الزهور المقتطفة من تاريخ مكّة المشرّفة

تقي الدين محمّد بن أحمد الحسني الفاسي المكّي

الزهور المقتطفة من تاريخ مكّة المشرّفة

المؤلف:

تقي الدين محمّد بن أحمد الحسني الفاسي المكّي


المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٧

الباب السابع والعشرون

فى ذكر شىء من خبرها جرأم إسماعيل عليه‌السلام ،

وذكر أسماء أولاد إسماعيل ، وفوائد تتعلق بهم ،

وذكر شىء من خبر بنى إسماعيل ، وذكر ولاية

نابت بن إسماعيل للبيت الحرام

أما هاجر :فقال ابن هشام ـ بعد أن ذكر أن قبرها وقبر ابنها إسماعيل فى الحجر عند الكعبة : تقول العرب : هاجر وآجر ، فيبدلون الألف من الهاء ، كما قالوا : هراق الماء ، وأراق الماء ، وغيره.

وهاجر من أهل مصر.

وقال السهيلى : وهاجر أول امرأة ثقبت أذناها ، وأول من خفض من النساء ، وأول من جرت ذيلها ؛ وذلك : أن سارة غضبت عليها ، فحلفت أن تقطع ثلاثة أعضاء من أعضائها ، فأمرها إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أن تبر قسمها بثقب أذنيها ، وخفاضها ؛ فصارت سنة فى النساء.

وكانت هاجر أمة لبعض الملوك ، فوهبها لسارة زوج الخليل ، وهى ابنة عمه ، فوهبتها للخليل ، فولدت له إسماعيل ، وشجر بين سارة وهاجر أمر ، وساء بينهما ، فحمل الخليل هاجر مع ابنها إلى مكّة على ما سبق (١).

وذكر الفاكهى عن بعضهم أنه أوحى إليها ، وهذا غريب (٢) ، والله أعلم بصحته.

وسنّ للمحرم السعى بين الصفا والمروة ؛ لسعى هاجر بينهما لما طلبت الماء لابنها حين اشتد به الظمأ ، وخبرها فى ذلك عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ فى صحيح البخارى (٣).

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ١ / ١٠٢.

(٢) أخبار مكّة للفاكهى ٥ / ١٣٢.

(٣) صحيح البخارى ٦ / ٢٨٢ ـ ٢٨٦.

١٤١

وأما أولاد إسماعيل عليه‌السلام : فقال ابن هشام : حدثنا زياد بن عبد الله البكائى ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ولد إسماعيل بن إبراهيم اثنى عشر رجلا : نابتا ـ وكان أكبرهم ـ ، وقيدار ، وأربل ، ومشا ، وصمعا ، وماشى ، وذما ، وآزر ، وطسما ، وبطور ، ونيشا ، وقيدما ، وأمهم بنت مضاض بن عمرو الجرهمى (١) .. انتهى.

وذكر الأزرقى والفاكهى وغير هما فى أسماء أولاد أسماعيل ما يخالف هذا ، وذكرنا ذلك مع فوائد تتعلق بمعانى بعض أسمائهم وضبطها ، وغير ذلك فى أصل هذا الكتاب (٢).

وأما خبر بنى إسماعيل عليه‌السلام : فمنه : أن بنى إسماعيل والعماليق من سكان مكة ، ضاقت عليهم البلاد ، فتفسحوا فى البلاد والتمسوا المعاش ، فخلف الخلوف بعد الخلوف ، وتبدلوا بدين إسماعيل وغيره ، وسلخوا إلى عبادة الأوثان ، فيزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة فى بنى إسماعيل أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتملوا معهم من حجارة الحرم تعظيما للحرم وصيانة لمكّة والكعبة ، حيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة ، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة ، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتمسكون بها من تعظيم البيت والطواف به ، والحج والعمرة ، والوقوف على عرفة والمزدلفة ، وهدى البدن ؛ مع إدخالهم فيه ما ليس منه.

وكان أول من غير دين إسماعيل : عمرو بن لحى ، وهذا الذى ذكرناه فى خبر بنى إسماعيل ذكره ابن إسحاق (٣).

وإلياس بن مضر : هو الذى رد بنى إسماعيل إلى سنن آبائهم حتى رجعت سننهم تامة على أولها. ذكر ذلك الزّبير بن بكّار.

وأما ولاية نابت بن إسماعيل للبيت الحرام : فذكرها ابن إسحاق ، وقال : وليه ما شاء الله أن يليه (٤).

__________________

(١) السيرة لابن هشام ١ / ١٥.

(٢) انظر المطبوع من الشفا ٢ / ٢٩ ، وأخبار مكّة للأزرقى ١ / ٨١ ، وأخبار مكّة للفاكهى ٥ / ١٣٣.

(٣) أخبار مكّة للفاكهى ٥ / ١٣٤ ، ١٣٥.

(٤) أخبار مكّة للأزرقى ١ / ٨١.

١٤٢

الباب الثامن والعشرون

فى ذكر ولاية إياد بن نزار بن معد بن عدنان للكعبة ،

وشىء من خبره وذكر ولاية بنى إياد بن نزار الكعبة ،

وشىء من خبرهم ، وخبر مضر ، ومن ولى الكعبة

من مضر قبل قريش

أما ولاية إياد :فقال الزّبير بن بكّار : حدثنا عمر بن أبى بكر الموصلى ، عن غير واحد من أهل العلم بالنسب ، قالوا : لما حضرت نزار الوفاة آثر إيادا بولاية الكعبة ، وأعطى مضر ناقة حمراء ؛ فسميت : مضر الحمراء ، وأعطى ربيعة الفرس فرسه ؛ فسمى : ربيعة الفرس ، وأعطى أنمار جارية تسمى بجيلة ، فحضنت بنيه ؛ فسموا : بجيلة أنمار (١).

ويقال : أعطى إيادا عصاه وحلّته.

ورأيت لإياد بن نزار وإخوته ـ المشار إليهم ـ خبرا يستظرف فى ذكائهم ومعرفتهم بما أخبروا به من صفة البعير الذى سئلوا عنه مع كونهم لم يروه ، وغير ذلك.

وأما ولاية بنى إياد بن نزار الكعبة : فذكر الفاكهى فيها خبرا طويلا ، فيه : ثم وليت حجابة البيت إياد ، وكان أمر البيت إلى رجل منهم يقال له : وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد. ثم قال ـ بعد أن ذكر شيئا من خبره ـ : ثم إن مضر أديلت بعد إياد ، وكان أول من ديل منهم : عدوان وفهم ، وأن رجلا من رياد ورجلا من مضر خرجا يتصيدان ، فمرت بهما أرنب ، فاكتنفاها يرميانها ، فرماها الإيادى ، فزل سهمه ، فنظم قلب المضرى فقتله.

فبلغ الخبر مضر ، فاستغاثت بفهم وعدوان يطلبون لهم قود صاحبهم ، فقالوا : إنما أخطأه ، فأبت فهم وعدوان إلا قتله ، فتناوش الناس بينهم بالمدور ـ

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ٢ / ٢٩ ، وتاريخ الطبرى ٢ / ٢٦٨ ، والميدانى فى مجمع الأمثال ١ / ١٦.

١٤٣

وهو مكان ـ ، فسمت مضر من إياد ظفرا ، فقالت لهم إياد : أجلونا ثلاثا ، فلن نساكنكم أرضكم ، فأجلوهم ثلاثا ، فظعنوا قبل المشرق ؛ وكانوا حسدوا مضر على ولاية الركن الأسود فدفنوه ، بعد أن لم يحملوه على شىء إلا رزح.

وافتقدت مضر الركن بعد يومين ، فعظم فى نفسها ، ثم تخلوا عن حجابة البيت لخزاعة على أن يدلوهم على الركن ، فدلوهم عليه ؛ لأن امرأة من خزاعة نظرت بنى إياد حين دفنوه ، وأعادوه فى مكانه .. انتهى بالمعنى فى كثير منه.

وممن ولى الكعبة من مضر : أسد بن خزيمة بن مدركة جد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

***

__________________

(١) أخبار مكّة للفاكهى ٥ / ١٤٥ ـ ١٤٧ ، ومروج الذهب ٢ / ٥١.

١٤٤

الباب التاسع والعشرون

فى ذكر من ولى الإجازة بالناس من عرفة ومزدلفة

ومنى من العرب فى ولاية جرهم ، وفى ولاية خزاعة

وقريش على مكة

قال ابن إسحاق : وكان الغوث (١) بن مدين ـ أو ابن طابخة ـ بن إلياس بن مضر ، يلى الإجازة للناس بالحج من عرفة ، وولده من بعده ، وكان يقال له ولوالده : صوفه.

ثم قال ابن إسحاق : فإذا فرغوا من رمى الجمار فأرادوا النّفر من منى :أخذت صوفة بجانبى العقبة ، فحبسوا الناس ، وقالوا : أجيزوا بنى صوفة ، فلم يجز أحد من الناس حتى يمروا ؛ فإذا نفدت صوفة ومضت خلى سبيل الناس ، فانطلقوا بعدهم ؛ فكانوا كذلك حتى انقرضوا ، فورثهم ذلك من بعدهم بالتعدد : بنو سعد بن زيد مناة بن تميم ، وكان من بنى سعد : فى آل صفوان بن الحارث بن شحنة.

قال ابن إسحاق : فكان صفوان هو الذى يجيز الناس بالحج من عرفة ، ثم بنوه من بعده ، حتى كان آخرهم الذى قام عليه الإسلام : كرز بن صفوان.

وذكر ابن هشام : أن الإفاضة من المزدلفة : كانت فى عدوان ؛ فيما حدثنى زياد بن عبد الله عن محمد بن إسحاق : يتوارثون ذلك كابرا عن كابر ، حتى كان آخرهم الذى قام عليه الإسلام أبو سيارة عميرة بن الأعزل .. انتهى باختصار.

وذكر الفاكهى خبرا يقتضى أن أبا سيارة من بنى عبد بن معيص بن عامر بن لؤى ، وقيس أخواله.

وذكر أيضا ما يقتضى أن الإجازة صارت من صوفة إلى عدوان ؛ وهذا مع ما قبله يخالفان ما سبق ، والمعروف ما سبق (٢) ، والله أعلم.

__________________

(١) فى أصل الكتاب" العون" والصحيح ما أئبتناه.

(٢) تهذيب سيرة ابن هشام (ص : ١٨).

١٤٥

وذكرنا فى أصله فوائد تتعلق بهذه الأخبار (١) ، منها : أن الناس إذا نفروا من منى فأجازوا إلى الأبطح ؛ اجتمعت كندة إلى بنى بكر بن وائل ، فأجازوا بهم حتى يبلغوا البيت. ذكر الفاكهى ، وهو غريب (٢).

***

__________________

(١) انظر فى ذلك : الروض الأنف ١ / ١٤٣ ـ ١٤٦ ، وأخبار مكة للأزرقى ١ / ١٨٦ ـ ١٨٨ ، وتهذيب سيرة ابن هشام (ص : ١٨).

(٢) أخبار مكة للفاكهى ٥ / ٢٠٣ ، ٢٠٤.

١٤٦

الباب الثلاثون

فى ذكر من ولى إنساء الشهور من العرب

بمكة ، وذكر صفة الإنساء ، وذكر الحمس ،

والحلة ، والطلس

اختلفت الأخبار فى أول من أنسأ ؛ ففى بعضها : أنه مالك بن كنانة. وهذا فى تاريخ الأزرقى (١).

وفى بعضها : أنه القلمّس ؛ وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدى بن عامر ابن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة. وهذا فى السيرة لابن إسحاق «تهذيب ابن هشام».

وفى بعضها غير ذلك (٢).

وآخر من أنسأ : أبو ثمامة جنادة بن عوف ، وقيل : إنه أنسأ أربعين سنة (٣) ، والله أعلم.

وأما صفة الإنساء : فذكره الأزرقى مطولا ، والسهيلى مختصرا مفيدا ؛ لأنه قال : وأما نسؤهم الشهر الحرام : فكان على ضربين : أحدهما : ما ذكره ابن إسحاق من تأخير شهر المحرم إلى صفر ؛ لحاجتهم إلى شن الغارات ، وطلب الثأر.

والثانى : تأخيرهم الحج عن وقته ؛ تحريا منهم للسنة الشمسية ؛ فكانوا يؤخرونه فى كل عام أحد عشر يوما أو أكثر قليلا حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة ، فيعود إلى وقته (٤) .. انتهى.

وفى الأزرقى ما يقتضى أن الحج يستدير فى كل أربع وعشرين سنة (٥) ، والله أعلم.

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ١٨٢.

(٢) السيرة لابن هشام ١ / ٦٣ ، وأخبار مكة للفاكهى ٥ / ٢٠٤.

(٣) أخبار مكة للفاكهى ٥ / ٢٠٥.

(٤) الروض الأنف ١ / ١٦٤.

(٥) أخبار مكة للأزرقى ١ / ١٨٣ ، والأمالى لأبى على القالى ١ / ٤.

١٤٧

وأما الحمس :فروى الزّبير بسنده إلى مجاهد ، قال : الحمس : قريش ، وبنو عامر بن صعصعة ، وثقيف ، وخزاعة ، ومدلج ، وعدوان ، والحارث بن عبد مناة. وعضل أتباع قريش ، وسائر العرب : الحلّة.

وفى تاريخ الأزرقى ما يقتضى : أن من الحمس ناسا غير هؤلاء. وذلك مذكور فى أصله.

واختلف فى سبب تسميتهم بالحمس ؛ فقيل : سموا بالكعبة ؛ لأنها حمساء ، حجرها أبيض يضرب إلى السواد.

وقيل : لشدتهم فى دينهم.

وقيل : لشجاعتهم (١) ، والله أعلم.

وكان للحمس سيرة ؛ منها : أنهم لا يقفون إلا بالمزدلفة ، ولا يطوفون بالبيت عراة.

فكانت الحلّة تقف بعرفة مع وقوفها بالمزدلفة ، وتطوف بالبيت عراة. وقد ذكرنا من سيرتهم الباطلة غير هذا.

وأما الطّلس : فقوم كانوا يأتون من أقصى اليمن طلسا من الغبار ، فيطوفون بالبيت فى تلك الثياب الطلس ؛ فسموا بذلك. ذكره محمد بن حبيب فيما نقله عنه السهيلى (٢).

***

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ١٧٥ ، والروض الأنف ١ / ٢٢٩ ـ ٢٣١.

(٢) الروض الأنف ١ / ٢٣١.

١٤٨

الباب الحادى والثلاثون

فى ذكرى شىء من خبر خزاعة ولاة مكة فى الجاهلية

ونسبهم ، ومدة ولايتهم لمكة ، وأول ملوكهم لها ،

وغير ذلك من خبرهم ، وشىء من خبر عمرو بن عامر ماء

السماء الذى تنسب إليه خزاعة على ما قيل ، وشىء من

خبر بنيه وغير ذلك

أما نسب خزاعة :فمنهم من ولد قمعة بن إلياس بن نضر بن نزار بن معد بن عدنان ؛ هكذا قال جماعة من أهل العلم بالنسب ، منهم : ابن حزم ، واحتج لذلك بأحاديث تقوم بها الحجة.

وقيل : إنهم من ولد الصلت بن النضر بن كنانة. ذكر هذا القول ابن قتيبة (١).

وقيل : إنهم من قحطان ؛ وخزاعة تقول ذلك ؛ لأن ابن هشام قال : وتقول خزاعة : نحن بنو عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسد بن الغوث ، وخندف أمنا فيما حدثنى أبو عبيدة وغيره من أهل العلم.

ويقال : خزاعة بنو حارثة بن عمرو بن عامر.

وإنما سميت خزاعة ؛ لأنهم تخزعوا من ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام ، فنزلوا بمر الظهران ، فأقاموا بها .. انتهى.

وإذا كانت خزاعة من مضر فلا تظهر تسميتها بخزاعة معنى ، وإذا كانوا من قحطان ؛ فذلك لانخزاعهم عن قومهم بمكة.

والانخزاع : هو المفارقة ؛ وفى ذلك يقول القائل :

فلما هبطنا بطن مرّ تخزّعت

خزاعة منا فى حلول كراكر (٢)

وأما ولاية خزاعة لمكّة : فسبق فى باب أخبار جرهم ـ وهو الباب الخامس

__________________

(١) المعارف لابن قتيبة (ص : ٦٥ ، ٦٧).

(٢) جمهرة أنساب العرب (ص : ٢٣٤ ، ٢٣٥).

١٤٩

والعشرون ـ أن بنى بكر بن عبد مناة وغبشان من خزاعة قاتلوا جرهما وأخرجوهم من مكّة ؛ وهذا يقتضى : أنهم وليوا البيت ومكة بالقوة.

وسبق فى الباب الثامن والعشرون أن سبب ولايتهم للبيت : إعلامهم لمضر بموضع الحجر الأسود لما دفنته بنو إياد.

وفى الخبر الذى فيه ذلك : ووليت خزاعة عند ذلك البيت ، ولم يبرح فى أيديهم حتى قدم قصىّ ، فكان أمره ما كان. وهذا يخالف ما سبق فى سبب ولايتهم ، والله أعلم.

وذكر ابن إسحاق ما يقتضى أن غبشان ـ من خزاعة ـ انفردت بولاية البيت دون بكر بن عبد مناة.

ولم تزل خزاعة تلى البيت كابرا عن كابر حتى كان آخرهم حليل بن حبشية.

وأما مدة ولاية خزاعة لمكّة : فروينا عن ابن إسحاق وابن جريج ، قالا :قامت خزاعة على ما كانت عليه من ولاية البيت والحكم بمكّة ثلثمائة سنة.

وروينا عن أبى صالح ، قال : وكان عمرو بن لحى يلى البيت وولده من بعده خمسمائة سنة ، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول ، وكانوا هم حجّابه ، وخزّانه ، والقوّام به ، وولاة الحكم بمكّة (١) .. انتهى باختصار.

وعمرو بن لحى ـ المذكور فى هذا الخبر : هو عمرو بن لحى ؛ واسمه : ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر. كذا فى الخبر الذى فيه ذلك.

وأما أول من ولى البيت ومكة :ففى بعض الأخبار : أنه عمرو بن لحى ، المذكور.

وفى بعضها : أنه أبوه ربيعة.

وفى بعضها : أنه عمرو بن الحارث الغبشانى ، والله أعلم.

وأما آخر من ولى ذلك من خزاعة :فحليل بن حبشية. كما سبق (٢).

__________________

(١) أخبار مكّة للأزرقى ١ / ١٠٢.

(٢) أخبار مكّة للفاكهى ٥ / ١٥٨.

١٥٠

وذكر الزبير ما يقتضى أن حليلا جعل إلى أبى غبشان فتح البيت وإغلاقه ، وأن قصيّا اشترى ولاية البيت من أبى غبشان بزق خمر أو قعود ، وقيل : بكبش وزق خمر ؛ فقال الناس : أخسر من صفقة أبى غبشان ، فصارت مثلا (١).

وأما خبر عمرو بن عامر ـ الذى تنسب إليه خزاعة على ما قيل ـ وخبر بنيه :فمنه : أنه كان يقال له : مزيقيا ؛ لأنه كان يلبس فى كل يوم حلّتين ، ثم يمزقهما لئلا يلبسهما غيره ، وكان ملك مأرب ـ وهى بلاد سبأ المذكورة فى القرآن العظيم ـ ثم تحول منها بعد أن باع أمواله بها ، لما أخبرته به طريفة الكاهنة من خرابها بسيل العرم.

وكان تحوله عنها بولده وولد ولده ، وساروا حتى نزلوا بلاد عك ، وكان بينهم وبين عك حروب ، ثم رحلوا عنها ، فتفرقوا فى البلاد على ما ذكر ابن هشام (٢).

وفى بعض الأخبار ما يقتضى أن تفرقهم كان بمكّة لما أصابهم من الحمى ، والله أعلم.

وخبر عمرو بن عامر وبنيه وخبر خزاعة أكثر من هذا (٣).

***

__________________

(١) أخبار مكّة للفاكهى ٥ / ١٥٩ ، ١٦٠ ، ومجمع الأمثال للميدانى رقم (١١٦٧).

(٢) تهذيب سيرة ابن هشام (ص : ٢٤٣ ، ٢٤٤).

(٣) ينظر فى هذا : أخبار مكّة للفاكهى ٥ / ١٥٨ ـ ١٦٢ ، والكامل لابن الأثير ٢ / ٢٨ ، وأخبار مكّة للأزرقى ١ / ٩٥ وما بعدها.

١٥١
١٥٢

الباب الثانى والثلاثون

فى ذكر شىء من أخبار قريش بمكّة فى الجاهلية ،

وشىء من فضلهم ، وما وصفوا به ، وبيان نسبهم وسبب

تسميتهم بقريش ، وابتداء ولايتهم الكعبة وأمر مكّة

أما فضلهم : فمنه : قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ...» الحديث (١).

وهو فى مسلم من رواية واثلة بن الأسقع ، عنه.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن هذا الأمر فى قريش ، ولا يعاديهم أحد إلا كبه الله تعالى على وجهه ، ما أقاموا الدين». وهذا فى صحيح البخارى (٢).

وأما ما وصفت به بطون قريش فإن بعضهم يعرف (بقريش البطاح) ؛ وهم (بنو كعب بن لؤى) ؛ لأن قريشا حين قسموا بلادهم أصابت كعب الأباطح.

وبعضهم يعرف بقريش (الظواهر) ؛ وهم : محارب والحارث ابنا فهر ، وبنو عامر بن لؤى ، والأدرم بن غالب. وبقية قريش ؛ إلا أن الحارث بن فهر دخل مكة فهى من البطاح.

وبعضهم يعرف (بقريش العاربة) ؛ وهم : ولد سامة بن لؤى بن غالب بن فهر.

وبعضهم يعرف (بقريش العائدة) ؛ وهم : بنو خزيمة بن لؤى بن غالب بن فهر (٣).

وأما نسب قريش : فاختلف فيه ؛ فقيل : إنهم من ولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. ورجحه الزّبير بن بكّار وغيره.

__________________

(١) أخرجه : البخارى ٦ / ٣٨٩ (كتاب الأنبياء : باب مناقب قريش) ، ومسلم (الحج : ٢٢٧٦).

(٢) البخارى ٦ / ٣٨٩.

(٣) انظر عن ذلك : نسب قريش (ص : ٤٤٢) ، والروض الأنف ١ / ١١٩.

١٥٣

وقيل : إنهم من ولد النضر بن كنانة. ورجحه النووى (١) ، والله أعلم.

وأما سبب تسميتهم بقريش :فقيل : سموا قريشا من التقرش ؛ والتقرش : التجارة والاكتساب. وقيل : لتفتيشهم عن حاجة الناس ، وسدهم لها.

وقيل : لتجمعها من تفرقها.

وقيل : غير ذلك (٢) ، والله أعلم.

وأما ابتداء ولاية قريش للكعبة المعظمة وأمر مكة : فسببه قصىّ بن كلاب بن مرة بن لؤى بن غالب ؛ وذلك : أن حليل بن حبشية جعل ذلك لقصىّ حين حضرته الوفاة ، وكان قصىّ قد تزوج ابنته حبّى ، وولد له منها : عبد الدار ، وعبد مناف ، وعبد العزى ، وعبد بنو قصىّ ، ولما مات حليل أبت خزاعة أن تدع قصيّا وذاك ، وأخذوا المفتاح منه ، فاستنصر قصىّ برجال من قريش وكنانة فأجابوه ، واستنصر أيضا بأخيه لأمه رزاح بن ربيعة ، فخرج إليه إخوته ومن معهم من قضاعة ، فقاتل بهم قصىّ خزاعة بعد انقضاء الحج بمفضى مأزمى منى ؛ فسمى ذلك المكان (المفجر) ؛ لما فجر فيه وسفك من الدماء ، بسبب الجراحات فى الفريقين ، وكثرت القتلى فيهما.

ثم تداعوا إلى الصلح ، فحكّموا يعمر بن عوف بن كعب بن الليث بن بكر بين عبد مناة بن كنانة ـ وكان شريفا ـ فحكم : بأن لا تباعة لأحد على أحد فى دم ، وحكم : بحجابة البيت وولاية أمر مكة لقصىّ دون خزاعة ؛ لما جعل له حليل ، وأن لا تخرج خزاعة من مساكنها من مكّة ؛ فسمى يعمر يومئذ الشدّاخ ؛ لأنه لما حكم ، قال : ألا إنى قد شدخت ما كان بينكم من دم تحت قدمىّ هاتين.

وولى قصى حجابة البيت وأمر مكّة ، وجمع قومه من قريش من منازلهم

__________________

(١) جمهرة أنساب العرب لابن حزم (ص : ١٢) ، والروض الأنف ١ / ١١٦ ، والسيرة لابن هشام ١ / ١١٥.

(٢) انظر فى ذلك : السيرة لابن هشام ١ / ١١٦ ، والزاهر لابن الأنبارى ٢ / ١٢١ ، ونسب قريش (ص : ١٢) ، وجمهرة أنساب العرب (ص : ١١)

١٥٤

إلى مكة ليستعز بهم ، وتملك على قومه فملكوه ؛ وخبر ولايته طويل فى تاريخ ، وقد سبق فى الباب الذى قبله أن قصيّا اشترى ولاية البيت من أبى غبشان بما سبق ذكره.

وذكر الزّبير بن بكّار خبرا يقتضى أن قصىّ بن كلاب أول من ثرد الثريد فأطعمه بمكة ، وسقى اللبن بعد نبت بن إسماعيل.

وذكر أيضا خبرا يقتضى أن قصيّا كان يعشر من دخل مكة من غير أهلها.

ومن خبر قصىّ بن كلاب : أنه أحدث وقود النار بالمزدلفة ؛ ليراها من دفع من عرفة.

وأنه بنى قزح : موضع الوقوف بالمزدلفة.

وأنه : اتخذ لنفسه دار الندوة ، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة ؛ ففيها كانت تقضى قريش أمورها.

وأن أمره فى قومه كالدين المتبع لا يعمل بغيره فى حياته ومن بعده.

وأنه مات بمكة فدفن بالحجون ، فتدافن الناس بالحجون بعده.

وأنه أول بنى كعب بن لؤى أصاب ملكا أطاع له به قومه (١) ، والله أعلم.

***

__________________

(١) انظر عن ذلك كله : أخبار مكة للفاكهى ٥ / ١٧٠ ـ ١٧٩ ، وأخبار مكة للأزرقى ١ / ١٠٨ وما بعدها ، والمعارف لابن قتيبة (ص : ١١٧).

١٥٥
١٥٦

الباب الثالث والثلاثون

فى ذكر شىء من خبر بنى قصيّ بن كلاب ، وتوليتهم

لما كان بيده من الحجابة ، والسّقاية ، والرّفادة ، والنّدوة ،

واللواء ، والقيادة ، وتفسير ذلك

اختلف فيما صنعه قصىّ فيما كان بيده من الأمور المشار إليها ؛ فقيل : إنه جعل ذلك لابنه عبد الدار بن قصىّ ؛ ليلحقه فى الشرف بأخيه عبد مناف ، ثم إن بنى مناف بن قصىّ : عبد شمس ، وهاشما ، والمطلب ، ونوفلا ، أجمعوا على أن يأخذوا ذلك من أيدى بنى عبد الدار ؛ لشرفهم وفضلهم فى قومهم على بنى عبد الدار ، وكاد أن يقع بين الفريقين قتال ، ثم اصطلحوا على أن يعطوا بنى عبد مناف السّقاية والرّفادة ، وأن تكون الحجابة واللواء والنّدوة لبنى عبد الدار.

فولى السّقاية والرّفادة : هاشم بن عبد مناف ؛ ليساره. واسمه : عمرو.

ويقال : ما سمى هاشما إلا لهشمه الخبز بمكّة لقومه.

ويقال : إنه أول من أطعم الثريد بمكّة.

وأنه أول من سن لقريش الرحلتين : رحلة الشتاء والصيف.

ومات بغزة بالشام تاجرا ، فولى السّقاية والرّفادة بعده عبد المطلب بن عبد مناف ؛ وكان يسمى : الفيض ؛ لسماحته وفضله ، ومات بردمان باليمن ، فولى ذلك بعده عبد المطلب بن هاشم (١).

هذا ملخص بالمعنى مختصر مما ذكره ابن إسحاق فى خبر هذه الأمور.

وذكر الزّبير بن بكّار خبرا يقتضى أن قصىّ بن كلاب أعطى ابنه عبد مناف السّقاية والنّدوة ، وأعطى عبد الدار الحجابة واللواء ، وأعطى عبد العزى الرّفادة وأيام منى.

__________________

(١) السيرة لابن هشام ١ / ١٥٢ ـ ١٦٤.

١٥٧

قال المروانى ـ شيخ الزبّبير ـ فى هذا الخبر : والرّفادة : الضيافة ، وأيام منى : كان الناس لا يجوزون إلا بأمره.

وأعطى عبد بن قصىّ : جلهتى الوادى ، ولم أسمع فى جلهتى الوادى بشىء .. انتهى باختصار.

وقيل : إن قصىّ بن كلاب عبد مناف السّقاية والرّفادة والقيادة ، وأعطى عبد الدار السّدانة ـ وهى الحجابة ـ ودار الندوة ، واللواء. وهذا فى خبر ذكره الأزرقى ، عن ابن جريج ، وابن إسحاق. وفيه شىء من خبر هذه الأمور. وقد ذكرنا ذلك فى أصله.

وقد ذكرنا فى أصل هذا الكتاب أخبارا مفيدة تتعلق ببنى عبد مناف وعبد المطلب. ومنها ما يخالف ما ذكرناه من خبر هذه الأمور ، ومنها ما يوافق ذلك (١) ، والله أعلم.

***

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ١٠٩ ـ ١١٥ ، والروض الأنف ١ / ١٥٣ ، والكامل لابن الأثير ٢ / ١٥ ، ومروج الذهب ٢ / ١٣١ ، وأخبار مكة للفاكهى ٥ / ١٨٢.

١٥٨

الباب الرابع والثلاثون

فى ذكر شىء من خبر الفجار والأحابيش

كان الذى هاج حرب الفجار : أن عروة الرجّال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن ، أجاز لطيمة للنعمان بن المنذر.

فقال له البراض بن قيس ـ أحد بنى حمزة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ـ : أتجيزها على كنانة؟

قال : نعم ، وعلى الخلق.

فخرج عروة الرجّال ، وخرج البراض يطلب عزنة ؛ حتى إذا كان بتيمن ذى ظلال بالعالية ، غفل عروة ، فوثب عليه البراض فقتله فى الشهر الحرام ؛ فلذلك سمى : الفجار.

فأتى آت قريشا ، فقال : إن البراض قد قتل عروة وهم فى الشهر الحرام بعكاظ ، فارتحلوا ، وهوازن لا تشعر ، ثم بلغهم الخبر فأتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم ، فاقتتلوا حتى جاء الليل ، ودخلوا الحرم ، فأمسكت عنهم هوازن ، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياما.

وهذا الذى ذكرناه من خبر الفجار فى سيرة ابن إسحاق تهذيب ابن هشام.

وذكر ابن هشام أن حرب الفجار هاجت لما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرين سنة ، أو خمس عشرة سنة (١).

وذكر ابن إسحاق : أنها هاجت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن عشرين سنة.

وشهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض أيام الفجار ؛ وهى على ما ذكر الفاكهى : خمسة أيام فى أربع سنين ، وبينها الفاكهى ، وذكرنا كلامه فى أصله (٢).

__________________

(١) تهذيب سيرة ابن هشام (ص : ٤٣) ، والسيرة لابن هشام ١ / ٢٠٩ ـ ٢٢١.

(٢) أخبار مكة للفاكهى ٥ / ١٨٣ ـ ١٨٨.

١٥٩

وقال مغلطاى فى : «سيرته» وأيام الفجار أربعة. قاله السهيلى ؛ والصواب : أنها ستة (١).

وأما الأحابيش : فهم بنو الحارث بن مناة بن كنانة ؛ والحيّا والمصطلق من خزاعة ، والقارة : بنو الهون بن خزيمة ، وكانوا حلفاء لقريش ، وكانت قريش والأحابيش ندا. وقد أوضحنا من خبرهم أكثر من هذا فى أصله.

***

__________________

(١) الروض الأنف ١ / ٢٠٩

١٦٠