إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٤

جاء بعدهم بالتقليد ، فابتدرت دونه مناضلا ، وانتصبت عنه مجادلا ، وانتدبت لمحاسنه ناقلا ، وذكرت في هذا الكتاب مولده ونسبه ، وتحصيله للعلم وطلبه ، ودينه الصحيح ومذهبه ، وورعه الشديد وزهده ، واجتهاده القوي وجده ، وطعن القادح فيه ورده ، ودفع الظلم عنه وصده ، وسميته (كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري) وبالله التوفيق والعصمة ، وإليه المرجع في كل وصمة ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

ذكر نسبه :

هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان ابن داود ابن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أنور بن أرقم بن أسحم ابن النعمان ، وهو الساطع بن عدي بن عبد عطفان بن عمرو بن بريخ بن جذيمة ابن تيم اللات ، وقيل تيم الله ، وهو مجتمع تنوخ بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران ابن الحاف ابن قضاعة ، وهو لقب ، واسمه عمرو بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير ، وهو ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وهو مجتمع قبائل اليمن ، ابن عابر وقيل هو هود عليه‌السلام بن شالخ ، وقيل شالح ، وقيل سايح بن أرفخشد ، وقيل رافد ابن سام ، وقيل سائم بن نوح عليه‌السلام بن لمك ، وقيل لامك ، وقيل لامخ ، وقيل ملكان ابن متوشلخ ، وقيل متوشلح ، وقيل متوب ابن أخنوخ ، وهو إدريس عليه‌السلام ، وقيل حنوح ، وقيل حنوخ بن يازد ، وقيل يزد ، وقيل الزايد ، وقيل اليادر بن مهلائيل ، وقيل ماهللأل ، وقيل مهلهل بن قينان ، وقيل قنان بن طاهر ، وهو أنوش بن هبة ، وهو شيث ابن آدم عليه‌السلام.

وقحطان هو مجتمع قبائل اليمن بأسرها ، وتيم اللات مجتمع تنوخ بأسرها ، وإنما سموا تنوخ لأنهم تنخوا بالشام ، وقيل بالحيرة أي أقاموا ، والتنخ هو المقام في الموضع ، يقال تنخ في الأمر أي رسخ فيه فهو تانخ. وكانوا أقاموا على مالك بن زهير بن عمرو بن فهم ابن تيم اللات ونزلوا معه الحيرة فاختطوها وبنوا فيها الأبنية وعمروها ، وهم أول من عمر الحيرة ونزلها ، وكان لهم قوة وبأس وغناء وكثرة ، فغزاهم سابور الأكبر ملك فارس في جيوش عظيمة ، فقاتلوه قتالا شديدا ولم تزل الحرب بينهم أياما ، فلحقت بسابور جيوشه

٨١

وأمراؤه فضعفت تنوخ عن مقاومته وانكشفت ، فسار معظمهم ومن فيه نهوض منهم إلى الضيزن بن معاوية التنوخي إلى الحضر (١) فأقاموا به ، وملكوا ما جاورهم من البلاد وأجلوا سائر الأمم عنها ، إلا من أدى إليهم الجزية ، فاشتدت شوكة تنوخ وعظم بأسهم ، فملّكوا عليهم الساطع وهو النعمان بن عدي ، وإنما سمي الساطع لجماله وبهائه ، وكان طويلا وسيما جسيما جوادا شجاعا ، فملك عليهم برهة ، وكانت له حروب ووقائع مع ملوك الفرس ، وشن الغارات على السواد ، فسميت تنوخ يومئذ الدواسر لما ظهر من شدتهم بأسهم.

وبعض الجهال يقول : إن معرة النعمان تنسب إليه ، وليس بصحيح بل تنسب إلى النعمان بن بشير الأنصاري ، وكان واليا على حمص وقنسرين في ولاية معاوية وابنه يزيد ، ومات للنعمان بها ولد ، وجدد عمارتها فنسبت إليه ، وكانت تسمى أولا ذات القصور ، وقيل إن سياث كانت المدينة وهي آهلة ، (فخرج ابن للنعمان بشير يتصيد ، وكان موضع المعرة أجمة ، فافترسه السبع ، فجزع عليه) (٢) وبنى له موضعا عند قبره فبنى الناس لبنائه فنسبت معرة النعمان إليه لذلك ، وإنما نسبت الجهال المعرة إلى النعمان بن عدي المعروف بالساطع لأن أهلها كلهم أو بعضهم من بني الساطع ، فظنوا أنها منسوبة إليه. ولما هلك الساطع تفرقت كلمة تنوخ وتشتت أمرهم وتنازعوا الرياسة بعده.

ثم إن ملك الفرس غزا الروم فأذرع فيهم القتل وسبي الذراري وخرب العماير ، فأنفذ ملك الروم إلى تنوخ وكانت أقرب القبائل إليه في ذلك العصر فاستنجدهم على ملك الفرس ، فأنجدوه وقاتلوا معه قتالا شديدا ، ثم سألوا ملك الروم أن يتولوا حرب الفرس منفردين عن جند الروم لتظهر له طاعتهم وعناؤهم ، فأجابهم إلى ذلك فقاتلوا الفرس وظفروا بهم وقتلوهم قتلا ذريعا وأبلوا بلاء عظيما ، فأعجب بهم ملك الروم وفرق فيهم الدنانير والثياب وقربهم وأدناهم وأقطعهم سورية وما جاورها من البلاد إلى الجزيرة ، وهي مدينة بقرب الأحصّ على جانب البرية وإليها ينسب اللسان السورياني. هذا منتهى أمرهم في الجاهلية.

فلما جاء الإسلام قدموا مع أبي عبيدة بن الجراح رضي‌الله‌عنه ، وكانوا أشد من معه من العرب شوكة وأكثرهم عددا ، فانتخوا (٣) البلاد واختطوا الخطط ونزلوا قنسرين

__________________

(١) الحضر : بفتح الحاء وسكون الضاد : مدينة بإزاء تكريت.

(٢) ما بين قوسين زيادة أخل بها الأصل.

(٣) لعلها : فانتجعوا ، كما ضبطت في الطبعة المصرية.

٨٢

ومنبج وسورية وحماة ومعرة النعمان وكفر طاب وغيرها من بلاد الإسلام وتغلبوا عليها ، وكانوا على دين النصرانية ، فامتنعوا على أداء الجزية وقالوا : ما نؤدي ما يقع عليه اسم الجزية ، وكانوا أهل قوة وبأس ، فلما سار عمر رضي‌الله‌عنه إلى الشام قدموا عليه فقال : ما أقنع منكم إلا بالدخول في الإسلام أو السيف ، وأمهلهم سنتين. ثم إنه ألزهم ما يلزم أهل الذمة من جزية فأبوا عليه وقالوا : خذ المال منا على اسم الصدقة دون اسم الجزية ، فأبى عمر ، ثم أجابهم إلى أن يأخذها على اسم الخراج ، فاستجاب له قوم منهم وأقاموا بديارهم. وكان منهم أجداد أبي العلاء وأجداد بني الفصيص ولاة قنسرين ، وأسلم بعضهم في أيام أبي عبيدة وبعضهم في أيام المهدي بن المنصور ، ودخل منهم قوم إلى بلاد الروم مع جبلة (بن) الأيهم في النصرانية.

وتنوخ من أكثر العرب مناقب وحسبا ، ومن أعظمها مفاخر وأدبا ، وفيهم الخطباء والفصحاء والبلغاء والشعراء ، وهم يرجعون إلى بطنين : الساطع والحرّ. وبنو الساطع هم المشهورون بالشرف والسؤدد والرياسة والشجاعة والجود والفضل ، وبيوت المعرة منهم ، وهم يرجعون إلى أسحم بن الساطع وعدي بن الساطع وغنم بن الساطع ، فبنو سليمان وبنو أبي حصين وبنو عمرو ينتسبون إلى أسحم بن الساطع ، وبنو المهذب وبنو زريق ينتسبون إلى عدي بن الساطع ، وبنو حواري وبنو جهير ينتسبون إلى غنم بن الساطع. وجهير بن محمد التنوخي ولي معرة النعمان ، وأكثر قضاة المعرة وفضلائها وعلمائها وشعرائها وأدبائها من بني سليمان ، وهو سليمان بن داود بن المطهّر.

وحيث انتهى بنا القول إلى التنبيه على كثرة القضاة والفضلاء من بني سليمان فلنذكر الآن من اشتهر منهم بذلك بمعرة النعمان :

فمنهم : أبو الحسن سليمان بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر هو أول من تولى منهم معرة النعمان. وقال بعض الناس : إنه ولي قضاءها في سنة تسعين ومائتين إلى أن مات ، وبعضهم يقول : إن الذي تولى القضاء سنة تسعين ومائتين هو ابنه ، وهذا هو جدّ جدّ الشيخ أبي العلاء ، ومنهم ولد المذكور وهو جد أبي الشيخ أبي العلاء أبو بكر محمد بن سليمان بن أحمد ، ولي القضاء بمعرة النعمان بعد موت أبيه في حدود الثلاثمائة ، وقيل هو الذي تولى سنة ٢٩٠ ، وكان فاضلا أديبا ممدوحا ، وفيه يقول أبو بكر الصنوبري :

٨٣

بأبي يا بن سليمان لقد سدت تنوخا

وهم السادة شبانا لعمري وشيوخا

أدرك البغية من أضحى بناديك منيخا

واردا عندك نيلا وفراتا وبليخا

واجدا منك متى استصرخ للمجد صريخا

في زمان غادر الهمات في الناس مسوخا

ومدحه بغير هذه الأبيات أيضا.

ومن شعر القاضي أبي بكر بن سليمان قوله في الشمعة.

وصفراء كالتبر مقدودة

تسر وتونس جلّاسها

تكون لطالب مقياسها

فويق الذراع إذا قاسها

تموت إذا أهملوا أمرها

وتحيا إذا قطعوا رأسها

ويفنى الدجى بسنا نورها

إذا شهد القبض أنفاسها

وتبكي فيقطر من رأسها

نجوم ترصّع لبّاسها

يرى الشّرب نجما بها طالعا

وشمسا إذا جليت كاسها

أنسنا بها ورأينا السرور

فلا عدم الشّرب إيناسها

وتوفي أبو بكر محمد بن سليمان سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة.

ومنهم : ولده جد أبي العلاء ، وهو أبو الحسن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد ، تولى قضاء معرة النعمان في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة بعد موت موت أبيه أبي بكر ، ثم تولى بعد ذلك قضاء حمص أيضا. وكان فاضلا فصيحا شاعرا محدثا ، ومن شعره قوله في الناعورة :

وباكية على النهر

تئن ودمعها يجري

تذكرني بأحبابي

وحالي ليلة النفر

وأذري مثل ما تذري

وأسعدها وما تدري

على فقدي لأحبابي

وما قد فات من عمري

فما هي فيه مشهور

وما أنا فيه في الستر

٨٤

كأني في بسيط الأر

ض بين الناس في قبر

وروى الحديث عن القاضي أبي القاسم علي بن محمد بن كاس النخعي الحنفي قاضي معرة النعمان ، وعن الصقر بن أحمد البلدي ، وأبي بكر محمد بن بركة الحلبي المعروف ببرداعس الحافظ ، وعن محمد بن همام وجماعة سواهم. وروى عنه ابنه أبو محمد عبد الله وحفيداه الشيخ أبو العلاء أحمد بن عبد الله وابن بنته أبو صالح محمد بن المهذب وأبو الحسن المهذب وجعفر ابنا علي بن المهذب وأبو النصر عبد الكريم بن جعفر بن علي بن المهذب المعريون وأبو عمرو عثمان بن عبد الله الطرسوسي قاضي معرة النعمان بعده ، وولد بالمعرة سنة خمس وثلاثمائة ، وتوفي بحمص وهو على قضائها في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وثلاثمائة ودفن ظاهر باب الرستن.

ومنهم : ولده أبو محمد عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان والد الشيخ أبي العلاء. روى عن أبي بكر محمد بن الحسين السبيعي الحافظ نزيل حلب ، وأبي عبد الله الحسين بن خالويه وأبيه أبي الحسن سليمان بن محمد بن سليمان ، وأبي القاسم الحسن بن منصور بن محمد الكندي ، وأبي سعيد الحسن بن إسحاق بن بلبل المعري القاضي بها ، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة ، وعبد الله بن محمد البغوي وغيرهم. روى عنه ابنه الشيخ أبو العلاء أحمد.

وكان أبو محمد فاضلا أديبا لغويا شاعرا ، ومولده سنة ثلاثين وثلاثمائة ، ومن شعره قوله يرثي جارية له :

مولاك يا مولاة مولاها على

حال تسر عدوه وتضرّه

وبوده لو كنت أنت مكانه

في الزائرين وأن قبرك قبره

وقوله :

سمعتم بأجور من ظالم

أعل الفؤاد وما عاده

وقد كان واعدني زورة

فأخلف يا قوم ميعاده (١)

__________________

(١) ومن شعره في مرثية والده وهما من معجم الأدباء لياقوت :

إن كان أصبح من أهواه مطرحا

بباب حمص فما حزني بمطرح

لو بات أيسر ما أخفيه من جزع

لمات أكثر أعدائي من الفرح

٨٥

وتوفي أبو محمد عبد الله بن سليمان والد أبي العلاء بمعرة النعمان سنة خمس وتسعين وثلاثمائة (١) ، وقال فيه أبو العلاء ابنه يرثيه من أبيات أجازها لنا أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي قال : أنشدنا موهوب بن الخضر بن الجواليقي قال : أنشدنا يحيى بن علي التبريزي قال : أنشدنا أبو العلاء المعري يرثي أباه :

أبي حكمت فيه الليالي ولم تزل

رماح المنايا قادرات على الطعن

فيا ليت شعري هل يخفّ وقاره

إذا صار أحد في القيامة كالعهن

وهل يرد الحوض الرويّ مبادرا

مع الناس أو يأبى الزحام فيستأني

وخلف أبو محمد عبد الله بنين ثلاثة : أبا المجد محمد بن عبد الله وهو الأكبر (٢) والموجود الآن من بني سليمان كلهم من عقبه ، وأبا العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان وهو يلي أبا المجد في السن ، وأبا الهيثم عبد الواحد بن عبد الله وهو أصغر الأخوة الثلاثة.

فأما أبو الهيثم عبد الواحد بن عبد الله بن سليمان فكان شاعرا مجيدا ، روى عنه أبو العلاء شيئا من شعره وجمع شعره لولده زيد بن عبد الواحد. ذكر أبو غالب همام بن المهذب في تاريخه أن أبا الهيثم ولد في سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة ، وقرأت بخط أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن سليمان : ولد الشيخ أبو الهيثم عبد الواحد بن عبد الله بن سليمان سنة سبعين وثلاثمائة ، وله شعر مدون جمعه أخوه أبو العلاء لابنه زيد ، منه ما أنشدنا أبو إسحاق إبراهيم بن أبي اليسر بدمشق قال : أنشدني أبي شاكر بن عبد الله قال : أنشدني جدي أبو المجد بن عبد الله بن محمد قال : أنشدني الشيخ أبو العلاء أحمد بن عبد الله قال : أنشدني أخي أبو الهيثم لنفسه يخاطب بعض الشعراء :

زدني من الشعر الذي استنبطته

من فكرك المتصرف المستجلس

__________________

(١) ذكر ياقوت أن وفاته كانت بحمص سنة ٣٧٧.

(٢) من نظمه كما في معجم الأدباء :

كرم المهيمن منتهى أملي

لا ينتهي أجري ولا عملي

يا مفضلا جلت فواضله

عن بغيتي حتى انقضى أجلي

كم قد أفضت عليّ من نعم

كم قد سترت عليّ من زللي

إن لم يكن لي ما ألوذ به

يوم الحساب فإن عفوك لي

٨٦

فدنية الأشعار تصقل خاطري

مثل الحسام جلوته بالمدوس (١)

وتوفي أبو الهيثم سنة خمس وأربعمائة وخلف ولد واحدا ذكرا وهو أبو نصر زيد بن عبد الواحد بن عبد الله ، قرأ على عمه أبي العلاء وجمع له أبو العلاء شعر والده أبي الهيثم. أنشدني أبو إسحاق إبراهيم بن شاكر بن عبد الله قال : أنشدني أبي شاكر قال : أنشدني جدي أبو المجد قال : سمعت أبا العلاء ينشد زيد بن عبد الواحد بن عبد الله بن سليمان من شعر والده أخيه أبي الهيثم ، وكان جمع له شعر والده أخيه وكان أخوه قدم على (سياث) فوجد بها رجلا يقلع حجارة وكتب على حائط من حيطانها بمعول :

مررت بربع من سياث فراعني

به زجل الأحجار تحت المعاول

تناولها عبل الذراع كأنما

جنى الدهر فيما بينهم حرب وائل

أمتلفها شلّت يمينك خلّها

لمعتبر أو زائر أو مسائل

منازل قوم حدثتنا حديثهم

فلم أر أحلى من حديث المنازل

قرأت بخط بعض المعرّيين على ظهر كتاب : ولد الشيخ أبو نصر زيد بن عبد الواحد ابن عبد الله بن سليمان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ، وتوفي سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة ، فقد كان عمره أربعا وأربعين سنة. وله ولد اسمه منافر وقف بخطه كتبا من تصانيف عم أبيه أبي العلاء تدل على فضله وحسن نقله ، وليس له عقب بالمعرة ولا غيرها.

وأما أبو العلاء فهو الذي وضع هذا الكتاب في ذكره ، وسنذكر مولده وأحواله وشيوخه ووفاته إن شاء الله تعالى.

وأما الولد الأكبر فهو أخو أبي العلاء أبو المجد محمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد ابن سليمان والعقب الموجود إلى الآن من ولده ، وكان فاضلا أديبا شاعرا ، وله ديوان شعر مجموع ، سمع بمعرة النعمان أبا أحمد عبيد الله بن محمد بن أحمد ابن الحريص البزار ،

__________________

(١) قال ياقوت في معجم الأدباء : وهو القائل في الشمعة :

وذات لون كلوني في تغيره

وأدمع كدموعي في تحدرها

قد سهرت لي وباتت لي مسهرة

كأن ناظرها في قلب مسهرها

وله أيضا :

قالوا تراه سلا لأن جفونه

ضنت عشية بيننا بدموعها

ومن العجائب أن تفيض مدامع

نار الغرام تشب في ينبوعها

٨٧

وأبا زكريا يحيى بن مسعر بن محمد. روى عنه أخوه أبو العلاء وولده عبد الله بن محمد القاضي وأبو سعد السمان. وولد ليلة الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.

ومن شعره ما أنشدني أبو إسحاق إبراهيم بن شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن سليمان قال : أنشدني أبي أبو اليسر شاكر قال : أنشدني جدي أبو المجد محمد بن عبد الله قال : أنشدني أبي عبد الله قال : أنشدني أبي أبو المجد محمد بن عبد الله بن سليمان لنفسه وقد اجتاز بقبر صديق له :

سقا قبرك المهجور صوب تجاوز

عميم الرضى جمّ اللها والمكارم

إذا طلعت يوم الحساب سحابة

محت بقضاء الله صحف الجرائم

وتوفي أبو المجد محمد بن عبد الله بن سليمان سنة ثلاثين وأربعمائة وعمره خمس وسبعون سنة ، وله ولدان وليا قضاء معرة النعمان : أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان وأبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان ، ولكل منهما عقب مذكور.

فأما أبو محمد عبد الله بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان التنوخي ابن أخي أبي العلاء قاضي معرة النعمان فإنه روى عن أبيه أبي المجد وعمه أبي العلاء أحمد ، وتولى خدمة عمه بنفسه ، وكان برا به ، وكان يكتب لعمه أبي العلاء تصانيفه ويكتب عنه بإذنه السماع والإجازة لمن يطلب ذلك من عمه. روى عنه ابنه أبو المجد محمد بن عبد الله بن محمد ، وولي قضاء معرة النعمان بعد عزل ابن أبي حصين عنه لأمر أنكر على ابن أبي حصين. وكانت ولايته القضاء في سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة على كره من عمه أبي العلاء. وكان مولده بمعرة النعمان سنة سبع وتسعين وثلاثمائة ، وله ديوان شعر ورسائل حسنة ، وتولى القضاء بمعرة النعمان وخطابتها والوقوف بها ، وكان يخدم عمه أبا العلاء ويعلله في مرضه ، فقال فيه أبو العلاء :

وقاض لا ينام الليل عنّي

وطول نهاره بين الخصوم

يكون أبرّ بي من فرخ نسر

بوالده وألطف من حميم

سأنشر شكره في يوم حشر

أجل وعلى الصراط المستقيم

ودفع إليّ أبي الحسن محمد بن أبي جعفر أحمد بن علي إمام الكلّاسة بدمشق جزءا بخط

٨٨

أبيه أبي جعفر إمام الكلّاسة ، فقرأت فيه بخطه أن الشيخ أبا اليسر شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان قال له : إن أبا العلاء قال في ابن أخيه أبي محمد عبد الله :

أعبد الله ما أسدى جميلا

نظير جميل فعلك غير أمّي

سقتني درّها ودعت وباتت

تعوّذني وتقرأ أو تسمّي

هممت بأن تجنبني الرزايا

فرمت وقايتي من كل همّي

كأن الله يلهمك اختياري

فتفعله ولم يخطر بوهمي

حمدتك في الحياة أتمّ حمد

وأيامي ذممت أتم ذمّ

أجدّك ما تركت وأنت قاض

تعهّد مقعد أعمى أصمّ

جزاك البارىء ابن أخ كريما

أبرّ بمعجز في برّ عمّ

قرأت بخط القاضي أبي القاسم المحسن بن عمرو التنوخي في كتابه النايب عن الإخوان : حضرت بعض أهل الأدب وقد أنشد هذه الأبيات :

لما خبت ريح الفرا

ق ولاح لي نجم التلاق

وظننت أني لا محا

لة قد نجوت من الخناق

حدثت عليّ حوادث

للبين محكمة الوثاق

فنفين عن عيني الكرى

وأذقنني مرّ المذاق

وتركني متلدّدا (١)

في طول همّ واشتياق

أبكي الدماء على فرا

ق الباكيات على فراقي

إن اصطبار العاشقي

ن على الفراق من النفاق

لجماعة من أصحابنا المعريين وسألهم إجازتها والزيادة فزاد فيها أبو محمد عبد الله بن سليمان القاضي مازحا للوقت :

فإذا وصلت إلى الودا

ع بلحظ عين أو عناق

ورأيت منهلّ الدمو

ع كأنها خيل السباق

وعلا البكاء من الجمي

ع وخفت من فرط اشتياقي

فذر الرجوع وسر على

رغم الفراق مع الرفاق

__________________

(١) في الأصل : متلذذا.

٨٩

واحلف بأنك لا تعو

د إلى المعرة بالطلاق

توفي القاضي أبو محمد عبد الله في شعبان سنة خمس وستين وأربعمائة.

وأما أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان ابن أخي الشيخ أبي العلاء ، فهو الأصغر منهما ، سمع عمه أبا العلاء ، وتولى قضاء معرة النعمان وقضاء حماة وسيّر إليّ شهاب الدين أبو المعالي أحمد بن مدرك بن سليمان جزءا في أخبار سلفه ذكر فيه عليا هذا وقال : إنه كان فاضلا ، سمع على عمه الشيخ أبي العلاء جميع أماليه ونسخها بخطه ، وولي قضاء حماة رحمه‌الله. وكانت ولايته قضاءها في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة. وذكر أبو غالب ابن المهذب في تاريخه أن مولد القاضي أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الله في سنة خمس وأربعمائة.

وقرأت في بعض تعاليقي للقاضي أبي المرشد سليمان بن علي بن محمد في أبيه يرثيه حين مات :

شهدت لقد أبقت بدين محمد

وفاة عليّ ثلمة ما لها سدّ

وفي المجد صدعا ليس يجبر كسره

وفي الدين وهنا باقيا ما له شدّ

فلا يبعدنك الله يا بن محمد

ومن يك منا اليوم حيا هو البعد

ولا رقأت عين امرىء ليس باكيا

عليك ولا أضحى له عاليا جدّ

فإن أشمت الحساد موتك عاجلا

فليس لحي من لقاء الردى بدّ

يعز علينا أن نراك مجندلا

صريعا وأن تمسي يخدّ لك الخدّ

والعقب الموجود الآن من بني سليمان في ولد أبي محمد عبد الله وأبي الحسن علي ابني أبي المجد محمد أخي أبي العلاء (١).

فأما القاضي أبو محمد عبد الله فله ولدان : أبو مسلم واذع وأبو المجد محمد ابنا أبي محمد عبد الله بن محمد القاضي المقدم ذكره. فأما أبو مسلم فهو الأكبر منهما وهو القاضي الرئيس شرف القضاة أبو مسلم واذع بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان القاضي ، ولد بالمعرة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ، وسماه عم أبيه أبو العلاء واذعا وكناه بأبي

__________________

(١) بياض بالأصل نحو سطر إنما الذي يظهر أن لا نقص.

٩٠

مسلم ، وكان رئيس المعرة وكبيرها والمقدم بها ، وولي القضاء بها بعد أبيه ، وكان مشهورا بالجود والكرم والعطاء عالما أديبا فاضلا ، وله رسائل حسنة وشعر جيد وديوان شعره موجود بأيدي الناس. روى عنه أخوه القاضي أبو المجد محمد بن عبد الله بن محمد.

أنشدنا زين الأمناء أبو البركات الحسن بن محمد بن الحسن الدمشقي بها ، أنشدنا أبو اليسر شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله سليمان ، أنشدنا جدي القاضي أبو المجد محمد بن عبد الله بن سليمان ، أنشدني القاضي أبو مسلم واذع بن عبد الله بن سليمان لنفسه :

وقفنا وقد غاب المراقب وقفة

أمنّا بها أن يفتك السخط بالرضى

على خلوة لم يجر فيها تنغّض

بها عاد وجه الليل عندي أبيضا

نعيد حديثا لا يملّ كأنه

حياة أعيدت في امرىء بعد ما قضى

توفي أبو مسلم واذع سنة تسع وثمانين وأربعمائة (١) ، ولا أعلم لأبي مسلم غير ولد واحد وهو أبو عدي النعمان بن واذع بن عبد الله بن سليمان ، شاعر محسن مولده بمعرة النعمان ، وروى عنه ابن ابن عمه شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله وأبو الفضل هبة الله بن ذكوان بن محمد الكلاعي.

ومن شعره ما أخبرنا به أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن الدمشقي بها عن أبي الخطاب عمر بن محمد العليمي ونقلته من خط العليمي قال : أنشدنا أبو الفضل هبة الله بن ذكوان بن محمد الكلاعي بخوارزم قال : أنشدني أبو عدي النعمان بن واذع ابن سليمان لنفسه بحماة :

عبث النسيم بعطفه فترنحا

نشوان من ماء الشبيبة ما صحا

أخذت لواحظه القصاص لخده

منّا فجرّح باللحاظ وجرّحا

__________________

(١) قال ياقوت في معجمه : وله رسائل حسنة وشعر بديع منه :

وقائلة ما بال جفنك أرمدا

فقلت وفي الأحشاء من قولها لدغ

لئن سرقت عيناه من لون خده

فغير بديع ربما نفض الصبغ

ومن شعره أيضا :

ولما تلاقينا وهذا بناره

حريق وهذا بالدموع غريق

تقلدت للدر الذي فاض جفنها

فرصعه من مقلتي عقيق

٩١

لبس السواد فلن ترى عين امرىء

في الخلق أحسن منه فيه وأملحا

غارت عليه إذ رأته قلوبنا

بسوى سويداواتها متوشّحا

ملك القلوب مملّك لو أنه

لمس الحصى بالكف منه لسبّحا

توفي أبو عدي سنة نيف وخمسين وخمسمائة ، ولا أعلم له عقبا (١).

وأما أبو المجد محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان المعروف بمجد القضاة فهو ابن ولد أخي أبي العلاء الأصغر منهما ، وهو أيضا تولى القضاء بمعرة النعمان نيابة عن أخيه واذع بن عبد الله ، ثم تولى القضاء بها بعده استقلالا. ومولده بمعرة النعمان ليلة الجمعة بين المغرب والعشاء في خامس شهر ربيع الآخر من سنة أربعين وأربعمائة ، وقيل سنة إحدى وأربعين وأربعمائة ، وكان فاضلا أديبا شاعرا ناثرا راويا للحديث فقيها متقنا على مذهب الشافعي رحمه‌الله. روى عن أبيه عبد الله وعم أبيه أبي العلاء وأخيه أبي مسلم واذع وأبي الحسن علي بن أحمد بن الدويدة وأبي يعلى عبد الباقي ابن أبي حصين. روى عنه حفيده أبو اليسر شاكر بن عبد الله بن محمد ومؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن منقذ الشيزري.

أنشدني زين الأمناء أبو البركات الحسن بن محمد بن الحسن ، أنشدني أبو اليسر شاكر ابن عبد الله المعري ، أنشدني جدي أبو المجد محمد بن عبد الله لنفسه :

ألا أيها البرق الذي لاح موهنا

لقد زدتني سقما وهيجت لي وجدا

وأرّقت عيني والخليّون هجّع

كأن لم تجد دون اعتراضك لي بدّا

وأذكرتني ثغر الحبيب ولثمه

على عجل لو كنت تشبهه بردا

ولما هجم الفرنج على معرة النعمان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وكان أبو المجد هذا قاضيا بها انتقل إلى شيزر وأقام بها مدة ، ثم انتقل إلى حماة وأقام بها إلى أن مات في محرم سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة ، وله ولد واحد وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان أبو محمد بن أبي المجد بن أبي المجد (٢) والد أبي اليسر

__________________

(١) قال ياقوت في معجمه : وهو القائل :

يا أيها الملاك لا تبرحوا الأم

لاك وارجوها إلى قابل

فالعام قد صحت ولكنها

للعدل والمشرف والعامل

(٢) في الطبعة المصرية : بن أبي محمد.

٩٢

شاكر ، سافر إلى مصر ولقي الأفضل أمير الجيوش فلزمه ، وولد بمعرة النعمان يوم الأربعاء التاسع عشر من جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين وأربعمائة.

ومن شعره ما أخبرنا به أبو نصر بن محمد بن هبة الله بن الشيرازي القاضي إذنا ، وقد لقيته بدمشق وسمعت منه قال : أخبرنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن الشافعي قال : أنشدني أبو اليسر قال : كتب إليّ والدي من مصر :

يا غائبا مسكنه مهجتي

وحاضرا وليس بالحاضر

صوّره شوقي إليه فما

يريم من قلبي ومن ناظري

جفا رقادي بعده مقلتي

واستودعت وحشته خاطري

توفي أبو محمد عبد الله هذا في حياة أبيه بمصر يوم الجمعة للنصف من شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وخمسمائة ودفن بالقرافة بقرب روضة الشافعي رضي‌الله‌عنه ، وله ولدان : أبو اليسر شاكر وأبو الفضائل عبد الكريم ابنا عبد الله بن محمد. فأما أبو الفضائل عبد الكريم بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان فهو الأصغر ، وكان شاعرا فاضلا ممدحا ، روى عنه أخوه أبو اليسر شيئا من شعره ، وكان مولده في الثامن من شوال سنة ثماني عشرة وخمسمائة بحماة ، ونشأ بها ، ورباه جده القاضي أبو المجد محمد بن عبد الله وأخوه أبو اليسر ، وكان والده أبو محمد قد سافر إلى مصر كما ذكرناه وتركه طفلا ومات بمصر ، فاشتمل عليه جده وأخوه ونشأ نشأة حسنة ، وكان زاهدا كريما ورعا كثير الصدقة والمعروف كثير التلاوة للقرآن.

كتب إلينا غير واحد من شيوخنا بالإجازة عن أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن محمد ابن سليمان قال : أنشدني أخي يعني عبد الكريم لنفسه أبياتا عملها وقد اجتاز بجسر ابن شوّاش (١) في زمن الربيع (بياض بالأصل) يعني بدمشق (مثله) :

مررت بالجسر وقد أينعت

رياضه بالخرّد العين

ظباء أنس كالدمى قادني

حتفي إليهن وتحييني

جسر ابن شوّاش الذي لم تزل

فيه العيون النجل تسبيني

ونشر عطر فاغم لم أزل

أموت من شوق فيحييني

__________________

(١) ابن شوّاش : رجل نسب إليه موضع من منتزهات دمشق (ياقوت).

٩٣

وكان قلبي في الهوى طائعي

وعاصيا من كان يغويني

ولم يجبه للذي سامه

من الخنا قلبي فيصبيني

فسرت عنهن سرى مسرع

مخافة منها على ديني

فالحمد لله الذي لم يزل

إلى سبيل الرشد يهديني

أخبرنا أبو نصر الشيرازي كتابة قال : أخبرنا أبو القاسم الحافظ قال : قال لي أخوه أبو اليسر : كان مرضه عشرة أيام بالسعال ، ونفث الدم العبيط ومات ميتة سهلة ، قال لي : قد وجدت الساعة راحة عظيمة ولذة تشبه لذة النوم ، ولم يبق عندي ألم من شيء ، فقلت له : فعن إذنك أمضي إلى المسجد الجامع فأصلي الجمعة وأعود إليك ، قال : نعم ، فمضيت فأدركتني امرأة فقالت : أدرك أخاك فقد أشخص ، فعدت إليه فقضى نحبه وقت صلاة الظهر من يوم الجمعة للسابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وخمسمائة ، ودفن بجبل قاسيون ، وكان قال لأخيه في مرضه : وقد حضرني قوم حسان الوجوه والزي نظاف اللباس طيبو الرائحة مستبشرين ، فقال له أخوه : هذه أوصاف الملائكة.

وأما أبو اليسر فهو شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان المعري أبو اليسر ابن أبي محمد بن أبي المجد بن أبي محمد بن أبي المجد ابن أبي محمد ، كان كاتبا شاعرا أديبا فاضلا ، كتب الإنشاء لأتابك الشهيد زنكي بن آق سنقر ، ثم لولده نور الدين محمود بعده ، ثم استعفى وقعد في بيته. وولد بشيزر سنة ست وتسعين وأربعمائة ، ونقله والده أبو محمد عبد الله إلى عند جده أبي المجد محمد بن عبد الله إلى حماة ، فربي في حجر جده وأبيه ، وقرأ على جده الأدب وسمع منه الحديث واشتغل عليه بغير ذلك من العلوم. روى عنه الحافظ أبو القاسم بن عساكر وذكره في تاريخ دمشق وهو حي ، ولم يذكر من كان حيا في زمنه غير أربعة هو أحدهم. وروى عنه العماد أبو عبد الله محمد بن محمد الكاتب وأبو المواهب بن صصرى ، وروى لنا عنه ابنه أبو إسحق إبراهيم وأبو القاسم الحسين بن هبة الله بن صصرى وأبو الحسن محمد بن أحمد بن علي القرطبي وغيرهم. وتوفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بدمشق ، ودفن بسفح جبل قاسيون ، أخبرني بوفاته ولده إبراهيم. (١)

__________________

(١) انظر بقية ترجمته في وفيات هذه السنة

٩٤

ومن شعره في الناعورة :

وباكية حنّت ففاضت دموعها

تراها بكت من خوف بين يروعها

لها أعين تجري بأدمع عاشق

وما عرفت عشقا فمم دموعها

وكان لشاكر أولاد جماعة ، منهم ولده أبو البركات محمد بن شاكر بن عبد الله ، سمع الحديث من الحافظ أبي القاسم الدمشقي ، وكان مولده بحلب في ذي الحجة سنة خمس وأربعين وخمسمائة. ومن شعره :

نظر الحبيب إلى المحب فتاقا

ودنا إلى ذي وجده فأفاقا

سبحان من جمع المحاسن كلها

فيه فضاهى خلقه الأخلاقا

ومنهم ولده الآخر سليمان بن شاكر شاعر حسن الشعر ، مولده بدمشق سنة خمس وخمسمائة. ومن شعره ما كتبه إلى أبيه شاكر :

تهنّ بالصوم وبالفطر

وعش سعيدا آخر الدهر

يا سيدا فاق جميع الورى

بالعلم والزهد وبالذكر

إني جدير أن أنال الذي

آمل من نعماك يا ذخري

إني إذا نافست لا أرعوي

لأنني نجل أبي اليسر

ومنهم ولده أبو العلاء أحمد بن شاكر شيخنا ، وروى عن والده أبي اليسر وعن الحافظ أبي القاسم الدمشقي ، كتبت عنه وسألته عن مولده فقال : سنة أربع أو خمس وخمسين وخمسمائة ، وتوفي بمعرة النعمان سنة ثمان وثلاثين وستمائة في شهر ربيع الأول.

ومنهم ولده الأصغر شيخنا أبو إسحاق إبراهيم بن شاكر بن عبد الله المعروف بالبهاء ، درس الفقه على مذهب الشافعي وتولى الخطابة بالمصلى ، وسيرة الملك العادل أبو بكر بن أيوب رسولا إلى حلب والموصل وغيرها. وكان فاضلا أديبا محدثا ، سمع شيخنا أبا اليمن الكندي وأبا حفص بن طبرزد وأباه شاكر بن عبد الله وأسامة بن مرشد وغيرهم ، وحدّث بشيء يسير من مسموعه وكتب عنه ، وأخبرني أن مولده سنة خمس وستين وخمسمائة. وأنشدني بدمشق قال : أنشدني أبي قال : أنشدني جدي أبو المجد لنفسه :

وعذب المقبّل رخص البنان

إذا لمس العود أشجى القلوبا

وينشقّ منه فؤاد المحبّ

إذا ما المحبون شقّوا الجيوبا

٩٥

توفي شيخنا أبو إسحاق إبراهيم بدمشق منتصف محرم سنة ثلاثين وستمائة يوم الأحد ، ودفن يوم الاثنين بسفح جبل قاسيون.

فهؤلاء ولد أبي محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان.

وأما أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان ابن أخي أبي العلاء فله من الولد أبو المرشد سليمان وأبو سهل مدرك ، وقيل أبو المرشد كنيته.

فأما سليمان فهو أبو المرشد سليمان بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد ابن سليمان ابن أحمد القاضي ابن ابن أخي أبي العلاء ، ولي قضاء المعرة وانتقل إلى شيزر بعد أخذ الفرنج المعرة ، وتوفي بشيزر. وكان أديبا فاضلا فصيحا شاعرا مجيدا ، وقفت له على كتاب بخطه وتأليفه في تفسير أبيات المعاني من شعر المتنبي ، وهو كتاب حسن في فنه ، ووقفت له على رسائل حسنة من كلامه. ومن شعره قوله :

نزّه لسانك عن نفاق منافق

وانصح فإن الدين نصح المؤمن

وتجنب المنّ المنكّد للندى

وأعن بنيلك من أعانك وامنن

وتناه عن غبن وغبن واغتنم

حسن الثناء من الأنام وأحسن

وأما أخوه مدرك فهو أبو سهل ، وقيل أبو المرشد مدرك بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان. وكان أديبا شاعرا ، ومن شعره قوله :

إذا لم تستطع سكنى بلاد

نشأت بها فكن منها قريبا

بحيث تشمّ نشر الريح منها

وتسأل مخبرا عنها مجيبا

فإنّ أشد أحداث الليالي

على الإنسان أن يمسي غريبا

بأرض لا يرى فيها صديقا

يسرّ به ولا يلقى حبيبا

وله وقد ورد إلى مصر :

ظلمت مصر وجارت

لا جرى النيل عليها

فلحى الله زمانا

أحوج الناس إليها

وكان لمدرك من الأولاد أبو المعالي صاعد وأبو سهل عبد الرحمن ومرضيّ وأحمد وسعيد.

٩٦

فأما أبو المعالي صاعد بن مدرك بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان فمولده ومنشؤه بشيزر وحماة ، وتوفي بمعرة النعمان ، وكان شاعرا أديبا ، من شعره قوله :

ألا أيها الوادي المنيني هل لنا

تلاق فنشكو فيه صنع التفرّق

أبثّك ما بي من غرام ولوعة

وفرط جوى يضني وطول تشوّق

عسى أن ترقّي حين ملّكت رقّه

وترثي له مما بهجرك قد لقي

بوصل يروّي غلّة الوجد والأسى

ويطفا به حرّ الجوى والتحرّق

وأما عبد الرحمن فهو أبو سهل عبد الرحمن بن مدرك بن علي بن محمد بن عبد الله ابن سليمان ، وهو ابن أبي المرشد المذكور ابن أبي الحسن ، ولد ونشأ بشيزر وحماة ، وتوفي في الزلزلة التي كانت بحماة سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. وكان أديبا شاعرا ، روى عنه أبو اليسر شاكر شيئا من شعره.

كتب إلي بعض شيوخي عن أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن محمد بن سليمان قال : أنشدني عبد الرحمن بن مدرك لنفسه :

بالله يا صاحب الوجه الذي اجتمعت

فيه المحاسن فاستولى على المهج

خذني إليك فإن لم ترضني صلفا

فاطرد بي العين عن ذا المنظر البهج

كيف السلامة من جفنيك إنهما

حتف لكل محب في الهوى وشج

ومن شعره قوله :

سارقته نظرة أطال بها

عذاب قلبي وما له ذنب

يا جور حكم الهوى ويا عجبا

تسرق عيني ويقطع القلب (١)

__________________

(١) قال ياقوت في معجمه : كان شاعرا مطبوع الشعر ومنه :

جرحت بلحظي خد الحبيب

فما طالب المقلة الفاعله

ولكنه اقتص من مهجتي

كذاك الديات على العاقله

ومن شعره أيضا :

ولما سألت القلب صبرا عن الهوى

وطالبته بالصدق وهو يروغ

تيقنت منه أنه غير صابر

وأن سلوا عنه ليس يسوغ

فإن قال لا أسلوه قلت صدقتني

وإن قال أسلو عنه قلت دروغ

هذه كلمة عجمية معناها كذب ا ه.

٩٧

وأما مرضيّ فله ولد وهو أبو الحسن علي بن مرضيّ بن مدرك بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان ، ولد بمعرة النعمان وقيل بشيزر ، ونشأ بحماة. وكان فاضلا شاعرا مجيدا مكثرا. روى عنه أبو اليسر شاكر بن عبد الله بن محمد شيئا من شعره.

أنشدني أبو إسحق إبراهيم بن شاكر بن عبد الله بن محمد بن سليمان بدمشق قال : أنشدني أبي شاكر قال : أنشدني جدي أبو المجد محمد بن عبد الله لنفسه :

وقفت بالدار وقد غيرت

معالم منها وآثار

فقلت والقلب به لوعة

تحرقه والدمع مدرار

أين زمان فيك خلّفته

وأين سكّانك يا دار

قال أبو إسحق إبراهيم بن أبي اليسر : قال لي أبي : فوصلت الأبيات إلى القاضي علي ابن مرضيّ بن مدرك بن سليمان فقال على وزنها جوابا لها ، وأنشدنيها علي لنفسه :

أجابت الدار على عيّها

إن سكوتي عنك إقرار

أخنى على من كان بي ساكنا

صروف أيام وأقدار

فارتجع الدهر ولذّاته

معيرة (١) والدهر غدّار

وها أنا اليوم كما قد ترى

مقفرة ما فيّ ديّار

توفي علي بن مرضي بحماة في الزلزلة التي أخربتها يوم الاثنين رابع رجب سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.

وأما أحمد بن مدرك فله ولد وهو أبو المشكور صالح بن أحمد بن مدرك بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان القاضي ، وكان ولي القضاء بمعرة النعمان ، وروى الحديث عن أبي الحسن علي بن الحسين عمر الفراء وأبي العلاء صاعد بن سيار بن محمد ، وكان سمع منهما بمصر ، روى عنه أبو البركات محمد بن علي بن محمد الأنصاري وأبو محمد عبد القاهر بن علوي قاضي معرة مصرين. وكان أبو المشكور قد عمر وغلب الكبر عليه. وقرأت بخط بعض المعرّيين : حدثني الفقيه المؤمل بن عنبسة أن القاضي أبا مشكور صالح ابن سليمان رأى في منامه كأن قائلا يقول له : لم لا تعمد إلى شرب ماء الورد بعد سف

__________________

(١) لعل الصواب : معارة.

٩٨

بزر قطونا (١) فإنه أقل فضولا من الماء ورطوبة ، والله لتعمرن ثمانين سنة وبعدها يقضي الله ما هو قاض ، إما سلامة أو غيرها. وأنشد :

سفر جلا عن مقلتي طعم الكرى

سفر وجدت الزاد فيه سفر جلا

فشممت أطيب نفحة من عرفه

وحمدت طعم المرّ منه وما حلا

وأما سعيد بن مدرك بن علي فله ولد وهو أبو الراضي مدرك بن سعيد بن مدرك بن علي ، سمع أبا طاهر إسماعيل بن حميد وروى عنه شعرا ، روى عنه أبو الخطاب عمر بن محمد العليمي.

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن الدمشقي عن أبي الخطاب عمر ابن محمد العليمي قال : أنشدني أبو الراضي مدرك بن سليمان التنوخي إملاء من حفظه قال : أنشدني أبو طاهر إسماعيل بن حميد ، أنشدني القاضي أبو المجد محمد بن عبد الله بن سليمان لنفسه :

لئن عظم اشتياق منك نحوي

ففي قلبي من الأشواق نار

وعلّ الله يجمع بعد بين

لنا شملا ويقترب المزار

وليس بضائر والودّ باق

إذا نزحت باهليها الديار

فهذه نبذة من ذكر فضلاء بني سليمان وقضاتهم وعلمائهم ، ومن أراد استقصاء أخبارهم وفضائلهم وأشعارهم فعليه بكتابي المطول في تاريخ حلب (٢) ، ففيه مقنع لمن قصد شيئا من ذلك وطلب. وقد أخبرني أبو القاسم بن الحسين الأنصاري عن الحافظ أبي طاهر السلفي قال : قال لي الرئيس أبو المكارم وكان من أفراد الزمن ثقة مالكي المذهب : وكانت الفتاوي في بيتهم يعني بني سليمان على مذهب الشافعي رحمه‌الله تعالى في أكثر من مائتي سنة بالمعرة.

__________________

(١) في الأصل : بزر قطنه ، والصواب ما أثبتناه.

(٢) هو بغية الطلب.

٩٩

فصل

(في ذكر مولد أبي العلاء ومنشئه وعماه وصفة خلقه)

أما مولده فبمعرة النعمان ، وأمه هي بنت محمد بن سبيكة ، وأظن أن أباها من أهل حلب ، وخاله علي بن محمد بن سبيكة الذي يقول فيه :

كأن بني سبيكة فوق طير

يجوبون الغواير والنجادا

وتوفيت والدته وهو غائب عنها حين رحل إلى بغداد في سنة أربعمائة ، وقد رثاها بأبيات هي في سقط الزند.

وقرأت بخط أحمد بن علي بن عبد اللطيف المعري وهو أحد من قرأ على أبي العلاء وروى عنه ويعرف بابن زريق قال : وولد يعني أبا العلاء يوم الجمعة عند غروب الشمس لثلاثة أيام مضت من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.

ونقلت من خط الأديب الأستاذ أبي عبد الله محمد بن علي العظيمي الحلبي في تاريخه ، وأنبأ به عنه المؤيد بن محمد النيسابوري وغيره قال : وفيها يعني سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ، ولد الشيخ أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي بمعرة النعمان من رقعة الشام.

قال العميد : ولد أبو العلاء في سنة ست وستين. وهذا العميد الذي نقل عنه العظيمي ذلك هو العميد أبو يسر خير بن محمد بن علي التنوخي المعري ، وهذا ليس بصحيح.

وذكر الوزير أبو غالب عبد الواحد بن مسعود بن الحصين الشيباني في كتابه الذي جمعه في المختار من أشعار الشعراء وذكرهم على حروف المعجم ، وأخبرنا بذلك إجازة عنه الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار قال : ولد يعني أبا العلاء لثلاث بقين من ربيع الأول سنة ست وستين وثلاثمائة ، ومرضت عيناه في سن الطفولية وذهبتا. والصحيح في مولده ما أخبرنا به أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي كتابة وقراءة عليه قال : أخبرنا أبو منصور القزّاز قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب ، حدثني أبو الخطاب العلاء بن حزم الأندلسي قال : ذكر لي أبو العلاء المعري أنه ولد في يوم الجمعة لثلاث بقين من شهر ربيع سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.

١٠٠