الحلقة الضائعة من تاريخ جبل عامل

علي داود جابر

الحلقة الضائعة من تاريخ جبل عامل

المؤلف:

علي داود جابر


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٠

كما الليالي وتصاريفها

للدارمي ابن أبي الدارم (١)

١٠ ـ من محاسن شعره :

انتشر ديوان الصوري في البلاد ، وذاعت قصائده على كل لسان ومنها القصيدة التي مدح بها الوزير علي بن الحسين المغربي [٤٠٠ ه‍] وتضمّ ٢٦ بيتا ، منها :

أترى بثار أم بدين

علقت محاسنها بعيني

في خصرها وقوامها

ولحاظها ما في الرديني

وبوجهها ماء الشبا

ب خليط نار الوجنتين

بكرت علي وقالت اخ

تر خصلة من خصلتين

إما الصدود أو الفرا

ق فليس عندي غير ذين

فأجبتها ومدامعي

تنهلّ فوق الوجنتين

لا تفعلي إن حان ص

دك أو فراقك حان حيني (٢).

ولهذه القصيدة حكاية طريفة ملخصها : كان من شعراء العصر تاجر غرقت بضاعته ، فلم يمكنه قول الشعر لضيق صدره ، فانتحل هذه القصيدة ، وقصد بها كبيرا من أهل عسقلان يدعى ذا المنقبتين ، وزاد فيها البيت الآتي :

ولك المناقب كلها

فلم اقتصرت على اثنتين

فأمر له بجائزة سنية ، فلامه بعض خواصه وقال له : هذا شعر عبد المحسن الصوري ، فقال : أعلم ذلك ، وأحفظ القصيدة ، وإنّما أعطيته

__________________

(١) ديوان الصوري : ج ١ ، ص ٤٢٠.

(٢) المصدر السابق : ج ٢ ، ص ٤١ ، يتيمة الدهر : ج ١ ، ص ٣٦٣ ، شذرات الذهب : ج ٣ ، ص ٢١١ ، أمل الآمل : ج ١ ، ص ١١٤. أعيان الشيعة : ج ٨ ، ص ٩٩.

٢٠١

للبيت الأخير (ولك المناقب ...) وهو له (١).

ومن محاسنه قوله :

بالذي ألهم تعذيبي

ثناياك العذابا

والذي ألبس خدّي

ك من الورد نقابا

والذي أودع في في

ك من الورد شرابا

والذي صور بالآس

على الورد حجابا

ما الذي قالته عينا

ك لقلبي فأجابا

أغزالا صاد بالل

حظ فؤادا فأصابا (٢)

وقال متغزّلا :

لي سيد أجفانه

قسمت على الأجسام سقما

وأغار أن أبدو به

بين الورى إلّا معمّى

من حاجبيه ومقلتيه

وزهر خدّيه تسما (٣).

فيظهر من البيت الأخير أن اسمه «حمزة».

وقال أيضا في صبي زجاج من أهل صور :

نظرات تترامى

بي إلى المرمى القصي

طرحتني من علي

بين أجفان علي

فادعى رقي ومار

قي بدعوى المدّعي

أنا عبد المحسن المع

روف لا عبد المسي (٤)

__________________

(١) ديوان الصوري : ج ٢ ، ص ٤١ ، ٤٢ ه‍.

(٢) المصدر السابق : ج ٢ ، ص ١٢٣ ، يتيمة الدهر : ج ١ ، ص ٣٦٥ ، تاريخ الإسلام (٤٠١ ـ ٤٠٢) ص ٤٦٤ ، أمل الآمل : ج ١ ، ص ١١٥ ، الغدير : ج ٤ ، ص ٣١١ ، أعيان الشيعة : ج ٨ ، ص ٩٨.

(٣) المصدر السابق : ج ١ ، ص ٤٢٥.

(٤) المصدر السابق : ج ٢ ، ص ١١٣ ، يتيمة الدهر : ج ١ ، ص ٣٦٤.

٢٠٢

١١ ـ تضمين الآيات والأحاديث في شعره

تضمّنت بعض أشعاره الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة.

أ ـ الآيات :

ـ يقول :

يستوجب العفو الفتى إذا اعترف

وتاب ممّا قد جناه واقترف

لقوله : «قل للّذين كفروا

أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف» (١).

يشير إلى الآية ٣٨ من سورة الأنفال.

ـ وقوله :

أنا بالله في السقام كما قا

ل : «مهين ولا يكاد يبين» (٢)

يشير إلى الآية ٥٢ من سورة الزخرف.

ـ وقوله أيضا :

أفسدت دنياي ولا دين لي

تفسده : «فاصدع بما تؤمر» (٣)

يشير إلى الآية ٩٤ من سورة الحجر.

ب ـ الأحاديث :

ـ يقول في أبي طاهر الحسين بن وهب :

خالف القول وهو يزداد حبا

زائره من نداه غير مغب (٤)

يشير إلى القول المأثور : «زر غبا تزدد حبا».

__________________

(١) ديوان الصوري : ج ١ ، ص ١٣٢.

(٢) المصدر السابق : ج ١ ، ص ٦٧.

(٣) المصدر السابق : ج ١ ، ص ١٥٤.

(٤) المصدر السابق : ج ١ ، ص ٦٩.

٢٠٣

ـ وقوله :

وأشهر ما يروونه عنه قوله

تركت كتاب الله فيكم وعترتي (١)

يشير إلى حديث الثقلين بحق أهل البيت عليهم‌السلام.

وقوله في هجاء أخيه عبد الصمد :

«سافروا تغنموا» ، فقال : وقد قا

ل تمام الحديث : «صوموا تصحوا» (٢)

يشير إلى قول النبي «سافروا تصحّوا وتغنموا» وقوله : «صوموا تصحّوا».

١٢ ـ وفاة ال صوري

توفّي عبد المحسن الصوري سنة ٤١٩ ه‍ ، يقول غيث الأرمنازي الصوري : «حدّثني عبد السلام بن محمد قال : توفّي عبد المحسن الصوري يوم الأحد التاسع من شوال سنة تسع عشرة وأربعمائة ، وكان قد بلغ الثمانين أو نيف عليها ، على ما ذكر لي» (٣).

سادسا : المسائل ال صيدا وية والطرابلسية

[قبل ٤٣٧ ه‍ / ١٠٤٥ م]

الوجود الشيعي الكثيف في جبل عامل ، تطلب أن يجاب على أسئلتهم من قبل المرجعية الشيعية في بغداد ، ويؤكّد هذا الأمر الرسائل العقائدية والفقهية الموجّهة إلى شيعة جبل عامل وشيعة طرابلس من علماء بغداد

__________________

(١) ديوان الصوري : ج ١ ، ص ٧٥.

(٢) المصدر السابق : ج ١ ، ص ٨٤.

(٣) المجموع : ص ١٧٤ ، تاريخ الإسلام (٤٠١ ـ ٤٢٠) ص ٣٦٣ ، النجوم الزاهرة : ج ٤ ، ص ٢٦٩ ، شذرات الذهب : ج ٣ ، ص ٢١١.

٢٠٤

الإماميين ردا على أسئلتهم ، فقد صنّف السيد المرتضى ، علي بن الحسين [ت ٤٣٧ ه‍] الفقيه والمتكلّم الشيعي الشهير لأهل طرابلس رسالتين عرفتا باسم «المسائل الطرابلسية الأولى والمسائل الطرابلسية الأخيرة». وصنف رسالة لأهل صيدا سمّاها جوابات المسائل الصيداوية الأولى والثانية والثالثة» (١).

سابعا : جبل عامل في السفر نامه

[٤٣٨ ه‍ / ١٠٤٦ م]

السفرنامة كتاب للحكيم والفيلسوف ناصر خسرو القبادياني المروزي العلوي المتّصل نسبه بالإمام الرضا عليه‌السلام ، وكان هذا الفيلسوف زار جبل عامل سنة ٤٣٨ ه‍ ، وذكر في كتابه ما رآه في صيدا وصور وطبرية وطرابلس.

١ ـ طرابلس والتشيّع

يقول خسرو : «وسكان طرابلس كلّهم شيعة ، وقد شيّد الشيعة مساجد جميلة في كل البلاد» (٢).

٢ ـ صيدا

يصفها خسرو فيقول : «ثم بلغنا صيدا ، وهي على شاطىء البحر أيضا ،

__________________

(١) معالم العلماء : ص ٧٠ ، معجم الأدباء : ج ١٣ ، ص ١٤٩ ، الذريعة : ج ٥ ، ص ٢٢٦ ، أعيان الشيعة : ج ٨ ، ص ٢١٩ ، وعن كثرة الشيعة في صور يقول السبكي في حديثه عن نصر بن إبراهيم المقدسية الذي وجد فيها سنة ٤٣٧ ه‍ : «ثم انتقل إلى صور وأقام بها عشر سنين ينشر العلم ، مع كثرة المخالفين له من الرافضة» راجع طبقات الشافعية : ج ٥ ، ص ٣٥٢ ، المجموع : ص ٢٨٠.

(٢) سفر نامة : ص ٤٨.

٢٠٥

يزرع بها قصب السكر بوفرة ، وبها قلعة حجرية محكمة ، ولها ثلاث بوابات. وفيها مسجد جمعة جميل يبعث في النفس هيبة تامّة ، وقد فرش كلّه بالحصير المنقوش. وفي صيدا سوق جميل نظيف ، وقد ظننت ، حين رأيته ، أنّه زين خاصة لمقدم السلطان أو لأن بشرى سعيدة أذيعت. فلمّا سألت قيل لي هكذا عادة هذه المدينة دائما. وفيها حدائق وأشجار منسّقة حتى لتقول إنّ سلطانا هاويا غرسها ، وفي كل من هذه الحدائق كشك ، وأغلب شجرها مثمر» (١).

٣ ـ صور والتشيّع [النبي معشوق]

وبعد مسيرة خمسة فراسخ على شاطىء البحر ، بلغنا مدينة صور ، وهي ساحلية أيضا ، وقد بنيت على صخرة امتدّت في الماء ، بحيث أن الجزء الواقع على اليابس من قلعتها لا يزيد على مائة ذراع ، والباقي في ماء البحر ، والقلعة مبنية بالحجر المنحوت الذي سدّت فجواته بالقار حتّى لا يدخل الماء من خلله. وقد قدرت المدينة بألف ذراع مربع (٢) ، وأربطتها (٣) من خمس أو ست طبقات ، وكلها متلاصقة ، وفي كثير منها نافورات وأسواقها جميلة كثيرة الخيرات ، وتعرف مدينة صور بين مدن ساحل الشام بالثراء. ومعظم سكّانها شيعة (٤). والقاضي هناك رجل سنّي اسمه ابن أبي عقيل (٥) ، وهو رجل طيب ثري. وقد بني على باب المدينة مشهد به كثير من السجاجيد والحصير والقناديل والثريات المذهبّة والمفضّضة. وصور مشيّدة

__________________

(١) سفر نامة : ص ٤٩.

(٢) أقل من ثلاثة أرباع الكيلومتر المربّع الواحد.

(٣) أربطتها : أبنيتها.

(٤) فلاحظ.

(٥) هو عبد الله بن علي بن عياض بن أحمد بن أبي عقيل المتوفّى سنة ٤٥٠ ه‍.

٢٠٦

على مرتفع ، وتأتيها المياه من الجبل ، وقد شيّد على بابها ، عقود حجرية ، يمرّ من فوقها إلى المدينة ، وفي الجبل واد مقابل لها ، إذا سار السائر فيه ثمانية عشر فرسخا ناحية المشرق بلغ دمشق» (١).

ثامنا : جبل عامل بين [٤٤٠ ـ ٤٤٩ ه‍] [١٠٤٨ ـ ١٠٥٧ م]

١ ـ صور [٤٤٠ ـ ٤٤١ ه‍] [١٠٤٨ ـ ١٠٤٩ م]

في سنة ٤٤٠ ه‍ قبض والي دمشق على ناصر الدولة ابن حمدان وحمله إلى صور ، وقبض على راشد بن سنان بن عليان أمير بني كلاب واعتقله بصور (٢).

وفي منتصف شوّال سنة ٤٤١ ه‍ نفي الوزير أبي البركات الحسين بن محمد الجرجرائي إلى صور واعتقل بها (٣).

٢ ـ محمد بن علي ال صور ي [ت ٤٤١ ه‍ / ١٠٤٩ م]

هو محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن رحيم الساحلي الصوري ، أبو عبد الله الحافظ ، ولد في مدينة صور سنة ٣٧٧ ه‍ ، قرأ وسمع في بلده وفي صيدا وعدلون وطرابلس وحمص وعسقلان وأكواخ بانياس ، ودخل مصر ، وزار تنيس ، وعاد إلى دمشق ، ودخل أرض العراق ، فتنقّل بين الأنبار والكوفة والبصرة وعكبراء وقرقيسيا وأقام ببغداد حتّى وفاته (٤).

__________________

(١) سفر نامة : ص ٤٩ ، ٥٠ ، والمشهد هو مقام النبي المعشوق.

(٢) اتّعاظ الحنفا : ج ٢ ، ص ٢٠٢.

(٣) المصدر السابق : ج ٢ ، ص ٢١٠ ، وكان يحكم صيدا في هذه السنة الأمير الشيعي ذخر الدولة.

(٤) الفوائد المنتقاة : ص ١٧ ، ١٨.

٢٠٧

قال الخطيب البغدادي : «كان من أحرص الناس على الحديث ، وأكثرهم كتبا له ، وأحسنهم معرفة به ... وكان دقيق الخطّ صحيح النقل» (١).

وقال ابن ناصر الدين : «كان آية في الإتقان مع حسن خلق ومزاح مع الطالبيين ، وكان خطّه دقيقا مع التحرير والمعرفة الزائدة ، كتب صحيح البخاري في سبعة أطباق من الورق البغدادي» (٢).

وقال الطيوري : «أكثر كتب الخطيب سوى تاريخ بغداد مستفادة من الصوري ... وكان له أخت بصور وخلف عندها اثني عشر عدلا من الكتب فحصل الخطيب من كتبه أشياء» (٣).

من مؤلّفاته كتاب : «الفوائد المنتقاة والغرائب الحسان» من انتخابه ، روى فيه عن الإمام علي عليه‌السلام قال : «عهد إليّ النبي الأمّي : أنّه لا يحبك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا منافق» (٤).

وروى عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ، قال : «لم يشكر النعمة من لم يشكر الهمّة» (٥).

وعن سعد قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعلي عليه‌السلام : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» (٦)

__________________

(١) تاريخ بغداد : ج ٣ ، ص ١٠٣.

(٢) شذرات الذهب : ج ٣ ، ص ٢٦٧.

(٣) المنتظم : ج ١٥ ، ص ٣٢٢.

(٤) الفوائد المنتقاة : ص ٣٨.

(٥) المصدر نفسه : ص ٧٤.

(٦) المصدر السابق : ص ٥٥ ، ٥٧ ، ٦١ ، ٦٤.

٢٠٨

وله أيضا : «فوائد في نقد الأسانيد» في ورقتين ، وهو مخطوط موجود في المتحف البريطاني رقم ٣٠٥٧ ، ولدينا نسخة منه.

من شعره في علم الحديث :

قل لمن أنكر الحديث وأضحى

عائبا أهله ومن يدّعيه

أبعلم تقول هذا؟ أبن لي

أم بجهل فالجهل خلق السفيه (١)

وله قصيدة ثانية في علم الحديث مطلعها :

عاب قوم علم الحديث وقالوا

هو علم طلابه جهال (٢)

وله في الكتاب :

نعم الأنيس كتاب

إن خانك الأصحاب

يحوي ضروب علوم

تزينها الآداب (٣)

توفي في بغداد سنة ٤٤١ ه‍ ، ودفن في مقبرة جامع المدينة (٤).

٣ ـ صيدا وصور [٤٤٥ ـ ٤٤٨ ه‍] [١٠٥٣ ـ ١٠٥٠ م]

ورد ذكر صيدا وصور في شعر ابن أبي حصينة المتوفّى سنة ٤٥٦ ه‍ فقال يمدح ثمال بن صالح المرداسي في سنة ٤٤٥ :

سالت مذانب صيدا من دمائهم

وطرّحت حائر الراسومة العدد (٥)

__________________

(١) تاريخ دمشق : ج ٥٤ ، ص ٣٧٢ ، المنتظم : ج ١٥ ، ص ٣٢٢ ، تاريخ الإسلام (٤٤١ ـ ٤٥٠) ، ص ٥٦.

(٢) المصدر السابق : ج ٥٤ ، ص ٣٧٣.

(٣) المصدر السابق : ج ٥٤ ، ص ٣٧٣ ، النجوم الزاهرة : ج ٥ ، ص ٤٨.

(٤) المصدر السابق : ج ٥٤ ، ص ٣٧٥ ، اللباب في تهذيب : ج ٢ ، ص ٢٥١ ، النجوم الزاهرة : ج ٥ ، ص ٤٨ ، شذرات الذهب : ج ٣ ، ص ٢٦٧.

(٥) ديوان ابن أبي حصينة : ص ١٦٠ ، والراسومة من قرى حلب.

٢٠٩

وذكر صور سنة ٤٤٧ ه‍ فقال :

وتيامنت عن بحر صور تبتغي

بالشام أمّ الناجعين القصد (١)

وفي سنة ٤٤٨ ه‍ تعرّضت طرابلس لحملة الأسطول البيزنطي فطلب قاضيها أمين الدولة ابن عمّار المساعدة من «عين الدولة» عبد الله بن علي بن أبي عقيل قاضي صور فأنجده بقوات كثيرة في البر والبحر (٢).

٤ ـ أبو الفتح الكراجكي [ت ٤٤٩ ه‍ / ١٠٥٧ م]

محمد بن علي بن عثمان ، أبو الفتح الكراجكي نسبة إلى قرية عراقية تدعى كراجك ، أو إلى عمل الكراجك وهي الخيم كما في لسان الميزان (٣) ، ونسب أيضا إلى صور وطرابلس ، فقيل الصوري والطرابلسي (٤).

أطراه عدد كبير من مترجميه ، فوصفوه بالشيخ المحدث الفقيه المتكلّم المتبحر الرفيع الشأن. من أكابر تلامذة المرتضى والشيخ المفيد والديلمي والواسطي وسلار وأبي الحسن بن شاذان القمي ، وهو من أجلّة العلماء والفقهاء والمتكلمين الشيعة ، وإليه أسندت جميع الإجازات ، ويعبّر عنه ابن شهر آشوب بالقاضي (٥). ولا نعرف البلد الذي كان فيه قاضيا وإن كنا نميل إلى الظنّ أن أمراء بني عمّار حكام طرابلس هم الذين أسندوا إليه القضاء في مدينة طرابلس بالبلاد الشامية.

قال عنه ابن حجر العسقلاني : «كان من فحول الرافضة ، بارع في فقههم وأصولهم ، نحوي ، لغوي ، منجم ، طبيب ، رحل إلى العراق ، ولقي الكبار

__________________

(١) ديوان ابن أبي حصينة : ص ٢٩٨.

(٢) لبنان من السيادة الفاطمية : ج ١ ، ص ١١٣.

(٣) لسان الميزان : ج ٥ ، ص ٣٠٠ ، تاريخ الإسلام (٤٤١ ـ ٤٦٠) ، ص ٤٣٦.

(٤) كنز الفوائد : ج ١ ، ص ١١ و ١٢.

(٥) معالم العلماء : ص ١١٩ ، رياض العلماء : ج ٥ ، ص ١٣٩ ، ١٤٠.

٢١٠

كالمرتضى ... بالغ ابن طي في الثناء عليه في ذكر الإمامية ، وذكر أنّ له تصانيف في ذاك ، وذكر أنّه أخذ عن أبي الصلاح واجتمع بالعين زربى» (١).

وكان الكراجكي جياشا بكل فن ، يطلب المعرفة أينما كانت ، يعيشها وينشرها ويدعو إليها. لذا نراه يتجوّل في كثير من العواصم الإسلامية وبخاصة الشامية منها ، فكان يتجوّل بين دمشق وبغداد وحلب وميافارقين وطبرية والرملة وطرابلس وصيدا وصور. يقيم في كل منها مدّة يؤلف فيها ويصنّف كما يظهر من ثبت مؤلفاته ، ومن لقاءاته مع أهل العلم. فكان في ميافارقين سنة ٣٩٩ ه‍ ، وفي مصر سنة ٤٠٧ ه‍ (٢).

أ ـ في طرابلس

زار الكراجكي طرابلس وأقام فيها ونسب إليها فقيل : أبو الفتح الطرابلسي ، ويعزر هذه النسبة وإقامته الطويلة فيها ، أنه ألف أثناء إقامته فيها عدّة مؤلفات منها :

١ ـ عدّة المصير في حج يوم الغدير : ألّفه للشيخ أبي الكتائب أحمد بن محمد بن عمار (٣) بطرابلس.

__________________

(١) لسان الميزان : ج ٥ ، ص ٣٠٠ ، وج ٢ ، ص ٢٧٥ ، شذرات الذهب : ج ٢ ، ص ٢٨٣.

(٢) راجع عن تنقلّاته في كتابه كنز الفوائد : ج ١ ، ص ٣٣٢ ، ٣٣٣ ، ٣٥٣ ، ٣٨٥ ، وج ٢ ، ص ١٢٠ ، ١٣٤ ، وما سأذكره لاحقا من تواريخ تنقّلاته يعود إلى هذه الصفحات ، ووجوده في ميافارقين سنة ٣٩٩ يجعلنا نحتمل أن ولادته كانت في الثلث الأخير من القرن الرابع.

(٣) كنز الفوائد : ج ١ ، ص ١٢ ، وأحمد بن محمد بن عمار ، ذكره الشاعر الصوري في قصيدة مطلعها :

أبلغ أبا العباس أحدوثة

ثناؤها يعبق من عرضه

اليوم عوّلت على أنني

أصرف بعض العيد في بعضه

راجع ديوان الصوري : ج ١ ، ص ٢٦٤.

٢١١

٢ ـ التلقين لأولاد المؤمنين صنّفه في طرابلس الشام (١).

٣ ـ التهذيب متّصل بالتلقين (٢).

٤ ـ نهج البيان في مناسك النسوان ، أمره بعمله الشيخ الجليل أبو الكتائب بن عمار بطرابلس (٣).

٥ ـ معونة الفارض على استخراج سهام الفرائض ، ألّفه بطرابلس لبعض الإخوان (٤).

٦ ـ ردع الحاصل وتنبيه الغافل ، ألفه في طرابلس (٥).

٧ ـ مختصر طبقات الوارث ، عمل للمبتدئين بطرابلس (٦).

٨ ـ البستان صنّفه للقاضي الجليل أبي طالب عبد الله بن محمد بن عمّار (٧).

٩ ـ معدن الجوهر : روي عن الشيخ الفقيه أبي عبد الله الحسين بن هبة الله الطرابلسي (٨).

وكان من تلاميذه في هذه المدينة : عبد العزيز بن أبي كامل القاضي عزّ الدين الطرابلسي (٩) ، وابن البراج عبد العزيز بن نحرير البراج قاضي طرابلس ، صاحب

__________________

(١) تاريخ الإسلام (٤٤١ ـ ٤٦٠) ص ٢٣٧ ، كنز الفوائد : ج ١ ، ص ١٩ ، معدن الجوهر : ص ١٦ ، شذرات الذهب : ج ٣ ، ص ٢٨٣.

(٢) كنز الفوائد : ج ١ ، ص ١٢.

(٣) المصدر السابق : ج ١ ، ص ١٢.

(٤) المصدر السابق : ج ١ ، ص ١٢.

(٥) المصدر السابق : ج ١ ، ص ١٢.

(٦) المصدر السابق : ج ١ ، ص ١٢.

(٧) الذريعة : ج ٣ ، ص ١٠٥.

(٨) المصدر السابق : ج ٢١ ، ص ٢١٢.

(٩) كنز الفوائد : ج ١ ، ص ١٩.

٢١٢

كتاب المهذب. وأثناء تواجده بطرابلس جرت أمامه مناظرة بين العالم الشيعي الحسين بن بشر الطرابلسي (١) والخطيب البغدادي صاحب تاريخ بغداد ، حكم في نهايتها لابن بشر بالتقدّم في العلم على الخطيب (٢).

ب ـ في الرملة

ترك الكراجكي طرابلس وتوجّه إلى الرملة البيضاء في فلسطين فنزلها سنة ٤١٠ ه‍ كما في إجازة أحمد بن نعمة الله العاملي للمولى عبد الله التستري (٣).

ويبدو أنّه سكنها إلى سنة ٤١٦ ه‍ ، وكان خازنا بدار العلم فيها (٤) ، وحدث بها عن مجموعة من العلماء ، ومنها توجّه إلى مكّة المكرمة سنة ٤١٢ ه‍.

ج ـ في صور

وانتقل الكراجكي إلى مدينة صور سنة ٤١٦ ه‍ وسكن فيها ، ونسب إليها. وكانت المدينة يومها تسير في فقهها وأصولها على مذهب أهل البيت عليهم‌السلام. فألّف كتابا لأهلها سمّاه : «الأصول إلى مذهب آل الرسول» ويتضمّن الأخبار بالمذهب من غير أدلّة عملها للأخوان بصور سنة ٤١٨ أو ٤١٦ ه‍ (٥). وكتب : «أذكار الإخوان بوجوب حق الإيمان» أنفذها إلى الشيخ الأجل أبي الفرج البابلي (٦). وكتب أيضا «روضة العابدين» ألّفه لولده

__________________

(١) ذكره الصوري في قصيدة مطلعها :

ما أقامت إلا لترحل صبري

لوعة توجد العواذل عذري

أصبحت تحسب السلام على النا

س نوالا لا كالحسين بن بشر

ديوان الصوري : ج ١ ، ص ١٤٢.

(٢) لسان الميزان : ج ٢ ، ص ٢٧٥.

(٣) رياض العلماء : ج ٥ ، ص ١٤٠.

(٤) المصدر نفسه : ج ٤ ، ص ١٧.

(٥) كنز الفوائد : ج ١ ، ص ٢٣ ، معدن الجوهر : ص ٢٧.

(٦) المصدر نفسه : ج ١ ، ص ٢٢ ، معدن الجوهر : ص ٢٣ ، ولعلّ البابلي نسبة إلى بلدة البابلية بين صيدا وصور ، أو أن بلدة البابلية نسبت إليه.

٢١٣

موسى ، وينقل عن هذا الكتاب الشيخ شمس الدين محمد وأخوه تقي الدين إبراهيم الكفعمي ، ويرويه عنه الحسين بن هبة الله الطرابلسي (١) ، وألّف كتاب «التعريف بوجوب حقّ الوالدين» و «التأديب» لولده أيضا (٢).

ووضع كتاب «المقنع للحاج والزائر» سأله القائد أبو البقاء فوز بن نزال (٣) ، ويبدو أن هذا القائد كان يسكن في منطقة صيدا ، وقد ذكره الصوري في مقطوعة يظهر منها أن والده يدعى عبد الله يقول :

من حائم ملتهب الغلّه

في الحال والحيلة والخلّه

لو لا ظنون علّقت نفسه

بالفوز من فوز بن عبد الله

أراك مشعوفا ترى أن بذ

ل المال من مفترض الملّه (٤)

وفي سنة ٤٢٤ ترك صور وذهب إلى القاهرة ، وبقي هناك إلى سنة ٤٢٦ ، ويعود إلى صور ويزور طرابلس في سنة ٤٣٦ ه‍ (٥).

د ـ في صيدا

وفي سنة ٤٤١ ه‍ ، زار صيدا ، وعمل لأهلها كتاب «انتفاع المؤمنين بما في أيدي السلاطين» عملها للأخوان حرسهم الله بصيداء (٦) ، كما عمل «الإيضاح من أحكام النكاح» أمر بعمله الأمير ذخر الدولة بصيداء في سنة

__________________

(١) كنز الفوائد : ج ١ ، ص ١٩.

(٢) معدن الجوهر : ص ٢٣ ، كنز الفوائد : ج ١ ، ص ٢٣ ، الذريعة : ج ٤ ، ص ٧٦.

(٣) المصدر السابق : ص ١٦.

(٤) ديوان الصوري : ج ٢ ، ص ١٠٣ ، وذكر غيث الأرمنازي الصوري قصّة وقعت في مدينة صيدا بين المحسن بن كوجك وكاتب لبني نزال ، راجع المحسن بن علي بن كوجك.

(٥) يبدو أن مناظرة ابن بشر والخطيب البغدادي حدثت في هذه السنة.

(٦) كنز الفوائد : ج ١ ، ص ٢٣ ، معدن الجوهر : ص ٢٥ ، الذريعة : ج ٢ ، ص ٣٦٢.

٢١٤

٤٤١ ه‍ يخرج في جزء واحد فيه الخلاف بين الإسماعيلية والإمامية (١) وأثناء تواجده في هذه المدينة التقى بعلمائها ومحدثيها ، كالمحدث محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن طلحة الصيداوي ، أبي عبد الله ، وروى عنه حديثا أورده في كتابه التفضيل ، قال الكراجكي : «حدّثنا أبو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن طلحة بصيدا ، قال : حدّثنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الحلبي ... عن أنس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أراد أن يشهر عليا ـ عليه‌السلام ـ في موطن أو في مشهد علا على راحلته وأمر الناس أن تنخفض دونه ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشهر عليا يوم حنين فقال : «أيّها الناس من أحب أن ينظر إلى آدم في خلقه وأنا في خلقي وإلى إبراهيم في خلّته وإلى موسى في مناجاته وإلى يحيى في زهده وإلى عيسى في سنّته فلينظر إلى علي بن أبي طالب» ثم ذكر تمام الحديث (٢).

٥ ـ مكتبة العلامة الكراجكي ووفاته

ويعود إلى مدينة صور في سنة ٤٤١ ، ويقيم فيها ، ويضع كثيرا من مؤلفاته. فقد ألّف لشخصيات عصره من أمراء وقوّاد وعلماء وقضاة ، وقد كتب في الفقه والأصول والحساب والرياضيات والفلك والأدب والحديث والفلسفة والكلام والنحو والأخلاق والتاريخ والرجال والتفسير. وقد عمل بعض تلامذته من أولاد العلماء المعاصرين له رسالة في فهرست مصنفاته (٣) ذكر فيها ٨٥ مؤلفا عدا الكتب التي ألّفها بعد وضع هذه الرسالة وتبلغ ١٩ مؤلفا ، ومات الكراجكي في مدينة صور يوم الجمعة لثمان خلون من شهر

__________________

(١) كنز الفوائد : ج ١ ، ص ٢٤ ، معدن الجوهر : ص ٢٧ ، الذريعة : ج ٢ ، ص ٤٩١.

(٢) التفضيل : ص ٣١ و ٣٢ ، موسوعة علماء المسلمين : ق ١ ، ج ٤ ، ص ٢٢٢.

(٣) لدينا نسخة من هذه الرسالة.

٢١٥

ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وأربعمائة (١) ودفن فيها ، ولا يعلم مكان دفنه ، وإن كنّا نرجّح أنه دفن في الخربة (٢) التي كانت مدفنا لأهل صور وقتئذ.

تاسعا : صور تحت حكم آل أبي عقيل

[٤٥٥ ـ ٤٨٢ ه‍ / ١٠٦٣ ـ ١٠٨٩ م]

استمرّ الحسن بن الحسين بن ناصر الدولة الحمداني على حكم صور ومنطقتها من قبل سنة ٤١٩ ه‍ إلى سنة ٤٣٣ ه‍ ، وهو الذي مدحه الصوري في ديوانه ، ويبدو أن أولاده حكموا ولاية صور ، ومنهم أبو عبد الله الحسين بن حمدان الذي تولّى صور سنة ٤٥٠ ه‍ واستمرّ على حكمها إلى سنة ٤٥٥ ه‍ عندما تغلّب عليها قاضيها عين الدولة محمد بن عبد الله بن أبي عقيل ، وعصى فيها واستبدّ بها وخلع طاعة المستنصر (٣) الخليفة الفاطمي واستقلّ بولاية صور. فمن هو ابن عقيل؟

هو محمد بن عبد الله بن علي بن عياض بن أحمد بن أبي عقيل ، أبو الحسن. الحرّاني الأصل ، الصوري المولد والنشأة ، وهو قاضي صور وابن قاضيها عبد الله بن علي المتوفّى سنة ٤٥٠ ه‍ ، وكان كوالده يلقّب ب «عين الدولة» وكان له الحكم المطاع في جميع بلاد الساحل وقد خدمه كل رئيس فاصل وأديب كامل.

__________________

(١) شذرات الذهب : ج ٣ ، ص ٢٨٣ ، الوافي بالوفيات : ج ٤ ، ص ١٣ ، سير أعلام النبلاء ١٨ / ص ١٢٢ ، تاريخ الإسلام (٤٤١ ـ ٤٦٠) ص ٣٦ ، رياض العلماء : ج ٥ ، ص ١٤٠ ، كنز الفوائد ، ج ١ ، ص ١٢.

(٢) الخربة في زمانه هي المنطقة الواقعة بين بوابة صور البحرية والباب الجنوبي للملعب الروماني ، ومقابر الشيعة شرقي حديقة السلام حاليا.

(٣) الكامل : ج ٦ ، ص ٢٤٣ ، اتّعاظ الحنفا : ج ٢ ، ص ٣٠٣ ، تاريخ الإسلام (٤٦١ ـ ٤٧٠) ، ص ٧.

٢١٦

وعندما ولد محمد كتب الشاعر الصوري قصيدة لوالده عبد الله يهنئه بولادته :

بالرفا والبنين والسعد والإقب

ال والبعد عن بلوغ التناهي

واتّصال الوداد والفضل في الأو

لاد كلّ يأتي كعبد الله (١)

سمع أباه بصور ، وأبا محمد الحسن بن محمد بن جميع بصيدا ، وزار دمشق مع أبيه عبد الله ، وكان يحدث بصور ، وله شعر جميل ، يقول في اغتنام الشباب.

أما الشبيبة والنعيم فإنني

لم أدر أيّهما ألذّ وأقصر

حتى انقضى عمر الشباب فبان لي

أن الشباب هو النعيم الأكبر

لا تخدعن عنه فبائع ساعة

منه بدنياه جميعا يخسر (٢)

وكان الخليفة الفاطمي قد أغدق عليه الألقاب ، فعرف بصمصام الدولة ، القاضي الأعزّ الأجل ، ذو المعالي ، ثقة الثقات ، وهذه الألقاب لم ينلها أبوه من قبل ، ما يدلّ على أنه نال حظوة كبيرة عند المستنصر قبل أن يستقلّ بصور.

وكان على علاقة طيبة مع الفقيه أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي صاحب كتاب طبقات الفقهاء ، فكان يبعث إليه من صور إلى بغداد البدلة والعمامة المثمنة ، فكان الشيرازي لا يلبسها حتّى يغسلها في دجلة ، ويقصد طهارتها ، وكان ثمن العمامة لوحدها عشرين دينارا (٣).

وفي سنة ٤٦٢ ه‍ ثار أهل دمشق على القائد الفاطمي بدر المستنصري

__________________

(١) ديوان الصوري : ج ٢ ، ص ١٠٢.

(٢) مرآة الزمان : ص ١٤٣.

(٣) سير أعلام النبلاء : ج ١٨ ، ص ٤٥٩.

٢١٧

فأخرج أهله منها وأرسلهم إلى صيدا ، ثم لحق بهم بعد ذلك ، وقبل أن يصلها خرج إليه عسكر من دمشق ومعهم حصن الدولة حيدرة بن منزو لمقاتلته ، فلمّا علم بدر بذلك تحوّل عن طريقة وقصد صور ، فحاصرها أياما ، وعندما اقترب ابن منزو منه تركها وسار إلى عكا ، وما لبث ابن منزو أن مات في صور في هذه السنة (١).

ونتيجة للخطر المحدق بالنفوذ الفاطمي في الشام وخاصة بعد استقلال ابن عمار في طرابلس عنهم وابن حمدان في الرملة وساحل فلسطين قام بدر الجمالي على رأس جيش قدم من مصر بمحاصرة مدينة صور ومضايقتها حتّى أضرّ بأهلها ، ممّا دفع قاضيها ابن أبي عقيل لأن يكتب للأمير «قرلو» مقدّم الأتراك الواردين من العراق ، والمقيمين في نواحي الشام ، مستنجدا به ، فأجابه إلى طلبه ، وسار في ستة آلاف فارس فضرب الحصار على مدينة صيدا التابعة لنفوذ الدولة الفاطمية حتّى ضيّق على أهلها ، ووصلت الأخبار إلى بدر وهو لا يزال محاصرا لصور ، فخاف أن يحيط به الأتراك من خلفه ، لذا رفع حصاره ورحل عن صور ، بعد أن أشرف على أخذها ، إذ كان قد نجح في تأليب الكثير من أهلها وعسكرها ، وقويت شوكته بهم (٢).

وأثناء حصار بدر لمدينة صور كان هارون بن خان التركماني يقيم في هذه المدينة ، وكان ابن أبي عقيل قد أحسن إليه ووصله وإعطاه (٣) ، وأعطى أصحابه الأتراك الغز. لكن ابن خان قد خان مضيفه ابن عقيل وانحاز إلى

__________________

(١) صور من السيادة الفاطمية : ج ١ ، ص ١٢٠.

(٢) الكامل : ج ٦ ، ص ٢٤٣ ، اتّعاظ الحنفا ، ج ٢ ، ص ٣٠٣ ، صور من السيادة الفاطمية ج ١ ، ص ١٢١.

(٣) نظرا للوحدة المذهبية بين الاثنين.

٢١٨

بدر ، يقول ابن الجوزي : «فجاء (١) إلى ابن أبي عقيل إلى صور ، وأقام عنده فأحسن إليه ووصله وأعطى أصحابه ، وجاء بدر الجمالي فحاصر صور ، فنافق ابن خان. فقال لهم : (٢) قد عرفتم ما فعلت مع صاحبكم من الجميل وما أنفقت عليه من الأموال ، وما صلح لي ولا جازاني على إحساني إليه ، ولكم عليّ إن قتلتموه كذا وكذا من المال ، فوثب عليه منهم اثنان فقتلاه ، وحملا رأسه إلى ابن أبي عقيل وطيف به في صور» (٣).

ونتيجة لهذا الموقف فارق جماعة من الغز مدينة صور ، بعد أن كانوا بخدمة صاحبها ، ولحقوا ببدر الجمالي فيما بقي بعضهم مع القاضي صاحب صور (٤).

وما أن انسحب بدر من أمام صور ، حتّى رفع أصحاب القائد التركي قرلو الحصار عن صيدا وتحوّلوا إلى الداخل من بلاد الشام : ولكن انسحاب بدر لم يكن إلّا خدعة حتّى ينصرف الأتراك عن صيدا ، فلمّا انصرفوا عاد لمنازلة صور من جديد ، وحاصرها برا وبحرا سنة وضيّق على أهلها حتّى أكلوا الخبر كلّ رطل بنصف دينار ، ولم يبلغ غرضه فرحل عنها (٥).

١ ـ أبو بكر الخطيب والشيعي [٤٦٢ ه‍ / ١٠٦٩ م]

في سنة ٤٥٧ ه‍ انتقل الخطيب البغدادي من دمشق إلى مدينة صور ، بعد اتّهامه بتردّد بعض غلمانها عليه ، وأثناء تواجده بصور حدثت له قصة مع

__________________

(١) هارون بن خان التركماني.

(٢) ابن أبي عقيل.

(٣) مرآة الزمان : ص ١٤٣.

(٤) لبنان من السيادة الفاطمية : ج ١ ، ص ١٢٢.

(٥) الكامل : ج ٦ ، ص ٢٤٣ ، اتّعاظ الحنفا : ج ٢ ، ص ٣٠٣ ، تاريخ الإسلام (٤٦١ ـ ٤٧٠) ص ٧ ، لبنان من السيادة الفاطمية : ج ١ ، ص ١٢٢.

٢١٩

بعض أهلها ، يقول الفضل بن عمر النسوي : «كنت في جامع صور ، عند الخطيب ، فدخل عليه بعض العلوية ، وفي كمة دنانير ، وقال للخطيب : فلان يسلم عليك ، ويقول لك : اصرف هذا في بعض مهمّاتك.

فقال الخطيب : لا حاجة لي فيه. وقطب وجهه.

فقال العلوي : كأنّك تستقلّه ، ونفض كمّه على سجادة الخطيب ، وطرح الدنانير عليها ، وقال : هذه ثلاثمائة دينار ، فقام الخطيب محمرّا وجهه ، وأخذ السجادة ، وصب الدنانير على الأرض ، وخرج من المسجد.

قال المفضل : ما أنسى عزّ خروج الخطيب وذلّ ذلك العلوي» (١).

٢ ـ التشيّع في صيداء [٤٦٣ ه‍ / ١٠٧٠ م]

كانت صيدا في هذه السنة تسير في فقهها وعقيدتها على المذهب الشيعي الإمامي (٢) فقد أرسل ابن حمزة الجعفري المتوفّى سنة ٤٦٣ ه‍ إلى أهلها جواب المسألة الواردة من صيدا كما يقول النجاشي (٣).

كما كتب أبو عبد الله محمد بن عبد الله (٤) الطرابلسي تلميذ الشيخ الطوسي أجوبة للمسائل التي أرسلها إليه أهل صيدا وهذا ما قاله ابن شهر آشوب (٥).

٣ ـ محمد بن علي بن محمد بن جناب وقيل حباب الدرزي ال صور ي الشاعر [ت ٤٦٣ ه‍ / ١٠٧٠ م]

من أهالي مدينة صور ، كان شيعيا إسماعيليا ، غاليا فيه ، مظهرا له ، قال

__________________

(١) طبقات الشافعية : ج ٤ ، ص ٣٤ ، وربما تكون القصّة حدثت سنة ٤٦٣ ه‍.

(٢) وهذا لا يعني عدم وجود المذاهب والأديان الأخرى فيها.

(٣) رجال النجاشي : ص ٤٠٤ ، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة : ص ٥٠٠.

(٤) وفي نسخة محمد بن هبة الله.

(٥) معالم العلماء : ص ١٣٤ ، الذريعة : ج ٥ ، ص ٢٢٦.

٢٢٠