الحلقة الضائعة من تاريخ جبل عامل

علي داود جابر

الحلقة الضائعة من تاريخ جبل عامل

المؤلف:

علي داود جابر


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٠

أولا : في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١ ـ سرية عمرو بن العاص : ٨ ه‍ / ٦٢٩ م

أول ذكر لعاملة في العصر النبوي ، ظهر في السنة الثامنة للهجرة ، إذ كانت مع غيرها من قبائل العرب مجتمعة في الطرف الجنوبي لبلاد الشام. فبلغ خبرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأرسل سرية بقيادة عمرو بن العاص فهاجمهم ، وفرّق جمعهم ، يقول البلاذري : «فلقي العدو من قضاعة وعاملة ولخم وجذام ، وكانوا مجتمعين ففضّهم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة وغنم» (١).

٢ ـ غزوة تبوك ٩ ه‍ / ٦٣٠ م

كان غزو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها سنة تسع للهجرة ، إذ بلغه أن الروم بقيادة هرقل ، قد جمعت جموعا كثيرة بالشام ، من لخم وجذام وعاملة وغسان ، وقدّموا مقدماتهم إلى البلقاء ، فسار إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتفرّقوا قبل وصول جيش المسلمين إليهم ، وأقام بتبوك أياما ، وصالحه أهلها على الجزية (٢).

__________________

(١) أنساب الأشراف : ج ١ ، ص ٣٨٠.

(٢) فتوح البلدان : ص ٦٧ ، أنساب الأشراف : ج ١ ، ص ٣٦٨ ، المنتظم : ج ٣ ، ص ٣٦٢ ، تاريخ العرب قبل الإسلام : ج ٤ ، ص ٢٥١.

٤١

٣ ـ سرية أسامة إلى آبل الزيت. ١١ ه‍ / ٦٣٢ م

أ ـ عقد السرية لأسامة

كان مستقبل الإسلام الهم الأكبر عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنه يعتبر أنّ النبوة بداية طريق وأن الإمامة متممة لذلك الطريق ، لذا أكّد على خليفته منذ اليوم الأول للإسلام ، كما ظهر في أحاديث عديدة كحديث الدار والمنزلة والثقلين ثم في غدير خم.

وفي شهر صفر سنة ١١ ه‍ ، انشغل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بالرغم من مرضه الشديد ـ بتجهيز جيش أسامة بن زيد إلى غزو الروم ، ثم عبأ كبار الصحابة بنفسه ، ولم يستثن إلّا عليا عليه‌السلام الخليفة المستقبلي ، ثم دعا أسامة ، وقال له : سرّ إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش ، ثم أمره أن يواطىء آبل الزيت من مشارف الشام بالأردن (١). فطعن من طعن في تأميره أسامة ، حتّى غضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج معصب الرأس ، محموما ألما ، وكان ذلك قبل وفاته بيومين ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيّها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ، ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله ، وأيم الله إنّه كان لخليقا بالإمارة ، وإن ابنه من بعده لخليق بها. لكن كان قضاء الله بوفاة أشرف الخلق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن ينطلق الجيش ، فعاد جيش أسامة إلى المدينة ، وإذا بالقوم قد بايعوا أبا بكر خليفة متناسين ما أكّد عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ب ـ مهاجمة الروم في آبل

بعد أن أصبح أبو بكر خليفة على المسلمين تدخّل البعض من أجل عزل

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٣ ، ص ٥٤ ، ٨٩ ، تاريخ دمشق : ج ١ ، ص ٣٨٥ و ٣٨٦ ، تهذيب تاريخ دمشق : ج ١ ، ص ١١٦ ، معجم البلدان : ج ١ ، ص ٥٠.

٤٢

أسامة وإلغاء البعث بالمرة ، لكن أبا بكر أبى أن يجيبهم ووثب فأخذ بلحية عمر قائلا ، ثكلتك أمك وعدمتك يابن الخطاب ، استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه.

ثم سار أسامة بسرّيته ، وانتهى إلى ما أمره به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبثّ خيوله في قبائل قضاعة ، وأغار على آبل الزيت ، فسلم وغنم وكان فراغه في أربعين يوما سوى مقامه ومقبله راجعا (١).

ج ـ تحديد موقع آبل الزيت

قال الحموي معرفا آبل الزيت : «آبل الزيت ، بلفظ الزيت من الأدهان ، بالأردن من مشارف الشام ... وآبل القمح : قرية من نواحي بانياس من أعمال دمشق بين دمشق والساحل» (٢).

ويعرف مارتين اليسوعي آبل فيقول : «آبل : إن هذه المدينة القائمة على تخوم عيون (٣) هي أيضا مدينة قديمة ... وقد نالت أهمية عظيمة في مدّة طويلة عند تخوم فلسطين الشمالية» (٤).

ويقول السيد الأمين في تعليقه على حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأسامة بن زيد وأمره أن يواطىء خيله آبل الزيت : «ولا يبعد أن تكون آبل الزيت هي آبل القمح الآتية لأنها مشرفة على الأردن ، ولا يعرف آبل بالأردن غيرها ، لكن ياقوت جعلها غيرها كما مرّ. وعن دائرة المعارف للبستاني أن آبل الزيت

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٣ ، ص ٨٩ ، تاريخ دمشق : ج ١ ، ص ٤٣٢ ، تهذيب تاريخ دمشق : ج ١ ، ص ١١٦ و ١١٨.

(٢) معجم البلدان : ج ١ ، ص ٥٠ ، وتهذيب تاريخ دمشق : ج ١ ، ص ١١٦.

(٣) عيون : الاسم القديم لبلدة مرجعيون.

(٤) تاريخ لبنان : اليسوعي ، ص ٢٩٠.

٤٣

هي آبل بيت معكة وهي آبل القمح ، والناس يسمّونها اليوم آبل القمح لا آبل الزيت» (١).

ونحن نعتقد أن آبل الزيت هي في منطقة قريبة من مؤتة في منطقة البلقاء ، وليست في جبل عامل إذ لا يمكن أن يغامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجيشه ويدخله قلب بلاد العدو معرّضا إيّاه للضرب من كل ناح.

ثانيا : دخول الإسلام إلى جبال عاملة

بقي أسامة بن زيد يغزو في نواحي آبل الزيت أربعين يوما وقيل سبعين ، حتّى قدمت جيوش الفتح إلى الشام ، فرجع بسريته إلى المدينة المنورة (٢).

فمن تسلّم قيادة جيش المسلمين؟ ولماذا عزل أسامة عن قيادة هذا الجيش؟

١ ـ قيادة يزيد بن أبي سفيان لجيش المسلمين [١١ ه‍ / ٦٣٢ م]

بعد أن اطمأن القوم لسيطرتهم على موقع الخلافة الإسلامية ، والتي تمثّل رأس الحكم في الإسلام ، بدأوا يخططون لاستلام القوّة التنفيذية ـ أعني قيادة الجيش ـ وبالتالي يحكمون السيطرة على جميع مقدرات الدولة ، واستجاب أبو بكر لرغبة عمر السابقة ، وعزل أسامة بن زيد عن الإمارة التي منحه إيّاها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعيّن مكانه يزيد ابن آكلة الأكباد ، يقول الواقدي : «دعاه أبو بكر وعقد له راية» (٣). ويتحدّث البلاذري عن دفع أبي بكر اللواء إلى يزيد هذا ، فسار به ومعاوية أخوه يحمله بين يديه (٤).

__________________

(١) خطط جبل عامل : ص ٢٣٢ ، دائرة المعارف : ج ١ ، ص ٢٤.

(٢) تهذيب تاريخ دمشق : ج ١ ، ص ١١٦.

(٣) فتوح الشام : ج ١ ، ص ٨.

(٤) فتوح البلدان : ص ١١٢.

٤٤

٢ ـ أجناد الشام

قسمت بلاد الشام إلى أربع مناطق عسكرية تسمّى بالأجناد ، وهذه الأجناد الأربعة هي : دمشق وحمص والأردن وفلسطين ، يقول ابن حوقل : «وكور الشام فهي : جند فلسطين وجند الأردن وجند دمشق وجند حمص» (١). وكان الرومان سابقا هم الذين اعتمدوا هذه التقسيمات.

وعندما قرر المسلمون فتح هذه الأجناد ، حافظوا على تقسيمها كما كانت في زمن الرومان. فعيّن أبو بكر أمراء على كور الشام ، ليزيد بن أبي سفيان دمشق ، ولشرحبيل بن حسنة الأردن ، ولعمرو بن العاص ولعلقمة بن مجر فلسطين ، ثم طلب من الجميع إطاعة أمر يزيد بن أبي سفيان (٢).

وكانت جبال عاملة تتوزّع بين جندي دمشق والأردن ، وكان المكلّف بفتحها ثلاثة : يزيد بن أبي سفيان لمنطقة صيدا وجزّين والنبطية والبقاع الغربي ، وشرحبيل بن حسنة لمنطقة قدس والشقيف وتبنين وصيدا أيضا ، وعمرو بن العاص لفلسطين والساحل العاملي إلى مدينة صور.

٣ ـ وقعة اليرموك [١٣ ه‍ / ٦٣٤ م]

كانت قبل وفاة أبي بكر بعشر ليال ، وهي من وقائع المسلمين المهمّة في الشام ، واعتبرت المعركة الفاصلة التي هان بها الاستيلاء بعد ذلك على دمشق وفحل والقدس وغيرها ، وشهد اليرموك ، كبار صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل بدر ، ومن المتشيعين لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، منهم : أبو ذرّ الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والمقداد بن الأسود ، وأبو أيوب الأنصاري ، وجابر بن

__________________

(١) كتاب صورة الأرض : ص ١٥٤.

(٢) تاريخ فتوح الشام : ص ١١ ، فتوح الشام : ج ١ ، ص ١٠ ، تاريخ الطبري ، ج ٣ ، ص ٢٢٤ ، تاريخ دمشق : ج ٢٢ ، ص ٤٧٣ ، أمراء دمشق : ص ٩٨.

٤٥

عبد الله الأنصاري ، وحذيفة بن اليمان (١).

وقد شاركت عاملة ولخم وبلقين وبلي إلى جانب الروم ، داخل الحلف الذي كان يرأسه جبلة بن الأيهم الغسّاني كما نصّ عليه المؤرخون (٢) ، وسار إليهم المسلمون والتقوا في اليرموك.

وعندما بدأ القتال نجد بطونا من عاملة وخولان وغسان ، انحازت إلى جيوش المسلمين وشاركت معهم القتال (٣).

وحدث خلاف بين قائدين من قادة الروم ، هما قناطر وجرجير ، ما أدّى بالأخير أن يحمل حملة شديدة على كنانة وقيس وخثعم وجذام وقضاعة وعاملة وغسان وهم يومئذ فيما بين ميسرة الجيش والقلب (٤). إلا أن النصر في هذه المعركة كان حليف المسلمين ، وانهزم فيها الروم شرّ هزيمة.

٤ ـ وقعة فحل [١٣ ه‍ / ٦٣٤ م]

كانت وقعة فحل في ذي القعدة من سنة ثلاث عشرة (٥) ، فبعد فراغ المسلمين من معركة اليرموك ، توجّهوا إلى دمشق ففتحت على أيديهم ، وخلّفوا بها يزيد بن أبي سفيان ، ثم ساروا بقيادة شرحبيل بن حسنة ونزلوا على فحل من الأردن (٦).

وتجمّعت القبائل العربية من لخم وجذام وغسان وعاملة والقين على

__________________

(١) فتوح الشام : ج ١ ، ص ١٠٤ و ١٢٥.

(٢) المصدر نفسه : ج ١ ، ص ٩٧ و ٩٨ و ١٢٤ ، تاريخ الطبري : ج ٣ ، ص ٥٧٠.

(٣) تاريخ فتوح الشام : ص ٢١٨.

(٤) فتوح الشام : ج ١ ، ص ١٢٩.

(٥) المصدر نفسه : ج ١ ، ص ١٢٩.

(٦) تاريخ دمشق : ج ١ ، ص ٤٧٩.

٤٦

أطراف جبل عامل الشرقية في مرج الجولان ، وقرّروا الدخول بأجمعهم في المعركة إلى جانب المسلمين ، قال أبو طيبة القيني : «حضر قومي بنو القين يوم فحل ، وحضرتها لخم ، وجذام ، وغسان ، وعاملة ، وقضاعة مع المسلمين ، فكان من هذه القبائل هناك جمع عظيم كثير ، قوي بهم المسلمون على عدوّهم» (١).

فالصيغة التي جاء بها هذا النص ، تجعلنا نفهم أن هذه القبائل قد دخلت بأغلبها في الإسلام ، وحاربت إلى جانب العرب المسلمين مفضّلة إياهم على الروم المسيحيين ، والسبب يوضحه الأزدي ، يقول : «فمنهم من حمى للعرب وغضب لهم ، وكان ظهور العرب أحبّ إليهم من الروم ، وذلك من لم يكن على دينه راسخا» (٢).

٥ ـ فتح جبال عاملة

بعد معركتي اليرموك وفحل توجه الأمير شرحبيل بن حسنة لفتح الأردن.

أ ـ فتح طبرية وقدس [١٣ ه‍ / ٦٣٤ م]

وصل القائد الإسلامي شرحبيل بن حسنة إلى بلاد الجليل واستطاع أن يفتتحها بغير قتال ما عدا طبريا فعقد مع أهلها صلحا على أنصاف منازلهم وكنائسهم (٣).

ويقول البلاذري : «وفتح شرحبيل جميع مدن الأردن وحصونها على

__________________

(١) تاريخ فتوح الشام : ص ١٣٠ و ١١١.

(٢) المصدر نفسه : ص ٤٤ ، فدين النصرانية لم يكن راسخا في نفوسهم.

(٣) فتوح البلدان : ص ١١٩ ، الكامل : ج ٢ ، ص ٨٤.

٤٧

هذا الصلح فتحا يسيرا بغير قتال ، ففتح بليسان ، وفتح سوسية ، وفتح أفيق ، وجرش ، وبيت رأس ، وقدس (١) ، والجولان (٢). چ

ب ـ فتح صيدا [١٣ ه‍ / ٦٣٤ م]

فتحت مدينة صيدا في الوقت نفسه الذي حدثت به واقعة فحل ، أي في سنة ١٣ ه‍ ، فقد سار يزيد بن أبي سفيان بعد فتح دمشق إلى مدن صيدا وعرقة وجبيل وبيروت ، وهي سواحل دمشق ، على مقدّمته أخوه معاوية ، ففتحها فتحا يسيرا وجلا كثيرا من أهلها (٣).

ج ـ فتح صور [١٣ ه‍ / ٦٣٤ م]

يبدو أن الهجوم على صور كان من محورين : من الجنوب بقيادة يزيد بن أبي سفيان ، على رأس جيش عمرو بن العاص ، ومن الشرق بقيادة شرحبيل بن حسنة بحيث توجّه إليها بعد فتح قدس (٤). فما هي تفاصيل فتح هذه المدينة؟ وما الذي ساعد المسلمين على فتحها؟

المصدر الوحيد الذي تحدّث عن فتح صور بشكل تفصيلي هو الواقدي ، لذا سأورد ما كتبه مختصرا.

__________________

(١) عدّ المهاجر العاملي قدس من بلدان جبل عامل واعتبرها بأنها مدين بلد شعيب عليه‌السلام.

فقال : «قدس وهي مدين بلد شعيب» الكشكول : ج ١ ، ص ٤٢٩ ، ويقول الأمين : «كانت من عمل صور ثم ألحقت بفلسطين ... وهي قادس نفتالي» الخطط : ص ٣٣٥.

(٢) فتوح البلدان : ص ١١٩.

(٣) فتوح الشام : ص ٢١ ، فتوح البلدان : ص ١٣٩ ، الكامل : ج ٢ ، ص ٨٣.

(٤) يقول البلاذري : «فتح شرحبيل عكاء وصور وصفورية» ويقول أيضا : «فتح يزيد وعمرو سواحل الشام» فتوح البلدان : ص ١١٩ و ١٢٠.

ويقول ابن أعثم : «فتح معاوية صور واتّجه إليها من طرابلس» كتاب الفتوح : ج ١ ، ص ٢٦٤.

٤٨

بعد انتصار المسلمين على الروم في وقعة فحل ، دخل بطريق يدعى يوقنا في الإسلام ، وهو ابن ملك قلعة حلب ، ودخل معه ممّن كان يخدمه أربعة آلاف وحسن إسلامهم.

ولمّا قرر أبو عبيدة النهوض إلى الساحل ، قام إليه يوقنا ، وقال : أيها الأمير اعلم أن الله عزوجل قد أباد المشركين ، ورفع علم الموحّدين ، وإنّي أريد أن أسير قبلك إلى الساحل لعلّي أفوز من القوم بغزوة (١).

فسار إلى الساحل واستطاع بتوقّد ذكائه أن يسلّم مدينة طرابلس لجيش المسلمين ، بعد أن سيطر على مراكب كثيرة بما فيها من أمتعة كانت مرسلة من قبرص إلى ملك فلسطين (٢) ، فأخذ هذه المراكب واتّجه إلى مدينة صور.

يقول الواقدي : «فما أصبح يوقنا إلّا وهو في مدينة صور ... ففرح أهل صور بذلك وأمروهم بالنزول فنزل يوقنا وصار ينتظر الليل حتّى يثور بأصحابه ، وكان جملة من نزل معه تسعمائة رجل ... قال : لمّا حصل يوقنا والتسعمائة بمدينة صور ... أقبل عليهم في السرّ رجل من بني عم يوقنا ممّن استحكمت الضلالة في قلبه ... فأقبل إلى الدمستق وحدّثه بأمر يوقنا وما قد عزم عليه وأنّه مسلم وأنه يقاتلكم مع العرب ، وقد فتح طرابلس ... فلما سمع الدمستق ذلك لم يكذّب خبرا دون أن ركب بأصحابه وقبض على يوقنا وأصحابه ... فلما استوثق عليهم الدمستق أرمويل بن نشطة وكّل بهم ألف رجل وقال : سيروا بهم إلى الملك يفعل فيهم ما يريد ... فلما همّوا أن يسيروا بهم وقع الصياح من الأبواب ، ونفر أهل القرى ومن كان بالقرب من صور فسألوهم عن أخبارهم. فقالوا : قدمت العرب عليكم.

__________________

(١) فتوح الشام : ج ٢ ، ص ١٧.

(٢) المصدر نفسه : ج ٢ ، ص ٣١.

٤٩

قال الواقدي : وكان عمرو بن العاص لما نزل على قيسارية وجه يزيد بن أبي سفيان في ألفي فارس إلى صور ، فلما سمع الدمستق أمر بالأبواب فأغلقت ، وصعدت الرجالة على الأسوار ، وعمّروا الأبراج ونصبوا المجانيق وأدخل الدمستق يوقنا إلى قصر صور ... فلمّا كان الغد أشرف عليهم يزيد بن أبي سفيان نظر إليهم الدمستق ، فلمّا رآهم قليلا استحقرهم وطمع فيهم وقال : وحقّ المسيح لا بدّلي من الخروج إليهم وهزم هذه الشرذمة اليسيرة. ثم لبس الدمستق اللباس وأمرهم بالخروج وترك على حفظ يوقنا وأصحابه ابن عمّه باسيل ، قال : وكان باسيل هذا ممّن قرأ الكتب السالفة والأخبار الماضية ، وكان قد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دير بحيرا الراهب ... فلما وقع يوقنا وأصحابه ووكّله الدمستق على حفظهم قال : إنّ الإسلام هو الحق ، وقد بشّر به بحيرا الراهب ، ولعلّ الله يغفر لي إذا حللت هؤلاء القوم ...

فلما نظر باسيل إلى المدينة وخلوها واشتغل أهلها بالحرب أخذ رأيه على خلاص يوقنا ومن معه. فأقبل إليهم بالليل والتفت إلى يوقنا وأصحابه وقال : أيها البطريق ، كيف تركت دين آبائك وأجدادك من قبل وعوّلت على دين هؤلاء العرب ، وما الذي رأيت من الحق حتّى تبعتهم ، وقد كانت الروم تتّخذك عضدا لها وعونا ، قال له يوقنا : يا باسيل ظهر لي من الحق ما ظهر لك من الحق فعرفته ... وقا ليوقنا : لقد أنطق الله لسانك بالحق وأن الله تعالى كشف حجاب الغفلة عن قلبي منذ رأيت هؤلاء القوم بدير بحيرا الراهب ... وسمعت بحيرا يقول : هذا والله الذي بشّر به المسيح فطوبى لمن تبعه وآمن به وصدّقه ، فلما عدت من زيارة بحيرا سافرت إلى القسطنطينية بتجارة وطفت في بلاد الروم وأقمت ما شاء الله ،

٥٠

ثم عدت إلى قيسارية (١) فرأيت الروم في هرج ومرج. فسألت عن أحوالهم ، فقيل قد ظهر نبي في الحجاز اسمه محمد بن عبد الله ، وقد أخرجه قومه من مكّة ، وقد أتى إلى المدينة ، فما زلت أسأل عن أخباره وهي في كل يوم تنمو وتزيد حتّى مات ... فقال له يوقنا : وما الذي عزمت عليه؟ قال : عزمت والله أن أفارق قومي وأتبعكم ... وقال ليوقنا : اعلم إن مفاتيح أبواب المدينة عندي والعسكر خارج المدينة مشتغل بقتال العرب ، وليس في المدينة من يخاف جانبه ، فانهض على اسم الله ، فقال يوقنا : جزاك الله خيرا.

فقال باسيل : سأفعل ذلك ثم أنه خرج في حال الخفاء وفتح باب البحر ومعه رجل من بني عم يوقنا وركبا زورقا حتّى وصلا إلى البحر والمراكب ، وحدّثاهم بما قد كان ، فأقبل كلّ مركب برجاله إليهما وساروا إلى أن نزل الجميع وحصلوا داخل المدينة أعني مدينة صور وأعمى الله أبصار الكفّار ، فلمّا همّوا أن يثوروا قال يوقنا : ليس هذا من الرأي وأين من ... يدور إلى عسكر المسلمين ويتوصّل إلى أميرهم ويعلمه بما كان منّا ، فقال رجل من القوم : أنا أكون ذلك الرجل ، ثم خرج متنكرا ، وأغلق باسيل خلفه ، ووصل إلى يزيد بن أبي سفيان ، وحدّثه بالأمر على حقيقته.

وأما يوقنا رحمه‌الله ، فلمّا علم أن الخبر وصل إلى المسلمين قال لأصحابه ؛ ليصعد منكم خمسمائة رجل إلى السور ويقتلوا من عليه ، قال باسيل : ليس هذا رأيا فإن العوام لا اعتبار لهم ولعلّ الله أن يهديهم إلى الإسلام ، ولكن مر أصحابك أن يلزموا مطالع السور حتى لا ينزل أحد منهم

__________________

(١) قيسارية : مدينة ساحلية في فلسطين.

٥١

ويزعقوا بالأمان. قال : فاستصوب رأيه ووكّل الرجال بالمطالع ثم زعق يوقنا وأصحابه بصوت مزعج وقالوا : لا إله إلّا الله محمد رسول الله ، فسمع كلّ من في المدينة ومن على السور ذلك ... فسمع يزيد بن أبي سفيان الضجّة فعلم أن المسلمين قاموا في المدينة فكبّر وكبّرت المسلمون وهلّل الموحّدون ، فسمع الدمستق الضجّة من المدينة ... فوقع الرعب في قلوبهم ... فولّوا الأدبار ، واتّبع المسلمون آثارهم وملكوا خيامهم وما كان فيها ، فلمّا أصبح الصباح فتح يوقنا باب المدينة ، ودخل يزيد بن أبي سفيان ومن معه من المسلمين واحتووا على أموال الروم ... وأسلم أكثر القوم» (١).

د ـ فتح مرجعيون [١٥ ه‍ / ٦٣٦ م]

في سنة ١٥ ه‍ ، فتح عمرو بن العاص مرج عيون (٢).

ه ـ ولاة جبل عامل [١٥ ـ ٢١ ه‍ / ٦٣٦ ـ ٦٤١ م]

وعندما دخلت جبال عاملة بأكملها في الإسلام ، وفتحت جميع مدنها وقراها سنة ١٥ ه‍ ، ولّى عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان على الأردن وفلسطين ، وأصبحت منطقة صور وقدس وتبنين ومرجعيون تحت إمرته ، وولّى أبا الدرداء على دمشق. فأصبحت منطقة صيدا وجزّين والنبطية والبقاع الغربي خاضعة له (٣).

ولمّا هلك يزيد بن أبي سفيان سنة ١٨ ه‍ ، ولّى عمر أخاه معاوية بن

__________________

(١) فتوح الشام : ج ٢ ، ص ١٨ إلى ص ٢٠.

(٢) الكامل : ج ٢ ، ص ١٣١.

(٣) يقول البلاذري : «قال قوم : إنّ عمر إنما ولّى يزيد الأردن وفلسطين وأنّه ولّى دمشق أبا الدرداء» فتوح البلدان : ص ١٤١.

٥٢

أبي سفيان على دمشق وخراجها ، وولّى شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجه (١).

وولّى مع معاوية رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلاة والقضاء في الشام ، فولّى أبا الدرداء دمشق والأردن وصلاتهما ، وولّى عبادة (٢) قضاء حمص وقنسرين وصلاتهما (٣).

وفي سنة ٢١ ه‍ تولّى معاوية على بلاد الشام بأكملها بما فيها البلقاء والأردن وفلسطين (٤).

ثالثا : مشاركة شيعة علي عليه‌السلام

في الفتوحات الإسلامية

كان لشيعة الإمام علي عليه‌السلام الدور البارز والأهمّ في جميع الفتوحات الإسلامية ، في الشام والعراق وفارس وديار بكر ومصر.

فقد عقدت الراية لمالك الأشتر في فتح دمشق (٥). كما عقدت الراية لعبد الله بن جعفر الطيّار في وقعة أبي القدس بين عرقا وطرابلس. وكان تحت لوائه ، أشراف بني هاشم ، ومجموعة من سادات الصحابة ، منهم أبو ذرّ الغفاري رضي‌الله‌عنه (٦).

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٣ ، ص ٤٦٤ ، أمراء دمشق : ص ٨٤.

(٢) عبادة بن الصامت أول من ولّي قضاء فلسطين ، ومات بالشام سنة ٣٤ ه‍ ، راجع تاريخ دمشق : ج ٢٦ ، ص ١٨٣.

(٣) فتوح الشام : ج ١ ، ص ١٦٧.

(٤) تاريخ الطبري : ج ٣ ، ص ٥٣١.

(٥) فتوح الشام : ج ١ ، ص ٣٩ و ٥٢ و ١٧٧.

(٦) المصدر نفسه : ج ١ ، ص ٥٧ و ٥٨.

٥٣

وفي فتح قنسرين شارك مالك الأشتر (١) ، وفي وقعة اليرموك شارك حذيفة بن اليمان ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وأبو أيوب الأنصاري ، وعبد الله بن عمر ، والمقداد بن الأسود ، وأبو ذرّ الغفاري ، وعمّار بن ياسر (٢).

وفي فتح ديار بكر والرستن شارك المقداد بن الأسود وعمّار بن ياسر ، وعبد الله بن جعفر الطيّار على رأس قبيلة همدان (٣) ، وفي فتح بعلبك واللبوة شارك مالك الأشتر وأسامة بن زيد (٤) ، وفي فتح قيسارية شارك بلال الحبشي وعبادة بن الصامت (٥).

وفي فتح قبرص شارك أبو أيوب الأنصاري ، وأبو ذرّ الغفاري رضي‌الله‌عنه وعبادة بن الصامت والمقداد (٦).

وقد توفي عدد كبير من هؤلاء الصحابة في فلسطين ، كعبادة بن الصامت الذي مات بالقدس وترك في فلسطين ذرّية آل الصامت (٧) ، وأسامة بن زيد الذي سكن بالرملة وتوفّي بها (٨). كما نجد ذرية شداد بن أوس الأنصاري أخو حسان في نابلس وقرية حبيب (٩) ، وحمولة الجوابرة في عراق المنشية من عمل غزة وهم من ذرّية الصحابي جابر بن عبد الله

__________________

(١) فتوح الشام : ج ١ ، ص ٧٣.

(٢) المصدر نفسه : ج ١ ، ص ١٠٤ و ١٢٥.

(٣) المصدر نفسه : ج ١ ، ص ٩٦ وج ٢ ، ص ٥٩.

(٤) المصدر نفسه : ج ١ ، ص ٦٤ و ٧٨.

(٥) المصدر نفسه : ج ٢ ، ص ٩ و ١١ و ٢١.

(٦) المصدر نفسه : ص ١٥٥.

(٧) القبائل العربية في بلاد فلسطين : ص ١٥٧.

(٨) المصدر نفسه : ص ٤٧.

(٩) المصدر نفسه : ص ١٥٩.

٥٤

الأنصاري (١) ، وأعقاب المقداد بن أسود في قضاء غزّة وبيسان (٢).

رابعا : أبو ذر الغفاري في بلاد الشام

[١١ ـ ٣٠ ه‍ / ٦٣٢ ـ ٦٥٠ م]

هو جندب بن جنادة ، المشهور بأبي ذر الغفّاري رضي‌الله‌عنه ، صاحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الزاهد المشهور ، والصادق اللهجة (٣) ، والمؤمن الذي لا يعرف المداهنة ولا الرياء.

قصد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة المكرمة ، وكان رابع من دخل في الإسلام (٤) ، ونظرا لشخصيته الإيمانية العظيمة وزهده ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحقه : «أبو ذرّ في أمّتي شبيه عيسى بن مريم في زهده» (٥). وقال أيضا : «ما أظلت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ» (٦).

وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبتدىء أبا ذر إذا حضر ، ويتفّقده إذا غاب ، وفي يوم من الأيام رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستلقيا في المسجد فأوصاه بوصية. فلنستمع إلى أبي ذرّ ماذا يقول : «أتاني نبي الله ، وأنا نائم في مسجد المدينة ، فضربني برجله. فقال : ألا أراك نائما فيه. قال : قلت يا نبيّ الله غلبتني عيني ، قال : كيف تصنع إذا أخرجت منه ، قال : قلت آتي الشام الأرض المقدّسة. قال :

__________________

(١) القبائل العربية في بلاد فلسطين : ص ١٦١.

(٢) المصدر نفسه : ص ٦٥.

(٣) الإصابة : ج ٧ ، ص ١٠٥ ، الاستيعاب : ج ١ ، ص ٣٢١.

(٤) الاستيعاب : ج ١ ، ص ٣٢١ ، الغدير : ج ٨ ، ص ٤٣٤ ، تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ٢٣.

(٥) الاستيعاب : ج ١ ، ص ٣٢٣.

(٦) المصدر نفسه : ج ١ ، ص ٣٢٣.

٥٥

فكيف تصنع إذا أخرجت من الشام؟ قال : أعوذ بالله. قال : فكيف تصنع إذا أخرجت؟ قال : ما أصنع يا نبي الله؟ أضرب بسيفي! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا أدلّك على ما هو خير من ذلك وأقرب رشدا : تسمع وتطيع وتنساق لهم كيف ساقوك» (١).

١ ـ أبو ذر في بلاد الشام :

بقي هذا الصحابي ملازما للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى وفاته ، فالتزم خط أهل البيت عليهم‌السلام ، وجاهر بأحقيّة الإمام علي عليه‌السلام بالخلافة ، ولم يحضر أحد دفن الزهراء عليها‌السلام إلّا سلمان وأبو ذر (٢) ، ومع هذا كان له الدور البارز في جميع الفتوحات الإسلامية في الشام والعراق ومصر.

فكان في عداد جيش عمرو بن العاص مع رفيق دربه في الفتوحات أبي الدرداء (٣) ، وجيش عمرو بن العاص هو الذي فتح مدينة صور (٤) في ساحل جبال عاملة. كما شارك في وقعة أبي القدس بين عرقا وطرابلس ، وقد عقدت الراية فيها لعبد الله بن جعفر الطيار زوج السيدة زينب عليها‌السلام ، وكان أبو ذر تحت لوائه كما يقول الواقدي (٥).

وشارك في معركة اليرموك في سنة ١٣ ه‍ (٦) ، كما شهد فتح بيت المقدس والجابية (٧) ، وشارك في فتح مصر مع جيش عمرو بن العاص ،

__________________

(١) تاريخ دمشق : ج ١ ، ص ١٣٥ و ١٣٦ و ١٣٧ ، شرح نهج البلاغة : ج ٨ ، ص ٢٦٠.

الغدير : ج ٨ ، ص ٤٤٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ١١٥.

(٣) فتوح الشام : ج ١ ، ص ٧ و ١٠ وج ٢ ، ص ٥٢ و ١٨٤.

(٤) المصدر نفسه : ج ٢ ، ص ٢٧.

(٥) المصدر نفسه : ج ١ ، ص ٥٧.

(٦) المصدر نفسه : ج ١ ، ص ١٢٥.

(٧) تاريخ دمشق : ج ٦٦ ، ص ١٧٤.

٥٦

وكانوا قد انطلقوا إليها من قيسارية جنوبي حيفا بعد فتحها سنة ١٩ ه‍ (١).

٢ ـ أبو ذر في جبال عاملة

حين نقرأ سيرة أبي ذر في بلاد الشام ، نجد شيئا من الغموض يكاد يكتنف حياته في هذه المنطقة ، وفي الفترة الزمنية الواقعة بين ١١ ه‍ إلى سنة ٣٠ ه‍ ، إلا أن النصوص التاريخية تتحدّث عمّا أوجده أبو ذر من تغيير وزرع للمبادىء الحقّة في ذهنية المجتمع الشامي ، وصرفه الناس إليه ، وأخذهم الفيتا منه واجتماعهم حوله.

فبعد إمارة معاوية على بلاد الشام سنة ١٨ ه‍ ، نجد قسما كبيرا من الجيش الإسلامي في الشام ، كان مطيعا لأبي ذر الغفاري ، ولا عجب في ذلك إذ أن قبيلة عاملة ، كان لها تواجد لا يستهان به في هذا الجيش آنذاك ، وهو ما أرعب معاوية ، يقول ابن بطال كما في عمدة القارىء للعيني : «إنّما كتب معاوية يشكو أبا ذر لأنّه كان كثير الاعتراض عليه ، والمنازعة له ، وكان في جيشه (٢) ميل إلى أبي ذر» (٣).

فقد كانت إقامته الطويلة في بلاد الشام ، تقضّ مضاجع حكّامها ، فقد استطاع أن يستقطب الأكثرية من الناس في أماكن تواجده ، يعظهم ويرشدهم ويذكرهم بمقام أهل البيت عليهم‌السلام ، ما أدّى إلى تشيّع أهالي تلك البلاد لا سيما جبل عاملة ، يقول الحرّ العاملي عن تشيّع العامليين : «إن تشيّعهم أقدم من تشيّع غيرهم ، فقد روي أنّه لما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن من شيعة علي عليه‌السلام إلّا أربعة مخلصون : سلمان ، وأبو ذر ، والمقداد ، وعمّار. ثم

__________________

(١) فتوح الشام : ج ٢ ، ص ٢١.

(٢) جيش معاوية.

(٣) الغدير : ج ٨ ، ص ٤٥٦.

٥٧

يتبعهم جماعة قليلون اثنا عشر ، وكانوا يزيدون ويكثرون بالتدريج حتى بلغوا ألفا وأكثر ، ثم في زمن عثمان ، لما أخرج أبا ذر إلى الشام ، بقي أياما ، فتشيّع جماعة كثيرة ، ثم أخرجه معاوية إلى القرى ، فوقع في جبل عامل ، فتشيّعوا من ذلك اليوم» (١).

إلا أن وجود أبي ذر في هذه البلاد لم يكن بعد خلافة عثمان وإنّما منذ الأيام الأولى للفتح الإسلامي ، يقول ابن عبد البر : «كان إسلام أبي ذر قديما ، فيقال بعد ثلاثة ... خرج بعد وفاة أبي بكر إلى الشام ، فلم يزل بها حتّى ولّي عثمان ، ثم استقدمه عثمان لشكوى معاوية به وأسكنه الربذة ، فمات بها» (٢) وما يدلّ على سكنه في هذه البلاد مشاركته في غزوة قبرص.

٣ ـ مشاركة أبي ذر في غزوة قبرص ٢٨ ه‍ / ٦٤٨ م

كان معاوية استأذن عمر في غزو البحر فلم يأذن له ، فلمّا ولي عثمان بن عفان كتب إليه يستأذنه في غزو قبرص ، فكتب إليه عثمان : فإن ركبت ومعك امرأتك فاركبه مأذونا لك وإلّا فلا. فركب معاوية من عكا ومعه مراكب كثيرة ، وذلك في سنة ٢٨ ه‍ (٣).

وممّن شارك في هذه الغزوة : أبو ذر الغفاري رضي‌الله‌عنه ، وأبو أيوب الأنصاري ، وأبو الدرداء ، وعبادة بن الصامت ، وفضالة بن عبيد الأنصاري ، وعمر بن سعد بن عبيد الأنصاري ، وشداد بن أوس بن ثابت ، والمقداد وجبير بن نفير الحضرمي (٤).

__________________

(١) أمل الآمل : ج ١ ، ص ١٣.

(٢) الإستيعاب : ج ١ ، ص ٣٢١.

(٣) فتوح البلدان : ص ١٥٣.

(٤) المصدر نفسه : ص ١٥٥.

٥٨

وهذا يدل بوضوح أن أبا ذر كان في بلاد الشام (١) وقتها ، وقد انطلق من عكا على حدود جبل عامل الجنوبية ، وهنا نسأل : أين كان يسكن أبو ذر؟ هل كان يسكن في دمشق؟ أم في مكان آخر؟

لقد أجاب أبو ذر عن هذا السؤال في حديثه لأبي الأسود الدؤلي ، يقول ابن أبي الحديد عن أبي الأسود الدؤلي ، قال : «كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة. فجئته فقلت له : ألا تخبرني ، أخرجت من المدينة طائعا ، أم خرجت كرها ، فقال : كنت في ثغر من ثغور المسلمين ، أغني عنهم ، فأخرجت إلى المدينة ، فقلت : دار هجرتي وأصحابي ، فأخرجت من المدينة إلى ما ترى» (٢).

فموضع الشاهد هنا قوله : كنت في ثغر من ثغور المسلمين فأين هو هذا الثغر؟

المعروف تاريخيا أن الثغور الإسلامية كانت في مواجهة الروم البيزنطيين في قيسارية وعكا وصور وعدلون وصرفندة وصيدا وبيروت وطرابلس وغيرها. فلو كان أبو ذر ـ يومئذ ـ في دمشق لأجاب أبا الأسود : كنت في دمشق لأنها معروفة مشهورة عند العرب منذ القدم. لكن قوله في ثغر من ثغور المسلمين ، يعني أنّه كان في أحد الثغور المتقدّمة.

ويعزّز هذا الافتراض وجود مقام لأبي ذر في بلدة صرفندة ، وتوارث أهل جبل عاملة بأن تشيّعهم لعلي عليه‌السلام ولأبنائه من بعده يعود إلى أبي ذر. أضف إلى ذلك أن صاحب أبي ذر في الفتوحات الإسلامية ـ أعني به أبا

__________________

(١) بعد غزوة قبرض دبّ الخلاف بينه وبين معاوية لما رأى من تكالب أتباعه على غنائم الفتح.

(٢) شرح نهج البلاغة : ج ٨ ، ص ٢٦٠.

٥٩

الدرداء ـ (١) كان يرابط في بيروت ، وكان اتّخذ من بلدة الصرفند مسكنا له وترك بها ذرّيته ، وهو ما أخبرنا به ابن جميع الصيداوي المتوفى سنة ٤٠٢ ه‍ في كتابه معجم الشيوخ ، يقول : «إبراهيم بن إسحاق بن أبي الدرداء ، أبو إسحاق الأنصاري ، من أهل صرفندة» (٢).

وتعليقا على النص المتقدّم يقول الدكتور عمر تدمري : «هو حفيد الصحابي أبي الدرداء عويمر الذي كان يرابط في بيروت ، وينسب إلى الصرفندة ، البلدة الساحلية بين صور وصيدا ... فكان بها أبناء أبي الدرداء الأنصاري ، ... ولهم بها حصن ومسجد» (٣).

ممّا تقدم نعلم أن هذين الصحابيين قد سكنا في بلدة الصرفند فترك أبو الدرداء بها ذرّيته ، وترك أبو ذر بها مسجدا حمل اسمه وأعاننا على تعيين الثغر الذي كان يسكن به.

٤ ـ تردده لزيارة المدينة

ازدادت معارضة أبي ذر للسلطة الحاكمة آنذاك ، بعد تسلم عثمان الخلافة في سنة ٢٣ ه‍ ، إلا أنه لم يكن لينسى مجاورة قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزيارته ، فكان يترك ثغره في صرفندة ويتردد إلى المدينة المنوّرة ، ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيأذن له في ذلك (٤).

مرة قال عثمان في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس حوله : أيجوز للإمام (٥)

__________________

(١) لقد شارك أبو الدرداء إلى جانب أبي ذر في أغلب الغزوات في بلاد الشام وغيرها ، كما شاركا معا في غزوة قبرص سنة ٢٨ ه‍. راجع فتوح البلدان : ص ١٥٥ ، الكامل : ج ٢ ، ص ٢٣٩.

(٢) معجم الشيوخ : ص ٢١٤.

(٣) المصدر نفسه : ص ٢١٤ ه‍ ، نقلا عن تهذيب تاريخ دمشق : ج ٢ ، ص ١٩٨.

(٤) شرح نهج البلاغة : ج ٨ ، ص ٢٥٦ ، تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ، ص ١٧١.

(٥) يقصد نفسه.

٦٠