا زين وأنت الياس

وصدر شيخي كتابته لذلك بقوله : وكان قد ولع بنظم المواليا ، ووصفه بالإمام موفق الدين ومرة بالفاضل البارع المحدث الأصيل الباهر الذي ضاهى كنيته في صدق اللهجة ، الماهر الذي ناجى سميه ففداه بالمهجة ، الأخير الذي فاق الأول في البصارة والنضارة والبهجة ، أمتع الله المسلمين ببقائه. وأذن له في تدريس الحديث وأفاد به في حياة والده. وراسله بذلك بعد وفاته فقال : وما التمسه أبقاه الله تعالى وأدام النفع به كما نفع بأبيه ، وبلغه من خيري الدنيا والآخرة ما يرتجيه من الإذن له بالتدريس في الحديث النبوي ، فقد حصلت بغيته وحققت طلبته ، وأذنت له أن يقرىء علوم الحديث مما عرفه ودريه من شرح الألفية لشيخنا حافظ الوقت أبي الفضل ومما تلقفه من فوائد والده الحافظ برهان الدين

__________________

(١) اسمه «التوضيح لمبهمات الجامع الصحيح» منه نسخة في المولوية وأخرى في الأحمدية بحلب.

(٢) قال في الكشف : أوله : الحمد لله الذي طهر قلوب أهل السنة من الأدناس الخ. رتبه على ثلاثة عشر فصلا آخره في ذم الروافض ا ه.

٢٨٣

تغمده الله تعالى برحمته ومن غير ذلك مما حصله بالمطالعة واستفاده بالمراجعة ، وكذا غير الشرح المذكور من سائر علوم الحديث وأن يدرس في معاني الحديث كل كتاب قرىء لديه وتقييد ما يعلمه من ذلك إذا قرأه هو وسمع عليه ، وأسأله أن لا ينساني من صالح دعواته في مجالس الحديث النبوي إلى آخر كلامه.

وقد لقيته بحلب وسمع بقراءتي وسمعت بقراءته ، بل كتبت عنه من نظمه سوى ما تقدم ما أثبته في موضع آخر ، وزاد اغتباطه بي وبالغ في الإطراء لفظا وخطا. وكانت كتبه بعد ذلك ترد عليّ بالاستمرار على المحبة وفي بعضها الوصف لشيخنا.

وكان خيرا شهما مبجلا في ناحيته منعزلا عن بني الدنيا قانعا باليسير محبا للانجماع كثير التواضع والاستئناس بالغرباء والإكرام لهم ، شديد التخيل طارحا للتكلف ذا فضيلة تامة وذكاء مفرط واستحضار جيد خصوصا لمحافيظه وحرص على صون كتب والده قبل أن يمكن أحدا منها ، بل حسم المادة في ذلك عن كل أحد حتى لا يتوهم بعض أهل بلده اختصاصه بذلك ، وربما أراها بعض من يثق به بحضرته ومسه مزيد الأذى من بعض طلبة والده وصرح فيه بما لا يليق ولم يرع حق أبيه ، ولكن لم يؤثر ذلك في وجاهته.

قال البقاعي : وله حافظة عظيمة وملكة في تنميق الكلام وتأديته على الوجه المستظرف قوية ، مع جودة الذهن وسرعة الجواب والقدرة على استخراج ما في ضميره ، يذاكر بكثير من المبهمات وغريب الحديث. قال : وبيننا مودة وصداقة ، وقد تولع بنظم الفنون حتى برع في المواليا وأنشدني من نظمه كثيرا ، وساق منه شيئا. ووصفه في مواضع أخر بالأديب البارع المفنن ، وقد تصدى للتحديث والإقراء وانتفع به جماعة من أهل بلده والقادمين عليها ، بل وكتب مع القدماء في الاستدعاءات من حياة أبيه وهلم جرا.

وترجمه ابن فهد وغيره من أصحابنا ، وكذا وصفه ابن أبي عذيبة في أبيه بالإمام العلامة وسمى بعض تصانيفه.

مات في يوم الخميس خامس عشري ذي القعدة سنة أربع وثمانين بعد أن اختلط يسيرا وحجب عن الناس ودفن عند أبيه.

قال البقاعي : إنه مرض في آخر سنة اثنتين وثمانين ثم عوفي من المرض وحصل له اختلاط

٢٨٤

وفقد بصره ، واستمر به ذلك إلى أثناء سنة أربع وثمانين ، ثم عوفي منه ورجع إليه بصره ثم مات. قلت : ولم يخلف بعده هناك مثله رحمه‌الله وإيانا ا ه.

قال المترجم في تاريخه كنوز الذهب في الكلام على زاوية الأطعاني الكائنة في محلة المشارقة : وقد لبست خرقة التصوف في هذه الزاوية من الشيخ الصالح القدوة المسلّك عبد الرحمن ابن الشيخ الصالح أبي بكر بن داود الشامي. قدم حلب ونزل بالعشائرية. ونزل الشيخ أبو بكر الحيشي عن مكانه وأجلسه مكانه. وكان حنبلي المذهب وأقام حلقة الذكر والأوراد التي تلقنها من أبيه بحلب. وله مؤلفات منها على كتاب حياة الحيوان وهو مفيد زاد عليه المنامات ، ومنها «تحفة العباد بأدلة الأوراد» (١). أخبرني أن مولده سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة. وهذه الزاوية نيرة وبها مساكن ولها منارة جددها الحاج أحمد ابن القصار ا ه.

وله ترجمة في در الحبب اقتبسها مما هنا وقال في آخرها : وأنشد له السيوطي في «نظم العقيان في أعيان الأعيان» مواليا :

عارضك والخال ذا مسكي وذا ندّي

واللحظ والقد ذا خطّي وذا هندي

والشعر والفرق ذا وصلي وذا صدّي

والخد والثغر ذا حرّي وذا بردي

وأنشد له :

عني تسليت وأسباب الجفا سلّيت

متى تخليت في قلبي غصص خلّيت

قتلي استحليت قيد الهجر ما حلّيت

والقلب حليت مرّي بالوصال حلّيت

ومما أخبرني به الشيخ المعمر محمد بن أينبك قيم جامع حلب الأموي عن جده أينبك المشهور هو به أنه رأى في منامه عمودا أخضر ممتدا إلى جهة السماء صاعدا من بيت الشيخ أبي ذر ، فأتى الشيخ وقص عليه ما رأى فقال له : الوقت قريب ، فما مضى قليل من الأيام إلا وتوفي إلى رحمه‌الله تعالى. قال : ولما أوصى ولده الشيخ أبو بكر أن يدفن في قبره كشفوا عنه فإذا كفنه بحاله. ا ه.

__________________

(١) هذا الكتاب في مجلد ضخم وهو موجود في مكتبة الشيخ أحمد الصديق رحمه‌الله الموضوعة في مدرسته في جملة كتبه الموقوفة على هذه المدرسة.

٢٨٥

أقول : تكلمت على تاريخه «كنوز الذهب» في المقدمة ، في الصحيفة (٤٣) وقد أتيت على معظم ما فيه مما له علاقة بتاريخ الشهباء وأثبته في محله ولم أترك منه إلا قليلا مما قلت أهميته والحمد لله على توفيقه.

٦٣٠ ـ عبد الكريم الخافي دفين جامع الكريمية المتوفى سنة ٨٨٤

عبد الكريم بن عبد الله الخافي الحنفي صاحب الزاوية المشهورة داخل باب قنسرين بحلب.

توفي كما ذكره ابن السيد منصور فيما وجدته بخطه في جمادى الآخرة سنة أربع وثمانين وثمانماية ودفن بزاويته وقد نيف على المائة. وكان عتيقا لأمير أفندي البخاري ذا سياحة وولاية وكرامة ، وإنما قيل له الخافي لاجتماعه بالشيخ العارف صاحب المعارف زين الدين الخافي المشهور بالخوافي أيضا عند وصوله في سياحته إلى بلاده ، وإن كان قد ورد من بلاده إلى بلاد العرب ودخل مصر حتى كتب إليه الحافظ ابن حجر :

قدمت لمصر يا زين المعالي

فوافتها الأماني والعوافي

وما سرت القوافل منذ دهر

بمثل سرى القوادم بالخوافي

فأجابه الشيخ يقول :

أيا من فاق أهل العصر فضلا

وعلما بالحديث بلا خلاف

تقدس سرك الصافي فأحيا

من الآثار مندرس المطاف

سألت الله أن يبقيك حتى

تفيض على القوادم والخوافي

ومن كرامات الشيخ عبد الكريم رضي‌الله‌عنه أنه كان إذا شكا إليه أحد من حمّى الغب أخذ من نخلة أدركتها أنا بزاويته سعفا وكتب عليها شيئا وأعطاه إياها ، فإذا علقها عليه برىء بإذن الله تعالى ، ثم صار يعطي من غير كتابة شيء فيحصل البرء ، بإذن الله عزوجل. وقد كان عند والدي سعفة منه نستشفي ببركتها نحن ومن طلبها فيحصل الشفاء بإذن الله جل جلاله. ومما حكي عنه أنه عاد مريضا فشكا إليه من ألم في دماغه ، فصاح به وقال له : ما هذا أردت بسؤالي آنفا كيف أنت ، إنما سؤالي عن حالك في الصلاة مع

٢٨٦

حلول المرض بك ، لقد لسعتني حية وقتا من الأوقات فكان سمها كلما آلمني توضأت وصليت إلى أن ذهب عني ضررها بإذن الله ا ه (در الحبب).

أقول : إن الزاوية التي ذكرها تعرف الآن بجامع الكريمية نسبة إلى الشيخ عبد الكريم المذكور وقبره لا زال موجودا في حجرة شرقي القبلية لها شباك مطل على الرواق الذي في الجامع في الجهة الشرقية منه ومكتوب عليه :

(١) أنشأ هذا المكان المبارك بعون الله وحسن توفيقه العبد الفقير إلى الله تعالى الراجي عفو ربه ...

(٢) فضله العميم السالك المنهج القويم ابن ... والخير الشيخ عبد الكريم بن عبد العزيز ابن عبد الله.

(٣) الحنفي مذهبا الخوافي مقتدا متعنا الله ببركته ونفعنا والمسلمين بصالح أدعيته وذلك في سنة خمس وخمسين وثمانماية ا ه.

وهذا الجامع يعرف قديما بمسجد المحصّب ، وقد تكلم أبو ذر في تاريخه عليه فقال :

الكلام على مسجد المحصّب المعروف الآن بجامع الكريمية :

تقدم بعض الكلام عليه ونستوفي هنا فنقول : لما نزل الشيخ عبد الكريم الصوفي فيه بعد نزوله بالرواحية عند الشيخ عبد الرزاق الشرواني الشافعي ، وستأتي ترجمته ، اجتمع عليه الناس وكثر أتباعه وتلامذته ومعتقدوه أخذ في توسعة هذا الجامع فنقض الحوانيت التي كانت إلى جانبه من جهة الغرب وتوصل إلى ذلك بطريق شرعي وجد في عمارته ووسعه من شرقيته أيضا وأقام فيه الجمعة وصار يخطب فيه على الكرسي إلى أن جدد له جانبك كافل حلب منبرا وجدد له الشيخ بابا ثانيا قبلي بابه القديم وشبابيك من جهة الغرب وبيت خلاء داخله ورتب له خطيبا وإماما ومؤذنين وقارئا للحديث ولإحياء علوم الدين والمصابيح وغير ذلك. وهذا المسجد من جملة ما كتب على بابه : بتولي عبد الرحيم بن عبد الرحيم بن العجمي الشافعي في سنة أربع وخمسين وستماية ، وعلى منارته : جدد هذه المأذنة القاضي بهاء الدين علي بن محمد بن أبي سوادة موقع الدست بحلب وناظر المكان في سنة إحدى وسبعين وسبعماية انتهى.

٢٨٧

أقول : إن بابه القديم لا زال موجودا وقد ذكرنا في ترجمة الشيخ عبد الرحيم العجمي المتوفى سنة ٦٧٠ ما هو مكتوب عليه ، إلا أن هذا الباب مغلق الآن لا يفتح إلا في بعض الأحيان والناس يدخلون من بابه الجديد. وكان جدار القبلية مما يلي صحن الجامع متوهنا فاهتم في تجديده المرحوم جميل باشا وذلك سنة ١٣٠٢ ورمم القبلية وبلط صحن الجامع ووسع الحوض إلى غير ذلك من الإصلاحات فعاد إلى الجامع رونقه ، وكذلك رمم الدكاكين التي في طرفه الغربي وهي من وقفه.

الكلام على القدم التي في هذا الجامع :

في الجدار القبلي من هذا الجامع قطعة من الحجر الأصفر فيها أثر قدم ، والمشهور بين الناس أن هذه القدم هي قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثرت في هذا الحجر ، ويزعمون أن الشيخ عبد الكريم المذكور كان رأى في منامه أن سيمر غدا من أمام الجامع رجل أعجمي أشقر اللون وهو قادم من بلاد الحجاز ومعه جمل ، وأن على هذا الجمل خرجا فيه حجر وفي هذا الحجر أثر قدمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاقبض على العجمي وخذ منه هذا الحجر.

ويزعمون أنه بعد ما استيقظ عاد إلى النوم مرة ثانية فرأى تلك الرؤيا ، ثم استيقظ وعاد إلى النوم فرأى ذلك ، فعندها تحقق لديه صحة هذا الأمر ، فلما أصبح الصباح قعد أمام الجامع فمر به الرجل ومعه الجمل ، ففعل ما أمر به وأخذ الحجر منه ووضعه في الجدار القبلي.

والناس إلى زمننا هذا يتبركون بهذا الحجر ويتمسحون به بعد أن يضعوا يدهم عليه يمسحون أعينهم ووجوههم. ومن تكون قليلة الحليب تأتي يوم الجمعة قبل الصلاة ومعها إناء ماء فيصب الخادم هذا الماء على الحجر ويتناوله بإناء آخر ثم يفرغه في الإناء الذي مع المرأة ، فتذهب المرأة وتشرب منه على نية أن يكثر لبنها.

والذي يترجح عندنا أن تلك الحكاية مختلقة لا أصل لها ، وبعيد أن تكون هذه القدم قدمه الشريف صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك لعدة أمور :

أولا : إنك إذا تأملت هذه الحجرة تجدها من الحجر الأصفر المسمى بالهرقلي الذي كان يستحضر إلى حلب من مسافة ثلاث ساعات وقد ترك لبعد مسافته وكلفته ، وفي البيوت القديمة في حلب والجوامع والمدارس تجد منه كثيرا.

٢٨٨

ثانيا : لو كان ذلك صحيحا لذكره العلامة الحنبلي في ترجمة الشيخ عبد الكريم المذكور ، ويستبعد العقل أن يذكر بعض كرامات الشيخ وأحواله التي تقدمت ويغفل عن ذكر هذا الأثر العظيم ، ومن يذكر في تاريخه في ترجمة عمر بن أبي اللطف الحصكفي القدسي حكاية قدمه الشريف صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما مر بحلب ومعه قطعة وزنها ١١ قيراطا منه آخذا لها إلى دار الخلافة إلى السلطان سليمان لا يمكن أن يغفل عن ذكر هذه القدم وحكايتها.

ثالثا : لو كان صح ذلك لما أبقاه في هذا المكان سلاطين آل عثمان بل كانوا يأمرون بنقله إلى إستانبول ووضعه في متاحفها كما فعلوا في أثر القدم الذي وجد في قلعة بصرى من أعمال الشام كما ذكر ذلك جودت باشا في تاريخه [الجزء الثالث في صحيفة ٩٢] قال ما معناه : كان وجد في قلعة بصرى المعروفة بالشام القديمة في بلاد حوران أثر قدم الحضرة النبوية وذلك أثناء ولاية الوزير محمد باشا العظم ، فاقتلعه من مكانه ووضعه في دار أسعد باشا [في الشام] ، ثم إن درويش باشا استأذن من الآستانة في وضع هذا الحجر في مرقد نبي الله يحيى عليه‌السلام في الجامع الأموي ، فاستحسن سلطان ذلك الوقت أن مثل هذه الآثار السنية المباركة ينبغي أن تكون في دار الخلافة للتبرك بها ولتكون وسيلة لليمن والسعادة ، فأصدر أمره العالي لوالي الشام بإرسال ذلك الأثر إلى دار السعادة ، وحينما وصل إليها خامس رجب من هذه السنة [سنة ١١٩٨] احتفل به احتفالا عظيما ووضع في تربة السلطان عبد الحميد الأول التي بجوار سراي [بقجة قبو].

ثم قال : المروي والمشهور لدى أهالي تلك الجهات أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفره لقصد التجارة إلى بلاد الشام وذلك قبل البعثة نزل في المكان الذي فيه ذلك الحجر ، وهو أول حجر وضع عليه رجله الشريف حينما نزل ، فأثر فيه قدمه الشريف. ثم قال جودت باشا : إنني استحصالا لكيفية تأثير قدمه الشريف في الحجر تتبعت كتب المغازي والسير والسيرة الحلبية وكتب الحديث والأثر فلم أجد ذكرا لهذه القصة إلا ما ذكره الإمام السبكي في قصيدته التائية من قوله :

وأثر في الأحجار مشيك ثم لم

يؤثر في رمل ببطحاء مكة

وما ذكره الإمام السيوطي في كتابه الخصائص الصغرى من قوله [ولا وطىء على

٢٨٩

حجر إلا وقد أثر فيه]. وإني وإن لم أجد رواية صحيحة في هذا الحادثة فإن جلب هذا الأثر المبارك إلى الآستانة والتبرك به هو بلا شبهة يستوجب اليمن والخير ا ه.

رابعا : لو كان لهذه القصة أصل لذكرها أبو ذر المترجم قبل هذا وأبو الفضل ابن الشحنة الآتي قريبا في تاريخيهما ، وكل منهما قد عقد بابا مستقلا للآثار والمزارات والطلسمات التي في حلب ومضافاتها ، وهما كما رأيت من معاصري الشيخ عبد الكريم الخوافي ، فيستبعد كل البعد ألا يذكرا هذه القصة وهذا القدم على أهميتها ، فلا ريب أن القصة مختلقة والقدم صناعية ، ولم أعثر على تاريخ وضعها في هذا الجدار.

٦٣١ ـ عثمان بن أحمد بن أغلبك المتوفى سنة ٨٨٥

عثمان بن أحمد بن أحمد بن أغلبك المقر العالي الأميري الفخري ابن الجناب الأميري الشهابي المشهور بابن أغلبك الحلبي الحنفي.

كان من علماء الأمراء وأمراء العلماء ، اشتغل بالقاهرة على الزين قاسم بن قطلوبغا الحنفي وأجاز له رواية شرحه على فرايض المجمع ورواية شرح النخبة لشيخه الحافظ ابن حجر وجميع ما يجوز روايته بشرطه ، ولو لم يكن له من الشيوخ إلا هذا لكفى ، وصار داودار السلطان بحلب وكان بيده على الدوادارية إقطاع مائة فارس. وولي كفالة قلعة المسلمين المعروفة الآن بقلعة الروم ، ودخل متوليا كفالتها في رمضان سنة أربع وثمانين وثمانمائة ، وتلقاه القضاة والأمراء ووكيل السلطان بحلب الخواجا محمد ابن الصوا ، ولكن لم يخلع عليه أزدمر الأشرفي كافل حلب فيما وجدته بخط ابن السيد منصور الحنبلي.

وأنشأ بحلب جامعه المشهور وقرر البدر الحسن السيوفي في عدة وظايف فيه ، وحماّمين صغرى هي بجوار داره وجامعه وكبرى وهي بالقرب من ساحة ألطنبغا. ووقف وقفا طويل الذيل بحلب ونواحيها على نفسه مدة حياته على من هو مذكور في كتاب وقفه ثم على ذريته على مقتضى شرطه فيه. ثم توفي سنة خمس وثمانين ودفن بتربته خارج باب المقام بحلب ا ه. (در الحبب).

وترجمه السخاوي في ضوئه فقال : هو عثمان بن أحمد بن سليمان [هناك سمى جده أحمد] ابن أغلبك فخر الدين أحد أعيان أمراء حلب المتفقهة ، نشأ بها وولي حجوبيتها

٢٩٠

الثانية ، ثم ترقى لنيابة قلعة المسلمين المعروفة بقلعة الروم مرة بعد مرة ، وولي بينهما دوادارية السلطان بحلب وقبلها بعد وفاة النور المعري كتابة سرها ونظر جيشها. وقدم القاهرة فاستعفى عنهما. وأثكل وهو بها ولدا نجيبا اسمه أحمد في طاعون سنة إحدى وثمانين ابن عشرين سنة وترك له طفلا ولد في غيبته عن حلب هو الآن حي ، واستقر في الدوادارية المشار إليها ، ثم عاد إلى نيابة القلعة المذكورة ومات بها في سنة خمس وثمانين وقد جاوز الخمسين ونقل منها إلى تربته التي أنشأها خارج باب المقام من حلب فدفن بها ، وأسند وصيته للأتابك.

وكان يذكر بنظم ونثر وكتابة فائقة ومذاكرة بوقايع وتاريخ ونحو ذلك مع أوصاف ذميمة سيئة عفا الله عنه ا ه.

الكلام على تربة أغلبك :

من الآثار القديمة الهامة تربة أغلبك خارج باب المقام بالقرب من التربة المهمازية المعروفة الآن بجامع المقامات ، ولم يبق منها سوى القبة ، وحولها من أطرافها دور حقيرة ، والجدار الغربي من هذه القبة حسن البناء وحجارته في منتهى الزخرفة أبدع فيه صانعه ما شاء أن يبدع وتخاله حجرا واحدا ، وقد مضت عليه هذه القرون ومحاسنه لا تزال ظاهرة تستلفت الأنظار ، وهو معرب بلسان الحال عما وصل إليه فن البناء من الرقي في ذلك العصر ، ومع هذا فقد داخل بعض أحجاره التشعث. وفي هذا الجدار شباكان كتب عليهما :

(١) البسملة أنشأ هذه التربة المباركة المقر الفخري

(٢) عثمان بن أغلبك الحنفي أعانه الله ونصر به ووقفها

(٣) مدفنا له ولذريته وأقاربه وأرواحهم وعتقائهم

(٤) وذريتهم وكان الفراغ سنة إحدى وثمانين وثمانمائة ا ه.

وتقدم أنه دفن في هذه التربة لكن لا أثر لقبره ثمة.

أقول : تقدم في حوادث سنة ٨٧٨ نقلا عن ابن إياس أن نائب حلب قبض عليه مع جماعة آخرين لنسبتهم للمواطأة مع حسن الطويل ملك العراق وأمر بشنقهم ، ويظهر أن ذلك لم يتم وتخلص المترجم وبقي حيا وتولى بعض المناصب إلى أن توفي في التاريخ المتقدم.

٢٩١

الكلام على جامعه المعروف بجامع باب الأحمر :

قال أبو ذر : هذا الجامع برأس البياضة أنشأه في أيامنا الأمير فخر الدين عثمان ابن شيخنا الأمير شهاب الدين ابن أغلبك وجعله جامعا تقام فيه الجمعة ومدرسة للحنفية ، وجعل فيه محدثا ومدرسا حنفيا ورتب له إماما وخطيبا ومؤذنين وقراء سبع وغير ذلك ، وجعل له منارة قصيرة ، ووقف عليه شيئا من أملاكه ، وشرط أن يكون المحدث والخطيب العلامة الشيخ شمس الدين ابن السلامي الشافعي ، وأن يكون المدرس العلامة الشيخ شمس الدين ابن أمير حاج الحنفي. ومنبر هذا الجامع من المنجور فيه صنعة مليحة وتركيب حسن ا ه.

أقول : المحلة التي فيها هذا الجامع تعرف في دفاتر الحكومة بمحلة أغلبك وعند الناس بمحلة باب الأحمر ، وللجامع قبلية صغيرة حسنة البناء. وفي سنة ١٣١٦ اهتم بأمر هذا الجامع الشيخ محمد العبيسي مفتي حلب فسعى بترميمه من ريع وقفه الذي هو تحت يد دائرة الأوقاف ، فرمم القبلية وبلط أرضها وصحن الجامع وعمر في شرقيه قبلية ثانية صغيرة جعل فيها قصطلا صغيرا يتوضأ منه المصلون ، وجعل بين القبليتين مدخلا ونقش في جدار هذه القبلية أبياتا من نظم محمود أفندي الحكيم (١) رئيس محكمة استئناف الحقوق الآن وهي :

أخلص لربك يا مصلي نية

والجأ إليه وعن سواه تجرد

واذكر وقوفك في حظيرة قدسه

واخشع له سبحانه وتهجد

وإليك إن رمت الصلاة مؤرخا

قبلية عملت بسعي محمد ١٣١٦

عمرت بسعي الفقير محمد العبيسي الرفاعي سنة ١٣١٦.

وعمر أيضا درجين في الجهة الشمالية من صحن المسجد واحد يصعد منه إلى سطح القبلية الشرقية وآخر إلى حجرة بنيت بجانب مدخل الجامع. ومنذ عشر سنوات وقف حسن دبابو من أهالي هذه المحلة دكانا في سوق الذراع على هذا الجامع ، ووقف عليه أيضا السيد عبد الرحمن الموقت من أهل هذه المحلة ربعة وعين مدرسا ووقف لذلك وقفا ، إلا أنه لقلة ريع هذا الوقف لا يصرف منه إلا لقراء الربعة وعددهم خمسة عشر قارئا وهم يقرؤون في صباح كل يوم جزءا.

__________________

(١) نبّه المؤلف في حاشية ترجمة الشيخ محمد العبيسي الحموي في الجزء السابع إلى أنه لدى التحقيق تبين أن الأبيات المذكورة هنا هي للسيد مسعود أفندي الكواكبي.

٢٩٢

ومنارة الجامع صغيرة لها قبة ، وبابه لم يزل باقيا من عهد الواقف وعلى قنطرته حجرة مكتوبة من ذلك الحين محي الكثير مما كتب عليها ، لكن اسم الواقف وهو [عثمان بن أغلبك الحنفي] لم يزل باديا للعيان.

٦٣٢ ـ محمد بن حسن الباعوري المتوفى سنة ٨٨٥

محمد بن حسن بن شعبان بن أبي بكر الباعوري ، قرية من أعمال الموصل ، ثم الحصني نزيل حلب ، ويعرف بابن الصوّة بمهملة مفتوحة ثم واو ثقيلة.

أقام بالحصن وخدم ملكها العادل خلفا الأيوبي ، ثم قدم القاهرة وحج منها مع الشمس ابن الزمر (١) ، وصحب الأشرف قايتباي قبل السلطنة ، فلما تسلطن تكلم عنه في كثير من الأمور السلطانية بحلب ، وترقى إلى أن صارت أمور المملكة الحلبية بل وكثير من غيرها معذوقا به مع عاميته ، فلما كان الدوادار الكبير هناك وعزم على المسير إلى البلاد الشرقية أشار عليه بالترك لما رأى المصلحة فيه وكاتب السلطان من علمه بذلك ، فراسله بالتوقف فيما قيل ، فحقد عليه حينئذ ودبر له أن جعل له استيفاء ما فرضه على الدور الحلبية مما قيل إنه المحسن فعله له ، وكان ذلك سببا لإثارة الفتنة واجتماع الجم الغفير والغوغاء في باكر عشري رجب سنة خمس وثمانين عند داره ورجمها مع كونه ليس بها يومئذ. وبلغ ذلك النائب فركب هو وغيره لردهم ، ثم لم يلبث أن ركب هو بعد عصر اليوم المشار إليه من الميدان إلى تحت القلعة فخرجوا عليه ففر منهم فلحقوه فأدركوه بالكلّاسة فقتلوه وحملوه لتحت القلعة فحرقوه. ويقال إنه كان شهما بطلا شجاعا مقداما ذا مروءة وعصبية وإنه جاوز السبعين ، وتألم السلطان لقتله ، وبالجملة فغير مأسوف عليه ا ه.

٦٣٣ ـ يوسف بن أحمد الشغري المتوفى سنة ٨٨٥

يوسف بن أحمد بن داود العيني نسبة لعين البندق من أعمال الشغر ثم الشغري الشافعي نزيل حلب ، ويقال له الشغري لكونه نشأ بها ، وإلا فمولده بالعين ، وهو غير الشهاب الشغري نزيل حلب أيضا ، وصاحب الترجمة أفضلهما.

__________________

(١) في «الضوء اللامع» : ابن الزمن.

٢٩٣

ورأيت له نظم تصريف العزي مع شرحه وشرح النظم ، وكذا نظم المنهاج الأصلي وقطعة من المنهاج الفرعي وشرح البهجة في ثمان مجلدات ، وكان خيرا. مات في سنة خمس وثمانين فيما بلغني رحمه‌الله ا ه.

٦٣٤ ـ محمد بن إسماعيل الأثروني المتوفى سنة ٨٨٦

محمد بن إسماعيل الشمس الأثروني ثم الحلبي الشافعي.

ولد بقرية الأثرون من عمل الشغر ، وارتحل لحلب فنزل بها عند الشرف أبي بكر الحيشي بدار القرآن العشائرية ولازمه ، وأخذ الفقه وأصوله عن عبد الملك البابي ثم عن محمد الغزولي. وأجاز له شيخنا وغيره. وناب عن القاضي ابن الخازوق الحنبلي في الإمامة بمقصورة الحنابلة من الجامع الكبير بحلب ، ثم استقل بها مع قراءة الحديث بالجامع وملازمة الإقراء بالدار المشار إليها للمنهاجين والكافية إلى سنة أربع وستين فتأهل بابنة الشهاب الأنطاكي عين عدول حلب ، وانتقل حينئذ عنها واستقر إماما عند الشيخ الصالح عبد الكريم بمدرسته إلى أن مات في أوائل سنة ست وثمانين. وكان كثير التلاوة والعبادة كارها للغيبة لا يمكن جليسه منها رحمه‌الله ا ه.

٦٣٥ ـ أبو بكر الحسفاوي المتوفى سنة ٨٨٧

أبو بكر بن يوسف بن خالد بن أيوب بن محمد الشرف ابن قاضي القضاة الجمال الربعي الحسفاوي الحلبي الشافعي عم العز أبي البقا محمد بن إبراهيم بن يوسف قاضي القضاة.

ولد بعد سنة عشر وثمانمائة ، وسمع البرهان الحلبي وشيخنا والشهاب ابن زين الدين وغيرهم ، واشتغل قليلا ، وناب في القضاء عن الشهاب الزهري ، واستقل بسرمين نحوا من ثلاثين سنة ، فلما أعيد ابن أخيه العز لقضاء حلب أرسل إليه من القاهرة يستخلفه. ومات في سنة سبع وثمانين عفا الله عنه.

٦٣٦ ـ أحمد بن أبي بكر البابي المتوفى سنة ٨٨٧

أحمد بن أبي بكر بن علي بن سراج شهاب الدين البابي الأصل الحلبي الشافعي.

٢٩٤

تفقه بعبيد بن أبي المنى ، وتخرج في الكتابة بابن المجروح ، وناب عن ابن خطيب الناصرية فمن بعده بالباب إلى أن انفصل عنه ، وحينئذ أنشد :

عاد يتمونا بلا ذنب ولا سبب

وقد غدرتم كما الحيات تنساب

لأرحلن إلى أرض أعيش بها

لا الناس أنتم ولا الدنيا هي الباب

وتكسب بالشهادة ، بل وقع للسيد تاج عبد الوهاب حين قضائه بحلب ، وتردد للقاهرة غير مرة وأخذ عن شيخنا فيما قيل ، وكتب عن بعض الطلبة من نظمه وغيره ، ونظمه في الهجاء أكثر. مات في عيد الأضحى سنة سبع وثمانين بحلب وقد جاوز الستين ا ه.

٦٣٧ ـ أحمد بن القاضي أبي جعفر المتوفى سنة ٨٨٧ وأخته عائشة

أحمد ابن القاضي أبي جعفر محمد بن أحمد بن عمر بن الضياء محمد بن عثمان الشهاب القرشي الأموي الحلبي الشافعي أخو علي الآتي ، ويعرف كسلفه بابن العجمي وهو بابن أبي جعفر.

ولد بعيد الأربعين وثمانماية ، وقرأ القرآن والمنهاج وغيره وعرض واشتغل يسيرا ، وسمع معي اليسير ببلده على أخته عائشة وغيرها ، وصاهر أبا ذر ابن البرهان الحلبي على ابنته عائشة ، وما سلك الطريق المرضي بحيث أملق جدا. ومات بالإسكندرية بعد أن عمل حارسا ببعض حمّاماتها في أواخر سنة سبع وثمانين أو أوائل التي بعدها ا ه.

وذكر في الضوء أخته عائشة مع النساء ، لكنه لم يذكر تاريخ وفاتها ، فلذا نحن نذكرها هنا مع أخيها ، ويغلب على الظن أنها ماتت في عقد السبعين. قال :

٦٣٨ ـ عائشة ابنة القاضي أبي جعفر

عائشة بنة الشهاب أبي جعفر محمد بن أحمد بن عمر بن الضياء محمد بن عثمان ، أم عمر القرشي الأموي الحلبي الشافعي ابنة ابن العجمي الماضي أبوها وزوجها العز عبد العزيز ابن العديم وولدهما.

٢٩٥

ولدت في جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وثمانماية ، وأجاز لها عائشة بنة محمد بن عبد الهادي والشهاب ابن حجر ، وحدثت ، سمع منها الطلبة. قرأت عليها بحلب. وهي من بيت رياسة وفخر بها ، ماتت في [بياض]. ا ه.

٦٣٩ ـ محمد بن أحمد البابي المتوفى سنة ٨٨٧

محمد بن أحمد بن حسن بن علي الشمس البابي ثم الحلبي الشافعي.

ولد بالباب ، ثم قدم حلب في سنة ست وثلاثين فنزل الحلاوية النورية وسمع فيما قال على البرهان الحلبي ، ثم أخذ عن ولده أبي ذر والفقه عن يوسف الكردي والقراءات عن عبيد بن أبي المنى والتقي أبي بكر البابلي ابن الحيشي ، وبمكة حين جاور فيها سنة اثنتين وأربعين عن الزين ابن عياش وسمع عليه الحديث. وتزوج في سنة ثلاث وأربعين ابنة الشمس محمد الحيشي وسكن عنده ولازمه. وأجاز له شيخنا وكتب بخطه أشياء كالصحيحين والدميري لنفسه ولغيره. وناب عن العز النحريري المالكي في الإمامة بمقصورة الحجازية من جامع حلب ، ثم عن بني الشحنة بمحرابه الكبير. مات بحلب في مستهل رجب سنة سبع وثمانين بعد تمرضه بفالج قليلا ودفن بالناعورة بزاوية الأطعاني وصلينا عليه بمكة صلاة الغائب. وكان كثير العبادة والتلاوة يقرأ في كل يوم غالبا ختما رحمه‌الله ا ه.

٦٤٠ ـ عبد الله ابن الحافظ البرهان المحدث المتوفى سنة ٨٨٩

عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن خليل الجمال أبو حامد وأبو غانم ابن الحافظ البرهان أبي الوفا الحلبي أخو أنس وأبي ذر الماضيين. سمع على أبيه وشيخنا وآخرين ، ومما سمعه على أبيه جزء الجعفي ، ثم سمع معنا بحلب في سنة تسع وخمسين على ابن مقبل وعبد الواحد ابن صدقة وحليمة بنة الشهاب الحسيني وشيخ الشيوخ التقي العلاء القاسمي ومحمد بن أبي بكر شيخ قرية جبرين في آخرين. وقدم القاهرة بعد سنة إحدى وستين فسمع على العلم البلقيني جزء الجمعة وعلى المحلي والتقي النسابة في آخرين ، وكذا سمع بالشام وغيرها ، وحدث سمع منه بعض الطلبة وجلس شاهدا. ومسه بعض مكروه افتياتا من بعض طلبة أبيه. وكان متميزا في الرمي وصنف فيه ، وله اعتناء بطريق الفقراء بحيث استقر في مشيخة

٢٩٦

الشيوخ بعد محمد بيرق الرفاعي مع دين وعدم عينه (لعله غيبة). مات في أواخر سنة تسع وثمانين وخلف أولادا ا ه.

٦٤١ ـ أبو بكر الباحسيتي المتوفى سنة ٨٩٠

أبو بكر بن أحمد بن إبراهيم التقي ابن الشهاب أبي العباس ابن البرهان الباحسيتي ، وباحسيتا حارة منها بحذاء باب الفرج ، المصري الأصل البسطامي الشافعي ويعرف هناك بابن المصري.

ولد في أول سنة إحدى عشرة وثمانماية أو آخر التي قبلها بحلب ونشأ بها ، فقرأ القرآن على عبيد البابي وبه تفقه ، وكذا اشتغل على الزين عبد الرزاق العجمي وجنيد الكردي ، ولازم البرهان الحلبي حتى سمع منه الكثير من المطولات كالصحيحين وغيرهما ، بل قرأ عليه ألفية الحديث وغيرها ، وأخذ طريق القوم عن أبي بكر الحيشي البسطامي وفضل أحد المنسوبين لسيدي عبد القادر ، بل ارتحل فسمع على الشهاب ابن الرسام بحماة ، وقرأ على ابن ناصر الدين بدمشق صحيح البخاري في سنة إحدى وأربعين ، وعلى شيخنا بالقاهرة قطعة كبيرة من أول صحيح مسلم ووصفه بالشيخ الفاضل البارع المفنن والذي قبله بالشيخ العالم الفاضل المقري المجود المحدث البارع الخطيب ، وسمع أيضا من الجمال أحمد بن الفخر أحمد بن عبد العزيز الهمامي.

وقدم بعد دهر القاهرة فلازم الحضور عندي في الإملاء وسمع دروسا كثيرة من شرح ألفية العراقي ، بل قرأ مشيخة ابن شاذان عليّ ثم على الشهاب الشاوي ، وأخذ عن الزكي المناوي المسلسل وبعض سنن أبي داود ، واستجاز عليا حفيد يوسف العجمي وغيره. ثم قدم مرة أخرى فكتب القول البديع من تصانيفي وما عملته في ختم البخاري وسمعهما من لفظي ولازمني حتى سافر في أوائل سنة اثنتين وثمانين ، وحج مرارا وزار بيت المقدس والخليل وأقام بها يسيرا ودخل الروم وغيرها ، وتكلم على الناس فأجاد وخطب ووعظ.

وهو خير نير فاضل مستحضر لأشياء جيدة من متون ومهمات وغير ذلك مع أنسه بالعربية. وآخر ما لقيته في سنة خمس وثمانين أو التي بعدها بمكة ، ثم بلغتني وفاته في سنة تسعين أو التي تليها على ما يحرر وخلف ولدا سيىء السيرة ا ه.

٢٩٧

٦٤٢ ـ قاضي القضاة أبو الفضل محمد بن محمد ابن الشحنة المتوفى

سنة ٨٩٠

محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمود بن الشهاب غازي بن أيوب بن حسام الدين محمود شحنة حلب ابن الختلو بن عبد الله المحب أبو الفضل ابن المحب أبي الوليد ابن الكمال أبي الفضل ابن الشمس أبي عبد الله الثقفي الحلبي الحنفي ، ويعرف كسلفه بابن الشحنة.

ولد كما حققته في رجب سنة أربع وثمانماية ، وأمه واسمها ميّ من ذرية موسى الذي كان حاجب حلب وبنى بها مدرسة ، ثم ولي نيابة البيرة وقلعة الروم ، ومات بالبيرة في سنة خمسين وسبعماية.

وكان مولد المحب بحلب ونشأ بها ، فقرأ القرآن عند الشمس الغزي ، وسافر مع والده إلى مصر قبل استكماله عشر سنين فقرأ في اجتيازه بدمشق عند البابي ، وفي القاهرة عند البرديني وكتب على ابن التاج وعبد الله الشريفي يسيرا ، ثم عاد إلى حلب فأكمل بها القرآن عند العلاء الكلزي ، وحفظ في أصول الدين «عمدة النسفي» وغيرها ، وفي «القراءات الطيبة» لابن الجزري ، وفي علوم الحديث والسيرة «ألفيتي العراقي» ، وفي الفقه «المختار» ثم «الوقاية» ، وفي الفرائض «الياسمينية» (١) ، وفي أصول الفقه المنار ، وفي النحو «الملحة والألفية والشذور» وبعض «توضيح ابن هشام» و «ألفية ابن معطي» ، وفي المنطق «تجريد الشمسية» ، وفي المعاني والبيان «التلخيص» إلى غيرها من مناظم أبيه وغيرها حسبما قاله لي بزيادات وأنه كان آية في سرعة الحفظ بحيث إنه حفظ ألفية الحديث في عشرة أيام ، ورام فعل ذلك في ألفية النحو فقرأ نصفها في نصف المدة وما تيسر له في النصف الثاني ذلك ، وعرض بعض محافيظه على عمه أبي اليسر والعز الحاضري والبدر ابن سلامة وكتب له فيما قاله لي :

سمح الزمان بمثله فاعجب له

إن الزمان بمثله لشحيح

فالأصل ذاك والخلال حميدة

والذهن صاف واللسان فصيح

__________________

(١) أشارت حاشية طبعة «الضوء اللامع» إلى أن الياسمينية في علم الجبر والمقابلة لا الفرائض كما جاء في حاشية الأصل.

٢٩٨

وأخذ عن الآخيرين في الفقه وعظم انتفاعه بثانيهما ، وقرأ عليه في أصلي الديانة والفقه وفي المنطق تجريد الشمسية ، كما أخذه عن مؤلفه أحمد الجندي واشتدت عنايته بملازمته ، وعنهما أخذ العربية وكذا عن عمه وآخرين كالشهاب ابن هلال قرأ عليه الحاجبية. قال : وكان يتوقد ذكاء غير أنه كان ممتحنا بابن عربي ، وكذا ما مات حتى اختل عقله. ولازم البرهان حافظ بلده في فنون الحديث وحمل عليه أشياء بقراءته وقراءة غيره وتخرج به قليلا وضبط عنه فوائد وقال : إنه كان يصرفه عن الاشتغال بالمنطق ويقول : كان جدك الكمال يلوم ولده والدك على توسعه فيه. وصاهر العلاء ابن خطيب الناصرية فانتفع به وكتب عنه أشياء ، وكذا أخذ القليل عن شيخنا حين قدومه عليهم في سفرة آمد بعد أن كان راسله سنة ثمان وعشرين يستدعي منه الإجازة قائلا في استدعائه :

وإن عاقت الأيام عن لثم تربكم

وضنّ زماني أن أفوز بطائل

كتبت إليكم مستجيزا لعلني

أبلّ اشتياقي منكم بالرسائل

وفي هذه السنة أجاز له من بعلبك البرهان ابن المرحل ، ومن القاهرة الشهاب الواسطي والشهاب المعروف بالشهاب التائب. وسمع ببلده من الشهابين أبي جعفر ابن العجمي وابن السفاح وأبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الشاهد وست العرب ابنة إبراهيم بن محمد بن أبي جرداة ، وأخذ بحماة حين توجه لملاقاة عمه إذ حج عن النور محمود ابن خطيب الدهشة. وأول ما دخل القاهرة مستقلا بنفسه في سنة أربع وثلاثين ، ولقي بدمشق حينئذ العلاء بن سلام والشهاب بن الحبال وتذاكرا معه وسأله عن المراد في وصف الرجل بالذكر في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر) فأجاب بأنه ورد في بعض الأحاديث لفظ الرجل والمراد به الأنثى فالتأكيد لدفع التوهم فلينظر ، والعلاء البخاري وسمع مذاكرته مع ابن خطيب الناصرية. وبالقاهرة التقى المقريزي بل قال إنه جاءه صحبة شيخنا للسلام عليه وإنه اتفقت نادرة بديعة الاتفاق وهي أن المحب سأل من شيخنا عن رفيقه لكونه لم يكن يعرف شخصه ، فأعلمه بأنه المقريزي وأظهر التعجب من ذلك لكونه فيما سلف عند إشاعة مجيء والده التمس من المقريزي لعدم سبق معرفته به استصحابه معه للسلام ففعل ، وجاءه ليتوجها فلم يجده فانتظره حتى جاء ، ثم توجها فسأله الوالد عني ، واتفق الآن مثل ذلك فإني توجهت للتقي فقيل لي إنه بالحمّام ، فانتظرته ثم جئنا فسلمنا فسألتم مني عنه فتقارضنا والله أعلم.

٢٩٩

ولم يستكثر من لقاء الشيوخ بل ولا من المسموع واكتفى بشيخه البرهان مع ما قدمته ، نعم هو مثبت في استدعاء النجم ابن فهد الذي أجاز فيه خلقا من أماكن شتى ، وكذا لم يتيسر له الاشتغال بالعروض مع أنه إذا سئل النظم من أي بحر منه يفعل حسبما قاله وأن عمه العلاء سأله وهو ابن اثنتي عشرة سنة أو نحوها : أتحسن الوزن؟ فقال له : نعم ، فقال : فعارض لي قول الشاعر :

أمط اللثام عن العذار السابل

ليقوم عذري فيك بين عواذلي

فقال بديهة :

اكشف لثامك عن عذارك قاتلي

لتموت غما إن رأتك عواذلي

قال : فاستحسن العم ذلك.

وسمع من لفظ الزين قاسم جامع مسانيد أبي حنيفة للخوارزمي ، وكان يستمد منه ومن البدر ابن عبيد الله حين كان ولده الصغير يقرأ على كل منهما بحضرته ، كما أنه كان يستمد من كاتبه بالمشافهة والمراسلة ونحوها حين كان يتردد إليه ، بل ربما سمع بعض تصانيفه بقراءة ابنه أو سبطه عليه بحضرته.

وأول ما ولي من الوظائف اشتراكه مع أخيه عبد اللطيف في تدريس الأشقتمرية والجردكية والحلاوية والشاذبختية برغبة أبيهما لهما عنها قبل موته ، ثم استقل في سنة عشرين بالأولى وعمل فيها أجملا سادسة له [هكذا] شيخه (١) البدر بن سلامة ، وأنشد البدر حينئذ مشافها له :

أقسمت إن جدّ وطال المدى

روى الورى من بحره الزاخر

فقل لمن بالسبق قد فضّلوا

كم ترك الأول للآخر

وقضاء العسكر ببلده برغبة التاج ابن الحافظ وإمضاء المؤيد إذ حل ركابه بحلب فيها ، ثم بتدريس الشاذبختية بعد ولد قاضي حلب يوسف الكوفي ، ثم قضاء الحنفية ببلده في سنة ست وثلاثين ولاه إياه الأشرف إذ حل ركابه فيها ، وكانت الوظيفة كما قال شيخنا

__________________

(١) في «الضوء اللامع» : وعمل فيها أجلاسا رتبه له شيخه.

٣٠٠