الزهور المقتطفة من تاريخ مكّة المشرّفة

تقي الدين محمّد بن أحمد الحسني الفاسي المكّي

الزهور المقتطفة من تاريخ مكّة المشرّفة

المؤلف:

تقي الدين محمّد بن أحمد الحسني الفاسي المكّي


المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٧

وقال الماوردى ـ من أئمة الشافعية ـ : عندى أن أسفلها دخله خالد بن الوليد رضى الله عنه عنوة ، وأعلاها فتح صلحا.

قال النووى : والصحيح الأول ، يعنى أنها فتحت صلحا كلها.

ومن أصرح الأخبار الدالة على أن فتح مكّة عنوة : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى خطبته بمكّة يوم فتحها : «يا معشر قريش ، ما ترون أنى فاعل بكم؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اذهبوا فأنتم الطلقاء» (١) وهذه الخطبة فى سيرة ابن إسحاق تهذيب ابن هشام (٢).

قال ابن الأثير فى «النهاية» فى حديث حنين : «خرج إليها ومعه الطلقاء الذين خلّا عنهم يوم فتح مكّة ، أطلقهم ولم يسترقهم» إلى آخر كلامه.

وإذا كان هذا معنى الطلقاء ، فخطاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقريش ـ هذا الخطاب ـ يقتضى أنهم كانوا حين خوطبوا بذلك فى الأسر المقتضى للاسترقاق ، لو لا أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفضل عليهم بالإطلاق ، ولو لا ذلك لم يكن لاستعلامه قريشا عما يتوقعونه منه محل ، كما لا محل لخطاب قريش بذلك بعد تأمينهم.

ويبعد الانفصال عن هذا الدليل بجواب شاف ، إلا أن يقال : إنه مرسل.

وفى أصل هذا الكتاب ـ فيما يتعلق بفتح مكة ـ فوائد أخرى ، مع بيان النظر فيما أجاب به النووى ـ رحمه‌الله ـ عن الأحاديث المقتضية لفتح مكّة عنوة.

وفيما ذكره حجة للإمام الشافعى فى فتح مكّة صلحا.

وفى أن دورها مملوكة لأهلها ، والله أعلم بالصواب.

وهذا من النووى : تأييد لقول الشافعى : إن مكّة فتحت صلحا.

وفى شرح مسلم للقاضى عياض ، والمازرى ما يقتضى أنه انفرد بذلك ، ولم ينفرد به ؛ لموافقة مجاهد وغيره له على ذلك ، على ما وجدت بخط سليمان بن خليل إمام المقام الشريف بمكّة ، فى حاشية فى المهذب ، نقلها عن «الشامل» ، ولم يقل فيها «لابن الصباغ» وهو له ـ فى غالب الظن ـ ، والله أعلم.

__________________

(١) السيرة لابن هشام ٢ / ٤١٢.

(٢) السيرة لابن هشام ٢ / ٤١٢.

٢١
٢٢

الباب الثاني

فى أسماء مكّة

لمكّة المشرفة : أسماء كثيرة ، بعضها مأخوذ من القرآن العظيم ؛ وذلك ثمانية : «مكّة» بالميم ، و «بكة» بالباء ، و «أم القرى» ، و «القرية» ، و «البلد» ، و «البلد الأمين» ، و «البلدة» ، و «معاد». ومواضعها فى القرآن العظيم ظاهرة.

وقد جمع شيخنا القاضى مجد الدين الشيرازى ـ قاضى اليمن ـ فى أسماء مكّة أكثر مما جمعه غيره ، وذكرنا ذلك فى أصله.

وقد أغرب فى كثير مما ذكر ، وفاته مع ذلك أسماء أخر ،منها : «برة» ذكره سليمان بن خليل.

ومنها : «بساق» ذكره ابن رشيق فى «العمدة فى الأدب».

ومنها : «البيت العتيق» ذكره الأزرقى.

ومنها : «الرأس» ذكره السهيلى وغيره.

ومنها : «القادسية» ذكره ابن جماعة فى «منسكه» (١) ، ولم يعزه.

ومنها : «المسجد الحرام».

ومنها : «المعطشة» ذكرهما ابن خليل.

ومنها : «المكّتان» ذكره القيراطى فى ديوانه ، وذكر السهيلى ما يشهد له فى غير موضع.

ومنها : «النابية» بالنون والباء ، ذكره الشيخ عماد الدين بن كثير فى تفسيره

ومنها : «أم روح» ذكره ابن الأثير فى كتابه «المرصع».

ومنها : «أم الرحمن».

__________________

(١) هداية السالك ٢ / ٧٣٧ ، ومثير الغرام الساكن (ص : ٢٣٠) ، وسبل الهدى والرشاد ١ / ٢٢٥ ، وأخبار مكة للأزرقى ١ / ٢٧٩.

٢٣

ومنها : «أم كوثى» ذكرهما عبد الله بن عبد الملك المرجانى فى تاريخه للمدينة النبوية ، وعزا الأول لابن العربى ، وقال فيه ، بعد ذكره لأسماء مكّة : ومن الخواص ، قيل إذا كتب بالدم على الجبين : «مكّة وسط الدنيا ، والله رءوف بالعباد» انقطع الدم .. انتهى.

وقد اختلف فى «مكّة» و «بكة» هل هما بمعنيين ، أو بمعنى واحد؟ واختلف القائلون بالأول.

فقيل : بكة : بالباء : موضع البيت ، وبالميم : القرية.

وقيل : بالباء : موضع البيت ، وبالميم : الحرم كله (١).

وقيل غير ذلك ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) القرى (ص : ٦٥٠ ، ٦٥١) ، والأحكام السلطانية (ص : ١٥٧) ، وأخبار مكة للفاكهى ٢ / ٢٨٠ ـ ٢٨٢ ، وأخبار مكة للأزرقى ١ / ٢٧٩ ، والمناسك للحربى (ص : ٤٧٢) ، وتهذيب الأسماء واللغات ٣ / ١٥٦ ـ ١٥٧ ، والروض الأنف ٢ / ٢٢ ـ ٢٦ ، وسبل الهدى والرشاد ١ / ٥٢٢ ـ ٢٢٦.

٢٤

الباب الثالث

فى ذكر حرم مكة ، وسبب تحريمه ، وتحديده ،

وعلاماته ، وحدوده وما يتعلق بذلك من ضبط ألفاظ

فى حدوده ، ومعانى بعض أسمائها

حرم مكّة : ما أحاط بها ، وأطاف بها من جوانبها ، جعل الله ـ تعالى ـ حكمه حكمها فى الحرمة ، تشريفا لها ، أشار إلى ذلك الماوردى ، وابن خليل ، والنووى (١).

وسبب تحريمه ـ على ما قيل ـ : أن آدم ـ عليه‌السلام ـ خاف على نفسه حين أهبط إلى الأرض ، فبعث الله ـ تعالى ـ ملائكة لحراسته. فوقفت فى مواضع أنصاب الحرم من كل جانب ، فصار ما بين آدم وموقف الملائكة حرما ، وقيل غير ذلك فى سبب تحريمه (٢).

وللحرم علامات بينة ، وهى أنصاب مبنية من جميع جوانبه ، إلا من جهة الجعرانة ، وجدة ، فلا بناء فيهما.

والخليل ـ عليه‌السلام ـ أول من نصبها ، بدلالة جبريل عليه‌السلام ، ثم قصىّ بن كلاب ، ثم نصبتها قريش ، بعد أن نزعتها قبل هجرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمر عليه الصلاة والسلام بنصبها عام الفتح ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم معاوية ـ رضى الله عنهم ـ ، ثم عبد الملك بن مروان (٣).

هذا ما ذكره الأزرقى فيمن نصبها (٤).

وقيل : إن إسماعيل نصبها (٥).

__________________

(١) الأحكام السلطانية (ص : ١٥٧) ، وتهذيب الأسماء ق ٢ / ١٥٦.

(٢) أخبار مكة للفاكهى ٢ / ٢٧٤ ، وهذا الخبر مروى فى : مسند أحمد ١ / ٢٦٢ ، ٢٩١ ، والدارمى ٢ / ٤٢ ، وابن ماجة فى سننه ٢ / ٩٨٢ ، وابن خزيمة فى صحيحه ٤ / ٢٢٠ ، وابن حبان فى موارد الظمآن (ص : ٢٤٨).

(٣) أخبار مكة للفاكهى ٢ / ٢٧٣ ، وأخبار مكة للأزرقى ٢ / ٢٩ ، والاستيعاب لابن عبد البر ١ / ٨٠ وابن حجر فى الإصابة ١ / ٤٤ ـ ٤٥ ، والقرى (ص : ٦٥٢).

(٤) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ٢٩.

(٥) أخبار مكة للفاكهى ٥ / ٢٢٥.

٢٥

وقيل : إن عدنان بن أدد أول من نصبها. ونصبها المهدى العباسى.

وفى خلافة الراضى العباسى : عمّر العلمان الكبيران اللذان فى جهة التّنعيم ـ بالأرض لا الجبل ـ وذلك فى سنة خمس وعشرين وثلاثمائة (١).

وفى سنة ست عشرة وستمائة : عمر العلمان اللذان هما حدّ الحرم من جهة عرفة ، من قبل المظفر صاحب إربل.

وعمرا فى سنة ثلاث وثمانين وستمائة من قبل المظفر صاحب اليمن (٢).

وجميع حدود الحرم مختلف فيها ؛ لأن فى حدة من جهة الطائف على طريق عرفة من بطن «نمرة» (٣) أربعة أقوال :

نحو ثمانية عشر ميلا ، على ما ذكر أبو الوليد الباجى المالكى.

وأحد عشر ميلا على ما ذكره الأزرقى (٤) ، والفاكهى (٥) ، وابن خرداذبة الخراسانى فى كتابه «المسالك والممالك» (٦).

وتسعة أميال ـ بتقديم التاء ـ ذكره ابن أبى زيد المالكى فى «النوادر».

وسبعة ـ بتقديم السين ـ ذكره الماوردى والشيخ أبو إسحاق الشيرازى والنووى (٧).

وفيما قالوا نظر قوى ، يقتضى بعد استقامة قولهم ، كما سيأتى بيانه.

وذكر النووى : أن الأزرقى تفرد بما قاله فى ذلك.

__________________

(١) إتحاف الورى ٢ / ٣٨.

(٢) إتحاف الورى ٣ / ١١٧.

(٣) نمرة : بفتح أوله ، وكسر ثانيه : ناحية بعرفة نزل بها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : الحرم من طريق الطائف على طريق عرفة من نمرة على أحد عشر ميلا ، وقيل غير ذلك (معجم البلدان ٥ / ٣٠٤ ، ٣٠٥).

(٤) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ١٣١.

(٥) أخبار مكة للفاكهى ٢ / ٨٧.

(٦) المسالك والممالك (ص : ١٣٢).

(٧) الأحكام السلطانية (ص : ١٦٤ ، ١٦٥) ، وتهذيب الأسماء واللغات ج ٢ ق ٢ / ٨٢.

٢٦

ولم يتفرد به ، لموافقة الفاكهى ، وابن خرداذبة له عليه ، ولا أعلم له فى ذلك مخالفا قبل من ذكرنا ، والله أعلم.

وفى حدة من جهة العراق أربعة أقوال : سبعة أميال ـ بتقديم السين ـ ، وثمانية ، وعشرة ، وستة (١).

وفى حدة من جهة الجعرانة قولان : تسعة ـ بتقديم التاء ـ ، وبريد (٢).

وفى حدة من جهة التنعيم أربعة أقوال : ثلاثة ، ونحو أربعة ، وأربعة ، وخمسة (٣).

وفى حدة من جهة جدة قولان : عشرة ، ونحو ثمانية عشر ، على ما ذكره الباجى (٤).

وفى حدة من جهة اليمن قولان : سبعة ـ بتقديم السين ـ ، وستة ، على ما وجدت بخط المحب الطبرى فى كتابه «القرى» رأيته فى غير نسخة منه (٥).

ووقع لبعض الحنفية فى حدود الحرام ما يستغرب جدا ، وذلك مذكور فى أصله.

وقد اعتبرت مقدار الحرم من جهته المعروفة بحبل مقدر على ذراع اليد ، وهو المعتبر فى مسافة القصر ، على ما ذكره المحب الطبرى ، فنذكر ذلك ، وهو : أن من جدر باب المسجد الحرام ـ المعروف بباب بنى شيبة ـ إلى العلمين اللذين هما علامة حد الحرم فى جهة عرفة : سبعة ـ بتقديم السين ـ وثلاثين ألف ذراع ومائتى ذراع وعشرة أذرع وسبعى ذراع باليد. ومن عتبة باب المعلّاة إلى العلمين ـ المشار إليهما ـ : خمسة وثلاثون ألف ذراع وثلاثة وثمانون ذراعا وثلاثة أسباع ذراع بذراع اليد.

__________________

(١) المسالك والممالك (ص : ١٣٢) ، وأخبار مكة للأزرقى ٢ / ١٣١.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ١٣١.

(٣) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ١٣٠ ، ١٣١ ، والمسالك والممالك (ص : ١٣٢) ، والأحكام السلطانية (ص : ١٦٤).

(٤) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ١٣١ ، والأحكام السلطانية (ص : ١٦٥).

(٥) القرى (ص : ٦٥١) ، وأخبار مكة للأزرقى ٢ / ١٣١.

٢٧

وأما حد الحرم من جهة العراق : فإن من جدر باب بنى شيبة إلى العلمين اللذين بجادة طريق وادى نخلة : سبعة وعشرون ألف ذراع ومائة ذراع واثنين وخمسين ذراعا باليد.

ومن عتبة باب المعلّاة إلى العلمين المشار إليهما : خمسة وعشرون ألف ذراع وخمسة وعشرون ذراعا باليد.

وأما حد الحرم من جهة التنعيم : فإن من جدر باب المسجد الحرام ـ المعروف بباب العمرة ـ إلى أعلام الحرم فى هذه الجهة التى بالأرض ، لا التى بالجبل : اثنا عشر ألف ذراع وأربعمائة وعشرين ذراعا باليد.

ومن عتبة باب الشبيكة إلى الاعلام المشار إليها : عشرة آلاف ذراع وثمانمائة ذراع واثنى عشر ذراعا.

وأما حد الحرم من جهة اليمن : فإن من جدر باب المسجد الحرام ـ المعروف بباب إبراهيم ـ إلى علامة حد الحرم فى جهة الثمن : أربعة وعشرين ألف ذراع وخمسمائة ذراع وتسعة أذرع ـ بتقديم التاء ـ وأربعة أسباع ذراع.

ومن عتبة باب الماجن إلى حد الحرم فى هذه الجهة : اثنان وعشرون ألف ذراع وثمانمائة ذراع وستة وسبعون ذراعا ـ بتقديم السين ـ وأربعة أسباع ذراع.

وقال ابن خرداذبة : طول الحرم حول مكّة ـ كما يدور ـ : سبعة وثلاثثون ميلا ، وهى التى تدور بأنصاب الحرم .. انتهى.

وهى فائدة حسنة ، إن صحت ، والله أعلم.

و «نفار» المذكورة فى جهة التنعيم : بنون وفاء وألف وراء مهملة.

ووقع فى حد الحرم من جهة العراق : «خل» بخاء معجمة.

وقال النووى : فيه «جل» بجيم ، ولعله تصحيف.

ووقع فى حد الحرم «لبن» وهى بكسر اللام وإسكان الباء الموحدة ، وضبطها ابن خليل بفتح اللام والباء.

* * *

٢٨

الباب الرابع

فى ذكر شىء من الأحاديث والآثار الدالة على حرمة

مكّة وحرمها وشىء من الأحكام المختصة بذلك ،

وذكر شىء مما ورد فى تعظيم الناس لمكّة وحرمها ،

وفى تعظيم الذنب فى ذلك ، وفى فضل الحرم

روينا عن مجاهد قال : «إن هذا الحرم حرّم حذاؤه من السموات والأرضين السبع» أخرجه الأزرقى (١).

وروينا من حديث ابن عباس ، وأبى هريرة ، وأبى شريح الخزاعى ـ رضى الله عنهم ـ عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث تقتضى أن الله ـ عزوجل ـ حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ، وأنه لا يحل اختلاء خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفّر صيدها ، ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف (٢).

وهذه الأمور مما اختصت بها مكّة ، إلا أن الصحيح من مذهب مالك : أن لقطة مكّة كغيرها ، وإليه ذهب أبو حنيفة ، وأحمد.

ومن تنفير صيد مكة أن يصاح فينفر ، قاله المحب الطبرى.

ونقل عن عكرمة أنه قال لرجل : أتدرى ما تنفير صيدها؟ هو أن تنحيه من الظل ، وتنزل مكانه .. انتهى.

وإذا امتنع تنفير صيدها فيمتنع اصطياده من باب أولى.

والمدينة النبوية تشارك مكة فى تحريم صيدها ، ولكن لا جزاء فى صيد المدينة على مشهور المذهب (٣).

وأما مكة فلا خلاف فى وجوب الجزاء فى صيدها ، فتمتاز بذلك ، وبما سبق (٤) ، وبأن صلاة العيد تقام بمكة فى المسجد الحرام ، وفى غيرها تقام فى

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ١٢٤ ، ١٢٥.

(٢) أخرجه البخارى (١٥٨٧) ، ومسلم (الحح : ٤٤٥) ، والبيهقى فى الشعب (٤٠٠٧) ، وأبو يعلى (٦٩٢٨) ، وأبو داود (٢٠١٨) ، والنسائى (٢٨٧٤) ، والترمذى (١٥٩٠).

(٣) هداية السالك ٣ / ١٤٠٣. (٤) القرى (ص : ٢١٩ ، ٢٢٠).

٢٩

الصحراء ، وبأن الإنسان يؤاخذ بهمّه بالسيئة فيها ، وأن كان نائيا عنها ، كما هو مقتضى حديث ابن مسعود فى مسند ابن حنبل وغيره.

وتمتاز عند الشافعى وطائفة من العلماء بتضاعف الصلاة فيها على غيرها (١) ، وبعدم كراهية صلاة النافلة فيها فى وقت الكراهة وغير ذلك.

ومما تمتاز به : تضاعف السيئة بها عند مجاهد وابن حنبل ، والصحيح خلافه (٢).

ولمكّة أحكام أخر تخصها ، وأحكام أخر تشاركها فيها المدينة ، وقد استوفينا ذلك كله فى أصله.

وحرم مكّة فيما ذكر مساو لها ، ويستثنى من نباته : الإذخر والسنا ، والإذخر فى الحديث ، والسنا مقيس عليه ؛ للحاجة إليه فى الدواء ، نص عليه فى «المدونة» و «الموازية».

ويستثنى من عضد شجر الحرم : العصا والعصاتين ، فإن مالكا أرخص فى ذلك.

وأما تعظيم الناس لمكّة وحرمها : ففى الأزرقى من ذلك أخبار.

منها : أن الرجل كان يلقى قاتل أبيه وأخيه فى الكعبة ، أو فى الحرم ، فى الشهر الحرام ، فلا يعرض له.

ومنها : أن احتكار الطعام بها للبيع إلحاد ، وهذا يروى عن عمر وابنه.

ومنها : ما يروى عن عمر رضى الله عنه : لأن أخطىء سبعين خطيئة بركبة أحبّ إلىّ من أن أخطىء خطيئة واحدة بمكة (٣).

__________________

(١) صحيح مسلم ٣ / ٤٧٦ ، وأحمد فى مسنده ٢ / ٢٩ ، ١٥٥ ، وأبو يعلى (٥٧٦٠) ، وابن ماجه (١٤٠٥) ، والقرى (ص : ٦٥٦) ، وهداية المسالك ٣ / ١٣٨٧.

(٢) القرى (ص : ٦٥٨).

(٣) أخرجه : عبد الرازق فى مصنفه ٥ / ٢٨ ، وأخبار مكة للفاكهى ٢ / ٢٢٥٦. وركبة : أرض تبعد عن مكة ب (١٦٠) كم. (انظر : معجم البلدان ٣ / ٦٣ ، ومعجم معالم الحجاز ٤ / ٦٨).

٣٠

ومنها : أن الشيخ أبا عمرو الزجاجى ـ أحد كبار مشايخ الصوفية ـ أقام بمكّة أربعين سنة لم يبل ولم يتغوط فى الحرم.

وجاء فى النجاة من الذنب بالالتجاء إلى الحرم حديث لجابر فى نجاة أبى رغال والد ثقيف ، مما أصاب قوم ثمود لعقرهم الناقة ، فلما خرج من الحرم أصيب ، وهذا الحديث فى مسلم وغيره.

* * *

٣١
٣٢

الباب الخامس

فى الأحاديث الدالة على أن مكّة المشرفة أفضل من

غيرها من البلاد ، وأن الصلاة فيها أفضل من غيرها ،

وغير ذلك من فضلها

أما الأخبار الواردة فى تفضيل مكّة : فإن منها ما روينا عن عبد الله بن عدى بن الحمراء رضى الله عنه : أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو على راحلته بالحزورة بمكّة ـ يقول لمكّة : «والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلىّ ، ولو لا أنى أخرجت منك ما خرجت» أخرجه الترمذى (١) ، وحسنه.

وأخرجه ابن حبان فى صحيحه (٢).

وروينا نحوه من حديث أبى هريرة : ففى سنن النسائى (٣) ، وأنكر صحته الحافظ أبو الفضل ابن حجر ـ صاحبنا ـ وبرهن على ذلك ، وذكرنا برهانه فى الأصل.

وحديث ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : فى الترمذى ، وقال : حسن صحيح غريب.

وحديث عبد الله بن عمرو ـ رضى الله عنهما ـ : فى كتاب الفاكهى بإسناد فيه من لم أعرفه.

و «الحزورة» (٤) مخففة على وزن قسورة.

وأما الأحاديث الواردة فى تفضيل الصلاة فى المسجد الحرام على غيره من المساجد فعدة أحاديث ، ومن أصحها حديثان : حديث جابر بن عبد الله الأنصارى (٥) ، وحديث عبد الله بن الزّبير رضى الله عنهم.

__________________

(١) أخرجه : الترمذي (٣٩٢٥) ، وأحمد فى مسنده ٤ / ٣٠٥ ، وابن ماجه (٣١٠٨) ، وابن حبان (٣٧٠٨) ، والحاكم فى المستدرك ٣ / ٤٣١ ، والأزرقى فى أخبار مكة ٢ / ١٥٤ ، وعبد الرازق فى مصنفه (٨٨٦٨).

(٢) صحيح ابن حبان (٣٧٠٨).

(٣) لم نجده فى سنن النسائى ولا عزاه له فى جامع الأصول ٩ / ٢٢٩٢.

(٤) الحزورة : سوق مكّة آنذاك. ذكر فى نور النبراس : وقد دخلت الحزورة فى المسجد لما زيد فيه ، والحزورة : هى الرابية الصغيرة.

(٥) أحمد ٣ / ٣٩٧ ، وابن ماجه (١٤٠٦).

٣٣

وحديث جابر فى ابن ماجه بإسناد صحيح ، وفى مسند أحمد.

وحديث ابن الزّبير فى مسند الطيالسي ، وفيه : «أن الصلاة فى المسجد الحرام تفضل على الصلاة فى غيره بمائة ألف» (١) وفى بعض طرقه «تفضل بمائة صلاة» وفى بعضها «بألف صلاة».

وحديث جابر كحديث ابن الزّبير الذى فى الطيالسى.

وحديث ابن الزّبير فى صحيح ابن حبان ، وصححه ابن عبد البر ، وقال : إنه الحجة عند التنازع (٢).

وقد حسب النقاش المفسر فضل الصلاة فى المسجد الحرام : على مقتضى تفضيل الصلاة فيه على غيره بمائة ألف ، فبلغت عمر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة ، وصلاة يوم وليلة ـ وهى خمس صلوات فى المسجد الحرام ـ عمر مائتى سنة وسبع وسبعين سنة وتسعة أشهر وعشر ليال .. انتهى.

وهذا الفضل يعم الفرض والنفل بمكّة ، كما هو مذهب الشافعى ، ويختص بالفرض على مشهور المذهب.

ولا يسقط هذا التضاعف شيئا من الفوائت ، كما يتخيله كثير من الجّهال ، نبه على ذلك النووى.

وللعلماء خلاف فى المسجد الحرام : هل المراد به مسجد الجماعة الذى يحرم على الجنب الإقامة فيه ، أو المراد به الحرم كله ، أو الكعبة؟

ذكر هذه الأقوال المحب الطبرى (٣).

وجاء فى حديث فى تفضيل الصوم بمكّة على غيرها من البلاد ، رويناه فى سنن ابن ماجه وغيرها بإسناد غير ثابت من حديث ابن عباس ـ رضى الله عنهما.

__________________

(١) أخرجه : مسلم ٤ / ١٢٥ ، والنسائى ٥ / ٢١٣ ، وابن ماجه (١٤٠٥).

(٢) هداية السالك ١ / ٤٦ ، وموارد الظمآن (ص : ٢٥٤) ، وأحمد ٤ / ٥ ، ورواه ابن خزيمة أيضا ، والبزار بنحوه ، وإسناده صحيح أيضا (الترغيب ٢ / ٢١٤).

(٣) القرى (ص : ٦٥٧).

٣٤

ورويناه من حديثه عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حج من مكّة ماشيا حتى يرجع إليها ؛ كتب الله له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم». فقال بعضهم لابن عباس : وما حسنات الحرم؟ قال : كل حسنة بمائة ألف حسنة. أخرجه الحاكم ، وصحح إسناده (١).

وروى عن الحسن البصرى أنه قال : صوم يوم بمكّة بمائة ألف يوم ، وصدقة درهم بمائة ألف ، وكل حسنة بمائة ألف (٢) .. انتهى.

وقال المحب الطبرى : إن فيما تقدم من أحاديث مضاعفة الصلاة والصوم بمكّة دليلا على اطراد التضعيف فى جميع الحسنات ، إلحاقا بهما ، قال : ويؤيد ذلك قول الحسن (٣) .. انتهى.

* * *

__________________

(١) أخرجه البيهقى فى الشعب (٣٩٨١) ، وفى السنن ٣ / ٣٣١ ، والحاكم فى المستدرك (١٦٩٢) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبى : ليس بصحيح ، وأخشى أن يكون كذبا.

(٢) فضائل مكة للحسن البصرى (ص : ٢١) ، ومثير الغرام الساكن (ص : ٢٣٥).

(٣) القرى (ص : ٦٥٨).

٣٥
٣٦

الباب السادس

فى المجاورة بمكة ، والموت فيها ، وشىء من فضل أهلها ،

وفضل جدة ساحل مكة ، وشىء من خبرها ، وفضل

الطائف وشىء من خبره

اختلف العلماء فى استحباب المجاورة بمكّة.

فذهب إلى استحبابها : الشافعى ، وأحمد ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ـ صاحبا أبى حنيفة ـ وابن القاسم صاحب مالك ، فيما نقله عنه ابن الحاج.

وذهب أبو حنيفة إلى عدم استحبابها (١).

وفهم ذلك ابن رشد من كلام وقع لمالك ؛ وذلك لخوف الملل ، وقلة الاحترام لمداومة الأنس بالمكان ، وخوف ارتكاب ذنب هنالك.

وذكر النووى فى «الإيضاح» : أن المختار استحباب المجاورة بمكة .. انتهى.

وأما الموت بمكّة :فروى من حديث ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من مات بمكّة فكأنما مات بسماء الدنيا» (٢). وإسناده ضعيف.

وروى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مرسلا ـ أنه قال : «من مات بمكّة بعثه الله فى الآمنين يوم القيامة» (٣).

أما فضل أهل مكّة : فروينا من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عتّاب بن أسيد على مكّة ، فقال له : «هل تدرى إلى من أبعثك؟ أبعثك إلى أهل الله». أخرجه الزّبير بن بكّار فى كتاب «النسب» والفاكهى. ورواه الأزرقى مرسلا ، وزاد فيه : «فاستوص بهم خيرا» يقولها ثلاثا (٤).

__________________

(١) القرى (ص : ٦٦٠ ، ٦٦١) ، وهداية السالك ١ / ٢٦.

(٢) أخرجه : ابن عدى فى الكامل ٥ / ١٩٩٢.

(٣) أخرجه : الهيثمى فى مجمع الزوائد ٢ / ٣١٩ ، وعزاه للطبرانى فى الصغير والأوسط ، وفيه عبد الله بن المؤمل ، وثقه ابن حبان وغيره ، وضعفه أحمد وغيره.

(٤) أخرجه : البيهقى فى السنن ٥ / ٣٣٩ ـ ٤٠٠ من طريق : العباس بن الوليد بن مزيد ، عن أبيه ، عن الأوزاعى ، عن عمرو بن شعيب ، والأزرقى ٢ / ١٥٢ ـ ١٥٣ ، والفاكهى ٣ / ٦٤.

٣٧

ووجدت بخط بعض أصحابنا ـ فيما نقله من خط الشيخ أبى العباس الميورقى ـ وزاد : «إن سفهاء مكة حشو الجنة».

واتفق بين عالمين فى الحرم منازعة فى تأويل الحديث وسنده ، فأصبح الذى طعن فى الحديث ومعناه : قد طعن أنفه واعوج ، وقيل له : إى والله ، سفهاء مكّة من أهل الجنة ، سفهاء مكة من أهل الجنة ، فأدركه روع ، وخرج إلى الذى يكابره فى الحديث من علماء عصره ، وأقر على نفسه بالكلام فيما لا يعنيه ، وفيما لم يحط به خبرا (١) .. انتهى.

وأما فضل جدة :

فيروى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «مكّة رباط ، وجدة جهاد» (٢) ، إسناده ضعيف.

وعن عباد بن كثير : أنه قال : إن الصلاة فيها بسبعة عشر ألف ألف صلاة ، والدرهم فيها بمائة ألف درهم ، وأعمالها بقدر ذلك ، يغفر للناظر فيها مد بصره مما يلى البحر (٣). ذكرها الفاكهى بسنده.

وذكر ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن فيها قبر حواء.

ونقل ابن جبير : أن بجدة موضعا يقال : إنه الموضع الذى نزلت فيه حواء.

وأما فضل الطائف :

فروينا عن الزّبير بن العوام رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن صيد وجّ وعضاهه حرم محرم».

__________________

(١) لم يذكر له سندا حتى ينظر فى رجاله ، ونقله لهذه الحكاية التى جرت بين العالمين لا تدل على صحة الحديث ، بل الظاهر خلاف ذلك ؛ لأن المعصية تعظم بعظم الزمان والمكان ، ولذلك رغب كثير من الأئمة عن الإقامة فى مكة ، خوف اقتراف الذنوب فيها ، فلو كانوا يعلمون أن سفهاء مكة حشو الجنة ما كرهوا الإقامة فيها ، مع أنهم أقرب للتقوى من المتأخرين ، والله أعلم

(٢) أخرجه الفاكهى فى أخبار مكة ٣ / ٥٢ ، وقال عنه محققه : إن إسناده ضعيف لأن فيه : سليم بن مسلم ، هو : الطائفى ، سيىء الحفظ ، والمثنى بن الصباح : ضعيف (التقريب ٣ / ٢٢٨).

(٣) أخبار مكة للفاكهى ٣ / ٥٣ ،

٣٨

أخرجه أحمد وأبو داود (١). وإسناده ضعيف على ما قال النووى.

ونقل عن الحازمى أن «وجّا» اسم لحصون الطائف. وقيل : لواحد منها .. انتهى.

ومذهب الشافعى رحمه‌الله تعالى : تحريم صيد «وج» ، ونفى الضمان فيه ، ولا أعلم فى تحريمه نصّا فى المذهب ، والله تعالى أعلم.

* * *

__________________

(١) أخرجه : أحمد ١ / ١٦٥ ، وأبو داود ٢ / ٢٩٠ ، والفاكهى فى أخبار مكة ٥ / ٩٩ ، والحديث إسناده حسن ، ووج : واد من أودية الطائف يسمى أعلاه المخاضة ، ووسطه المثناة ، وأسفله العرج (معجم معالم الحجاز ٩ / ١٢١).

٣٩
٤٠