إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

فسمع بالقاهرة ومصر والإسكندرية ودمياط وتنيس وبيت المقدس والخليل وغزة والرملة ونابلس وحماة وحمص وطرابلس وبعلبك ودمشق ، وأدرك بها الصلاح بن أبي عمر خاتمة أصحاب الفخر ولم يسمع من أحد من أصحابه سواه ، وسمع بها من المحب الصامت وأبي الهول وابن عوض والشمس بن قاضي شهبة وعدة نحو الأربعين. وشيوخه بالقاهرة الجمال الباجي والبدر بن حسب الله وابن ظافر والحروي والتقي بن حاتم والتنوخي وجويرية الهكارية وقريب من نحو أربعين أيضا ، وبمصر الصلاح محمد بن محمد بن عمر البلبيسي وغيره ، وبالإسكندرية البهاء عبد الله بن الدماميني والمحيوي القروي ومحمد بن محمد بن يفتح الله [هكذا ولعله فتح الله] وآخرون ، وبدمياط أحمد القطان ، وبتنيس بالقرب من جامعها الذي خرب بعض رواقاته قرأ عليه بإجازته العامة من الحجاز ، وببيت المقدس الشمس محمد بن حامد بن أحمد والبدر محمود بن علي بن هلال العجلوني والجلال عبد المنعم بن أحمد بن محمد الأنصاري ومحمد بن سليمان بن الحسن بن موسى بن غانم وغيرهم ، وبالخليل نزيله عمر بن النجم بن يعقوب البغدادي المعروف بالمحرد ، وبغزة قاضيها العلاء علي بن خلف بن كامل أخو صاحب ميدان الفرسان الشمس الغزي تلميذه ، وبالرملة بعضهم ، وبنابلس الشمس محمد وإبراهيم وشهود بنو عبد القادر بن عثمان وغيرهم ، وبحماة أبو عمر أحمد بن علي بن عبد الله العداس والشرف بن البدر (١) محمد بن حسن بن مسعود وجماعة ، وبحمص الجمال إبراهيم بن الحسن بن إبراهيم بن فرعون وعثمان بن عبد الله بن النعمان الجزار ، وبطرابلس الشهاب المسلك أحمد بن عبد الله الرواقي الحموي ، وببعلبك الشمس محمد بن علي بن أحمد بن البونانية والعماد إسماعيل بن محمد بن بردوس (٢) (لعله فردوس) وآخرون. وأجاز له قبل رحلته ابن أميلة وأبو علي بن الهبل وغيرهما.

وقرأت بخطه : مشايخي في الحديث نحو المائتين ، ومن رويت عنه شيئا من الشعر دون الحديث بضع وثلاثون ، وفي العلوم غير الحديث نحو الثلاثين. وقد جمع الكل من شيوخ الإجازة أيضا صاحبنا النجم بن فهد الهاشمي في مجلد ضخم بين فيه أسانيده وتراجم شيوخه وانتفع بثبت الشيخ في ذلك وفرح الشيخ به لكونه كان أولا في تعب بالكشف من الثبت ،

__________________

(١) في «الضوء اللامع» : وشرف ابنة البدر.

(٢) في «الضوء اللامع» : بردس.

٢٠١

وكذا جميع التراجم وألم بالمسموع شيخنا ، لكن ما أظن صاحب الترجمة وقف عليها ولو علم بالذي قبله ما عملها.

وحج في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة وكانت الوقفة الجمعة ولم يحج سواها ، وزار المدينة المنورة ، وكذا زار بيت المقدس أربع مرات.

ولما هجم تيمور لنك على حلب طلع بكتبه إلى القلعة ، فلما دخلوا البلد وسلبوا الناس كان فيمن سلب حتى لم يبق عليه شيء ، بل وأسر أيضا وبقي معهم إلى أن رحلوا إلى دمشق فأطلق ورجع إلى بلده فلم يجد أحدا من أهله وأولاده ، قال : فبقيت قليلا ثم خرجت إلى القرى التي حول حلب مع جماعة ، فلم أزل هناك إلى أن رجع الطغاة لجهة بلادهم فدخلت بيتي فعادت إليّ أمتي نرجس وذكرت أنها هربت منهم من الرها وبقيت زوجتي وأولادي منها ، وصعدت حينئذ القلعة وذلك في خامس عشري شعبان فوجدت أكثر كتبي فأخذتها ورجعت.

واجتهد الشيخ رحمه‌الله في هذا الفن اجتهادا كبيرا وكتب بخطه الحسن الكثير ، فمن ذلك كما تقدم شرح البخاري لابن الملقن ، بل فقد منه نصفه في الفتنة فأعاد كتابته أيضا وعدة مجاميع ، وسمع العالي والنازل ، وقرأ البخاري أكثر من ستين مرة ومسلما نحو العشرين سوى قراءته لهما في الطلب أو قراءتهما من غيره عليه.

واشتغل بالتصنيف فكتب تعليقا لطيفا على السنن لابن ماجه وشرحا مختصرا على البخاري سماه «التلقيح لفهم قارىء الصحيح» وهو بخطه في مجلدين وبخط غيره في أربعة ، وفيه فوائد حسنة ، وقد التقط منه شيخنا (يعني الحافظ ابن حجر) حين كان بحلب ما ظن أنه ليس عنده لكون شرحه لم يكن معه سوى كراريس يسيرة وأفاد فيه أشياء ، والذي كتبه منه ما يحتاج إلى مراجعته قبل إثباته ، ومنه ما لعله يلحقه ، ومنه ما يدخل في القطعة التي كانت بقيت على شيخنا من شرحه (المسمى بفتح الباري على صحيح البخاري). هذا مع كون المقدمة التي لشيخنا من جملة أصول البرهان ، فإنني قرأت في خطبة شرحه : ثم اعلم أن ما فيه عن حافظ عصري أو عن بعض حفاظ العصر أو نحوها بين العبارتين فهو من قول حافظ هذا العصر العلامة قاضي المسلمين حافظ العصر شهاب الدين ابن حجر من كتابه الذي هو كالمدخل إلى شرح البخاري له أعان الله على إكمال الشرح انتهى.

٢٠٢

بل لصاحب الترجمة على البخاري عدة إملاءات كتبها عنه جماعة من طلبته ، و «المقتفى (١) في ضبط ألفاظ الشفا» في مجلد بيض فيه كثيرا ، و «نور النبراس (٢) على سيرة ابن سيد الناس» في مجلدين ، وحواش على كل من صحيح مسلم والسنن لأبي داوود لكنها ذهبت في الفتنة ، وكتب ثلاثة وهي «التجويد» و «الكاشف» و «تلخيص المستدرك» ، وكذا ذيل على الميزان (للذهبي) وسماه ، «بلّ الهميان في معيار الميزان» يشتمل على تحرير بعض تراجمه وزيادات عليه وهو في مجلدة لطيفة ، لكنه كما قال شيخنا لم يمعن النظر فيه ، و «المراسيل» للعلائي و «اليسير على ألفية العراقي» وشرحها ، بل وزاد في المتن أبياتا غير مستغنى عنها ، وله «نهاية السول في رواة الستة الأصول» في مجلد ضخم ، و «الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث» مجلد لطيف ، و «التبيين لأسماء المدلسين» في كراسين (٣) ، و «تذكرة الطالب المعلم فيمن يقال إنه مخضرم» (٤) كذلك ، و «الاغتباط بمن رمي بالاختلاط» (٥) ، و «تلخيص المبهمات» لابن بشكوال وغير ذلك. وله ثبت كثير الفوائد طالعته وفيه إلمام بتراجم شيوخه ونحو ذلك ، بل ورأيته ترجم جماعة ممن قرأ ورحل إليه كشيخنا (٦) وهي حافلة ، وابن ناصر الدين (٧) وطائفة.

__________________

(١) موجود بخطه في المكتبة الأحمدية بحلب ورقمه ١٨١ قال في آخره : فرغ من تعليقه يوم الاثنين في عشرين شوال في سنة سبع وتسعين وسبعمائة بالشرفية بحلب وابتدأ فيه بعد نصف شعبان من السنة إبراهيم بن محمد بن خليل سبط بن العجمي ولله الحمد والمنة وصلى الله على نبي الرحمة وعلى آله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل. ومنه نسختان في مكتبة قاضيعسكر محمد مراد ورقمها ٤٥٣ و ٤٥٧ ، ونسخة في مكتبة فيض الله أفندي ورقمها ١٩٤ ، وفي السلطانية بمصر.

(٢) موجودة في المكتبة البهائية بحلب في ثلاثة مجلدات ، ويوجد مجلدان في السلطانية بمصر وهما الأول والثاني وصل فيهما إلى غزوة الحديبية. ونسخة في برلين ونسخة في باريس.

(٣) قال في كشف الظنون في الكلام على أسماء المدلسين : وممن صنف فيه الحافظ البرهان الحلبي وزاد عليه قليلا قال : وجميع ما في كتاب العلائي من الأسماء (٦٨) وزاد عليه ابن العراقي (١٣) وزاد عليه البرهان الحلبي (٣٢) نفسا. أقول : وهو في ١٢ ورقة.

(٤) هو في ٧ أوراق.

(٥) هو في ١٥ ورقة وهذه الثلاثة في التكية الإخلاصية بحلب في مجموع بخط عمر بن محمد النصيبي الحلبي محرر سنة ٨٣٢ وعليها خط المؤلف.

(٦) هو الحافظ ابن حجر.

(٧) هو حافظ الشام محمد بن ناصر الدين المتوفى سنة ٨٤٢.

٢٠٣

وكان إماما علامة حافظا خيرا دينا ورعا متواضعا وافر العقل حسن الأخلاق متخلقا بجميل الصفات جميل العشرة محبا للحديث وأهله كثير النصح والمحبة لأصحابه ساكنا منجمعا عن الناس متعففا عن التردد لبني الدنيا قانعا باليسير طارحا للتكلف رأسا في العبادة والزهد والورع مديم الصيام والقيام سهلا في التحدث كثير الإنصاف والبشر لمن يقصده للأخذ عنه خصوصا الغرباء ، مواظبا على الأشغال والاشتغال والإقبال على القراءة بنفسه ، حافظا لكتاب الله تعالى كثير التلاوة له صبورا على الإسماع ، ربما أسمع اليوم الكامل من غير ملل ولا ضجر. عرض عليه قضاء الشافعية ببلده فامتنع وأصر على الامتناع فصار بعد كل واحد من قاضيها الشافعي والحنفي من تلامذته الملازمين بمجلسه والمنتمين لناحيته.

واتفق أنه في بعض الأوقات حوصرت حلب فرأى بعض أهلها في المنام السراج البلقيني فقال له : ليس على أهل حلب بأس ، ولكن رح إلى خادم السنة إبراهيم المحدث وقل له يقرأ عمدة الأحكام ليفرج الله عن المسلمين ، فاستيقظ فأعلم الشيخ فبادر إلى قرائتها في جمع من طلبة العلم وغيرهم بالشرفية يوم الجمعة بكرة النهار ودعا للمسلمين بالفرج ، فاتفق أنه في آخر ذلك النهار نصر الله أهل حلب.

وقد حدث بالكثير وأخذ عنه الأئمة طبقة بعد طبقة وألحق الأصاغر بالأكابر وصار شيخ الحديث بالبلاد الحلبية بلا مدافع. وممن أخذ عنه من الأكابر الحافظ الجمال بن موسى المراكشي ووصفه بالإمام العلامة المحدث الحافظ شيخ مدينة حلب بلا نزاع ، وكان معه في السماع عليه الموفق الآبي وغيره والعلامة العلاء ابن خطيب الناصرية وأكثر الرواية عنه في ذيله لتاريخ حلب ، وقال في ترجمته فيه : هو شيخي عليه قرأت هذا الفن وبه انتفعت وبهديه اقتديت وبسلوكه تأدبت وعليه استفدت. قال : وهو شيخ إمام عالم عامل حافظ ورع مفيد زاهد على طريق السلف الصالح ، ليس مقبلا إلا على شأنه من الاشتغال والأشغال والإفادة لا يتردد إلى أحد ، وأهل حلب يعظمونه ويترددون إليه ويعتقدون بركته ، وغالب رؤسائها تلامذته. قال : ورحل إليه الطلبة واشتغل عليه كثير من الناس وانفرد بأشياء وصار رحلة الإفاق ، وحافظ الشام (لعله وممن رحل إليه حافظ الشام) الشمس ابن ناصر الدين ، وكانت رحلته إليه في أول سنة سبع وثلاثين وأثنى عليه ، ولما سافر شيخنا في سنة ست وثلاثين صحبة الركاب الأشرفي إلى آمد أضمر في نفسه لقيه والأخذ عنه لاستباحته القصر وسائر الرخص ولكونه لم يدخل حلب في الطلب ، ثم أبرز ذلك في الخارج وقرأ

٢٠٤

عليه بنفسه كتابا لم يقرأه قبلها وهو مشيخة الفخر ابن البخاري ، هذا مع أنه لم يكن حينئذ منفردا بالكتاب المذكور ، بل كان بالشام غير واحد ممن سمعه على الصلاح بن أبي عمر أيضا فكان في ذلك أعظم منقبة لكل منهما ، وقد كان يمكن شيخنا أن يأمر أحدا من الطلبة بقراءتها كما فعل في غيرها ، فقد سمع عليه بقراءة غيره أشياء وحدث هو وإياه معا بمسند الشافعي ، والمحدث الفاضل ترجمه شيخنا حينئذ بقوله : وله الآن بضع وستون سنة يسمع الحديث ويقرؤه مع الدين والتواضع واطراح التكلف وعدم الالتفات إلى بني الدنيا. قال : ومصنفاته ممتعة محررة دالة على تتبع زائد وإتقان. قال : وهو قليل المباحث فيها كثير النقل. وقال في مقدمة المشيخة التي جمعها له : أما بعد فقد وقفت على ثبت الشيخ الإمام العلامة الحافظ المسند شيخ السنة النبوية برهان الدين الحلبي سبط ابن العجمي لما قدمت حلب في شهور سنة ست وثلاثين ، فرأيته يشتمل على مسموعاته ومستجازاته وما تحمله في بلاده وفي رحلاته وبيان ذلك مفصلا ، وسألته هل جمع لنفسه معجما أو مشيخة فاعتذر بالشغل بغيره وأنه يقنع بالثبت المذكور إذا أراد الكشف عن شيء من مسموعاته وأن الحروف لم تكمل عنده ، فلما رجعت إلى القاهرة راجعت ما علقته من الثبت المذكور وأحببت أن أخرج له مشيخة أذكر فيها أحوال الشيوخ المذكورين ومروياتهم ليستفيدها الرحالة فإنه اليوم أحق الناس بالرحلة إليه لعلو سنده حسا ومعنى معرفته بالعلوم فنا فنا أثابه الحسنى آمين. وفهرس المشيخة بخطه بما نصه : جزء فيه تراجم مشايخ شيخ الحفاظ برهان الدين ، ثم عزم على إرسال نسخة بها إليه وكتب بظاهرها ما نصه : المسؤول من فضل سيدنا وشيخنا الشيخ برهان الدين ومن فضل ولده الإمام موفق الدين (هو أبو ذر وستأتي ترجمته) الوقوف على هذه الكراريس وتأمل التراجم المذكورة فيها وسد ما أمكن من البياض لإلحاق ما وقف على مسطرها من معرفة أحوال من بيض على ترجمته وإعادة هذه الكراريس بعد الفراغ من هذا الغرض إلى الفقير مسطرها صحبة من يوثق به إن شاء الله. وكذا سيأتي في ترجمة ولده (يعني الموفق أباذر) وصف شيخنا لصاحب الترجمة بشيخنا الإمام العلامة الحافظ الذي اشتهر بالرعاية في الإمامة حتى صار هذا الوصف له علامة أمتع الله المسلمين ببقائه.

وسئل (أي الحافظ ابن حجر) عنه وعن حافظ دمشق الشمس ابن ناصر الدين فقال :

٢٠٥

البرهان نظره قاصر على كتبه والشمس يجول (١). وكان ذكره قبل ذلك في القسم الثاني من معجمه فقال : المحدث الفاضل الرحال ، جمع وصنف مع حسن السيرة والتخلق بجميل الأخلاق والعفة والانجماع والإقبال على القراءة بنفسه ودوام الإسماع والاشتغال ، وهو الآن شيخ البلاد الحلبية غير مدافع ، أجاز لأولادي وبيننا مكاتبات ومودة حفظه الله تعالى. قال :

ثم اجتمعت به في قدومي إلى حلب في رمضان سنة ست وثلاثين صحبة الأشرف وسمعت منه المسلسل بالأولية بسماعه من جماعة شيوخنا ومن شيخين له لم ألقهما ، ثم سمعت من لفظه المسلسل بالأولية تخريج ابن الصلاح سوى الكلام. انتهى وبلغني أن شيخنا كتب له المسلسل بخطه عن شيوخه الذين سمعه منهم وأدخل فيهم شيخا رام اختباره فيه هل يفطن له أم لا ، فتنبه البرهان لذلك بل ونبه على أنه من امتحان المحدثين ، هذا مع قوله لبعض خواصه إن هذا الرجل يعني شيخنا لا يلقاني إلا وقد صرت نصف راجل ، إشارة إلى أنه كان عرض له قبل ذلك الفالج وأنسي كل شيء حتى الفاتحة. قال : ثم عوفيت وصار يتراجع إليّ حفظي كالطفل شيئا فشيئا ، وهو ممن حضر مجلس إملاء شيخنا بحلب وعظمه جدا كما أثبته في ترجمته واستفاد منه كثيرا. وأما شيخنا فقد سمعته يقول : لم أستفد من البرهان غير كون أبي عمير بن أبي طلحة اسمه حفص ، فإنه أعلمني بذلك ، واستحضر كتاب «فاضلات النساء» لابن الجوزي لكون التسمية فيه ولم أكن وقفت عليه.

وممن ترجم الشيخ أيضا الفاسي في ذيل التقييد وقال : محدث حلب ، والتقي المقريزي في تاريخه لكن باختصار وقال : إنه صار شيخ البلاد الحلبية بغير مدافع مع تدين وانجماع وسيرة حميدة.

وقال البقاعي : إنه كان على طريقة السلف في التوسط في العيش وفي الانقطاع عن الناس لا سيما أهل الدنيا عالما بغريب الحديث شديد الاطلاع على المتون بارعا في معرفة العلل ، إذا حفظ شيئا لا يكاد يخرج من ذهنه ، ما نازع أحدا بحضرته في شيء وكشف عنه إلا ظهر الصواب ما قاله أو كان ما قاله أحد ما قيل في ذلك. وهو كثير التواضع مع الطلبة والنصح لهم ، وحاله مقتصد في غالب أمره. قلت : وفيها مجازفات كثيرة كقوله

__________________

(١) في «الضوء اللامع» : يحوش.

٢٠٦

شديد الاطلاع على المتون بارعا في معرفة العلل ، ولكنه معذور فهو عار منها.

ولما دخل التقي الحصني حلب بلغني أنه لم يتوجه لزيارته لكونه كان ينكر مشافهته على لابسي الأثواب النفيسة على الهيئة المبتدعة وعلى المتقشفين ، ولا يعدو حال الناس ذلك ، فتحامى قصده ، فما وسع الشيخ إلا المجيء إليه فوجده نائما بالمدرسة الشرفية ، فجلس حتى انتبه ثم سلم عليه فقال له : لعلك التقي الحصني ، فقال : أنا أبو بكر ، ثم سأله عن شيوخه فسماهم له فقال له : إن شيوخك الذين سميتهم هم عبيد ابن تيميّة أو عبيد من أخذ عنه ، فما بالك أنت تحط عليه؟ فما وسع التقي إلا أن أخذ نعله وانصرف ولم يجسر أن يرد عليه.

ولم يزل على جلالته وعلو مكانته حتى مات مطعونا في يوم الاثنين سادس عشر شوال سنة إحدى وأربعين (أي وثمانماية) بحلب ولم يغب له عقل بل مات وهو يتلو ، وصلي عليه بالجامع الأموي بعد الظهر ودفن بالجبيل عند أقاربه ، وكانت جنازته مشهودة ، ولم يتأخر هناك في الحديث مثله رحمه‌الله وإيانا ا ه.

أقول : تقدم الكلام على مدرسة بني العجمي في محلة الجبيل وأن في شرقي قبليتها بيتا كبيرا فيه ثمانية قبور مسنمة لا حجارة عليها ولا كتابة ، ولذا لم نعلم صاحب كل قبر ، والمترجم رحمه‌الله مدفون في أحدها.

وقد كان يدرس الحديث أيضا في جامع منكلي بغا المعروف بجامع الرومي في محلة باب قنسرين ، ذكر ذلك ولده أبو ذر في كنوز الذهب في الكلام على هذا الجامع. وبهذه المناسبة نذكر هنا كلامه عليه ويكون ذلك تتمة لكلامنا على هذا الجامع في الجزء الثاني في (صحيفة ٣٥٩) قال :

الكلام على جامع منكلي بغا الشمسي (جامع الرومي):

قال في كنوز الذهب : منكلي بغا الشمسي ولي نيابة حلب عوضا عن قطلوبغا الأحمدي في سنة ثلاث وستين وسبعماية ، ثم وليها ثانيا وفي هذه التولية أنشأ هذا الجامع وباشر منعوتا بأحسن الأوصاف حاملا ألوية العدل والإنصاف إلى أن نقل إلى نيابة دمشق بعد سنة كاملة. وهذا الجامع لطيف حسن العمارة ظاهر النورانية يشرح الصدر ويذهب الغم ويفرج الكرب ، ومحرابه في غاية الجودة من الرخام الملون والفسيفساء ، وهو معتدل على القبلة

٢٠٧

من غير انحراف. ومنبره نهاية في الحسن من الرخام الأبيض والفصوص الملونة ، وكذلك سدته من الرخام الأبيض ، جيد في بابه ، وحائطه فيه وزرة من الرخام الملون السماقي والأبيض وغير ذلك. ومنارته حسنة على هيئة لطيفة مدورة في غاية الإحكام. وكان أولا قبل أن يبنى محلته يباع فيها الخمر ويقال لها محلة الأرمن ، فقيض الله سبحانه وتعالى هذا الرجل فأزال المناكر وأسس هذا الجامع بالعدل والإنصاف كما قال الشاعر :

وإذا تأملت البقاع وجدتها

تشقى كما تشقى الرجال وتسعد

وأصرف عليه من وجه حل. ثم بلغ مشد العمارة أن الصيرفي كان يقطع من كل فاعل حبة ، فأهانه وقال : لو درى بك النائب لأهانك. وكان الفاعل ينام ولا يكلف ويأمره بالصلاة ، وأقام لعمارته ابن المهمندار فقام قياما حسنا وعمره وثمر وقفه وزاد ريعه وشرى له حصصا.

وقد وقف منكلي بغا كتبا نفيسة لهذا الجامع ومنها «التفسير» للقرطبي و «التبصرة» لابن الجوزي و «مجمع الأحباب» للحسيني وغير ذلك من الكتب النفايس ، وقد ذهب نصف مجمع الأحباب وكان كله في مجلدين فذهب مجلد ، وهو كتاب جليل ترجم فيه الأولياء والعلماء وتكلم فيه على طريق الصوفية. ووضع الكتب في خزائن بالجامع المذكور ، وهذه الخزائن متقنة محكمة فيها الصنائع العظيمة على طريق النجارين ، وبلغني أن الشيخ فريكا وهو من الصالحين كان نجار ذلك (١).

وفي تاسع عشر المحرم سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة شرع في نقض الحائط الغربي من هذا الجامع وبعض القبو الملاصق له لأنه انشق قديما وأراد الحاج عمر الجابي لوقفه أن يبني فيه قناطر وأن يضعها على الصفوية ، وهي تربة للصفوي وعليها وقف في طاحون الدوير وبها قبر ، وكان هناك قراء لهم معلوم مرتب من ريع الوقف ، واشترى لذلك أحجارا عظيمة ورأيت بعضها على باب الجامع فلم يتفق ذلك ، وكان قد اجتمع مال من ريع الجامع وهو مدخر بالجامع المذكور ، فتقاسم المباشرون المال ولم يبنوا شيئا من الجامع ، فزاد التقطع في السنة المذكورة لما أحدثوا قناة حمّام المالحة في أساسه ، فذهب أهل المحلة إلى كافل حلب

__________________

(١) لا خزائن الآن هناك ولا كتب وقد رأيت منها تفسير القرطبي في بعض البيوت في ١٥ مجلدا وهو نسخة نفيسة جدا.

٢٠٨

تنم وأحضروه إلى الجامع فرأى حاله وما آل ، فرق عليه. وكان الخواجا شهاب الدين أحمد الملطي عين التجار بحلب إذ ذاك قد تكلم معه في عمارته فقال : أخاف من عمارته أن يتوصل أحد من الحكام إلى أخذ شيء من مالي ، ودلهم على التكلم مع الكافل في ذلك ، فتكلموا مع الكافل وعرفوه أن ريعه لا يفي بعمارته ، فقال له الكافل : أنا أتبرع بعمارته ، فقال له الجماعة : بل نترامى على الملطي ونسأله أن يعمره ، فقال لهم : افعلوا ما بدا لكم ، فذهبوا إلى الملطى وأعلموه بذلك فأخرج خمسمائة أفلوري متبرعا بها في عمارته ، وتبرع ابن الشحنة محب الدين العلامة بالكلس من ماله ، فأرسل كافل حلب إلى القاهرة وأحضر صناعا لبناء ذلك فحضروا ومعهم مهندس ، وكان قليل الكلام ، ومعلم يقال له ... وشيّال ، وكان الشيّال طويلا له قدرة على حمل الحجارة العظيمة ، فشرعوا في النقض كما تقدم ، فنقضوا حتى بلغوا الأساس ، ووضع في الأساس أعمدة. وتمت عمارة ذلك في العشر الأوسط من ربيع الآخر من السنة المذكورة ، فقال علي بن الرحال : إن هذا البناء يتشقق ثانيا ، فحدث في القبو بعض تشقق ، وقد تشقق الحائط الشمالي مع قبوه في سنة ثلاث وسبعين. وكان الحاج محمد بن صفا (١) (المدفون بالصفوية) رحمه‌الله رجلا خيرا تبرع بجملة من ماله لما فرغت دراهم الملطي فصرفت في عمارة الحائط المذكور ، ولم يقطع للمستحقين الدرهم الفرد.

ولما ولي الكلام على الجامع خشقدم دوادار قانباي الحمزاوي رحمهم‌الله تعالى قام بعمارته أحسن قيام ورخم قبيلته بالحجارة الحندراتية وبيضه متبرعا بذلك كله من ماله فزاد حسنه ، ثم لما ذهب مع أستاذه إلى كفالة دمشق أرسل له مصابيح من دمشق فعلقت فيه وهي مذهبة. ثم لما تكلم عليه يوسف خازندار جانم شرى له بسطا كثيرة من ماله ففرشت بالجامع المذكور مضافة إلى البساط الكبير الذي وقفه الأمير صارم الدين إبراهيم ابن منجك ، وكان قد قدم حلب في بعض التجاريد. ووقف عليه الحاج عمر بن صفا بساطا كبيرا ، وكذلك أحمد بن الديوان الأستادار.

__________________

(١) قال في الكلام على الترب : التربة الصفوية بحضرة منكلي بغا من الغرب بينهما شارع ، وهي بناء محكم وبها فرش من الرخام وفيها قبور وقراء يقرؤون القرآن ، ومن وقفها حصة برحا الدوير على نهر قويق. ا ه. أقول : لا زال هناك قبر عن يمين الباب وله شباك على الجادة وهناك قبلية اتخذت كتّابا ولا وقف للتربة الآن والمكان جميعه في حاجة إلى الترميم.

٢٠٩

وكان هذا الجامع يحضر إليه الناس من البلاد الشاسعة وأطراف البلد للنظر إلى محاسنه والاجتماع بمحدثه والدي وقراءة الحديث فيه بشرط الواقف أن يكون المتكلم على الجامع واحدا ، وفرض ذلك لابن حبيب ، ثم انتقلت إلى الحراني قاضي حلب الحنبلي ، ويأتون أيضا إلى سماع مؤذنه جمال الدين يوسف الكشكاوي وكان خيرا دينا صيتا يحفظ القرآن وانقطع صوته ثم عاد ، وربما كان يتزعزع في بعض الأحوال. وكذلك لسماع مؤذنه شمس الدين التيزيني وللصلاة خلف إمامه الشيخ إسرافيل وكان عبدا صالحا صيتا ، وسمي بذلك لحسن صوته ، وكان الرؤساء من أهل المحلة يجلسون على بابه فلا يستطيع أحد المرور لحشمتهم وحياء منهم ، ومن جملتهم ابن الافتخاري ووقف صطلا كبيرا من نحاس ليعلق على باب الجامع للشرب منه.

وفي هذا الجامع في قبليته من جهة الشرق إيوانان أحدهما فيه باب صغير مسدود الآن كان يدخل منه منكلي بغا للصلاة يوم الجمعة لئلا يتخطى رقاب الناس ا ه.

أقول : ذكرت في الجزء الثاني في الكلام على هذا الجامع أني لم أقف على سبب تسميته بجامع الرومي. ثم وقفت على ذلك في تاريخ أبي ذر في كلامه على جامع دباغة العتيقة الواقع بين محلة سويقة علي ومحلة سويقة الحجارين فقد قال ثم : هذا الجامع (أي جامع الدباغة) يقال له جامع الرومي. (ثم قال) : وهذا الرومي الذي ينسب إليه هذا الجامع أخبرني بعض المشايخ أنه كان تاجرا وأنه سافر ورفقته معه فوقع عليهم برد ببعض البوادي فقتل دوابهم وأهلكهم ، فسلم هذا الرجل المذكور فجمع ما كان مع رفاقه من المال ودخل حلب وبنى حمّاما بالقرب من باب قنسرين وهي الآن بعضها وقف على جامع منكلي بغا ا ه.

أقول : ويغلب على الظن أن هذا الرومي عمر في هذا الجامع ورممه ، فلوقفه بعض هذه الحمّام وتعميره فيه نسب الجامع إليه وصار يعرف من ذلك الحين بجامع الرومي ا ه.

قال في الدر المنتخب : حمّام الرومي بالقرب من جامع منكلي بغا ا ه. أقول : لا أثر لها الآن.

تتمة الكلام على جامع دباغة العتيقة :

هذا الجامع الذي قال أبو ذر عنه إنه يقال له جامع الرومي لا يعرف بهذا الاسم ، وشهرته الآن بجامع دباغة العتيقة.

٢١٠

قال أبو ذر : هذا الجامع له منارة عظيمة ، وهو جامع له صحن لطيف وقبليته غربي الصحن مقبوة بالأحجار (١) وبنى إلى جانبه موسى الصيرفي المهاجر إلى دين الإسلام ، حسن إسلامه وحج إلى بيت الله الحرام سنة سبع وثلاثين ، وكان رفيقنا في الحج ، تربة ومسجدا وجعل بينهما بابا ، وجعل في مسجده بركة ماء وسقف مسجده بالأخشاب ، وليس فيما عمره طائل إنما هو من اللبن والحوارة ، ودفن أولاده في جانب هذا المسجد ا ه.

أقول : ليس في هذا الجامع شيء من الزخرفة إنما بناؤه في غاية الإحكام. وفي وسط القبلية قاعدة عظيمة يبلغ طولها سبعة أذرع ونصف وعرضها أزيد من ذراعين وعليها ارتكز بناء الجامع. ومنارته مربعة الشكل على نسق المنارة التي في جامع باب أنطاكية درجاتها ٧٤ ويبلغ ارتفاعها ٢٢ ذراعا وعرضها ٤ أذرع. وكان غربي الصحن عدة قبور درست منذ نحو ستين عاما واتخذ موضعها مزرعة غرس فيها بعض الأشجار. وفي طرف الصحن من الجهة الشرقية قبران ، وهناك أيضا قبر آخر كتب على لوحه سنه ٨٨٧ يغلب على الظن أنه قبر موسى الصيرفي المتقدم ذكره. والبركة التي ذكرها أبو ذر كانت صغيرة وسعت سنة ١٣١٦ من وصية الحاج صالح الموقع.

٥٥٢ ـ محمد بن عبد الأحد المخزومي المتوفى سنة ٨٤١

محمد بن عبد الأحد بن عبد الرحمن بن عبد الخالق بن مكي بن يوسف بن محمد الشمس أبو الفضائل ابن القاضي الزين أبي المحاسن المخزومي الخالدي نسبا العلوي الحسيني سبط ... الحراني الأصل ، الحلبي ثم المصري ، ويعرف باسم أبيه وبابن الشريفة.

ولد فيما قال ليلة الجمعة سادس شوال سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة بحلب ونشأ بها ، فقرأ القرآن وتفقه بأبيه فبحث عليه نصف المقنع ثم أكمله إلا قليلا في القاهرة على الشمس الشامي ، وكذا أخذ ألفية ابن عبد المعطي بحثا عن أبيه وكثيرا من ألفية ابن مالك عن يحيى العجيسي ، وبحث في أصول الدين على الشمس ابن الشماع الحلبي ، وفضل ونظم الشعر وكتب في توقيع الدست بحلب والقاهرة. وسافر مع امرأة نوروز الحافظي فماتت في اللجون ، فلما لقيه زوجها أحسن إليه وضمه إلى بعض أمراء حماة ، فمكث عنده وانضم

__________________

(١) لا أثر لهذا الصحن الآن فإن أمام القبلية من شرقيها ساحة واسعة.

٢١١

إلى بيت ابن السفاح. وتنقل حتى ولي كتابة سر البحيرة ثم غزة وكذا نظر جيشها. وله أحوال في العشق مشهورة وتهتكات فيه وحظوة عند النساء. وجمع كتابا في تراجم أحرار العشاق سماه «صبوة الشريف الظريف» ومنتخبا من شعره ومراسلات بينه وبين بعض المعاشق سماه «الإشارة إلى باب الستارة» ، وكذا نظم «العمدة» لابن قدامة في أرجوزة ، وامتدح الكمال ابن البارزي وغيره ولقيه البقاعي فكتب عنه ما أسلفته في ترجمة أبيه.

ومات بصفد وهو كاتب سرها في شعبان سنة إحدى وأربعين ا ه.

٥٥٣ ـ محمد الحاضري المتوفى سنة ٨٤١

ولي الدين محمد الحاضري أخو الذي قبله.

ولد سنة خمس وسبعين وسبعمائة بحلب ونشأ بها ، فحفظ القرآن والشاطبية وألفية ابن معطي والفوائد الغياثية والهداية في المذهب ، واشتغل على أبيه وناب عنه ، وجمع على الشهاب ابن المرحل ونسيبه الشرف الحراني وابن أيدغمش وابن صديق في آخرين. وأجاز له الشمس العسقلاني ومحمد بن محمد بن عمر بن عوض وابن الطباخ (١) وغيرهم. وحدث سمع منه الفضلاء. وكان خيرا منجمعا عن الناس متمولا. مات في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ا ه.

قال أبو ذر في كنوز الذهب : في سنة أربعين وثمانماية كان ابتداء الطاعون العظيم بحلب ، واستمر يظهر مرة ويخفى أخرى إلى سنة إحدى وأربعين وثمانماية فظهر وانتشر وفشا ومات فيه خلق كثير ، وفيه توفي الشيخ ولي الدين محمد بن العلاء عز الدين الحاضري. وكانت وفاته بالحلاوية ودفن عند والده. وكان إنسانا حسنا دينا خيرا منقطعا عن الناس وفيه بر وإحسان ، يحفظ كتبا كثيرة على قاعدة مذهبه وفي النحو ، وقرأ صحيح البخاري عن والده بجامع دمرداش.

__________________

(١) هو محمد بن محمد بن إبراهيم الخياط الشهير بابن الطباخ. قال في الدرر الكامنة : سمع من إبراهيم بن عبد الرحمن الشيرازي وأبي بكر أحمد بن محمد بن العجمي وغيرهما وحدث أخذ عنه ابن عشاير وغيره ومات بعد السبعين (وسبعماية).

٢١٢

٥٥٤ ـ أحمد بن الحسن الهلالي باني الزاوية البهادرية المتوفى سنة ٨٤١

قال أبو ذر : هو الشيخ المسلّك شهاب الدين أبو العباس أحمد بن الحسن بن سعيد الهلالي الشافعي نزيل حلب والده.

وهذا الرجل كان فقيرا من المال فلزم الشيخ ناصر الدين بن بهادر ، وكان الشيخ ناصر الدين صالحا زاهدا منقطعا عن الناس. وتوفي ثاني عشر جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وثمانمائة ودفن خارج باب المقام في التربة التي اندفن فيها السفيري لأنه كان من تلامذته. ثم لزم الشيخ شهاب الدين المذكور والدي وقرأ عليه كثيرا ، وكان يخدم والدي ويشتري حوائجه بنفسه. ثم إنه خدم بعض الأمراء فأثرى وكثر جاهه وهو مع ذلك يتردد إلى والدي كعادته ويقضي حوائجه كما كان أولا. وحج من حلب حجة مصروفها كثير ، وتزوج امرأة فأولدها ولدين ، ثم إنه ترفع عنها ففارقها وتزوج ببنت المنقاري. وأنشأ زاوية بالقرب من جامع الصروي بالبياضة ، ولما بني هذا المكان كتب مسودة وقفه بيده ثم أشهدني عليه به فكتبت له نسخة. ولم يزل متضعفا في بدنه بعد أن أثرى. ورحل إلى القاهرة في حال الطلب وقرأ على شيخنا الحافظ بن حجر.

ثم لما قدم شيخنا حلب صحبة الأشرف تزوج بمطلقة شهاب الدين ولم يعلم بذلك ، فجاء شهاب الدين المذكور مسلما على شيخنا ومعه ولده من المرأة التي تزوجها شيخنا وكنت واقفا عند شيخنا ومع شهاب الدين برنية فيها زنجبيل يهديها لشيخنا ، ودخل ابنه إلى أمه فأنكر الشيخ دخول الصبي إلى بيته ، فسألني فأخبرته بحقيقة الأمر ، فاستحى شيخنا منه. ثم إن شيخنا لما سافر من حلب طلقها وندم على طلاقها في الطريق ، فكتب إلي كتابا ومن جملته :

وأشاع عني عاذلي

أني سلوت وما صدق

ومن جملته :

رحلت وخلفت الحبيب بداره

برغمي ولم أجنح إلى غيره ميلا

أعلل نفسي بالحديث تشاغلا

نهاري وفي ليلي أحن إلى ليلى

وكان اسمها ليلى وأمرني في الكتاب بالتكلم معها في مراجعتها ، فتكلمت وراجعتها إليه

٢١٣

وسفرتها إليه ودامت عنده بالقاهرة ، ثم استأذنته بالتوجه إلى حلب لتزور ولديها فأرسلها وصحبتها الشيخ شمس الدين قمر تلميذه. وكتب إليّ كتابا يقول لي فيه : خيّرها بين الإقامة والرجوع إليّ ، فخيّرتها فاختارت الشيخ فجهزتها ودامت عنده حتى مات. وهذه الزاوية لطيفة لها بابان إلى مسكنه ، وكان يجمع الفقراء عنده ويذكر بهم ، واتخذ لها بسطا لمن يبيت بها ، ووقف عليها وقفا بباب النيرب حوانيت وقاسارية. وتوفي يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وثمانماية ودفن عند شيخه ا ه.

أقول : هذه الزاوية في محلة البياضة ملاصقة لجامع الصروي من جهة القبلة حتى إن نوافذ القبلة على طولها مطلة عليها ، وهي في أول الزقاق المعروف بزقاق قصطل الطويل عن يسار الداخل إليه وقد جعلت دارا ووقفت وتعرف بوقف مفتي الشافعية. وباب هذه الدار على هيئة أبواب الزوايا والمدارس لا على هيئة أبواب الدور ، وما رأيته داخلها من الأحجار الكبيرة والعواميد المكسرة التي في أرضها يدل على ذلك.

٥٥٥ ـ محمد بن ناهض المتوفى سنة ٨٤١

محمد بن ناهض بن محمد بن حسن بن أبي الحسن الشمس الجهني الكردي الأصل الحلبي نزيل القاهرة.

ولد تقريبا بحلب في سنة سبع وخمسين وسبعمائة ، وتولع بالأدب فأبلغ نظما ونثرا. وسكن القاهرة مدة ونزل في صوفية الجمالية ومدح أعيانها ، بل عمل سيرة المؤيد شيخ فأجاد ما شاء ، وقرظها له خلق في سنة تسع عشرة. ومن نظمه :

يا رب إني ضعيف

وفيك أحسنت ظني

فلا تخيّب رجائي

وعافني واعف عني

وقد ذكره ابن فهد في معجمه وبيض له ، وكذا جرده البقاعي ، وهو في عقود المقريزي وقال : إنه سكن القاهرة زمانا ومدح الأعيان وتعيش ببيع الفقاع بدمشق ، ثم ترك وأقام مدة يستجدي بمدحه الناس حتى مات بالقاهرة في حادي عشر شعبان سنة إحدى وأربعين ، وكان عنده فوايد. وكتبت عنه من نظمه :

كم دولة بفنون الظلم قد فنيت

وراح آثارهم في عكسهم ومحوا

٢١٤

وجاء من بعدهم من يفرحون بها

وقال سبحانه حتى إذا فرحوا

وكذا كتب عنه الولوي عبد الله بن أبي البقا القاضي شعرا ا ه.

٥٥٦ ـ فاطمة بنت الأنصاري المتوفاة سنة ٨٤٢

فاطمة بنت عمر ابنة الشرف موسى بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن جمعة بن أبي بكر بن محمد بن حسن الأنصاري الحلبي ، ويعرف والدها بابن الحنبلي.

أحضرت في الخامسة سنة سبع وثمانين على الشرف أبي بكر الحراني وابن المرحل وعمر ابن أيدغمش ، وأجاز لها الشمس العسقلاني المقري ومحمد بن محمد ابن الطباخ ومحمد ابن محمد بن عوض وآخرون. وكانت أصيلة ، تزوجها الشهاب أحمد بن السفاح وولدت له عمر وغيره. وماتت في رجب سنة اثنتين وأربعين بحلب ا ه.

٥٥٧ ـ القاضي علاء الدين علي ابن خطيب الناصرية المؤرخ المتوفى سنة ٨٤٣

علي بن محمد بن سعد بن محمد بن علي بن عثمان بن إسمعيل بن إبراهيم بن يوسف ابن يعقوب بن علي بن هبة الله بن ناجية العلاء أبو الحسن ابن خطيب الناصرية الشمس الطائي الجبريني نسبة لبيت جبرين الفستق ظاهر حلب من شرقيها ، ثم الحلبي الشافعي سبط العالم المدرس الزين علي ابن العلامة قاضي قضاة حلب الفخر أبي عمر وعثمان بن علي بن عثمان الطائي بن الخطيب ، بل والزين هذا ابن عم جده لأبيه ، ويعرف العلاء بابن خطيب الناصرية.

ولد في سنة أربع وسبعين وسبعمائة بحلب ونشأ بها ، فحفظ القرآن وكتبا منها المنهاج الفرعي والأربعين المخرجة من مسند الشافعي الملقب سلاسل الذهب من رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر وألفية الحديث للعراقي وألفية النحو لابن معطي ، وانتفع من حفظها بوالده الآتي ، وفي القراءات بالفقيه الشمس محمد بن علي بن أحمد بن أبي البركات المعري ثم الحلبي ، فإنه قرأ عليه وهو صغير جدا بعض القرآن ثم أكمله على غيره ، وعرض الأولين في سنة تسع وثمانين على جماعة منهم الجمال عبد الله بن محمد بن إبراهيم

٢١٥

ابن محمد النحريري المالكي ، والمنهاج وحده فيها أيضا على الشمس أبي عبد الله محمد بن نجم بن محمد ابن النجار الحلبي الحنفي وكتب له خطه بذلك ، وفي سنة ثلاث (١) وتسعين على السراج البلقيني بحلب ، والألفيتين على جماعة منهم الشمس محمد بن مبارك عثمان البشناقي الحلبي الحنفي ، وأجازا له ، بل استجاز له أبوه من شيوخ القاهرة حين دخلها في سنة ثلاث وثمانمائة الزين العراقي وكتب خطه بذلك واستصحب معه ولده قبل ذلك سنة خمس وثمانين إلى بيت المقدس فزار الشيخ عبد الله بن خليل البسطامي وأضافهما ودعا لهما ، وجوّد العلاء القرآن على أحمد الحموي المقري وبعضه على محمد اليمني المقري نزيل حلب وأحمد بن محمد بن أحمد بن الشويش الجبريني الحلبي أحد من برع في القراءات وفي حل الشاطبية.

ومن شيوخه في العلم التاج تاج بن محمد الأصفهندي العجمي قرأ عليه في الفقه والنحو وكثر اجتماعه به. وقرأ فيهما أيضا على الشمس محمد بن سليمان بن عبد الله الحموي ابن الخراط ، وكذا سمع دروسه فيهما أيضا وفي الأصول ولازمه مدة.

وقرأ في الفقه وغيره كالعربية على الجمال يوسف ابن خطيب المنصورية بحلب وبحماة وطرابلس وحضر دروسه في التفسير ، وهو أول من أذن له في الإفتاء وكتب له خطه بذلك ، وهو ممن أخذ العربية على السري المالكي وحضر دروس السراج البلقيني في سنة ثلاث وتسعين ثم في سنة ست وتسعين حين قدم عليهم حلب فيهما. وقرأ غالب المنهاج بحثا على الزين أبي حفص عمر بن محمود بن محمد الكركي ، ويقال إن البرهان الحلبي كان يلومه في أخذه عنه ويقول له : إنك أفضل منه. وأخذ في الفقه أيضا مدة عن الشمس أبي عبد الله محمد بن علي بن يعقوب النابلسي نزيل حلب ، وقرأ على الشرف الداديخي وكان يخالفه في أشياء يكون الظفر فيها بالمنقول مع صاحب الترجمة.

وقرأ طرفا من النحو أيضا على الشمس أبي عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن سليمان المعري الحلبي الشافعي المعروف بابن الركن والعز أبي البقاء محمد بن خليل الحاضري الحنفي ، بل وسمع عليه أيضا الحديث وكان رفيقه في القضاء بحلب سنين. وطرفا من الفرايض على الشمس محمد بن إسمعيل بن الحسن بن خميس البابي والسراج عبد اللطيف

__________________

(١) في «الضوء اللامع» : سنة ست وتسعين.

٢١٦

ابن أحمد الفوي بحلب ، بل قرأ عليه تخميسه للبردة وكتب عنه من نظمه أشياء وقطعة من مختصر ابن الحاجب الأصلي. وجانبا من الفقه على العلاء أبي الحسن علي بن محمد بن يحيى التميمي الصرخدي نزيل حلب وانتفع به كثيرا ، وكذا بالشمس البابي الكبير. وطرفا من المعاني والبيان على المحب أبي الوليد بن الشحنة وحضر عنده كثيرا وكتب عنه من نظمه ونثره.

ومن شيوخه أيضا القاضي الشرف أبو البركات موسى الأنصاري الحلبي قاضيها الشافعي. وأخذ الحديث عن الولي العراقي والبرهان الحلبي ولازمه كثيرا وبه تخرج وعليه انتفع ، وكذا أخذ قديما وحديثا. وأحضر في الخامسة على البدر ابن حبيب وسمع على الشهاب ابن المرحل والشرف أبي بكر الحراني وابن صديق والعز أبي جعفر الحسيني وأبي الحسن علي بن إبراهيم بن يعقوب بن صقر والشهاب أبي جعفر أحمد وأم الحسن فاطمة ابنة الشهاب الحسيني الإسحاقي وجماعة من أهلها والقادمين عليها ، وكان من القادمين الغياث محمد بن محمد بن عبد الله العاقولي سمع من لفظه حديث (إنما الأعمال بالنيات) والكلام على فوائده وأحكامه وأنشده شيئا من شعره وأجاز له وذلك في سنة ست وتسعين ، والبدر بن أبي البقا السبكي اجتمع به وصحبه ، وقرأ على الجمال يوسف بن موسى الملطي السيرة النبوية والدر المنظوم من كلام المصطفى المعصوم كلاهما لمغلطاي بقراءته لهما على مؤلفهما.

وارتحل إلى القاهرة فقرأ بدمشق في ربيع الأول سنة ثمان وثمانماية المسلسل على الجمال ابن الشرائحي وسمع منه ومن عائشة بنة عبد الهادي وطيبغا الشريفي وأحمد بن عبد الله ابن الفخر البعلي وحضر دروس جماعة كالجمال الطيماني. قال ابن قاضي شهبة : حضر عنده وأنا أقرأ عليه في الحاوي وكان يستحضر كثيرا. وبالقاهرة من القطب عبد الكريم حفيد الحافظ القطب والحلبي والتقي الدجوي والشريف النسابة الكبير في آخرين كشيخنا علق عنه كثيرا من كتابه تعليق التعليق ، ثم سمع من بعد ذلك أشياء. وكالشرف ابن الكويك والجلال البلقيني سمع عليه البعض من سنن النسائي الصغرى ، بل قرأ عليه بحلب البعض من مبهماته ، وأخذ عن النور بن سيف الأبياري اللغوي قرأ عليه جزءا من تصنيف شيخه العنابي اسمه الوافر في فعل التعدي والقاصر بقراءئه له على مؤلفه ، وذكر العلاء لشيخه حين قراءته عليه له أن مؤلفه فاته الكثير من الأفعال التي تستعمل لازمة ومتعدية فاستحسن

٢١٧

الشيخ ذلك وبالغ في تعظيمه ووصفه بخطه بالعلامة وحلف إنه لم يكتبها لأحد قبله. وكذا اجتمع في القاهرة بالشمس بن الديري وكتب عنه في آخرين منهم الأديب الشمس أبو الفضل محمد بن علي بن أبي بكر المصري كتب عنه في ربيع الأول سنة تسع شيئا من نظمه.

وكذا سمع دروس البيجوري والولي العراقي. وسافر من القاهرة في هذا الشهر وكتب فيه بقاقون عن ناصر الدين بن البارزي القاضي شيئا من نظمه أيضا. وببعلبك عن التاج ابن بردس وغيره. وبطرابلس عن الشرف مسعود بن شعبان الطائي الحلبي الشافعي كتب عنه شيئا من شعر غيره ، وكذا كتب فيها في رجب سنة أربع وثمانمائة عن البدر محمد بن موسى ابن محمد بن الشهاب محمود شيئا من نظمه ، وكتب لكاتب سرها الجمال عبد الكافي ابن محمد بن أحمد بن فضل الله يستجيزه :

أسيدنا شيخ العلوم ومن غدت

فواضله أندى من الغيث والبحر

أجب وأجز عبدا ببابك لم يزل

بأمداحكم رطب اللسان مدى الدهر

فأجابه بقوله :

أيا سيدا ما زال في الفضل واحدا

جبرت كسيرا بالسؤال بلا نكر

نعم إذ بدأت العبد أنت مقدم

وفضلك أضحى بالتقدم لي جبري

ثم لقيه بطرابلس وسمع عنه من نظمه شفاها.

وتكرر قدومه بعد ذلك القاهرة ، وآخر قدماته في أوائل ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين ، فإنه كان صرف فأعيد ، وتوجه معنا في حادي عشر شعبان منها فدخل بلده في أوائل شوال موعوكا ولم يلبث أن مات. وقبل ذلك دخلها في شوال سنة أربع وعشرين بعد أن زار بيت المقدس ، وحينئذ ولي قضاء طرابلس كما سيأتي. وقبل ذلك في سنة ست عشرة وولي فيها قضاء حلب كما سيأتي.

وحج ثلاث مرات أولها في سنة ست عشرة واجتمع بالجمال بن ظهيرة وسمع خطبته لكنه لم يسمع عليه ولا على غيره هناك شيئا للاشتغال بالمناسك ، وثانيها في سنة ست وعشرين.

وكان إماما علامة محققا بارعا في الفقه كثير الاستحضار له ، إماما في الحديث مشاركا في الأصول مشاركة جيدة ، وكذا في العربية وغيرها ، مستحضرا للتاريخ لا سيما السيرة

٢١٨

النبوية فيكاد يحفظ مؤلف ابن سيد الناس فيها ، كل ذلك مع الإتقان والثقة وحسن المحاضرة وجودة المذاكرة والرياسة والحشمة والوجاهة والثروة مع صمم يسير اشتهر ذكره وبعد صيته ، وصار مرجع الشافعية في قطره.

وقد ذكر اعتناؤه بأخبار بلده وتراجم أعيانها بحيث جمع لها تاريخا حافلا ذيل به على تاريخ الكمال ابن العديم وأكثر فيه الاستمداد من شيخنا ، وقد طالعه شيخنا من المسودة في حلب ثم من نسخة كتبت للكمال ابن البارزي وبين بهوامشها عدة استدراكات ، وكذا طالعته من هذه النسخة أيضا غير مرة ونبهت على مواضع أيضا مهمة. وهو نظيف اللسان والقلم في التراجم لكن فاته ما هو على شروطه خلق.

وله غيره من التصانيف «كالطيبة الرائحة في تفسير الفاتحة» انتزعه من تفسير البغوي بزيادات ، و «سيرة المؤيد» و «شرح حديث أم زرع» وهو حافل ، وكذا كتب على الأنوار للأردبيلي كتابة متقنة جامعة فيها شرح المهذب للنووي وأشياء غيرها.

وولي قضاء بلده غير مرة أولها سنة ست عشرة ، وبعد ذلك سأله الظاهر ططر شفاها بحضرة الولي العراقي قاضي الشافعية إذ ذاك في ولاية قضاء طرابلس فامتنع فألح عليه وكرره حتى قبل. وسافر من القاهرة إلى جهة طرابلس فوصلها في يوم عرفة سنة أربع وعشرين ، وكان فيها في السنة التي بعدها أيضا ، وحمدت سيرته في البلدين.

وولي الخطابة في الجامع الكبير ببلده مع إمامته ، ودرس قديما وأفتى ، واستقر به يشبك المؤيدي نائب حلب في تدريس مسجده الذي بناه بالقرب من الشاذبختية بحلب بعد العشرين فدرس فيه بحضرته وبحضرة الفقهاء ، وعمل لهم الواقف سماطا مليحا. وحدث ببلده وبالقاهرة وغيرهما. أخذ عنه الأئمة ، وكانت دروسه حافلة بحيث كان شيخه البرهان الحلبي يقول : هي دروس اجتهاد لم أسمع شبهها إلا من شيخنا البلقيني. وكان شيخنا العلاء القلقشندي يقول : ما قدم علينا من الغرباء مثله.

ولم يزل يدرس ويفتي ويصنف حتى مات ببلده في يوم الخميس منتصف ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين بعد عوده من القاهرة بيسير ، ومن أرخه شوال فقد سها ، ولم يخلف بعده بها في الشافعية مثله. وخلف مالا جما رحمه‌الله وإيانا.

وقد ذكره شيخي في معجمه وقال : سمعت من فوائده وعلق عني كثيرا من كتابي

٢١٩

«تعليق التعليق» في سنة ثمان وثمانمائة ، ولما دخلت حلب مع الأشرف أنزلني في منزله وحضر معي عدة مجالس الإملاء ، وحدثت أنا وهو بجزء حديثي في قرية جبرين ظاهر حلب. وله عناية كبيرة بأخبار بلده وتراجم علمائها كثير المذاكرة والاستحضار للسيرة النبوية ولكثير من الخلافيات ، انفرد برياسة المملكة الحلبية غير مدافع. وذكره في إنبائه باختصار.

وأثبت غيره في شيوخه الذين تفقه عليهم بالقاهرة ابن الملقن وهو غلط ، فلم يدخل القاهرة إلا بعد موته ، واجتماعه بالبلقيني إنما كان بحلب.

وقال ابن قاضي شهبة : كان يحفظ مواضيع كثيرة من العلوم ، فإذا جلس عنده أحد يذاكره بها فإن نقله إلى غيرها أظهر الصمم وعدم السماع ونقد عليه ذلك. وقد عرض عليه قضاء الشام في الدولة الأشرفية والأيام الظاهرية فلم يقبل إلا على بلده والإقامة بها.

وقال المقريزي في عقوده : إنه صار رئيس حلب على الإطلاق ، قدم القاهرة غير مرة وظهر من فضائله وكثرة استحضاره وتفننه ما عظم به قدره ، قال : ولم يخلف ببلاد الشام بعده مثله رحمه‌الله ا ه (كلام السخاوي).

وترجمه تلميذه الشيخ الإمام أبو ذر في تاريخه كنوز الذهب ترجمة حافلة أيضا ، ونحن نقتطف منها ما لا ذكر له هنا وفيها تفصيل لما أجمله السخاوي في ضوئه. (قال في حوادث سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة) : وفي أواخرها عزل شيخنا المذيل قاضي المسلمين علاء الدين أبو الحسن علي بن شمس الدين أبي عبد الله محمد عن قضاء حلب ، وسبب عزله أن السلطان الظاهر جقمق قدم إلى حلب صحبة الأشرف فأرسل إليه يطلب منه من مال الأيتام قرضا خمسمائة أشرفي ، فاعتذر شيخنا بأنه لا مال للأيتام تحت يدي ، وكان صادقا فحقد عليه بسبب ذلك وأضمر له سوءا. ثم لما خرج تغري ورمش عن الطاعة وكانت العادة أن القضاة يغيبون ولا يحضرون إلى الخارج عن الطاعة فأراد شيخنا أن يفعل ذلك فجاء إليه بعض الناس وأشار عليه بأن لا يفعل ، وكان غير مصيب في رأيه ، فأقام شيخنا بحلب ولم يختف ، فبلغ ذلك السلطان فحرك ما كان كامنا عنده ، فلما ظفر بمقصوده وقتل تغري ورمش بادر إلى عزله وولى شيخنا القاضي زين الدين أبا حفص عمر بن المبارك الخرزي وأرسل توقيعه إلى حماة ، فلزم شيخنا بيته وانكف عن الأحكام وأظهر السرور والفرح وقال :

٢٢٠