الزهور المقتطفة من تاريخ مكّة المشرّفة

تقي الدين محمّد بن أحمد الحسني الفاسي المكّي

الزهور المقتطفة من تاريخ مكّة المشرّفة

المؤلف:

تقي الدين محمّد بن أحمد الحسني الفاسي المكّي


المحقق: دكتور مصطفى محمّد حسين الذّهبي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٧

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

الحمد لله الذى فضل الكعبة البيت الحرام فى الأرض على البنيان ، كما فضل فى السماء عرشه المجيد الأركان ، أحمده على جميع إنعامه ـ الجلىّ والخفىّ ـ غاية الوسع والإمكان ، وأشكره طول الدهر والأزمان.

وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له فى السّر والإعلان ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله نبىّ الرحمة وحبيب الملك الديان ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وأصحابه وأهل بيته نجوم الأكوان.

وبعد :

فهذا مختصر لتاريخ مكّة والبيت الحرام على مرّ الأزمان ، نهديه لحجاج بيته والمعتمرين المتوجهين إليه من كل مكان ، وهو بحق كما أسماه مؤلفه زهور قد أينعت على الأغصان ، نقدمه للمكتبة الإسلامية طلبا لمرضات رب الأكوان ، وابتغاء لرحمته التى عمت الإنس والجان.

وأسأل الله أن يجعله فى حسناتى يوم يشيب الولدان ، وأن يمتعنى برؤية وجه العظيم فى نعيم الجنان ، بفضله وكرمه إنه الكريم المنّان.

٥

ترجمة المصنف (١)

اسمه :

هو محمد بن أحمد بن على بن محمد بن عبد الرحمن الحسنى الفاسى ، ثم المكّى ، يرجع نسبه إلى الإمام على بن أبى طالب كرمّ الله وجهه.

كان الفاسى يلقب بتقى الدين ويكنى أبا الطيب ، وكان قاضى المالكية بالحرم الشريف ، وقد ولد فى ليلة الجمعة العشرين من ربيع الأول عام ٧٧٥ ه‍ بمكّة المكرمة.

نشأته :

نشأ الفاسى ـ رحمه‌الله ـ بمكّة المكرمة ، وتتلمذ على يد الصفوة من علمائها وأهل الفضل فيها ، وعنى بالحديث ، فقرأ وسمع كثيرا ، وقد أجازه كثير من العلماء الأعلام ، وقرأ عليهم ، وأخذ عنهم.

شيوخه :

١ ـ الإمام قاضى مكّة جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة القرشى المخزومى.

٢ ـ الإمام قاضى القضاة كمال الدين أبو الفضل محمد بن أحمد النويرى.

٣ ـ قاضى الحرمين محب الدين النويرى.

٤ ـ الإمام عبد الله بن عمر الصوفى.

٥ ـ الإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازى الفيرروز آبادى.

٦ ـ الإمام المؤرخ ابن خلدون.

٧ ـ الإمام الشهاب أحمد العلائى ، وغيرهم كثير.

__________________

(*) انظر ترجمته فى : العقد الثمين ١ / ٢٣١ ، إنباء الغمر ٨ / ١٨٧ ، الدليل الشافى ٢ / ٥٨٥ ، الضوء اللامع ٧ / ١٨ ، طبقات الحفاظ للسيوطى ص : ٥٤٤ ، ذيل تذكرة الحفاظ ٣٧٧.

٦

أعماله :

ولى الفاسى قضاء مكّة للمالكية ، وهو أول مالكى ولى القضاء بها استقلالا ، وباشر تدريس الفقه المالكى فى مدرسة السلطان الملك المنصور عام ٨١٤ ه‍ فى بدء إنشائها ، وكان يقوم بالتدريس فيها بين الظهر والعصر من يومى الأربعاء والخميس من كل أسبوع.

مؤلفاته :

صنف الفاسى كتبا جليلة وقيمة منها :

١ ـ شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام (مطبوع).

٢ ـ العقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين (مطبوع).

٣ ـ تحفة الكرام بأخبار البلد الحرام.

٤ ـ هادى ذوى الأفهام إلى تاريخ البلد الحرام.

٥ ـ الزهور المقتطفة فى تاريخ مكّة المشرفة ، وهو كتابنا هذا.

٦ ـ عجالة القرى للراغب فى تاريخ أم القرى.

٧ ـ الجواهر السنية فى السيرة النبوية.

٨ ـ المقنع من أخبار الملوك والخلفاء وولاة مكة الشرفاء.

٩ ـ وذيّل على «العبر» للذهبى و «التقييد» لابن نقطة.

١٠ ـ فهرست مروياته.

وفاته :

بعد حياة علمية حافلة توفى الفاسى ليلة الأربعاء ٢٣ من شوال عام ٨٣٢ ه‍ بمكّة المشرفة ، رحمه‌الله ونفع بعلمه.

٧

أصل الكتاب

اعتمدت فى تحقيق الكتاب على نسختين خطيتين :

الأولى : وحصلت على مصورة منها من مكتبة الأوقاف الكويتية برقم ٢٩٦ مجاميع ، وعدد أوراقها (١١٣) ورقة ، متوسط كل ورقة (١٨) سطرا ، ومتوسط كلمات كل سطر (٩) كلمات ، وقد كتبت بخط نسخ.

الثانية : مصورة من المتحف العراقى ببغداد ، وتحمل رقم ١٣٨٥ ، وتوجد صورة منها فى معهد المخطوطات برقم ١٧٠٩ تاريخ ، وعدد أوراقها (٧٥) ورقة ، ومتوسط عدد الأسطر (٢٥) سطرا فى الصفحة الواحدة ، وقد كتبت بخط نسخ معتاد.

هذا وقد طبع الكتاب ضمن الجزء الأول من «العقد الثمين» للفاسى ، بتحقيق الشيخ محمد حامد الفقى ، وبه بعض التحريف والتصحيف ، والتى لم أشر إليها ـ اكتفاء بهذا التنويه ـ ويبدو أنه طبع على نسخة سقيمة.

منهج التحقيق

يتلخص عملى فى تحقيق الكتاب فى النقاط التالية :

١ ـ ضبطت نص الكتاب ، وأصلحت ما به من أخطاء نحوية ، وأغفلت الإشارة إلى الفروق بين النسختين ، والتى تنشأ عن التحريف ، وأخطاء الكتابة إذ ليس لها وزن علمى.

٢ ـ عزوت الآيات القرآنية إلى سورها وأرقامها.

٣ ـ خرجت الأحاديث والآثار الواردة فى الكتاب.

٤ ـ التعريف بالمواضع ، والبلدان ، والأماكن الوارد ذكرها فى الكتاب ، مستعينا بالمراجع المتداولة فى هذا الفن.

٥ ـ وثقت النصوص الواردة في ثنايا الكتاب وعزوتها إلى مصادرها الأصلية.

٨

٦ ـ وضعت فهارس فنية للكتاب على النحو التالى :

* فهرس الآيات القرآنية حسب ترتيب سورها.

* فهرس للأحاديث والآثار.

* فهرس للأماكن والبلدان المترجم لها.

* فهرس للمصادر والمراجع.

* فهرس موضوعات الكتاب.

وكل هذه الفهارس علي ترتيب حروف المعجم إلا فهرس الآيات القرآنية.

والمرجوّ من الله تعالى أن يكون هذا الكتاب تحفة لمحبى مكّة ومن سكن بها أو زارها من الأخيار ، وقد بذلت الجهد فى ضبطه وتحقيقه ، رجاء دعوة تمحو الأوزار ، وتقيل العثار ، ونظرة رضى من نبينا المختار ، صلّى الله عليه وعلى آله الأطهار ، وصحابته الأبرار.

والله أسأل أن يحرم شعرى وبشرى ولحمى ودمى على النار ، وأن يغفر لى ما قدمت وما أخرت إنه الرحيم الغفار.

القاهرة في ٢٥ من ذى الحجة ١٤١٧ ه

دكتور

مصطفى محمد حسين الذهبى

٩

١٠

١١
١٢

بسم الله الرحمن الرحيم

[مقدمة المؤلف]

الحمد لله الذى جعل لمكّة فى الفضل مزايا ، وخصها ببيته الذى هو قبلة للبرايا ، وبحجه الذنب مغفور ، وبالطواف به تكثر الأجور.

أحمده على ما من به من النزول فى حماه ، وأساله دوام ذلك مدة المحياة.

وأشهد أن لا إله إلا الله الذى منح شارب ماء زمزم بنيل المنى ، وأشهد أن نبينا محمدا أفضل من حج ورمى الجمار بمنى ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما وقف واقف بعرفات والمشعر ، ورضى الله عن آله وأصحابه ما سعى ساع بين الصفا والمروة ، وبين الميلين الأخضرين أحضر.

أما بعد :

فهذا ما وعدت بذكره فى كتابى «العقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين» من أخبار مكّة المشرفة ، وحكم بيع دورها ، وإجارتها ، وأسمائها ، وحرمها ، وحدوده ، وشئ مما يختص بذلك من المسائل ، وفضل الحرم ومكّة ، والصلاة فيها على غيرها ، وغير ذلك من فضلها ، وحكم المجاورة بها ، وفضل الموت فيها ، وفضل أهلها ، وفضل جدة ، والطائف ، وغير ذلك من خبرهما.

وأخبار الكعبة المعظمة وفضلها ، وفضل الحجر الأسود ، والركن اليمانى ، وفضائل الأعمال المتعلقة بالكعبة ، وخبر الحجر الأسود ، والحجر ـ بسكون الجيم ـ ومقام الخليل ـ عليه‌السلام ـ والأماكن التى صلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها حول الكعبة ، والأماكن التى يستجاب الدعاء فيها بمكة ، وحرمها.

وخبر المسجد الحرام وزمزم ، وسقاية العباس رضى الله عنه ، والأماكن المباركة بمكّة وحرمها ، والأماكن التى تتعلق بها المناسك ، وما علمته من المآثر بمكّة ، وحرمها.

١٣

وأخبار جاهلية وإسلامية ، لها تعلق بالحاج ، وغير ذلك ، وما علمته من ولاة مكّة فى الإسلام على سبيل الإجمال.

وهذا الأمر لم أر من عنى بجمعه قبلى ، وجميع ذلك ملخص من تأليفى «شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام» وجعلته أربعين بابا كأصله ، وسميته : «الزهور المقتطفة من تاريخ مكّة المشرفة».

* * *

١٤

الباب الأول

فى ذكر مكّة المشرفة وحكم بيع دورها وإجارتها

مكّة المشرفة : بلدة مستطيلة كبيرة ، تسع من الخلائق ما لا يحصيهم إلا الله تعالى ، فى بطن واد مقدس ، والجبال محدقة بها كالسور لها.

ولها ـ مع ذلك ـ ثلاثة أسوار : سور فى جهة المشرق ، يعرف بسور باب المعلّاة ؛ لأنه فى أعلاها ، وسور فى جهة المغرب والمدينة النبوية ، يعرف بسور باب الشبيكة ، وسور فى جهة اليمن ، ويعرف بسور باب اليمن وباب الماجن.

وكان جدر هذا السور وجدر سور باب المعلّاة : غير كاملين بالبناء ، وكانا قصيرين عن القامة ، فعمرا حتى زادا على القامة ، وتكمل بناؤهما إلا موضعا فى سور باب المعلّاة ، لأن ما تحته مهواة.

وهذه العمارة فى النصف الثانى من سنة ست عشرة وثمانمائة ، من قبل السيد حسن بن عجلان ، بعد أن هجم مكّة ـ فى غيبته عنها ـ ابن أخيه السيد رميثة بن محمد بن عجلان فى جمادى الآخرة من السنة المذكورة (١).

ثم أخربت من سور باب المعلّاة مواضع ، وأحرق بابه ، لفتنة كانت بين أميريها المذكورين ، فى خامس عشرين من شوال سنة تسع عشرة وثمانمائة (٢).

ثم أعيد بناء ما تخرب ، وعمل باب حديد ، وذلك فى شوال وذى القعدة من السنة المذكورة (٣).

ثم خرب جانب من سور باب المعلّاة بين البابين اللذين فى السور المذكور.

ثم [خرب] جانب من سور باب الماجن ، من سيل كان بمكّة فى سنة سبع وعشرين وثمانمائة (٤).

وعمّر ذلك كله فى أوائل سنة ثمان وعشرين وثمانمائة.

__________________

(١) إتحاف الوري ٣ / ٥٠٤ ، العقد الثمين ٤ / ١١٧.

(٢) إتحاف الورى ٣ / ٥٣٢.

(٣) إتحاف الورى ٣ / ٥٣٤ ، السلوك ٤ / ١ : ٣٧١ ، إنباء الغمر ٣ / ٩٢.

(٤) إتحاف الورى ٣ / ٦٠٧ ، السلوك ٤ / ٢ : ٦٦٣.

١٥

وكان الخراب فى سور باب المعلّاة فى آخر سنة خمس وعشرين وثمانمائة (١).

ذرع مكّة من باب المعلّاة إلى باب الماجن : أربعة آلاف ذراع وأربعمائة ذراع واثنان وسبعون ذرعا ـ بتقديم السين ـ بذراع اليد ، وذلك على خط الردم ، والمسعى ، وسوق العلافة.

ومن باب المعلّاة إلى الشبيكة : مثل ذلك ، بزيادة مائتى ذراع وعشرين ذراعا باليد ، وذلك فى الطريق المشار إليها ، إلا أنه يعدل إلى الشبيكة من الزقاق المعروف بابن عرفة.

ومن الجبال المحدقة بمكّة : أخشباها.

وهما : أبو قبيس ، والأحمر المقابل له ، على ما ذكر الأزرقى والفاكهى.

وقيل : أبو قبيس وقعيقعان. ذكر ذلك ياقوت.

وعرف أبو قبيس بالأخشب الشرقى ، وقعيقعان بالغربى ، والأخشب الجبل الغليظ.

وفى تسمية أبى قبيس أقوال : أحدها : أنه يسمى برجل من إياد.

وذكر الوراق : أنه يقال له : أبو قابوس ، وشيخ الجبال .. انتهى.

و «أبو قبيس» اسم لحصن بحلب قبالة شيزر ، على ما ذكر ياقوت.

و «قعيقعان» اسم لمواضع ذكرها ياقوت ، ولموضعين لم يذكرهما ، أحدهما : يليّة من عمل الطائف ، والآخر باليمن.

وسيأتى إن شاء الله تعالى شئ فى سبب تسميته بقعيقعان.

وبمكّة أبنية كثيرة ، وعين جارية ، وآبار غالبها مسبل ، وبرك مسبّلة ، وحمامان.

وكان بها ستة عشر حماما ، على ما ذكر الفاكهى (٢).

__________________

(١) إتحاف الورى ٣ / ٥٨٨ ، ٥٨٩.

(٢) أخبار مكة للفاكهى ٣ / ١٠٠.

١٦

وبعض الدور التى بمكّة : علامة لحد المعلّاة والمسفلة ؛ لأن دار الخيزران ـ عند الصفا ـ علامة لحد المعلّاة من شق مكّة الأيمن ، ودار العجلة علامة لحد المعلّاة من شق مكّة الأيسر.

وذكر الفاكهى خبرا يقتضى تفضيل المعلّاة على المسفلة (١).

وذكر الفاكهى شيئا مفيدا فى مخاليف مكّة ؛ لأنه قال : وآخر أعمالها ـ مما يلى طريق المدينة ـ موضع يقال له : جنابذ بن صيفى (٢) فيما بين عسفان ومرّ ، وذلك على يوم وبعض يوم.

وآخر أعمالها ـ مما يلى طريق الجادة فى طريق العراق ـ : العمير ؛ وهو قريب من ذات عرق ، وذلك على يوم وبعض يوم.

وآخر أعمالها ـ مما يلى اليمن على طريق تهامة اليوم ـ موضع يقال له : ضنكان ، وذلك على عشرة أيام من مكّة.

وقد كان آخر أعمالها فيما مضى : بلاد عكّ.

وآخر أعمالها ـ مما يلى اليمن فى طريق نجد ، وطريق صنعاء ـ موضع يقال له «نجران» على عشرين يوما من مكّة (٣) .. انتهى.

وذكر ابن خرداذبة فى «مخاليف مكّة» ما يوافق ما ذكره الفاكهى ، وصرح فيهما بما لم يصرح به الفاكهى (٤).

__________________

(١) أخبار مكة للفاكهى ٣ / ٩٩.

(٢) لم يذكرها ياقوت فى معجم البلدان ، ولا البلاذرى فى معجم معالم الحجاز ، وذكرها الحربى فى مناسكه (ص : ٤٦٤) فقال : ومن عسفان إلى جنابذ بنى ـ هكذا قال ـ صيفى : تسعة عشر ميلا. وقبل ذلك بميل : بثر ابن ضبيع ، وقبله : بثر القرشى ، ثم قال : ومن الجنابذ إلى مرّ (يعنى مرّ الظهران) : أربعة أميال ، وبعد الجنابذ : بميل خشونة وصعوبة ، وطريق ضيق بين الجبلين يقال أنه الموضع الذى أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العباس أن يحبس فيه أبا سفيان حتى تمر الجيوش .. انتهى.

والمراد بالجنابذ : القباب التى أقيمت على سقايات فى هذا الموضع فاشتهرت به ، وصيفى ـ المشار إليه ـ هو الذى يقال له : أبا السائب بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم (انظر عنه : نسب قريش ص : ٣٣٣) وجمهرة أنساب العرب (١ / ١٢٨).

(٣) أخبار مكة للفاكهى ٥ / ١٠٦ ، ١٠٧.

(٤) المسالك والممالك (ص : ١٣٣).

١٧

وليس كل ما ذكراه معدودا اليوم فى أعمال مكّة ؛ لأن كثيرا من ذلك ليس لأمير مكّة الآن فيه كلام.

وأبعد مكان عن مكّة لأميرها الآن فيه كلام : «الحسنة» وهى بلدة بينها وبين «قنونا» (١) يوم ، وبين «حلى» (٢) يومان.

وكلامه فيها باعتبار أن له على مزارعها كل سنة مائة غرارة مكية ، فيما قيل ، وله أيضا رسم على أهل «دوقة» (٣) و «الواديين» و «الليث» (٤).

وأبعد مكان ـ بعد هذه الأماكن عن مكة لأميرها فيه كلام الآن ـ وادى الطائف ، ووادى «ليّة» (٥) ، ولأمير مكة فيهما من الكلمة والعادة على أهلهما أكثر مما له فى الأماكن السابق ذكرها.

ولقاضى مكّة نواب بوادى الطائف ، و «ليّة».

وصرّح جماعة من فقهاء الشافعية بأن الطائف ووجّ وما ينضاف إليهما منسوبة إلى مكّة ومعدودة فى أعمالها ، وهذا فى «الروضة» للنووى.

ومن أعمال مكّة فى صوب الطائف : وادى نخلة الشامية ، واليمانية. ونخلة على ليلة من مكّة.

وأبعد مكان عن مكّة فى صوب المدينة لأمير مكّة الآن فيه كلام : وادى

__________________

(١) قنونا : هى بلدة القنفذة ، وهى ميناء من موانئ الحجاز الجنوبية (جغرافية شبه جزيرة العرب ، لعمر رضا كحالة : (ص : ٢٨) ، ومعجم البلدان (٤ / ٢٠٩) : قنوتى : بالفتح ونونين ، بوزن : فعوعل.

(٢) حلى : بحاء مهملة مفتوحة ولام ساكنة (انظر : معجم شبه جزيرة العرب للهمدانى ص : ١٢٠).

(٣) دوقة : واد على طريق الحاج من صنعاء إذا سلكوا ، بينه وبين «يلملم» : ثلاثة أيام (معجم البلدان ٢ / ٤٨٥).

(٤) الليث : بكسر اللام ثم ياء ساكنة ، وينطقها أهل الحجاز : الّليت ـ بالكسر المشدد فى أوله ، وإبدال الثاء تاء ـ وهو واد بأسفل السراة يدفع فى البحر (معجم البلدان ٥ / ٢٨).

(٥) لية : لا يزال هذا الوادى يعرف بهذا الاسم إلى الآن ، وهو واد كبير من أودية الطائف له روافد كثيرة ، وهو إلى جنوب الطائف بحوالى (١٥) كم ، ويشتهر منذ القدم بجودة رمانه وخيراته ، ومن الآثار التاريخية فى هذا الوادي : حصن مالك بن عوف قائد هوازن يوم حنين (انظر : معجم معالم الحجاز ٧ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣).

١٨

«الهدة» ـ هدة بنى جابر ـ وهى على مرحلة من «مرّ الظهران» ، ومر الظهران على مرحلة من مكّة ، وهو والهدة معدودان من أعمالها.

وولاة مكّة الآن يأخذون ما يغرق فى البحر فيما بين جدة ورابغ ، ويرون أن ذلك يدخل فى عملهم.

و «جدة» من أعمال مكّة فى تاريخه وفيما قبله ، وهى على مرحلتين من مكّة.

وليس كل ما ذكره ابن خرداذبة والفاكهى فى مخاليف مكّة داخلا فى الحجاز ، الذى هو : مكّة ، والمدينة ، واليمامة ، ومخاليفها.

وقد عرّف الحجاز بذلك الإمام الشافعى رضى الله عنه وغيره.

وقيل فى الحجاز غير ذلك.

وسمى حجازا : لحجزه بين تهامة ونجد.

وقيل فيه غير ذلك ، والله أعلم.

ذكر حكم بيع دور مكّة وإجارتها

اختلف فى ذلك قول مالك ، فروى عنه : أنه كره بيعها وكراء دورها ، فإن بيعت أو أكريت : لم يفسخ.

وروى عنه منع ذلك.

وليس سبب الخلاف عند المالكية : هل فتحت عنوة ، أو صلحا؟ لأنهم لم يختلفوا فى أنها فتحت عنوة ، وإنما سبب الخلاف عندهم فى ذلك : الخلاف فى مكّة : هل منّ النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها على أهلها ، فلم تقسم ، ولا سبى أهلها ، لما عظم الله من حرمتها ، أو أقرت للمسلمين؟ أشار إلى ذلك ابن رشد (١).

وعلى الأول : ينبنى جواز بيع دورها وإجارتها.

وينبنى منع ذلك على القول بأنها أقرت للمسلمين.

وفى هذا القول نظر ، فقد بيعت دور مكّة فى عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعمر ،

__________________

(١) البيان والتحصيل ٣ / ٤٠٥ ، ٤٠٦ ، وهداية السالك لابن جماعة ٢ / ٩٥٨.

١٩

وعثمان ـ رضى الله عنهما ـ وبأمرهما اشتريت دور لتوسعة المسجد الحرام ، وكذلك فعل ابن الزبير ـ رضى الله عنهما ـ (١).

وفعل ذلك غير واحد من الصحابة ، وهم أعرف الناس بما يصلح فى مكّة.

وهذا مذكور فى تاريخ الأزرقى ، ما عدا بيعها فى زمن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ؛ فإن ذلك مذكور فى كتاب الفاكهى عن عبد الرحمن بن مهدى (٣).

ولا يعارض هذا حديث علقمة بن نضلة الكنانى ـ وقيل الكندى ـ : كانت الدور والمساكن على عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبى بكر ، وعمر ، وعثمان ـ رضى الله عنهم ـ لا تكرى ولا تباع ، ولا تدعى إلا السوائب ، ومن احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن. وهذا لفظ الأزرقى ، وفى ابن ماجه معناه (٤).

لأن حاصل حديث علقمة : شهادة على النفى ، وفى مثل هذا يقدم المثبت ، والله أعلم.

واختلف الحنفية فى جواز بيع دور مكّة ، واختيار الصاحبين ـ أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ـ جواز ذلك ، وعلى قولهما الفتوى ، فيما ذكر الصدر الشهيد ، ومقتضى قولهما بجواز البيع : جواز الكراء ، والله أعلم.

واختلف رأى الإمام أحمد فى ذلك ، فعنه روايتان فى جواز بيع دور مكّة وإجارتها ، ورجح كلا منهما مرجح من أتباعه المتأخرين (٥).

ولم يختلف مذهب الشافعى فى جواز بيع دور مكّة وكرائها ؛ لأنها عنده فتحت صلحا.

وقال بعضهم عنه : فتحت بأمان ، وهو فى معنى الصلح.

__________________

(١) أخبار مكة للفاكهى ٣ / ٢٥٦ ، والروض الأنف ٣ / ١٠٢.

(٢) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ١٦٤.

(٣) أخبار مكة للفاكهى ٣ / ٢٥٦.

(٤) أخبار مكة للأزرقى ٢ / ١٦٣ ، وسنن ابن ماجه (٣١٠٧) ، وسنن الدار قطنى (٢٢٨) وفيهما زيادة هى : «من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن».

(٥) هداية السالك ٢ / ٩٥٨ ـ ٩٥٩.

٢٠