الزهور المقتطفة من تاريخ مكّة المشرّفة

تقي الدين محمّد بن أحمد الحسني الفاسي المكّي

الزهور المقتطفة من تاريخ مكّة المشرّفة

المؤلف:

تقي الدين محمّد بن أحمد الحسني الفاسي المكّي


المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٧

الباب الثامن عشر

فى ذكر شىء من أخبار توسعة

المسجد الحرام وعمارته وذرعه

أما خبر توسعة المسجد الحرام : فإن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أول من وسعه بدور اشتراها ، ودور هدمها على من أبى البيع وترك ثمنها لأربابها فى خزانة الكعبة.

وكان فعله لذلك فى سنة سبع عشرة (١) ، وكذلك فعل عثمان رضى الله عنه ، وكان فعله لذلك فى سنة ستة وعشرين من الهجرة (٢).

وقد وسعه عبد الله بن الزّبير ـ رضى الله عنهما ـ من جانبه الشرقى والشامى واليمانى.

ثم وسعه المنصور العباسى من جانبه الشامى ، ومن جانبه الغربي.

وكان ما زاده مثل ما كان من قبل.

وكان ابتداء عمله فى المحرم سنة سبع وثلاثين ومائة ، والفراغ منه فى ذى الحجة سنة أربعين (٣).

ثم وسعه المهدى بن المنصور من أعلاه ، ومن الجانب اليمانى ، ومن الجانب الغربى حتى صار على ما هو عليه اليوم خلال الزيادتين ، فإنهما أحدثنا بعده.

وكانت توسعته له فى نوبتين :

الأولى : فى سنة إحدى وستين ومائة (٤).

والثانية : فى سنة سبع وستين (٥).

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ٦٨ ، ٦٩ ، وتاريخ الطبرى ٤ / ٢٠٦ ، والكامل لابن الأثير ٢ / ٢٢٧ ، الذهب المسبوك (ص : ١٤).

(٢) تاريخ الطبرى ٢ / ٦٩ ، والكامل لابن الأثير ٣ / ٣٦ ، وإتحاف الورى ٣ / ٣٦.

(٣) إتحاف الورى ٢ / ١٧٣ ، وذكر أن ذلك فى سنة ١٣٨ ه‍ ، وأخبار مكة للأزرقى ٢ / ٧٢ ، وذكر أن ذلك سنة ١٣٩ ه‍.

(٤) إتحاف الورى ٢ / ٢٠٨ ، وأخبار مكة للأزرقى ٢ / ٧٦.

(٥) إتحاف الورى ٢ / ٢١٧ ، وأخبار مكة للأزرقى ٢ / ٨٠.

٨١

وليس لأحد من الأثر فى النفقة فى عمارته مثل ما للمهدى ، فالله يثيبه ، واسمه إلى الآن فى سقف المسجد الحرام قريبا من منازة الميل.

وممن عمره من غير توسعة عبد الملك بن مروان ، رفع جدرانه وسقفه بالساج.

وعمره ابنه الوليد ، وسقفه بالساج المزخرف ، وأزّره من داخله بالرخام.

وذكر السهيلى فى خبر عمارته ما يستغرب ؛ لأنه قال : فلما كان ابن الزّبير ، زاد فى إتقانه لا فى سعته.

والمستغرب من هذا كون ابن الزّبير لم يوسع المسجد الحرام (١) ، لاشتهار خبر توسعته له.

ومما زيد فى المسجد الحرام بعد المهدى : زيادة دار الندوة بالجانب الشمالى ، والزيادة المعروفة بزيادة باب إبراهيم بالجانب الغربى.

وكان إنشاء زيادة دار الندوة فى زمن المعتضد العباسى.

وكان ابتداء الكتابة إليه فيها فى سنة إحدى وثمانين ومائتين (٢) ، والفراغ منها فى سنة أربع وثمانين فيما أظن ، وكان أبوابها إلى المسجد الكبير على غير صفتها اليوم ، ثم عملت على الصفة التى عليها اليوم فى سنة ست وثلثمائة (٣).

وكان عمل زيادة باب إبراهيم فى سنة ست وسبعين وثلثمائة.

ووقع فى المسجد الحرام بعد الأزر فى عمارات كثيرة جدا ، وقد ذكرنا من ذلك طرف فى أصله.

وعمّر منه فى عصرنا جانب كبير ؛ وسبب ذلك أنه فى ليلة السبت الثامن والعشرين (٤) من شوال سنة اثنين وثمانمائة ظهرت نار من رباط رامشت ، فتعلقت بسقف المسجد الحرام ، وعمت بالحريق الجانب الغربى ، وبعض

__________________

(١) الروض الأنف ١ / ٢٢٤.

(٢) إتحاف الورى ٢ / ٣٤٩ ـ ٣٥١ ، وأخبار مكة للأزرقى ٢ / ١١١ ، ١١٢.

(٣) إتحاف الورى ٢ / ٣٦٦.

(٤) فى إتحاف الورى ٣ / ٤٢٠ : «ثامن عشر».

٨٢

الرواقين المقدمين من الجانب الشامى إلى محاذاة باب دار العجلة بما فى ذلك من السقوف والأساطين ، وصارت قطعا ، ثم عمّر ذلك كما كان فى مدة يسيرة على يد الأمير بيسق المالكى الظاهرى ، وكان ابتداء عمل ذلك بعد الحج من سنة ثلاث وثمانمائة (١) ، وفرغ منه فى شعبان سنة أربع وثمانمائة إلا سقف ذلك ، فإنه لم يعمل إلا فى سنة سبع وثمانمائة ؛ لتعذر خشب الساج ، ولما لم يحصل سقف بخشب العرعر ، ولتكسر أساطين الرخام عمل عوضها أساطين من حجارة منحوتة واستحسنت (٢).

وعمرت بعد ذلك أماكن بالمسجد الحرام ، وسقوفه ، فمن ذلك : فى سنة خمس عشرة وثمانمائة عقدان يليان سطح المسجد قبالة المدرسة البنجالية ، وأماكن فى سقفه (٣).

ومن ذلك : فى سنة خمس وعشرين وثمانمائة باب الجنائر على صفته اليوم ؛ لانهدام بعضه قبل ذلك ، فهدم ما بقى منه ، والحاجز الذى بين البابين ، وبنى ذلك مع ما انهدام من جدر المسجد الحرام المتصل بهذا الباب ، وإلى منتهى رباط المراغى بهذا الجانب وهو الشرقى.

وعمّر ذلك واستحسنت عمارته ، وكتب فيه اسم مولانا السلطان الملك الأشرف برسباى صاحب مصر والشام ، زاده الله نصرا وتأييدا وخلّد ملكه (٤).

وعمّر من هذا الجانب أماكن بين باب علىّ والعباس ، وفى باب العباس وعند المدرسة الأفضلية.

وعمّر فى سنة ست وعشرين وثمانمائة عدة عقود بالرواق المقدم والجانب الشرقى ، وفى المؤخر منه ، وهى : سبعة فى المؤخر ، وسبعة فى المقدم ، وثمانية فى التى تلى المقدم ، وثلاثة فى التى تليه ، وهى تلى المؤخر.

__________________

(١) إتحاف الورى ٣ / ٤٢٠ ، والسلوك للمقريزى ٣ / ٣ : ١٠١٩ ، ونزهة النفوس ٢ / ٦١ ، ودرر الفرائد (ص : ٣١٦ ، ٣١٧).

(٢) إتحاف الورى ٣ / ٤٢٣ ، والسلوك للمقريزى ٣ / ٣ : ١٠٦٤.

(٣) إتحاف الورى ٣ / ٤٨٥.

(٤) إتحاف الورى ٣ / ٥٨٨ ، ٥٨٩.

٨٣

وعمّر ما تحتها من الأساطين لخللها حتى أحكم ذلك كله.

وعمّر من سقوف المسجد الحرام ـ ما كان متخربا ـ ونور سطحه أو أكثره.

وعملت أبوبا للمسجد الحرام جديدة ، منها : بابان فى باب الجنائر ، وثلاثة فى باب العباس ، وثلاثة فى باب علىّ ، والباب الأوسط من باب الصفا ، وباب العجلة ، وباب زيادة دار الندوة المنفرد ، وأصلح غير ذلك من باقى الأبواب (١).

ومن المعمول فى هذه السنة عقدان عند باب الجنائز.

وكل ذلك مع ما ذكر من عمارة الكعبة المعظمة على يد الأمير سيف الدين مقبل القديدى [المكى الأشرفى] أثابه الله.

[وفى سنة ثلاثين وثمانمائة عمرت عدة عقود بالجانب الشمالى ، مما يلى صحن المسجد ، وهى ثمانية : ستة تلى الأسطوانة الحمراء إلى صوب باب العمرة ، واثنان يليانها إلى صوب باب بنى شيبة ، وفرغ من ذلك فى شعبان من السنة المذكورة.

وأما ذرع المسجد الحرام غير الزيادتين : فذكره الأزرقى باعتبار ذراع اليد (٢)].

وحررت أنا ذلك بذراع الحديد ، ومنه يظهر تحريره بذراع اليد كما سبق بيانه.

فكان طوله من جدره الغربى إلى جدره الشرقى المقابل له : ثلثمائه ذراع وستة وخمسين ذراعا وثمن ذراع بالحديد.

ويكون ذلك بذراع اليد : أربعمائة ذراع وسبعة أذرع ، وذلك من وسط جدره الغربى ـ الذى هو جدر رباط الخوزى ـ إلى وسط جدره الشرقى عند باب الجنائز يمر به فى الحجر ملا صقّا لجدر الكعبة الشامى.

وكان عرضه من جدره الشامى إلى جدره اليمانى : مائتى ذراع وستة وستين ذراعا بذراع الحديد.

__________________

(١) إتحاف الورى ٣ / ٥٩٨ ، ٥٩٩ ، والإعلام بأعلام بيت الله الحرام (ص : ٢١٠) ، والعقد الثمين ١ / ٨٥.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ٨١ ، ٨٢.

٨٤

يكون ذلك بذراع اليد : ثلثمائة ذراع وأربعة أذرع ، وذلك من وسط جداره القديم عند العقود إلى وسط جداره اليمانى فيما بين الصفا وباب أجياد تمر به فيما بين مقام إبراهيم والكعبة ، وهو إلى المقام أقرب.

حرر لى ذلك من أعتمد عليهم من أصحابنا ، أثابهم الله.

وذرع المسجد الحرام الآن مكسرا مائة ألف ذراع وعشرون ألف ذراع ، هكذا قال الأزرقى.

وأما ذرع زيادة دار الندوة : فهو أربعة وسبعون ذراعا ـ بتقديم السين ـ إلا ربع ذراع بالحديد ، وذلك من جدر المسجد الكبير إلى الجدر المقابل له الشامى منها ، وعنده باب منارتها ، وهذا ذرعها طولا.

وأما ذرعها عرضا ، فسبعون ذراعا ـ بتقديم السين ـ ونصف ذراع ، وذلك من وسط جدرها الشرقى إلى وسط جدرها الغربى.

وأما زيادة باب إبراهيم : فذرعها طولا : تسعة وخمسون ذراعا إلا سدس ، وذلك من الأساطين التى فى وزان جدر المسجد الكبير إلى العتبة التى فى باب هذه الزيادة.

وأما ذرعها عرضا : فاثنان وخمسون ذراعا وربع ذراع ، وذلك من جدر حائط رباط الخورى إلى جدر رباط رامشت.

وذكرنا فى أصله ذرع صحن هاتين الزيادتين طولا وعرضا ، وحرر ذلك بحضورى (١).

***

__________________

(١) يبحث عن ذلك فى : أخبار مكة للأزرقى ٢ / ٦٢ ـ ٨٢ ، والمسالك والممالك (ص : ١٣٢ وما بعدها) ، والأحكام السلطانية (ص : ١٥٢ وما بعدها) ، وهداية السالك ٣ / ١٣٣٤ ، ١٣٣٥ ، وأخبار مكة للفاكهى ٢ / ١٨٠ ـ ١٩٩.

٨٥
٨٦

الباب التاسع عشر

فى عدد أساطين المسجد الحرام ، وصفتها ،

وعدد عقودها ، وشرفاته ، وقناديله ، وأبوابه ،

وأسمائها ، ومنابره ، وفيما صنع فيه لمصلحته ،

أو لنفع الناس به ، وفيما فيه الآن من المقامات ،

وكيفية صلاة الأئمة بها وحكمها

وأما عدد أساطين المسجد الحرام ـ غير ما فى الزيادتين ـ فأربعمائة أسطوانة وتسعة وستون أسطوانة فى جوانبه الأربعة ، وعلى أبوابه من داخله وخارجه تسعة وعشرون أسطوانة ، فيصير الجميع أربعمائة أسطوانة وستة وتسعين أسطوانة ـ بتقديم التاء (١).

وهذه الأساطين رخام إلا مائة وتسعة وعشرون أسطوانة فهى حجارة منحوتة ، إلا ثلاثة أساطين ، فهى آجر مجصص ، وفى صحن المسجد حول المطاف أساطين ، وهى اثنان وثلاثون أسطونة (٢).

وأما عدد أساطين زيادة باب إبراهيم : فسبعة وعشرون أسطوانة حجارة منحونة (٣).

وأما عدد طاقات المسجد الحرام التى بجوانبه الأربعة غير الزيادتين ، فأربعمائة طاقة وأربعة وثمانون طاقا.

وأما عدد طاقات زيادة دار الندوة : فثمانية وستون طاقا.

وأما عدد طاقات زيادة باب إبراهيم : فستة وثلاثون طاقا.

والطاقات هى العقود التى على الأساطين (٤).

__________________

(١) أخبار مكة للفاكهى ٢ / ١٨١ ، ١٨٢ ، أخبار مكة للأزرقى ٢ / ٨٢.

(٢) أخبار مكة للفاكهى ٢ / ١٨٢.

(٣) أخبار مكة للفاكهى ٢ / ١٨٤.

(٤) أخبار مكة للفاكهى ٢ / ١٨٥ ، وأخبار مكة للأزرقى ٢ / ٨٤.

٨٧

وأما عدد شرفاته التى تلى بطن المسجد : فأربعمائة وثلاثة عشر شرفة ، وسبعة أنصاف شرافات.

وأما عدد الشرفات التى بزيادة دار الندوة : فاثنان وسبعون شرافة.

وأما عدد الشرفات التى بزيادة باب إبراهيم : فبضع وأربعون شرافة (١).

وأما عدد قناديله الآن ـ المرتبة فيها غالبا ـ فثلاثة وتسعون قنديلا ـ بتقديم التاء ـ وهى نحو الخمس من عدد قناديله التى ذكرها الأزرقى (٢).

وأما عدد أبوابه : فتسعة عشر ـ بتقديم التاء ـ تفتح على ثمانية وثلاثين طاقا (٣).

وأما أسماؤها الآن : فذكرناها فى أصله ، وفى أصل هذا الكتاب زيادة بيان فيما يتعلق بالصلاة على الموتى فى المسجد الحرام ، وفى الخروج بهم منه.

وأما عدد منائره : فخمس : أربع فى جوانبه الأربعة ، والخامسة : بزيادة دار الندوة ، وبزيادة باب إبراهيم منارة مهدوم أعلاها ، وقد أشار إليها ابن جبير ، وأشار إلى منارة أخرى كانت على باب الصفا ، ولا أثر لها الآن.

وأما ما صنع فى المسجد الحرام لمصلحته : فقبة كبيرة بين زمزم وسقاية العباس رضى الله عنه ، وكانت موجودة فى القرن الرابع على مقتضى ما ذكر ابن عبد ربه فى «العقد».

ومزولة بصحن المسجد يعرف بها الوقت : عملها الوزير الجواد ، وتسمى ميزان الشمس.

ومنابر للخطبة ، وقد ذكرنا منها جملة فى أصله (٤).

وأول من خطب على منبر بمكّة معاوية رضى الله عنه.

والمنبر الذى يخطب عليه الآن بمكّة أنفذه الملك المؤيد أبو النصر صاحب مصر فى موسم سنة ثمان عشرة وثمانمائة مع درجة الكعبة الموجودة الآن (٥).

__________________

(١) أخبار مكة للفاكى ٢ / ١٩٩ ـ ٢٠١ ، وأخبار مكة للأزرقى ٢ / ٩٥ ـ ٩٦.

(٢) أخبار مكة للفاكهى ٢ / ٢٠٤ ، وأخبار مكة للأزرقى ٢ / ٩٨ ـ ٩٩.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ٧٨ ، ورحلة ابن جبير (ص : ٨٢).

(٤) أخبار مكة للفاكهى ٢ / ٢٠٢ ، ٢٠٣ ، وأخبار مكة للأزرقى ٢ / ٩٧ ـ ٩٨ ، ورحلة ابن جبير (ص : ٦٨) (٥) إتحاف الورى ٣ / ٥٢٨.

٨٨

وأما المقامات التى هى الآن بالمسجد الحرام : فأربعة ، وهى أسطوانتان من حجارة عليهما عقد مشرف من أعلاها ، وفيه خشبة معترضة فيها خطاطيف للقناديل ، إلا مقام الخليل : فإنه أربعة أساطين عليها سقف مدهون مزخرف ، وكان عمله على هذه الصفة فى آخر سنة إحدى وثمانمائة ، وكمل فى أول التى تليها ، وكان عمل المقامات الأخرى على ما ذكر فى سنة سبع وثمانمائة رغبة فى بقائها ، وما ذكر من صفاتها الآن هى غير صفاتها السابقة.

وقد أفتى جماعة من العلماء من المذاهب الأربعة ، منهم : شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقينى (١) ، وابنه مولانا شيخ الإسلام قاضى القضاة جلال الدين (٢) : بوجوب هدم مقام الحنفية المشار إليه لما فيه من الحدث وغير ذلك ، ورسم ولى الأمر بهدمة ، ثم ترك لمعارضة حصلت فى ذلك.

ومقام الشافعى : يلى مقام إبراهيم.

ومقام الحنفى : يلى الحجر ، يسكون الجيم.

ومقام المالكى : يلى دبر الكعبة.

ومقام الحنبلى : يلى الحجر الأسود.

وفى أصل هذا الكتاب ذرع ما بين كل مقام والكعبة.

وأما كيفية صلاة الأئمة بها : فإن الشافعى يصلى أولا ، ثم الحنفى ، ثم المالكى ، ثم الحنبلى.

وتقديم الحنفى على المالكى حدث بعد التسعين وسبعمائة ، إلا صلاة المغرب فقط فيصلونها مجتمعين.

وقد انفرد الشافعى بصلاة المغرب فى أيام الموسم من سنة إحدى عشرة وثمانمائة إلى موسم سنة ستة عشر وثمانمائة.

__________________

(١) هو : عمر بن رسلان بن نصير : برع فى الفقه وأصوله ، وتولى القضاء ، وتأهل للتدريس والفتيا ، توفى سنة ٨٠٥ ه‍ (الضوء اللامع ٦ / ٩٠٦).

(٢) هو : عبد الرحمن بن عمر بن رسلان ، توفى سنة ٨٢٤ ه‍ (الضوء اللامع ٤ / ١٠٦ ـ ١١٣).

٨٩

وأما حكم صلاة الأئمة ما عدا الشافعى على الترتيب الذى يفعلونه : فإن ذلك لا يجوز على ما أفتى به أبو القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الحباب المالكى (١) ، وله فى ذلك تأليف حسن.

وأفتى بجواز ذلك شداد بن المقدم ، وعبد السلام بن عتيق ، وأبو الطاهر بن عوف الزهرى ، وهم من فقهاء المالكية بالأسكندرية ، ورد عليهم ابن الحباب ذلك ، فى تأليفه ، ونقل ما يوافق فتواه عن جماعة من الشافعية والحنيفة والمالكية.

وفى أصل هذا الكتاب زيادة فوائد فى هذا المعنى.

***

__________________

(١) لم نعثر على ترجمته ، وانظر الخبر فى : إتحاف الورى ٢ / ٥١٦.

٩٠

الباب العشرون

فى ذكر شىء من خبر زمزم

وسقاية العباس رضى الله عنه

أما زمزم : فإن أول من أظهرها الأمين جبريل ـ عليه‌السلام ـ سقيا لإسماعيل ـ عليه‌السلام ـ عندما ظمى ، ولو لم تحوض عليه أم إسماعيل لكانت عينا تجرى ، على ما فى البخارى (١).

وذكر الفاكهى أن الخليل ـ عليه‌السلام ـ حفر زمزم بعد جبريل ـ عليه‌السلام ـ ثم غلبه عليها ذو الفرس.

وقد غيبت بعد ذلك زمزم لاندراس موضعها ، ثم منحها الله ـ تعالى ـ عبد المطلب جد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكرامته ، فحفرها بعد أن أعلمت له فى المنام بعلامات استبان له بها موضعها ، فلم تزل ظاهرة حتى الآن ، وعولجت فى الإسلام غير مرة ، وذلك مذكور فى أصله (٢).

وزمزم الآن فى بيت مربع فى جدرانه تسعة أحواص تملأ من زمزم للتوضئ منها.

وأعلا البيت مسقوف ما خلا الموضع الذى يحاذى البئر.

وهذه الصفة تخالف الصفة التى ذكرها الأزرقى (٣) فى صفة موضع زمزم.

وفى سنة اثنين وعشرين وثمانمائة هدمت ظلة المؤذنين التى فوق البيت الذى فيه زمزم ؛ لإفساد الأرضة لها ، وسلخ من هذا البيت الجدار الغربى والشامي من أعلاهما إلى أسفلهما ، وبنى ذلك بنورة وحجارة منحوتة وغيرها ، وسلخ من أعلا جدر هذا البيت الشرقى إلى عتبة الباب العليا فى هذا الجدار ، وبنى

__________________

(١) مثير الغرام الساكن (ص : ٣١٩ ـ ٣٢١) ، السيرة الشامية ١ / ٢١٨ ، والبيهقى فى دلائل النبوة ١ / ٩٣ ، وطبقات ابن سعد ١ / ٨٣ ، وسيرة ابن هشام ١ / ١٤٥ ، وأخبار مكة للفاكهى ٢ / ٥ ـ ٧ ، وأخبار مكة للأزرقى ٢ / ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) أخبار مكة للفاكهى ٢ / ١١ ، ١٢ ، والسيرة لابن هشام ١ / ١٥٥.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ٦١ ، ٦٢.

٩١

ذلك بآجر ونورة ، وأخرجوا من سقف هذا البيت الخشب المتخرب وأبدلوه بغيره ، وبنوا فوق هذا الجدار أسطوانتين من آجر ونورة ، لشد الدرابزين فى ذلك ، وأصلحوا جميع سقف هذا البيت بالنورة والآجر ، وجعلوا له درابزين من خشب مخروط يطيف بجوانبه خلا اليمانى.

وجعلوا فوق بئر زمز شباكا من حديد ، ولم يكن قبله هناك شبّاك من حديد ، وبنوا خمسة أساطين دقيقة من آجر بالنورة : ثلاثة فى الجدار الذى بالكعبة ، وواحدة فى الشامى ، وواحدة فى اليمانى ، وجعلوا بين هاتين الأسطوانتين أسطوانة من خشب ، وأخشابا بين هذه الأساطين ، وسقفا من خشب مدهون ساترا لما بين هذه الأساطين الست ، يكون ظلة للمؤذنين ، خلا بعض ما بين الاسطوانة الوسطى والخشب ، فجعلوا فيه قبة من خشب مدهونة ، وجعلوا فوق هذه القبة قبة ساترة لها من خشب وجريد وقصب ، وطلوها من أعلاها بالجبس ، وجعلوا فوق السقف المدهون سقفا آخر ودكوه بالآجر والنورة ، ورفرفا من خشب مدهون يطيف بجوانب هذا السقف ، وأحكموا شده وشد السقف والقبة بالمسامير والكلاليب الحديد.

وجعلوا درابزين من خشب يطيف بجوانب هذا البيت خلا اليمانى ، ودرابزين آخر يطيف بجانبى ظلة المؤذنين اليمانى والشرقى ، ولم يكن فى هاذين الجانبين درابزين قبل ذلك.

وأوسعوا فى الأحواض التى فى الجدارين الغربى والشامى من داخل البيت الذى فيه زمزم ، وأوسعوا فى الدرجة التى يصعد منها إلى سقف بيت زمزم فاستحسنت ، وكذا ظلة المؤذنين ، وكذا ما عمل فى سطح هذا البيت وجدرانه.

وفرغ من ذلك فى أثناء رجب سنة اثنين وعشرين وثمانمائة (١) ، والمتولى لهذه العمارة : الجانب العالى العلائى خواجا شيخ على الكيلانى نزيل مكّة (٢) ، زاده الله رفعة وتوفيقا.

__________________

(١) إتحاف الورى ٣ / ٥٦٦.

(٢) انظر ترجمته فى الضوء اللامع ٥ / ٣١٣ رقم ١٠٣٤.

٩٢

وكان إلى جانب هذا الموضع خلوة فيها بركة تملّا من ماء زمزم ، ويشرب منها من دخل إلى الخلوة.

وكان لها باب إلى جهة الصفا ، ثم سد وجعل فى موضع الخلوة بركة مقبوة ، وفى جدارها الذى يلى الصفا زبازيب يتوضأ الناس منها على أحجار نصبت عند الزبازيب ، وفوق البركة المقبوة خلوة فيها شباك إلى الكعبة ، وشباك إلى جهة الصفا ، وطابق صغير إلى البركة.

وكان عمل ذلك على هذه الصفة فى سنة سبع وثمانمائة (١) ، ثم هدم ذلك حتى بلغ الأرض فى العشر الأول من ذى الحجة سنة سبع عشرة وثمانمائة لما قيل : إن بعض الجهلة يستنجى هنالك ، وعمّر عوض ذلك سبيل للسلطان الملك المؤيد أبى النصر شيخ ، نصره الله ، ينتفع الناس بالشرب منه ، فيتضاعف له الدعاء ولمن كان سببا فى ذلك ، وجاءت عمارته حسنة ، وفرغ منها فى رجب سنة ثمان عشرة وثمانمائة (٢).

وابتدئ فى عمله بإثر سفر الحاج.

وفى موضع هذه الخلوة : كان مجلس عبد الله بن عباس ـ رضى الله عنهما ـ على مقتضى ما ذكر الأزرقى والفاكهى (٣).

أسماء زمزم

ولزمزم أسماء كثيرة ذكرها الفاكهى (٤).

منها ستة وعشرون اسما ذكرناها فى أصله ، مع أحد عشر اسما لزمزم لم يذكرها الفاكهى.

وفى أصله فوائد تتعلق بأسماء زمزم.

ولزمزم فضائل مروية عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ منها : «خير ما على الأرض : ماء زمزم» (٥) ، أخرجه ابن حبان فى صحيحه والطبرانى بإسناد جيد.

__________________

(١) إتحاف الورى ٣ / ٤٤٣ ، والعقد الثمين ١ / ٩١.

(٢) إتحاف الورى ٣ / ٥٢٢ ، والعقد الثمين ٣ / ٣٩٢.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ٦ ، وأخبار مكة للفاكهى ٦٥ / ٦٦.

(٤) أخبار مكة للفاكهى ٢ / ٦٧.

(٥) أخرجه : ابن حبان ٢ / ٢٠٩ ، والطبرانى فى الكبير ١١ / ٩٨ رقم (١١٦٧) ، وعبد الرازق فى مصنفه ٥ / ١١٦ ـ ١١٧ ، وأخبار مكة للفاكهى ٢ / ٣٤ ، وأخبار مكة للأزرقى ٥٣١٢ ، وهداية السالك ١ / ٨٦.

٩٣

وصح لى عن شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقينى أنه قال : إن ماء زمزم أفضل من الكوثر ؛ لأن به غسل صدر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن يغسل إلا بأفضل المياه .. انتهى بالمعنى.

ومنها : ما رويناه عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أراد أن يتحف الرجل بتحفة سقاه من ماء زمزم (١).

أخرجه الحافظ شرف الدين الدمياطى بسنده ، وقال ـ فيما أنبئت به عنه ـ : إسناده صحيح.

ومنها : «أنه لما شرب له» (٢) وهذا مروى من حديث ابن عباس ، وجابر ـ رضى الله عنهم ـ عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحديث ابن عباس رويناه فى سنن الدارقطنى ، وقد حسن شيخنا الحافظ العراقى حديث ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ من هذه الطريق ، وقال فى «نكته على ابن الصلاح» : إن حديث ابن عباس أصح من حديث جابر .. انتهى.

وقد شربه جماعة من السلف والخلف لمقاصد جليلة فنالوها ، وروينا فى ذلك أخبار.

منها : أن أحمد بن عبد الله الشريفى الفراش بالحرم الشريف المكى شربه للشفاء من العمى ، فشفى ، على ما أخبرنى به شيخنا المفتى عبد الرحمن بن أبى الخير الفاسى ، وفى هذا دليل لصحته.

ولزمزم خواص ، منها : أن ماءها يبرد الحمى (٣).

__________________

(١) أخرجه : أحمد ١ / ٢٩١.

(٢) أخرجه : ابن ماجه (٣٠٦٢) ، وأحمد ٣ / ٢٢٠ ، والبيهقى فى سننه ٥ / ١٤٨ ، والحاكم فى المستدرك (١٧٣٩) ، والطبرانى فى الأوسط (٨٥٣) ، والديلمى فى الفردوس (٣١٧١) ، والأزرقى فى أخبار مكة ٢ / ٥٢ ، والعقيلى ٢ / ٣٠٣ ، وابن عدى ٤ / ١٤٥٥ ، والبيهقى فى الشعب (٤١٢٧) ، وابن أبى شيبة ٦ / ٢١٩ ، وفيه عبد الله بن المؤمل ، وقد اختلف فى توثيقة وتضعيفه ، لكن للحديث متابعات وشواهد يتقوى بها فيرتقى إلى مرتبة الحسن ، والله أعلم. انظر طرقه والكلام عليه فى : المقاصد الحسنة (٣٥٧) ، وكشف الخفاء ٢ / ٢٢٩ ، والتمييز (١١٥٢) ، وأسنى المطالب (١٢٢١).

(٣) أحمد ١ / ٢٩١ ، وأخبار مكة للفاكهى ٢ / ٢٨.

٩٤

ومنها : أنه يذهب بالصداع وغير ذلك.

وفى أصله زيادة فى فضل ماء زمزم وخواصه.

ويصح التطهر بماء زمزم بالإجماع ، على ما ذكر الرويانى فى «البحر» ، والماوردى فى «الحاوى» ، والنووى فى «شرح المهذب».

وقد اتفق العلماء الأئمة الأربعة على جواز نقله.

[سقاية العباسى]

وأما سقاية العباسى رضى الله عنه : فهى الآن على غير الصفة التى ذكرها الأزرقى ، وصفتها الآن والأولى مذكورتان فى أصله.

وأحدث عهد عمّرت فيه هذه السقاية : سنة سبع وثمانمائة بعد سقوط القبة التى كانت بها ، وكانت من خشب من عمل الجواد الأصفهانى (١) فعملت من حجر (٢).

وممن عمرها : الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر ، والله أعلم.

__________________

(١) هو : الجواد : محمد بن على بن أبى منصور الأصبهانى ، الوزير جمال الدين ، والمعروف بالجواد (انظر ترجمته فى : العقد الثمين ٢ / ٢١٢ رقم ٣٣٠).

(٢) إتحاف الورى ٣ / ٤٤٣ ، والعقد الثمين ٢ / ٢١٢.

٩٥
٩٦

الباب الحادى والعشرون

فى ذكر الأماكن المباركة التى ينبغى زيارتها

الكائنة بمكّة المشرفة ، وحرمها وقربه

هذه الأماكن ، مساجد ودور ، وجبال ومقابر.

[المساجد التي ينبغى زيارتها في مكّة المشرفة وحرمها :] والمساجد أكثر من غيرها ، إلا أن بعضها مشتهر باسم المولد ، وبعضها باسم الدور ، وسيأتى ذكر هذين الأمرين قريبا.

والمقصود ذكره هنا ما اشتهر من ذلك بالمسجد.

فمن ذلك : مسجد بقرب المجزرة الكبيرة من أعلاها ، يقال : إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى فيه المغرب على ما وجدت بخط عبد الرحمن بن أبى حرمى مسند مكّة وموثقها.

وفيه : أنه عمّر فى رجب سنة ثمان وخمسمائة ، وعمّر سنة سبع وأربعين وستمائة.

ومن ذلك : مسجد فوقه ، يقال له : مسجد الراية ، يقال : إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى فيه.

وعمّره عبد الله بن العباس بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس ، ثم عمّر فى سنة أربعين وستمائة ، وفى سنة إحدى وثمانمائة.

ومن ذلك : مسجد بسوق الليل بقرب المولد النبوى ، يقال له : المختبى ، يزوره الناس فى يوم المولد.

ومن ذلك : مسجد بأسفل مكّة ينسب للصديق رضى الله عنه يقال : إنه من داره التى هاجر منها.

ومن ذلك : مساجد خارج مكّة من أعلاها.

منها : المسجد الذى يقال له مسجد الإجابة فى شعب بقرب ثنية أذاخر ، يقال : إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى فيه.

٩٧

ومن ذلك : مسجد البيعة ـ وهى بيعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصار ـ وهذا المسجد بقرب عقبة منى ، بينه وبين العقبة غلوة أو أكثر ، وهو على يسار الذاهب إلى منى.

وعمّر فى سنة أربع وأربعين ومائة ، وفى سنة تسع وعشرين وستمائة.

ومن ذلك : مسجد بمنى عند الدار المعروفة بدار النحر ، بين الجمرة الأولى والوسطى على يمين الصاعد إلى عرفة ، يقال : إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى فيه الضحى ونحر هديه ، وما عرفت من خبر عمارته سوى أنه بنى فى سنة خمس وأربعين وستمائة.

ومن ذلك : مسجد خلف ثبير بمنى ، يقال له : مسجد الكبش ـ وهو الكبش الذى فدى به إسماعيل بن إبراهيم ، أو إسحاق بن إبراهيم ، على الخلاف فى أيهما الذبيح.

وذكر الفاكهى خبرا يقتضى أن هذا الكبش نحر بين الجمرتين بمنى ، وهذا يخالف ما سبق ، والله أعلم.

ومن ذلك : مسجد الخيف بمنى ، وهو مشهور عظيم الفضل ؛ لأن فيه صلى سبعون نبيّا ، وفيه قبر سبعين نبيّا ، على ما رويناه مرفوعا فى البزار ، والأول فى الطبرانى الكبير مرفوعا.

وممن قبر فيه على ما قيل : آدم عليه‌السلام.

وفى رواية أبى هريرة رضى الله عنه : أنه أحد المساجد التى تشد إليها الرحال ، وإسناد الحديث إليه ضعيف (١).

وجاء عنه ما يقتضى استحباب زيارته كل سبت (٢).

ومصلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيه أمام المنارة قريبا منها ، وعمّر مرات ، وفى أصله طرف من ذلك.

ومن ذلك : المسجد الذى اعتمرت منه عائشة أم المؤمنين ـ رضى الله عنها ـ فى حجة الوداع.

__________________

(١) أخبار مكة للفاكهى ٤ / ٢٦٧ ، والقرى (ص : ٥٣٩) ، والأزرقى ٢ / ١٧٤.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ١٧٤.

٩٨

وهذا المسجد بالتنعيم. واختلف فيه ، فقيل : إنه المسجد الذى يقال له مسجد الهليلجة ـ شجرة كانت فيه ـ وهو المتعارف عند أهل مكة ؛ على ما ذكر سليمان ابن خليل.

ومنها : مولد جعفر رضى الله عنه فى دار أبى سعيد ، عند دار العجلة. وبعض الناس ينسب هذا المولد إلى جعفر بن أبى طالب. وعلى بابه حجر مكتوب فيه : إنه مولد جعفر الصادق. ودخله النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولا منافاة بين كونه مولد جعفر الصادق ، وبين دخول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه ؛ لإمكان أن يكون النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخله قبل أن يولد فيه جعفر (١) ، والله أعلم.

وأما الدور المباركة بمكة ، فمنها : دار أم المؤمنين خديجة ـ رضى الله عنها ـ ويقال لها الآن : مولد فاطمة ـ رضى الله عنها ـ وفيها ثلاثة مواضع تقصد بالزيارة متلاصقة.

أحدها : الموضع الذى يقال له : مولد فاطمة.

والموضع الذى يقال له : قبة الوحى.

والموضع الذى يقال له : المختبأ.

وبها موضع آخر على هيئة المسجد.

وهذه الدار أفضل الأماكن بمكة بعد المسجد الحرام ، على ما ذكر المحب الطبرى (٢) ؛ ولعل ذلك لسكن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها سنين كثيرة ، من حين تزوج خديجة ، وإلى حين هاجر ، ولكثره نزول الوحى فيها ، وفيها : بنى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخديجة. وفيها : ولدت أولادها منه. وفيها : ماتت رضى الله عنها.

ومنها : دار تنسب للصديق رضى الله عنه بالزقاق الذى فيه دار خديجة ـ رضى الله عنها ـ ويعرف الآن بزقاق الحجر ، ويقال له فيما مضى : زقاق العطارين. ذكر ذلك الأزرقى.

وفى هذه الدار مسجد عمّره المنصور صاحب اليمن قبل سلطنته فى حال نيابته على مكة للمسعود سنة ثلاث وعشرين وستمائة.

__________________

(١) إتحاف الورى ٣ / ٤١.

(٢) القرى (ص : ٦٦٥).

٩٩

ومقابل هذه الدار حجر ناتئ فى جدار من الدار المقابلة لها يقال إنه الذى كلم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على ما حكى الميانشى عن كل من لقيه بمكة. وذكر ذلك ابن جبير (١) ، فإن صح كلامه للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلعله الحجر الذى كان يسلم عليه ليالى بعث بمكة.

وقيل : إن الذى كان يسلم عليه فى هذا التاريخ هو الحجر الاسود ، والله أعلم.

ومنها : دار الخيزران عند باب الصفا. وهى دار الأرقم المخزومى ، والمقصود بالزيارة منها مسجد مشهور فيها ، ويقال له : المختبأ ؛ لأن فيه كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو الى الإسلام مستخفيا. وهناك أسلم جماعة من جلة الصحابة ؛ منهم : عمر الفارق رضى الله عنه.

ولعل دار الأرقم هذه أفضل الأماكن بمكة بعد دار خديجة أم المؤمنين ، رضى الله عنها ، والله أعلم.

ومنها : دار العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه ، وهى الآن رباط للفقراء ، وبها علم يهرول منه وإليه الساعى.

ومنها : رباط الموفق بأسفل مكة ؛ لأنه بلغنى عن الشيخ خليل المالكى أن الدعاء مستجاب فيه أو عند بابه.

ومنها : معبد الجنيد ـ شيخ الطائفة الصوفية ـ وهو بلحف الجبل الأحمر ، أحد أخشبى مكة.

وأما الجبال المباركة بمكة وحرمها : فأبو قبيس ؛ لأن الركن الأسود كان مستودعا فيه عام الطوفان ، فلما بنى الخليل الكعبة نادى أبو قبيس : الركن منّى بمكان كذا وكذا. فجاء به جبريل إلى الخليل ، فوضعه موضعه فى الكعبة ، ولذا قيل لأبى قبيس : الأمين.

__________________

(١) رحلة ابن جبير (ص : ٩٢).

١٠٠