إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٥

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٥٧

كان إنسانا حسنا لطيفا عنده حشمة ولطافة في الخطاب ، وينظم نظما حسنا ، وسماعه للشعر في غاية من المعرفة للعيوب الشعرية ، ناقدا لها. وقرأ قراءات ، وجاور بمدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان له قبل المجاورة وظائف كتابة فنزل عنها وجاور ، ثم استقر بحلب وباشر بها توقيع الدست. رأيته بحلب ولم آخذ عنه شيئا ، وكان قد رأى الناس وصحبهم. وكان عرض له وسواس ويحدث أحيانا نفسه ، وكان يسكن بالمدرسة السلطانية تجاه باب القلعة.

أنشدني الإمام المحدث الحافظ برهان الدين أبو إسحق سبط ابن العجمي الحلبي بها قال : أنشدني الإمام المقري علاء الدين علي بن بدر الدين محمد بن عبد الرحمن العبيي القاهري ثم الحلبي لنفسه من كتاب كتبه جوابا لبعض أصحابه :

أهّلتني لجواب

ما كان ظني أجاوب

لكنني عبد رقّ

مدبّر ومكاتب

وأنشدني قال : أنشدني علاء الدين المذكور لنفسه :

بذكرك يحيا الفضل بعد مماته

وغصن التمني من يراعك مثمر

وجودك في صحف المكارم خالد

ومن جود كفيك الربيع وجعفر

وأنشدني قال : أنشدني علاء الدين المذكور لنفسه :

حلاوية ألفاظها سكّرية

قلتني وقوّت نار قلبي بالعجب

مسيّر دمعي في خدودي مشبّك

ومن أجل ست الحسن قد زاد بالسكب

وأنشدني قال : أنشدني علاء الدين المذكور لنفسه :

تمتع ببنت الكرم في غسق الدجى

ولا تنس عند الفجر رشف رضابها

وزفّ عروس الراح في الليل والضحى

فشمس المحيّا أسفرت عن نقابها

ومن نظمه في حمام الرسائل :

وطائر بالسرور وافى

مطوّقا جيده مخلّق

يسجع بالبشر حين يأتي

لا غرو أن يسجع المطوّق

١٠١

وله في الوحواح الأزرق :

كأنما زهر الوحواح حين بدا

ريش الفواخت فوق الأرض منثور

أو كاس فيروزج في الأرض قد وضعت

فالجو من طيب ذاك الكاس مخمور

وله :

ومهفهف فضح الغصون قوامه

ويكاد من لطف ولين يعقد

سكران من خمر بفيه رائق

واللحظ منه على المحب يعربد

توفي يوم السبت غرة المحرم سنة تسعين وسبعمائة بحلب بحارة المغاربة تجاه مسجد غوث ودفن بتربة أهله خارج باب المقام رحمه‌الله تعالى ا ه (الدر المنتخب).

وترجمه في الدرر الكامنة فقال : علي بن محمد بن عبد الرحمن العبيي بضم المهملة وسكون الموحدة نسبة إلى بيع العبي ، المصري الأصل الحلبي. وكان أبوه قاضيا بأعزاز فولد هو بها سنة ٦٩٠ ، وتعانى القراءات وجاور بالمدينة الشريفة ، ثم تحول إلى حلب فولي توقيع الدست بها ، وكان حسن النظم ، سمع من نظمه الشيخ برهان الدين المحدث وأبو حامد بن ظهيرة ، ومنه في الجلّنار :

انظر إلى الروض البديع وحسنه

فالزهر بين منظّم ومنضّد

والجلّنار على الغصون كأنه

قطع من المرجان فوق زبرجد

٤٤٢ ـ أبو الرضى أحمد بن عمر الحموي المتوفى سنة ٧٩١

أحمد بن عمر بن محمد أبي الرضى شهاب الدين أبو الحسين الحموي الأصل الشافعي نزيل حلب.

تفقه ببلده على شرف الدين ابن خطيب القلعة ، وبدمشق على التاج السبكي وغيرهما ، ومهر وتقدم ودرس ، ثم قدم حلب على قضاء العسكر ، ثم ولي قضاءها استقلالا ثلاث مرات. وكان فاضلا عالما كثير الاستحضار عارفا بالقراءات وله فيها نظم سماه «عقد البكر» (١) ، وله نظم في أشياء متعددة. وكانت دروسه حافلة والثناء عليه وافرا. ثم كان

__________________

(١) قال محرر النسخة عن الأصل الشيخ إبراهيم البقاعي تلميذ المؤلف ابن حجر على الهامش : النظم إنما هو في غريب

١٠٢

ممن قام على الظاهر برقوق وأنكر سلطته فسعى به إليه فتطلبه فاختفى مدة وحج فيها ، ثم قدم حلب مستخفيا ، فلما كانت فتنة يلبغا الناصري وتغلبه على المملكة ولاه قضاء حلب لما أعيد حاجي إلى السلطنة ، فاستمر إلى أن خرج الظاهر من الكرك فثار على نائب حلب كمشبغا الحموي بأهل بانقوسا فقاتله وأعان أهل حلب كمشبغا فكانت النصرة لأهل حلب ، فقبض على العادة وأخذه كمشبغا وسار إلى نصرة الظاهر فأعدمه بطريق حماة ، وذلك في مستهل ذي القعدة سنة (٧٩١). ورثاه الأديب أحمد بن محمد بن عماد المعروف بحميد الضرير المعبر بموشح أوله : قرأت بخط الشيخ برهان الدين الطرابلسي سبط ابن العجمي وأجازنيه ، أنشدني الأديب شهاب الدين أحمد بن محمد بن عماد المعروف بحميد الضرير المعبر لنفسه يرثي ابن أبي الرضى بموشح منسجم النظم (لم أنقله لسقامة الخط) (١).

على ابن أبي الرضا مراصطباري وسارا

وعيني قد جرت من عظم ناري بحارا

مدارس درسه اشتاقت إليه

وحن العلم والعلما لديه

وأشياخ الحديث بكت عليه

فكم سألوه عن نص البخاري مرارا

فحبر في الجواب بلا اعتذار كبارا

إمام كان في كل العلوم

يعم على الخصائص والعموم

ويكرم ضيفه عند القدوم

ويحسن للفقير بلا احتقار وقارا

ويكسو بالفضائل كل عار إزارا

لأهل الفضل كان يقوم يلقى

ويعشق من يحب العلم عشقا

وإن أفتى ترى فتواه حقا

فأصحاب الفتاوي في انحصار حيارى

__________________

القرآن سماه «عقد البكر في نظم غريب الذكر» قاله في تاريخه ، وحدثني العلامة المحب ابن الشحنة أن له كتابا نحو خمس كراريس نظم ونثر وكله عاطل ليس فيه حرف منقوط سماه «الدرة العاطلة والدرة الهاطلة» فالتزم ما في الكتاب في أشهر ا ه. وفي المنهل الصافي أنه قتل وعمره زيادة عن أربعين سنة.

(١) أثبتنا الموشح نقلا عن «الدرر الكامنة».

١٠٣

وقد عدمته أهل الاختيار بدارا

فريدا كان في نقل المذاهب

فللطلاب كم أبدى غرائب

وفي حلب لقد صعد المناصب

ولا يسعى لأبواب الكبار نهارا

ولم يقطع لأهل الافتقار مزارا

جواد كان في رد الجواب

وكم في العلم ألف من كتاب

وميز للمشايخ والشباب

وكانت منه أهل الاشتهار فخارا

ولا يرعى الملوك ولا يداري إمارا

لقد بطل الرشى لما تقضّى

وكم قد رد بعد الحل أرضا

وكان الغيظ يكظمه ويرضى

لمن أسعى لقد زاد افتكاري وحارا

وعقلي طار من بعد اختياري نفارا

مضى ابن أبي الرضى حمدا وولى

وسافر سفرة ما عاد أصلا

ترى هل كان في الدنيا وولى

فعن أولاده وعن الذراري توارى

وأوحش حين سار إلى القفار ديارا

مضى ابن أبي الرضى قاضي القضاة

وأصبحت المنازل خاليات

سيسكن في القصور العاليات

ويلبس من حرير الافتخار شعارا

ويلقى الجبر بعد الإنكسار فخارا

عليه يا دموعي هيا هيا

فقلبي قد كواه البين كيا

أقول وإن قضى لو كان حيا

على ابن أبي الرضى مر اصطباري وسارا

وعيني قد جرت من عظم ناري بحارا

قال القاضي علاء الدين في تاريخ حلب : كان ابن أبي الرضى من رجال العلم بجده

١٠٤

وهمته ، وكان يقوم بأمر الشرع ويشتد في إنكار المنكرات ا ه.

٤٤٣ ـ أشقتمر المنصوري نائب حلب المتوفى سنة ٧٩١

قال في المنهل الصافي : أشقتمر بن عبد الله المارديني الناصري الأمير سيف الدين ، أحد أعيان الأمراء الأكابر في عدة دول. أصله من مماليك صاحب ماردين ، وبعثه إلى الملك الناصر حسن فرباه الناصر وأدبه ، وكان يعرف ضرب العود ويحسن قول الموسيقى ويعرف عدة فنون. ولما رأى الناصر منه حسن الحزم والمعرفة قربه وأدناه وأمّره. ثم تنقل بعد موت أستاذه السلطان حسن في عدة وظائف إلى أن ولاه الملك الأشرف شعبان بن حسين نيابة حلب بعد وفاة الأمير قطلوبغا الأحمدي فباشرها نحوا من سنة ونصف ، وعزل عنها في شهر رجب سنة ست وستين بالأمير جرجي الناصري الإدريسي ، ثم ولي نيابة طرابلس عوضا عن الأمير قشتمر المنصوري بحكم إحضاره إلى القاهرة ، فدام في نيابة طرابلس إلى أن أعيد إلى نيابة حلب عوضا عن قشتمر المنصوري أيضا في سنة إحدى وسبعين وسبعماية ، وولي من بعده نيابة طرابلس الأمير أيدمر الدوادار ، فباشر نيابة حلب سنتين وعزل في سنة ثلاث وسبعين عنها بالأمير أيدمر الدوادار وأعيد إلى نيابة طرابلس والسواحل عوضا عن أيدمر المذكور ، ثم أعيد إلى نيابة حلب مرة ثالثة عوضا عن أيدمر سنة أربع وسبعين ، ثم عزل عن نيابة حلب سنة خمس وسبعين بالأمير أيدمر الخوارزمي ، وولي نيابة الشام فباشرها أربعة أشهر وعزل وأعيد إلى نيابة حلب ، وفي هذه الولاية الرابعة أقام مدة وغزاسيس وفتحها في سنة ست وسبعين وسبعماية ، وكان فتحا عظيما. وفيه يقول الشيخ بدر الدين بن حبيب :

الملك الأشرف إقباله

يهدى له كلّ عزيز نفيس

لما رأى الخضراء في شامه

تختال والشقراء عجبا تميس

وعاين الشهباء في ملكه

تجري وتبدي ما يسر الجليس

ساق إلى سوق العدا أدهما

وساعد الجيش على أخذ سيس

وفي هذا المعنى أيضا يقول العلامة زين الدين بن عمر الوردي :

يا سيد الأمراء فتحك سيسا

سرّ المسيح وأحزن القسّيسا

والمسلمون بذاك قد فرحوا وقد

حمدوا عليه الواحد القدّوسا

١٠٥

واستمر الأمير أشقتمر في نيابته هذه إلى أن عزل عنها بالأمير منكلي بغا الأحمدي وقبض عليه وحبس بالإسكندرية مدة ، ثم أطلق من السجن ورسم له بالإقامة بالقدس بطّالا ، فتوجه إلى القدس فأقام به إلى أن أعيد إلى نيابة حلب خامس مرة عوضا عن الأمير تمرباي الأفضلي الأشرفي سنة إحدى وثمانين ، ثم نقل بعد عشرة أشهر إلى نيابة دمشق عوضا عن الأمير بيدمر في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وسبعماية إلى أن عزل في شهر المحرم سنة أربع وثمانين ورسم له بالتوجه إلى القدس بطّالا ، فدام بالقدس إلى أن أعيد إلى نيابة الشام من قبل الملك الظاهر برقوق في سنة ثمان وثمانين ، ثم عزل بعد أربعة أشهر بحكم عجزه ورسم له بالإقامة بحلب بطّالا ، فأقام إلى أن توفي بها في شهر شوال سنة إحدى وتسعين وسبعماية.

وكان أميرا جليلا شهما شجاعا مدبرا سيوسا ذا رأي ودهاء ومعرفة ، مع دين وعدل في الرعية ، طالت أيامه في السعادة والولايات الجليلة وتردد في نيابة حلب منذ كان الملك الظاهر جنديا إلى أن وليها من قبله وهو سلطان. وكان مشكور السيرة في أحكامه يميل إلى الخير والصلاح ، ولكنه كان مغرما بجمع المال وعمر أملاكا كثيرة بحلب وعمر عند باب النيرب (في محلة القصيلة) مدرسة وقرر فيها طلبة ومقرئين ، وله عدة مآثر رحمه‌الله تعالى ا ه.

أقول : ذكرت في الجزء الثاني (ص ٣٦٣) ولاية قشتمر المنصوري لحلب سنة ٧٧٠ وأنه قتل في هذه السنة هو وولده محمد ودفنا في جامع المقامات (خارج باب المقام) ، وذكرت ما كتب على قبريهما ، ثم ذكرت أن من آثاره الجامع المعروف بالسكاكيني في محلة القصيلة وتربة ظاهر باب المقام ، وذلك سهو مني نشأ من تقارب الاسمين. والصواب أن الباني للجامع وهو مدرسة أيضا أشقتمر المنصوري صاحب هذه الترجمة ، ويرشدك إلى ذلك أن الجامع بني سنة ٧٧٣ كما هو مكتوب على بابه كما تقدم وقشتمر كانت وفاته سنة ٧٧٠.

الكلام على تربة أشقتمر :

قال أبو ذر في الكلام على الترب : (تربة أشقتمر) : شمالي الفردوس ، أنشأها أشقتمر كافل حلب ، وكان إذا عزل عن حلب يجلس فيها. وهذه التربة محكمة البناء لها بوابة وعليها

١٠٦

قبو معقود مفروش بالرخام ودكك رخام وحوض ماء من قناة حيلان ، وداخل هذه التربة قبة عظيمة بمناظر على هذا الحوض وهو مدفون بهذه القبة ، وقد دفنت في هذه القبة بنت شيخ الإسلام ابن الشحنة محب الدين وجماعة من ذريته. وغربي هذه القبة حوش وبه إيوان ومدفون بهذه الحوش جماعة ممن لاذ ببني الشحنة ا ه (١).

٤٤٤ ـ محمد بن بلبان المتوفى سنة ٧٩٢

محمد بن بلبان الأمير ناصر الدين ابن الأمير سيف الدين المهمندار الحلبي.

أحد الأمراء مقدمي الألوف بحلب ، ثم ولاه الظاهر برقوق نيابة قلعة حلب عوضا عن الأمير ناصر الدين محمد بن سلار ، فاستمر بها إلى أن اتفق عصيان الأمير يلبغا الناصري نائب حلب وافقه الأمير ناصر الدين هذا على العصيان وسلم إليه قلعة حلب بعد قتال هين في الظاهر ، وذلك في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. وكان للأمير ناصر الدين ابنان حاجبان بحلب ناصر الدين محمد وشهاب الدين أحمد الذي ولي بعد ذلك نيابة حماة ، وكانا أيضا متفقين مع الناصري ، فلما توجه يلبغا الناصري إلى القاهرة وملكها إلى أن وقع بينه وبين منطاش وقبض منطاش على الناصري وحبسه بالإسكندرية ، ثم خرج منطاش بالملك المنصور إلى جهة البلاد الشمالية لقتال برقوق وقد خرج من حبس الكرك وواقعه وانتصر برقوق وتوجه إلى الديار المصرية ، واستمر منطاش بدمشق أرسل طلب الأمير ناصر الدين هذا إليه ، فتوجه إليه وقبض عليه وصادره ثم قتله بدمشق في سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة رحمه‌الله.

وكان أميرا خيرا دينا من بيت رياسة وعراقة ، وكان له ثروة عظيمة وحشم وبيتهم معروف بحلب ا ه. (المنهل الصافي).

٤٤٥ ـ طرنطاي مجدد المدرسة الطرنطائية المتوفى سنة ٧٩٢

طرنطاي بن عبد الله الأمير سيف الدين نائب دمشق.

__________________

(١) انظر الجزء الثاني (ص ٣٦٥).

١٠٧

كان أولا من جملة أمراء دمشق ، ثم ولي حجوبية الحجاب بها ، ولما ولي الحجوبية شدد على العوام وأبادهم وحرض على النهي عن بيع المنكرات وعن السكر وعاقب على ذلك خلائق ، واستمر على ذلك مدة وعظمت حرمته وقويت هيبته على العوام إلى الغاية وحسنت به أحوال الرعية ، واستمر على ذلك إلى أن طلب الأمير ألطنبغا الجوباني نائب دمشق إلى الديار المصرية ، وأمسكه الملك الظاهر برقوق بالقرب من قطيا قبل وصوله إلى القاهرة وحبسه بالإسكندرية ، فعند ذلك أرسل الملك الظاهر إلى طرنطاي المذكور تشريفا بنيابة دمشق عوضا عن الجوباني وذلك في سلخ شوال سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ، فوصل إليه التشريف السلطاني في أوائل ذي القعدة ، واستمر في نيابة دمشق واشتغل بحرب منطاش عن العوام.

واستمر طرنطاي في نيابة دمشق إلى أن قدمها يلبغا الناصري ومنطاش ، وخرج إليهم طرنطاي صحبة العسكر السلطاني المصري والشامي وتقاتل مع الناصري ومنطاش حتى انهزم وقتل الأمير جاركس الخليلي أمير أخور وقبض الأتابك أيتمش على طرنطاي المذكور وحبس بقلعة حلب إلى أن ملكها الأمير كمشبغا الحموي بعد خروج برقوق من حبس الكرك ، أطلقه وأنعم عليه ، وأقام عند كمشبغا وقاتل أهل بانقوسا معه ، ثم سيره إلى الملك الظاهر برقوق فوافاه بظاهر دمشق فقبل الأرض بين يديه وأقام عنده حتى وصل منطاش بالملك المنصور إلى ظاهر دمشق وواقع برقوق ، فقاتل الأمير طرنطاي المذكور يومئذ بين يدي برقوق حتى قتل في المعركة في يوم الأحد سادس عشر المحرم سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة.

وكان أميرا جليلا مهابا مطاعا عادلا في حكمه مشهور السيرة منقادا إلى الخير ، جدد بحلب المدرسة خارج باب النيرب وعمل لها خطبة ووقف على ذلك وقفا جيدا. ومات وهو من أبناء الخمسين رحمه‌الله (المنهل الصافي).

الكلام على المدرسة الطرنطائية :

مكان هذه المدرسة في آخر محلة باب النيرب في المحلة المعروفة الآن بمحلة محمد بك ، وهي مدرسة شاهقة البناء تضارع القلاع في إحكام البناء وإتقانه ، ومكتوب على بابها كتابة حديثة استند فيها على ما أخبرت على ما رؤي ببعض الكتب وهي : [أوقف هذين الجامع

١٠٨

والمدرسة عفيف ابن محمد شمس الدين سنة ٧٨٥] وفي شرقي المدرسة وغربيها رواقان ضيقان في كل واحد منهما أربعة عواميد عظيمة ، ووراءها أربع حجر صغار ، وفوق هذين الرواقين رواقان آخران ضيقان أيضا ، ووراء كل منهما خمس حجر. وشمالي المدرسة إيوان كبير لم تزل قنطرته القديمة موجودة ، وقد سد من القنطرة إلى الأرض واتخذ زاوية يقيم فيها الأذكار بنو البادنجكي. وهناك في قبلي المدرسة إيوان عن يمينه حجرة واسعة في شماليها ضريح لبعض مشايخ الطريقة الأوسية وأظنه من أهل القرن العاشر لزم هذه المدرسة إلى أن مات فدفن هنا.

ولما توفي شيخ السجادة في الزاوية التي ذكرناها العالم العامل الشيخ محيي الدين البادنجكي وذلك في ١١ رجب سنة ١٣٢٧ دفن في هذه الحجرة في شماليها ملاصقا لضريح الأوسي رحمه‌الله.

وفي صدر الإيوان قبلية صغيرة تقام فيها الجمعة إلى الآن ، وشمالي المدرسة منارة صغيرة عمرت سنة ١٢٩٣ من وصية بعض الموثرات.

وفي صحن المدرسة مغارة منقورة نقرا تتجلى فيها صفة القدم ، وفي وسطها حوض حجارته كبيرة جدا وفوقه منفذ إلى الصحن يسحب منه الماء. وغربي هذه المغارة باب يأخذ إلى مغارة يقال لها مغارة الشعارة وهي شرقي المدرسة. ولم يبق من أوقاف المدرسة ما يستحق الذكر. وشمالي باب المدرسة باب آخر قديم داخله دار يسكنها الآن شيخ الزاوية المذكورة ، ويظهر أن هذه الدار كانت خانكاه تابعة لهذه المدرسة وهيئة البناء تفيد أن الباني واحد.

٤٤٦ ـ علي بن طنبغا الموقّت المتوفى سنة ٧٩٣

علي بن طنبغا الإمام علاء الدين أبو الحسن الحلبي الموقت.

كان إماما في علوم الهيئة والحساب والجبر والمقابلة والأصلين عالما في ذلك ذكيا ، أخذ هذه العلوم عن العجم الواردين إلى حلب فإنه لم يرحل من حلب. كان يسكن بجامع ألطنبغا وهو موقت البلد. واشتغل عليه في العلوم المذكورة جماعة من مشايخنا كالإمام أبي البركات موسى الأنصاري والشيخ شمس الدين محمد بن يعقوب النابلسي ، وقرأ عليه أيضا

١٠٩

الشيخ شرف الدين الداديخي وشيخنا الشيخ عز الدين الحاضري وغيرهم.

حكى لي بعض طلبته أن قاضي القضاة جمال الدين محمود بن الحافظ الحنفي قال له يوما : يا كافر ، فقال له ابن طنبغا : بم عرفت الله ، فسكت القاضي جمال الدين المذكور ، فقال علاء الدين بن طنبغا : من هو الكافر؟ الذي يعرف الله أو الذي ما يعرف الله؟ ثم إن القاضي جمال الدين المذكور بعد ذلك جعل يعظمه ، وكان يقال إن عقيدته فاسدة وينسب إلى ترك الصلاة وإلى شرب الخمر ، ولم يكن عليه وضاءة ولا أبهة العلم.

ولما كان الأمير منطاش بدمشق في سنة اثنتين وتسعين وسبعماية بعد أن كسر من الملك الظاهر برقوق سير طلب علاء الدين بن طنبغا إلى دمشق ليسأله عن أمور ، فلما وصل إليه سأله عن الطالع ذلك الوقت ، فقال : إن تحرك شخص فيه فإن كان تاجرا انكسر ، فاتفق أن منطاش رحل من دمشق تلك الليلة ولم يقاتل العسكر المصري الوارد عليه من القاهرة لقتاله ، ثم جاء علاء الدين بن طنبغا إلى حلب ورأيته أنا بحلب وكان خاملا لم يكن عليه وضاءة ولا نور العلم.

وأخبرني شيخنا أبو إسحق الحافظ قال : سألت قاضي القضاة شرف الدين أبا البركات الأنصاري وشمس الدين أبا عبد الله النابلسي عنه فقالا (١) : إنه إذا حان وقت الصلاة فيستحي منا فيقوم يتوضأ ويصلي.

وتوفي في سنة ثلاث وتسعين وسبعماية تخمينا بحلب عفا الله عنه وسامحه ا ه (الدر المنتخب).

٤٤٧ ـ محمد بن نجم النجار المتوفى سنة ٧٩٤

محمد بن نجم بن محمد بن النجار الحلبي شمس الدين أبو عبد الله الحنفي.

كان أبوه نجارا فنشأ في صناعته ، ثم اشتغل بالعلم فمهر وتميز إلى أن أفتى ودرس ، وناب في الحكم عن القاضي جمال الدين بن العديم مدة ، وكان له مال وثروة وسكن بالحلاوية مع حسن الشكالة. ومات سنة أربع أو ٧٩٥ بحلب. ذكره القاضي علاء الدين في ذيل تاريخ حلب.

__________________

(١) في الأصل : فقال.

١١٠

٤٤٨ ـ محمد بن أحمد بن المهاجر الكاتب الحنفي المتوفى سنة ٧٩٤

محمد بن أحمد بن عبد الله بن عبد الله المهاجر الحلبي الملقب شمس الدين ، كاتب السر بها ثم قاضي القضاة الشافعي.

كان إنسانا حسنا فاضلا أديبا فقيها على مذهب الحنفية ، وله الكتابة الحسنة والنظم الرائق والنثر الفائق ، كان أولا حنفيا معدودا من الفقهاء الحنفية بحلب ، ولي كتابة سر حلب مدة زمانية ثم عزل عنها ثم سافر إلى القاهرة وصار شافعي المذهب ، وولي قضاء الشافعية بحماة ثم انتقل إلى حلب وولي بها قضاء القضاة الشافعية ، واستمر مدة نحو سنتين وباشرها مباشرة حسنة ، ثم عزل عن قضاء حلب بابن أبي الرضى لما أفضى الأمر إلى الأمير يلبغا في تلك المدة ، فلما استقر الملك الظاهر برقوق في السلطنة سافر إلى مصر فأعطاه السلطان نظر الجيش بحلب فلم يرتضه ، ثم عاد إلى حلب على غير وظيفة بل على وظائفه ، ومنها مشيخة خانقاه الملك الصالح ، واستمر بحلب إلى أن توفي.

أنشدنا الإمام الحافظ أبو زرعة بن العراقي بالقاهرة ، أنشدنا الشيخ جبريل بن محمد ابن علي المقدسي قال : أنشدنا قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد بن المهاجر لنفسه :

زر أشرف الرسل الكرام وإن نبا

بك منزل أو شطّ بعد مزاره

فعليك بالآثار يا مغرى به

لتشاهد الأنوار من آثاره

وأنشدنا أبو زرعة قال : أنشدنا جبريل المذكور قال : أنشدنا ابن المهاجر لنفسه :

قلن (١) لمن عاب شعري

بالجهل منه إلى كم

عليّ نحت القوافي

وما عليّ إذا لم (٢)

وأنشدني علاء الدين المذكور قال : أنشدني القاضي شمس الدين بن المهاجر لنفسه في صاحب من السامرة بدمشق :

سامرني في جلّق صاحب

تبا له من صاحب ماكر

__________________

(١) لعل الصواب : قلت.

(٢) في البيت نظر إلى قول البحتري :

عليّ نحت القوافي من معادنها

وما علي إذا لم تفهم البقر

١١١

ورام إضلالي بتنميقه

قلت فما خطبك يا سامري

ومن نظمه في حمام الرسائل :

لله در حمام البشر حيث أتى

يطيّر الهمّ إذ ينقضّ من أفقه

أكرم به واردا عمّ الهناء به

وطائرا ألزموه العشر في عنقه

توفي سنة أربع وتسعين وسبعمائة في ربيع الأول ا ه. (الدر المنتخب).

٤٤٩ ـ محمود بن محمد الحافظي المتوفى سنة ٧٩٤

محمود بن محمد بن إبراهيم بن سنبكي بن أيوب بن قراجا المقري بن يوسف قاضي القضاة جمال الدين ابن قاضي القضاة حافظ الدين ابن الشيخ تاج الدين القيصري الحلبي الحنفي المعروف بالحافظي ، قاضي قضاة حلب ورئيسها ، هو من بيت رئاسة وفضل.

تولى قضاء حلب عوضا عن قاضي القضاة محب الدين بن الشحنة في سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ، واستمر إلى أن توفي بحلب سنة أربع وتسعين وسبعمائة. قال البدر العيني :

كان رجلا دينا عفيفا ولديه بعض فضيلة وبعض ... كتب على المجمع شرحا مطولا وسماه «الأجمع» انتهى. (المنهل).

٤٥٠ ـ علي بن عبد الله بن يوسف البيري المتوفى سنة ٧٩٤

علي بن عبد الله بن يوسف القاضي علاء الدين البيري الحلبي الأديب المنشىء الكاتب.

نشأ بحلب وبرع في الإنشاء والأدب ، وخدم الملوك إلى أن اتصل بنائبها الأمير يلبغا الناصري ، ولما قدم صحبته إلى الديار المصرية لقتال الملك الظاهر برقوق وحبسه في الكرك في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وصار الأمير يلبغا الناصري مدبر مملكة الملك المنصور حاجي وبيده العقد والحل جعل المذكور في الإنشاء وعظم قدره في تلك الأيام وزادت حرمته ، إلى أن قبض منطاش على الناصري في السنة المذكورة وحبسه بالإسكندرية إلى أن أطلقه برقوق بعد عوده إلى الملك وولاه نيابة حلب حسبما نذكره في محله إن شاء الله تعالى ، خلع السلطان على علاء الدين المذكور واستكتبه في الإنشاء حتى قدم القاضي علاء

١١٢

الدين علي بن عيسى الكركي من الكرك وأقره السلطان في كتابة السر ، واختص بالظاهر في الظاهر وفي الباطن غير ذلك ، حتى تمكن الملك الظاهر من الأمير يلبغا الناصري وقبض عليه بحلب وقتله بها قبض على علاء الدين المذكور وحمله معه إلى القاهرة في ربيع الأول سنة أربع وتسعين وسبعماية.

وكان فاضلا بارعا له اليد الطولى في النظم والنثر والترسل ، وله تصانيف جيدة في ذلك منها «تلوين الحريري من تكوين البيري» يشتمل على ماله من منظوم ومنثور ، وله غير ذلك. ومن شعره :

أرى البدر لما أن دنا لغروبه

وألبس منه أزرق الماء أبيضا

توهم أن البحر رام التقامه

فسل له سيفا عليه مفضّضا

وله عفا الله عنه :

شعر حبيبي فوق أردافه

سود ليال القطع والوصل بيض

يا شعره النامي ويا ردفه

أوقعتماني في الطويل العريض

ا ه. (المنهل الصافي).

وقال في الدرر الكامنة في ترجمته : نشأ بحلب وتعانى الأدب فمهر في النظم والنثر والإنشاء ، وكتب الخط الحسن ، ورتب في توقيع الدست ، وكان أخذ عن أبي جعفر وأبي عبد الله الأندلسيين في العربية وغيرها. ومن عنوان شعره وكتبهما إلى صديق له كان يجالسه في صحن الجامع :

غبت عن الصحن يا حبيبي

فما على حسنه طلاوه

يا حلو يا رائق المعاني

ما راق صحن بلا حلاوه

وترجمه في الدر المنتخب بنحو ما تقدم ومما قاله : وكان القاضي علاء الدين المذكور أديبا بليغا كاتبا ويحفظ عدة مقامات من مقامات الحريري ، طارح أدباء زمانه وطارحوه وكتبوا إليه وكتب إليهم نظما ونثرا ، وكان بينه وبين القاضي شمس الدين محمد بن المهاجر كاتب السر بحلب (١) إذ ذاك بعض شيء في الباطن ، فاتفق أن ابن مهاجر عمل لابنه عرسا

__________________

(١) في «الدرر الكامنة» : بحماة.

١١٣

فأرسل إليه القاضي علاء الدين البيري رأس غنم وكتب إليه على ما أخبرت :

ليهن نجلك عرس

بعرس خير كريمه

فاملك أمان أمان

أحوالها مستقيمه

واقبل غنيمة عبد

يرى القبول غنيمه

وردها عليه القاضي شمس الدين بن المهاجر وكتب إليه :

يا من غدا ذا أياد

قد أخجلت كل ديمه

الغنم بالغرم يجزى

والعبد يحصي غريمة

غنيمة لك خذها

البعد عنك غنيمه

وأنشدني نظام الدين قال : أنشدني القاضي علاء الدين البيري لنفسه :

لله مملوك غدا مالكي

إذ مر لا يحنو على هالك

يا شافعي في الحب كن مالكي

فإن مملوكي غدا مالكي

وله في حمام الرسائل :

أهلا بورقاء إذا وافت محصنة

تهدي من البشر ما أوصافه أرجه

جاءت مغردة فالنفس قد طربت

وكيف لا وهي بالأرواح ممتزجه

٤٥١ ـ أحمد بن محمد بن زهرة المتوفى سنة ٧٩٥

أحمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن زهرة بن علي الحسيني العلوي الحلبي شيخ الشيوخ بحلب ، يكنى أبا طالب.

ولد في رجب سنة ١٧. وكان جليلا فاضلا ساكنا لم يضبط عليه في حق أحد من الصحابة ما يكره ، بل ذكر أبو بكر عنده مرة فقال شخص : رضي‌الله‌عنه ، فقال : هو أبو بكر جدي ، يشير إلى أن جعفر بن محمد الصادق جده الأعلى كانت أمه من ذرية أبي بكر الصديق وهي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر. مات في صفر سنة ٧٩٥ ا ه.

١١٤

٤٥٢ ـ عمر بن محمود الكركي المتوفى سنة ٧٩٧

عمر بن محمود بن محمد الشيخ زين الدين أبو حفص الكركي الشافعي شيخنا نزيل حلب.

أخبرني أن مولده سنة ثمان وعشرين. قدم حلب في سنة بضع وأربعين وسبعماية واشتغل على الشيخ زين الدين الباريني وغيره في الفقه ، وعلى الإمام أبي جعفر المغربي في النحو ، وحفظ التنبيه والحاوي في الفقه وألفية ابن مالك في النحو ، ودأب وحصل ورحل إلى دمشق فقرأ بها على الحسباني وبهاء الدين أبي البقا ، ثم رجع إلى حلب وأقام بها يفتي ويشتغل.

وكان رجلا فاضلا دينا مواظبا على وظائفه عاقلا وحصل ثروة.

وكان أولا يجلس مع العدول بباب الأسدية للشهادة ومنها حصل الثروة ، ثم ترك ذلك واشتغل بالاشتغال بالعلم ليس إلا مقبلا على شأنه. قرأت عليه غالب منهاج النووي في الفقه بحثا.

توفي رابع شهر رمضان سنة سبع وتسعين وسبعماية بحلب ودفن خارج باب المقام جوار قبر شيخه الشيخ زين الدين الباريني رحمه‌الله تعالى ا ه. (الدر المنتخب).

٤٥٣ ـ يوسف بن الكيال الصوفي المتوفى أواخر الثامن

يوسف بن الكيال الحلبي الصوفي.

ذكر الشيخ برهان الدين سبط ابن العجمي أنه حدثه بالتائية لابن الفارض المسماة «نظم السلوك» وأنه سمعها على سبط ابن الفارض بسماعه من جده وأنه سمع على السبط أيضا الترجمة التي جمعها لجده وهي في أول ديوانه قال : وما أظنه كان معتمد الكذب لأنه صوفي متقشف متعفف كثير السكوت ، ولكنه ليس من أهل الحديث فيعرف استقامة شيء أم لا. وكان أكثر إقامته بقلعة المسلمين من معاملة حلب ا ه.

١١٥

٤٥٤ ـ إبراهيم بن عبد الله الخلاطي المتوفى سنة ٧٩٩

إبراهيم بن عبد الله الخلاطي الشريف الريودي (١).

ولد سنة عشرين تقريبا ، وتفقه ببلده ومهر في عدة فنون ، وقدم حلب فسكن في زاوية وهرع الناس إليه. وكان قوي النفس فعظم عند أهل الدولة. وكان ينسب إلى عمل إتقان الطب وغيره من الفنون ، فبلغ الظاهر خبره فاستحضره من حلب وعظمه ، وكان ينسب إلى عمل الكيمياء ، والمشهور أنه كان يتقن صناعة اللازورد وحصل منها مالا جما ، وكان السلطان ربما مر عليه بداره يكلمه وهو راكب وهو مطل عليه من طاق ، وكان الناس يترددون إليه ولا يخرج من منزله إلا نادرا. ومات في جمادى الأولى سنة ٧٩٩ وكانت جنازته حافلة وظهر في تركته من آلات الكيمياء أشياء ولم يسمح لأحد بتعليم ما كان يعرفه من اللازورد.

٤٥٥ ـ محمد بن مبارك البشناقي المتوفى سنة ٨٠٠

محمد بن مبارك بن عمر البشناقي الحلبي الرومي الأصل الحنفي شمس الدين.

قرأ الهداية على التاج بن البرهان ، وأخذ عن شمس الدين محمد بن الأفرم وحج معه ولازمه. ودخل القاهرة وأخذ عن علمائها ، ثم رجع إلى حلب فأقام بها يفتي ويدرس ويشغل مع الخير والسكون والوقار. مات في رمضان سنة ثمانمائة ٨٠٠ ا ه.

٤٥٦ ـ الشيخ إبراهيم اللازوردي المتوفى سنة ٨٠٠

الشيخ إبراهيم بن عبد الله اللازوردي.

كان يذكر عنه عجائب وغرائب ومكاشفات ويتكلم في فنون عديدة ولا يعلم من أين يسترزق ، فبعض الناس يقول : من الكيمياء ، وبعضهم يقول : من اللازورد ، وبعضهم يقول : معه جوهر ، وأقوال الناس فيه مختلفة ، وأناس يعتقدون ولايته ، وأناس يقولون حكيم ، وأقول : هذا الرجل كما قيل :

__________________

(١) في «الدرر الكامنة» : اللازوردي.

١١٦

إنما يعرف ذا الفضل من الفضل ذووه

قال المؤيد : وأما الشيخ إبراهيم اللازوردي فهو رجل صالح زاهد ورع سكن خارج حلب قريب ناحية بانقوسا بقرية بابلّى ، وكان له بيت به حوش وفيه دجاج كل واحدة مشكلة مربوطة بمفردها ولهم خادم مخصوص بهم يغسل القمح ويطعمهم ولا يدعهم يأكلون شيئا من القمامات والمزابل كعادة الدجاج ، وذلك الخادم يكنس ما تحتهم ويلتقط البيض ولا يدع البيضة تسقط على الأرض. وعنده بقر ترعى في أراض هو يعرفها ويستطيب مرعاها. وكان يقول : بين بابلّى وجبرين عشب يساوي ملكا. وله بيت خاص به ، وله خادم يدعى الولد إذا طلب منه شيء من المأكول يأمره بالدخول إلى ذلك البيت فيأخذ ما أراد. وكان لا يشتري شيئا من المأكولات ولا غيرها.

(ذكر) الحافظ بن حجر قال : خرج كافل حلب المحروسة في أيام الربيع متنزها فانتهى إلى أرض حيلان والشيخ إذ ذاك جالس على حافة النهر ، فنزل الكافل وأرسل له بحلوى فقبلها وأدار ظهره إلى القاصد وأخرج من خرج قصعة كبيرة من أبنوس وفيها حلاوة عجمية سخنة وأقرصة غير مكسورة ، وأمر القاصد بحملها إلى الكافل ، فعجب الكافل من ذلك وقال لخواصه الذين معه : هذه القصعة لا تدخل في خرج لكبرها ، وهذه الأقراص كيف دخلت في الخرج وما تكسرت.

(وقال ابن شهبة) : كان يحضر إلى الشيخ المذكور أصحاب الأمراض فيصف لهم ما يلائمهم في الباطن ويعطيهم الأدوية من عنده ، فاتفق أنه جاء إليه شخص وشكا السعال ، فأمره بشرب الخل ، فقيل له في ذلك فقال : هذا شكله شكل مقلّش ، والمقلّش يأخذ ما التقطه ويضعه في فيه فركب شيء على ريته ، والخل يزيل ما عليها. قال : فشرب ذلك الرجل فشفي. وله غير ذلك من المناقب.

(وقال ابن شهبة في تاريخه) : وفي سنة سبع وثمانين وصل إلى دمشق من حلب الشيخ إبراهيم اللازوردي مطلوبا إلى السلطان معظما وهو من الزهاد وله خبرة بالطب وغير ذلك ، ثم توجه إلى القاهرة واجتمع بالسلطان برقوق هو والعبد الصالح إبراهيم بن زقاعة فألزمهما السلطان بمداواة ولده ، فكان يطلب من الشيخ ابن زقاعة العقاقير فيحضرها للدواء والمرض يزداد ، فتأدبا وتركا المداوة وقالا للسلطان : هذا أمر لا يتم ، فمات الولد.

١١٧

(وذكر الدميري) قال : عرض لبعض الحلبيين جنون ، وكان الشيخ إبراهيم اللازوردي إذ ذاك بدمشق ، فكتب إليه أهله يخبرونه بحاله ، فأرسل إليه بشراب في إناء ، فسقي منه فشفي وكتب في صحيح مسلم ، ثم عاوده فسقي منه فشفي وعاود الكتابة ، فلم يزل كذلك حتى فرغ الشراب فلم يعاوده شيء من ذلك.

(وأما) أقوال الناس واختلافهم في أمره فهي عادتهم في أهل الخير والصلاح والعفاف والانقطاع عن الناس ، فتارة يرمونه باعتقاد الفلاسفة ، وتارة يرمونه بالجنون ، وتارة بمعرفة الكيمياء إلى غير ذلك ، والرجل لسان حاله يقول :

ما تم إلّا ما يريد

فدع همومك واطّرح

واترك خواطرك التي

شغلت فؤادك تسترح

قال الشريف حسين الأخلاطي : اختار الشيخ إبراهيم الإقامة بقرية بابلّى خارج حلب المحروسة واستحسن الإقامة بها ، وكان رجلا صالحا وترجمته مشهورة.

وكانت وفاته بالقاهرة سنة ثمانماية ا ه. (الكواكب المضية).

٤٥٧ ـ سولي بن قراجا الدلغادري المتوفى سنة ٨٠٠

سولي بن قراجا بن دلغادر التركماني أمير التركمان الأوجاقية والبوزاوقية نائب أبلستين.

وليها بعد أخيه غرس الدين خليل وطالت مدته بها ، واتفقت له أمور مع العسكر الحلبي غير مرة حتى أمسك واعتقل بقلعة حلب مدة إلى أن تحيل وهرب إلى بلاده. وسبب ذلك أن الأمير يلبغا الناصري أطلقه من الحبس وأمره بالإقامة بحلب ، ثم خرج الناصري في بعض الأيام إلى الميدان وسولي هذا معه ، فلما كان الليل هرب وعلم الناصري بذلك فركب خلفه ساعة ، ثم عاد إلى مكانه ، ويقال إنه هرب بإذن الناصري له في الباطن ، ثم وقع له أمور وحوادث ، ولا زال عاصيا على السلطنة حتى قتل غيلة على فراشه في سنة ثمانمائة ، قتله شخص يقال له علي خان بسكين في خاصرته وهو نائم مع امرأته في بيت خركاه في أول الليل بالقرب من مرعش ، وذلك بممالأة الملك الظاهر برقوق على ذلك من سنين ، فلما قتل هرب علي خان في الليل إلى أن حضر الملك الظاهر برقوق فأنعم عليه وأحسن إليه وأعطاه إمرة عشرة بأنطاكية. وكان علي خان في خدمة ولد سولي هذا الأمير صدقة ابن سولي.

١١٨

قال قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني : وكان له صيت عظيم وحرمة بين التراكمين ، وكان في أيام ولايته أبلستين ومرعش وغيرهما ينصف الناس وفي أيام عزله يظلم الناس ويأخذ أموالهم ويفرق عسكره إلى بلاد المسلمين فيقطعون الطريق ويفسدون على وجه الأرض ، وكان سولي هذا هو الذي ساعد منطاشا على خراب البلاد الشمالية ولا سيما حين حضر معه على عينتاب وسلط تراكمينه الذين لا يعرفون الله ولا رسوله على أهلها ، فنهبوا أموالهم وسبوا حريمهم وفسقوا فيها ، وكان قتل هذا من الفتوح العظيم للمسلمين. ولقد اجتمعت به مرارا حين قدم بعسكره إلى عينتاب وتكلمت عنده بالأحاديث الزاجرة والمواعظ الرائقة ليرق قلبه ويرفع شره عن المسلمين ، فكان يظهر الطاعة والقبول في الظاهر ويضمر السوء والفحشاء في الضمائر. ومع ظلمه الظاهر كان يتعاطى اللواطة ويتعاطى الخمر فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر وقتل هو بطّال ، ثم قدم ابنه صدقة إلى مصر فخلع عليه السلطان وولاه إمرة التركمان عوضا عن ناصر الدين محمد بن خليل ابن قراجا ابن دلغادر ، فلما وصل إلى محل ولايته وقع بينهما قتال عظيم ، ولم تزل هذه الطائفة تقتل بعضها بعضا ، ولو لا ذلك لكانوا أفسدوا الأرض ومن عليها. انتهى كلام العيني ا ه. (المنهل الصافي).

١١٩

أعيان القرن التاسع

٤٥٨ ـ عبد اللطيف بن أحمد السراج القاهري المتوفى سنة ٨٠١

عبد اللطيف بن أحمد السراج الفيومي (١) القاهري ثم الحلبي الشافعي.

ولد سنة أربعين وسبعمائة تقريبا ، واشتغل بالفقه على الأسنوي وغير واحد كالبلقيني ، وأخذ الفرائض عن صلاح الدين العلائي فمهر فيها ، وقرأ على البلقيني بحلب في فروع ابن الحداد. وكان قد قدمها وولي بها قضاء العسكر ، ثم صرف وولي تدريس المدرسة الظاهرية خارج باب المقام ، ثم استقر له نصفها. وكان فاضلا في الفرائض مشاركا في غيره مواظبا على الاشتغال والأشغال وقراءة الميعاد على الناس صبيحة يوم الجمعة بالجامع الكبير بحلب ، ذا نظم كثير ، فمنه في مدح النحو والمنطق :

إن رمت إدراك العلوم بسرعة

فعليك بالنحو القويم ومنطق

هذا لميزان العقول مرجح

والنحو إصلاح اللسان بمنطق

وله في مدح البلاغة وذم المنطق :

دع منطقا فيه الفلاسفة الألى

ضلّت عقولهم ببحر مغرق

واجنح إلى نحو البلاغة واعتبر

أن البلاء موكّل بالمنطق

ومنه :

أخفيت عشق حبيبي مظهرا جلدا

فقال قولا يحاكي الدر من فيه

أنى سكنت شغاف القلب مبتدأ

وصاحب البيت أدرى بالذي فيه

__________________

(١) في «الضوء اللامع» طبعة القدسي عام ١٣٥٤ ه‍ : الفوّي. (نسبة إلى الفوّه : بليدة على شاطىء النيل قرب رشيد).

١٢٠