إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٤

الناس ثلاثين سنة وهو متكتف تحت ثيابه ويسبل أكمامه فارغة خوفا من الولاة في أيامه لأنهم كانوا إسماعيليين يرون رأي المصريين ، وكانوا يفطرون قبل العيد بيوم ويجتمع أكابر حلب في يوم عيدهم يهنؤونهم ، فصعد القاضي أبو غانم للهناء في من صعد وقدم للناس سكّرا ولوزا ، وأخذ القاضي أبو غانم لوزة ووضعها في فيه ، فقال له صاحب حلب : أيها القاضي لم لا تأكل من السكر؟ فقال : لأنه يذوب ، وتبسم فضحك الوالي وأعفاه من ذلك.

حدثني كمال الدين قال : حدثني عمي حدثني أبي قال : نزل جدك القاضي أبو غانم في بعض الأيام يصلي بالجامع وخلع نعليه قرب المنبر وكانا جديدين ، فلما قضى صلاته قام للبسهما فوجد نعله العتيق مكانهما ، فقال لغلامه : ألم أنزل إلى الجامع بالمدارس الجديد ، فأين هو؟ فقال الغلام : بلى ، ولكن جاءنا الساعة رجل وطرق الباب وقال : القاضي يقول لكم أنفذوا إليه مداسه العتيق إلى الجامع فقد سرق مداسه الجديد ، فضحك وقال : هذا والله لص شفيق جزاه الله خيرا وهو في حل منه.

والقاضي أبو غانم هذا هو الذي نهض من حلب في سنة ٥١٨ وقد حصرها الفرنج ودبيس بعد قتل بلك على منبج حتى أقدم البرسقي من الموصل فاستنقذها من الحصار ، وهربوا لما سمعوا بقدومه. وكان أهل حلب لقوا شدة وأكلوا الميتة ولم يكن عندهم أمير وإنما تولوا حفظ البلد بأنفسهم وأبلوا بلاء حسنا حسنت به العاقبة.

ومنهم أبنه القاضي أبو الفضل هبة الله سمي باسم جده وكني بكنيته. وكان فقيها مرضيا ورعا زاهدا ، سمع الحديث ورواه ، وولي بحلب وأعمالها بعد موت أبيه القاضي أبي غانم وكتب له عهده من أتابك زنكي بن آقسنقر في سنة ٥٣٤ ، ثم جاء له العهد من بغداد من قاضي القضاة الزينبي وأمر المقتفي. وكان مولده في ذي القعدة سنة ٤٩٩ ، فلما قتل أتابك زنكي وولي ابنه نور الدين وولي القضاء كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري قضاء الشام ورزق البسطة والتحكم في الدولة وقاوم الوزراء بل الملوك التمس من القاضي أبي الفضل هذا أن يكتب في كتب سجلاته ذكر النيابة عنه ، فامتنع القاضي أبو الفضل ولج ابن الشهرزوري ، وساعده مجد الدين بن الداية وهو والي حلب لشيء كان في نفسه على القاضي أبي الفضل لأمور كان يخالفه فيها في أقضية يوفر فيها جانب الحق على أغراضه. وترددت المراسلات بين نور الدين وبينه في قبول النيابة وهو يأبى إلى أن قال ابن الداية : هذا تحكم منه في الدولة وفيك إذ تأمر بشيء ولا يمتثله فاعزله وولّ محيي الدين ابن كمال

٤٤١

الدين. فقال نور الدين : (بياض في الأصل) يستناب له قاض حنفي ، فعزل القاضي أبو الفضل وولي محيي الدين قضاء حلب واستنيب له الكودري وذلك في سنة ٥٥٧ ، وحج في تلك السنة.

وكتب أبو الحسين أحمد بن منير الطرابلسي للقاضي أبي الفضل هبة الله يلتمس منه كتاب الوساطة بين المتنبىء وخصومه للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني ، وكان قد وعده بها ودافعه :

يا حائزا غاي كل فضل

تضل في كنهه الإحاطه

ومن ترقّى إلى محلّ

أحكم فوق السها مناطه

إلى متى أسعط التمني

ولا ترى المنّ بالوساطه

ومات القاضي أبو الفضل لعشر بقين من ذي الحجة سنة ٥٦٢.

ومنهم ابن أخته أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى ابن زهير بن أبي جرادة. سمع بحلب ورحل إلى بغداد وسمع بها محمد بن ناصر السلامي وغيره. وحدثني كمال الدين أيده الله قال : قال لي شيخنا أبو اليمن زيد الكندي : كان أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أبي جرادة ، سمع ببغداد الحديث معنا على مشايخنا فسمعت بقراءته ، وورد إلينا إلى دمشق بعد ذلك وكنا نلقبه (القاضي بسعادتك) وذلك أن القلانسي دعاه في وليمة وكنت حاضرها فجعل لا يسأله عن شيء فيخبر عنه بما سر أو ساء إلا وقال في عقبه : بسعادتك ، فإن قال له : ما فعل فلان؟ قال : مات بسعادتك ، وإن قال له : ما خبر الدار الفلانية؟ يقول : خربت بسعادتك ، فسميناه القاضي بسعادتك ، وكان يقولها لاعتياده إياها لا لجهل كان فيه. وكان له أدب وفضل وفقه وشعر جيد. وقد روى الحديث. ولأبي المكارم شعر منه :

لئن تنائيتم عني ولم تركم

عيني فأنتم بقلبي بعد سكان

لم أخل منكم ولم أسعد بقربكم

فهل سمعتم بوصل فيه هجران

وله أشعار كثيرة. ومات بحلب في سنة ٥٦٥ أو سنة ٦٦ (١).

__________________

(١) وترجمه الصلاح الصفدي في الوافي بالوفيات بمثل ما هنا وأورد له من النظم قوله :

لئن بعدت أجسامنا عن ديارنا

فإن بها الأرواح في عيشة رغد

وليس بقاء المرء في دار غربة

مضرا إذا ما كان في طلب المجد

٤٤٢

ومنهم جمال الدين أبو غانم محمد ابن القاضي أبي الفضل هبة الله ابن القاضي أبي غانم محمد ابن القاضي أبي الفضل ابن القاضي أبي الحسين يحيى ، وهو عم جمال الدين أحد الأولياء العبّاد وأرباب الرياضة والاجتهاد ، عامل كثير الصوم والصلاة ، وهو حي يرزق إلى وقتنا هذا. وكان قد تولى الخطابة بجامع حلب ، وعرض عليه القضاء في أيام الملك الصالح إسماعيل بن محمود بن زنكي بعد القاضي ابن الشهرزوري ، فامتنع منه ، فقلد القضاء أخوه القاضي أبو الحسن والد كمال الدين أيده الله. وكتب جمال الدين هذا بخطه الكثير ، وشغف بتصانيف أبي عبد الله محمد بن علي بن الحكيم الترمذي فجمع معظم تصانيفه عنده وكتب بعضها بخطه ، وكتب من كتب الزهد والرقائق والمصاحف كثيرا ، وكان خطه في صباه على طريقة ابن البواب القديمة ، ووهب لأهله مصاحف كثيرة بخطه ، وكان إذا اعتكف في شهر رمضان كتب مصحفا أو مصحفين وجمع براوات الأقلام فيكتب بها تعاويذ للحمى وعسر الولادة فتعرف بركتها. قال : وسألت عمي عن مولده فقال : في سنة ٥٤٠. وقد سمع أباه وعمه أبا المجد عبد الله وغيرهما ، وروى الحديث وتفقه على العلاء الغزنوي ، واجتمع بجماعة من الأولياء وكوشف بأشياء مشهورة ، وهو الآن يحيا في محرم سنة ٦٢٠ (١).

ومنهم القاضي أبو الحسن أحمد ابن القاضي أبي الفضل هبة الله ابن القاضي أبي غانم محمد بن أبي الفضل هبة الله ابن القاضي أبي الحسن أحمد بن أبي جرادة. كل هؤلاء ولوا قضاء حلب ، وهذا هو والد كمال الدين صاحب أصل هذه الترجمة ، كان يخطب بالقلعة بحلب على أيام نور الدين محمود بن زنكي ، ثم ولي الخزانة في أيام ولده الملك الصالح إسماعيل إلى أن عرض القضاء على أخيه كما ذكرنا فامتنع منه ، فقلده القاضي هذا بحلب وأعمالها في سنة ٥٧٥ ، ولم يزل واليا للقضاء في أيام الملك الصالح ومن بعده في دولة عز الدين ثم عماد الدين بن قطب الدين مودود بن زنكي وصدرا من دولة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى أن عزل عن منزلي الخطابة والقضاء ونقل إلى مذهب الشافعي ، وكان عزله عن القضاء في سنة ٥٧٨ ، ووليه القاضي محيي الدين محمد بن علي بن الزكي قاضي دمشق الشافعي ، وكان صرف أخوه الأصغر أبو المعالي عبد الصمد عن الخطابة

__________________

(١) كانت وفاته سنة ٦٢٨ وقد تقدمت ترجمته في هذا التاريخ.

٤٤٣

قبله ، فعلم أن الأمر يؤول إلى عزله عن القضاء ، لأن الدولة شافعية فاستأذن في الحج والإعفاء عن القضاء ، فصرف عن ذلك بعد مراجعات. وسمع الحديث من أبيه وأبي المظفر سعيد بن سهل الفلكي وغيرهما. ومولده سنة ٥٤٢ ، ومات رحمه‌الله ليلة الجمعة ال ٢٧ من شعبان سنة ٦١٣.

هذا ما كتبته من الكتاب الذي ذكرته آنفا على سبيل الاختصار والإيجاز ، وهو قليل من كثير من فضائلهم. وأنا الآن أذكر من أنا بصدده.

٢٥١ ـ ترجمة الصاحب كمال الدين عمر بن العديم

هو كمال الدين أبو القاسم عمر ابن القاضي أبي الحسن أحمد ابن القاضي أبي الفضل هبة الله ابن القاضي أبي غانم محمد ابن القاضي أبي سعيد هبة الله ابن القاضي أبي الحسن أحمد بن أبي جرادة ، كل هؤلاء من آبائه. ولي قضاء حلب وأعمالها ، وهم حنفيون ، وهو الذي نحن بصدده. وإلى معرفة حاله ركبنا سنن المقال وجدده. فإنه من شروط هذا الكتاب لكتابته التي فاقت ابن هلال وبلغت الغاية في الجودة والإتقان ، ولتصانيفه في الأدب التي تذكر آنفا إن شاء الله تعالى. فأما أوصافه بالفضل فكثيرة ، وسماته بحسن الأثر أثيرة. وإذا كان هذا الكتاب لا يتسع لأوصافه جميعا ، وكان الوقت يذهب بحلاوة ذكر محاسنه سريعا ، ورأيت من المشقة والإتعاب ، التصدي لجميع فضائله والاستيعاب ، فاعتمدت على القول مجملا لا مفصلا (وضربة) (١) لا مبوبا ، فأقول :

إن الله عزوجل عني بخلقته فأحسن خلقه وخلقه وعقله وذهنه وذكاءه ، وجعل همته في العلوم ومعالي الأمور ، فقرأ الأدب وأتقنه ، ثم درس الفقه فأحسنه ، ونظم القريض فجوده ، وأنشأ النثر فزينه ، وقرأ حديث الرسول وعرف علله ورجاله ، وتأويله وفروعه وأصوله ، وهو مع ذلك قلق البنان ، جواد بما تحوي اليدان ، وهو كاسمه كمال في كل فضيلة لم يعتن بشيء إلا وكان فيه بارزا ، ولا تعاطى أمرا إلا وجاء فيه مبّرزا ، مشهور ذلك عنه لا يخالف فيه صديق ولا يستطيع دفاعه عدو. وأما قراءته للحديث في سرعته وصحة إيراده وطيب صوته وفصاحته ، فهو الغاية التي أقر له بها كل من سمعها ، فإنه يقرأ الخط

__________________

(١) يريد : خلطا ، من ضرب الشيء بالشيء : خلطه.

٤٤٤

العقد كأنه يقرأ من حفظه. وأما خطه في التجويد والتحرير والضبط والتقييد فسواد مقلة لأبي عبد الله بن مقلة ، وبدر ذو كمال عند علي بن هلال.

خلال الفضل في الأمجاد فوضى

ولكن الكمال لها كمال

وإذا كان التمام من خصائص عالم الغيب ، وكان الإنسان لابد له من عيب ، فعيبه لطالب العنت والشين ، أنه يخاف عليه من إصابته العين ، هذا مع العفاف والزمت ، والوقار وحسن السمت ، والجلال المشهور ، عند الخاص والجمهور.

قاد الجيوش لسبع عشرة حجة

ولداته عن ذاك في أشغال

سألته أدام الله علوه عن مولده فقال لي : ولدت في ذي الحجة سنة ٥٨٨. قال : فلما بلغت سبعة أعوام حصلت إلى المكتب فأقعدت بين يدي المعلم ، فأخذ يمثل لي كما يمثل للأطفال ، ويمد خطا ويرتب عليه ثلاث سينات ، فأخذت القلم وكنت قد رأيته وقد كتب «بسم» ومد مدته ، ففعلت كما فعل ، وجاء ما كتبته قريبا من خطه ، فتعجب المعلم فقال لمن حوله : لئن عاش هذا الطفل لا يكون في العالم أكتب منه. وصحت لعمري فراسة المعلم فيه فهو أكتب من كل من تقدمه بعد ابن البواب بلاشك.

وقال : وختمت القرآن ولي تسع سنين ، وقرأت بالعشر ولي عشر سنين ، وحبب إليّ الخط وجعل والدي يحضني عليه. فحدثني الشيخ يوسف بن علي بن زيد الزهري المغربي الأديب معلم ولده بحضرة كمال الدين قال : حدثني والدي هذا (وأشار إليه) قال : ولد لي عدة بنات وكبرن ولم يولد لي غير ولد واحد ذكر ، وكان غاية في الحسن والجمال والفطنة والذكاء ، وحفظ من القرآن قدرا صالحا وعمره خمس سنين ، واتفق أن كنت يوما جالسا في غرفة لنا مشرفة على الطريق ، فمرت بنا جنازة فاطلع ذلك الطفل ببصره نحوها ثم رفع رأسه إليّ وقال : يا أبت ، إذا أنا مت بم تغشي تابوتي؟ فزجرته وأدركني في الوقت استشعار شديد عليه ، فلم يمض إلا أيام حتى مرض ودرج إلى رحمة الله ولحق بربه ، فأصابني عليه ما لم يصب والدا على ولده ، وامتنعت عن الطعام والشراب وجلست في بيت مظلم وتصبرت فلم أعط عليه صبرا ، فحملني شدة الوله على قصد قبره وتوليت حفره بنفسي وأردت استخراجه والتشفي برؤيته ، فلمشيئة الله ولطفه بالطفل أوبي لئلا أرى به ما أكره صادفت حجرا ضخما وعالجته فامتنع عليّ قلعه ، مع قوة وأيد كنت

٤٤٥

معروفا بهما ، فلما رأيت امتناع الحجر عليّ علمت أنه شفقة من الله على الطفل أو عليّ ، فزجرت نفسي ورجعت ولهان بعد أن أعدت قبره إلى حاله التي كان عليها ، فرأيت بعد ذلك في النوم ذلك الطفل وهو يقول : يا أبتاه عرّف والدتي أني أريد أجيء إليكم ، فانتبهت مرعوبا وعرفت والدته ذلك ، فبكينا وترحمنا واسترجعنا. ثم إني رأيت في النوم كأن نورا خرج من ذكري حتى أشرف على جميع دورنا ومحلتنا وعلا علوا كبيرا ، فانتبهت وأوّلت ذلك فقيل لي : أبشر بمولود يعلو قدره ويعظم أمره ويشيع بين الأنام ذكره بمقدار ما رأيت من النور ، فابتهلت إلى الله عزوجل ودعوته وشكرته وقويت نفسي بعد الإياس لأني كنت قد جاوزت الأربعين ، فلم تمض إلا هنيهة حتى اشتملت والدة ولدي هذا (وأشار إلى كمال الدين أيده الله) على حمل وجاءت به في التاريخ المقدم ذكره ، فلم يكن بقلبي بحلاوة ذلك الأول لأنه كان نحيفا جدا ، فجعل كلما كبر نبل جسما وقدرا ، ودعوت له عدة دعوات وسألت الله له عدة سؤالات ، ورأيت فيه والحمد لله أكثرها. ولقد قال له رجل يوما بحضرتي كما يقول الناس : أراكه الله قاضيا كما كان آباؤه ، فقال : ما أريد له ذلك ، ولكني أشتهيه أن يكون مدرسا ، فبلغه الله ذلك بعد موته ، وسمع الحديث على جماعة من أهل حلب والواردين إليها ، وأكثر السماع على الشيخ الشريف افتخار الدين عبد المطلب الهاشمي.

ورحل به أبوه إلى البيت المقدس مرتين في سنة ٦٠٣ وفي سنة ٦٠٨ ولقي بها مشايخ وبدمشق أيضا ، وقرأ على تاج الدين أبي اليمن في النوبتين كثيرا من مسموعاته.

حدثني كمال الدين أدام الله معاليه قال : قال لي والدي : احفظ اللمع حتى أعطيك كذا وكذا ، فحفظته وقرأته على شيخ حلب يومئذ وهو الضياء بن دهن الحصا. ثم قال لي : احفظ القدوري حتى أهب لك كذا وكذا من الدراهم كثيرة أيضا ، فحفظته في مدة يسيرة وأنا في خلال ذلك أجود ، وكان والدي رحمه‌الله يحرضني على ذلك ويتولى صقل الكاغد لي بنفسه ، فإني لأذكر مرة وقد خرجنا إلى ضيعة لنا فأمرني بالتجويد ، قلت : ليس هاهنا كاغد جيد ، فأخذ بنفسه كاغدا كان معنا رديا وتناول شربة أسفيدز كانت معنا فجعل يصقل بها الكاغد بيده ويقول لي : اكتب ، ولم يكن خطه بالجيد ، وإنما كان يعرف أصول الخط ، فكان يقول لي : هذا جيد وهذا رديء. وكان عنده خط ابن البواب فكان يريني أصوله إلى أن أتقنت منه ما أردت. ولم أكتب على أحد مشهور ،

٤٤٦

إلا أن تاج الدين محمد بن أحمد بن البرفطي البغدادي ورد إلينا إلى حلب فكتبت عليه أياما قلائل لم يحصل منه فيها طائل. ثم إن الوالد رحمه‌الله خطب لي وزوجني بقوم من أعيان أهل حلب وساق إليهم ما جرت العادة بتقدمته في مثل ذلك ، ثم جرى بيننا وبينهم ما كرهته وضيق صدري منهم ، فوهب لهم الوالد جميع ما كان ساقه إليه وطلقتهم. ثم إنه وصلني بابنة الشيخ الأجل بهاء الدين أبي القاسم عبد المجيد بن الحسن بن عبد الله المعروف بابن العجمي ، وهو شيخ أصحاب الشافعي وأعظم أهل حلب منزلة وقدرا ومالا وحالا وجاها ، وساق إليهم المهر وبالغ في الإحسان.

وكان والدي رحمه‌الله بارا بي ، لم يكن يلتذ بشيء من الدنيا التذاذه بالنظر في مصالحي ، وكان يقول : أشتهي أرى لك ولدا ذكرا يمشي ، فولد أحمد ولدي ورآه وبقي إلى أن كبر ومرض مرضة الموت ، فيوم مات مشى الطفل حتى وقع في صدره. ثم مات والدي رحمه‌الله في الوقت الذي تقدم ذكره.

وكان الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب رحمه‌الله كثير الإكرام لي ، وما حضرت مجلسه قط فما أقبل على أحد إقباله عليّ مع صغر السن. واتفق أن مرضت في شهور سنة ٦١٨ مرضا أيس مني فيه ، فكان يخطر ببالي وأنا مريض أن الله تعالى لابد وأن يمن بالعافية لثقتي بصحة رؤية الوالد ، وكنت أقول : ما بلغت بعد مبلغا يكون تفسيرا لتلك الرؤيا إلى أن منّ الله بالعافية وله الحمد والمنة ، فذهب عني ذلك الخيال ، وليس يخطر منه في هذا الوقت ببالي شيء لأن نعم الله عليّ سابغة وأياديه في حقي شائعة.

قلت (قال في الحاشية : يظهر أن ياقوت جمع بين كلامه وكلام المترجم) : ولما مات والدي بقي بعده مدة ومات مدرس شاذبخت وهي من أجل مدارس حلب وأعيانها (١) ، ولي التدريس بها في ذي الحجة سنة ٦١٦ وعمره يومئذ ٢٨ سنة ، هذا وحلب أعمر ما كانت بالعلماء والمشايخ والفضلاء الرواسخ ، إلا أنه رؤي أهلا لذلك دون غيره ، وتصدر وألقى الدرس بجنان قوي ولسان لوذعي فأبهر العالم وأعجب الناس ، وصنف مع هذا السن كتبا منها كتب «الدراري في ذكر الذراري» (٢) جمعه للملك الظاهر وقدمه إليه يوم ولد

__________________

(١) هي في سوق الضرب وتعرف بجامع الشيخ معروف.

(٢) مطبوع في مطبعة الجوائب في الأستانة.

٤٤٧

ولده الملك العزيز الذي هو اليوم سلطان حلب. كتاب «ضوء الصباح في الحث على السماح» ، صنفه للملك الأشرف وكان قد سير من حران يطلبه ، فإنه لما وقف على خطه اشتهى أن يراه ، فقدم عليه فأحسن إليه وأكرمه وخلع عليه وشرفه. كتاب «الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة» وأنا سألته جمعه فجمعه لي وكتبه في نحو أسبوع وهو عشرة كراريس. كتاب «في الخط وعلومه ووصف آدابه وأقلامه وطروسه وما جاء فيه من الحديث والحكم» ، وهو إلى وقتي هذا لم يتم. كتاب «تاريخ حلب» في أخبار ملوكها وابتداء عمارتها ومن كان بها من العلماء ومن دخلها من أهل الحديث والرواية والدراية والملوك والأمراء والكتاب.

وشاع ذكره في البلاد ، وعرف خطه بين الحاضر والباد ، فتهاداه الملوك وجعل مع اللآلي في السلوك ، وضربت به في حياته الأمثال وجعل للناس في زمانه حذوا ومثالا. فما رغب في خطه أنه اشترى وجهة واحدة بخط ابن البواب بأربعين درهما ونقلها إلى ورقة عتيقة ووهبها من حيدر الكتبي فذهب بها وادعى أنها بخط ابن البواب وباعها بستين درهما زيادة على الذي بخط ابن البواب بعشرين درهما. ونسخ لي هذه الرقعة بخطه فدفع فيها كتاب الوقت على أنها بخطه دينارا مصريا ، ولم يطب قلبي ببيعها. وكتب لي أيضا جزءا فيه ثلاث عشرة قائمة نقلها من خط ابن البواب ، فأعطيت فيها أربعين درهما ناصرية قيمتها أربعة دنانير ذهبا فلم أفعل ، وأنا أعرف أن ابن البواب لم يكن خطه في أيامه بهذا النفاق ولا بلغ هذا المقدار من الثمن ، وقد ذكرت ما يدل على ذلك في ترجمة ابن البواب. فممن كتب إليه يسترفده شيئا من خطه سعد الدين منوجهر الموصلي ، ولقد سمعته مرارا يزعم أنه أكتب من ابن البواب ويدعي أنه لا يقوم له أحد في الكتابة ، ويقر لهذا كمال الدين بالكمال ، فوجه إليه على لسان القاضي أبي علي القيلوي وهو المشهور بصحبة السلطان الأشرف يسأله سؤاله في شيء من خطه ولو قائمة أو وجهة ، وكان اعتماده على أن ينقل له الوجهة المقدم ذكرها.

وممن كتب إليه يسترفده خطه أمين الدين ياقوت المعروف بالعالم ، وهو صهر أمين الدين ياقوت الكاتب الذي يضرب به المثل في جودة الخط وتخرج به ألوف وتتلمذ له من لا يحصى. كتب إلي كمال الدين رقعة وهو حي يرزق نسختها :

(الذي حض الخادم على عمل هذه الأبيات وإن لم يكن من أرباب الصناعات أن

٤٤٨

الصدر الكبير الفاضل عز الدين حرس الله مجده لما وصل إلى الموصل خلد الله ملك مالكها نشر من فضائل المجلس العالي العالمي الفاضلي كمال الدين كمل الله سعادته كما كمل سيادته ، وبلغه في الدارين مناه وإرادته ما يعجز البليغ عن فهمه فضلا عن أن يورده ، لكن فضائل المجلس كانت تملى على لسانه وتشغله ، فطرب الخادم من استنشاق رياها ، واشتاق إلى رؤية حاويها عند اجتلاء محياها ، فسمح عند ذلك الخاطر مع تبلده بأبيات تخبر المجلس محبة الخادم له وتعبده ، وهي :

حيا نداك كمال الدين أحيانا

ونشر فضلك عن محياك حيّانا

وحسن أخلاقك اللائي خصصت بها

أهدت على البعد لي روحا وريحانا

حويت يا عمر المحمود سيرته

خلقا وخلقا وأفضالا وإحسانا

إن كان نجل هلال في صناعته

ونجل مقلة عينا الدهر قد كانا

فأنت مولاي إنسان الزمان وقد

غدوت في الخط للعينين إنسانا

قد بث فضلك عز الدين مقتصدا

ونث شكرك إسرارا وإعلانا

فضاع نشرك في الحدباء واشتهرت

آيات فضلك أرسالا ووحدانا

أثني عليك وآمالي معلقة

بحسن عفوك ترجو منك غفرانا

وإن تطفلت في صدق الوداد ولم

يقض التقلاقي لنا عفوا ولا حانا

فما ألام على شيء أتيت به

فالأذن تعشق قبل العين أحيانا

يا أفضل الناس في علم وفي أدب

وأرجح الخلق عند الله ميزانا

قد شرف الله أرضا أنت ساكنها

وشرف الناس إذ سوّاك إنسانا

قد هجم الكلام على المجلس العالي بوجه وقاح ، ولم يخش مع عفو المولى وصمة الافتضاح ، فليلق عليها المولى ستر المعروف ، فهو أليق بكرمه المألوف والسلام).

فكتب إليه كمال بخطه الدري ولفظه السحري وأنشدنيها لنفسه :

يا من أبحت حمى قلبي مودته

ومن جعلت له أحشاي أوطانا

أرسلت نحوي أبياتا طربت بها

والفضل للمبتدي بالفضل إحسانا

فرحت أختال عجبا من محاسنها

كشارب ظل بالصهباء نشوانا

رقت وراقت فجاءت وهي لابسة

من البلاغة والترصيع ألوانا

٤٤٩

حكت بمنثورها والنظم إذ جمعا

بأحرف حسنت روضا وبستانا

جرّت على جرول أثواب زينتها

إذ أصبحت وهي تكسو الحسن حسّانا

أضحت تغبّر وجه العنبريّ فما

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

يمسي لها ابن هلال حين ينظرها

يحكي أباه بما عاناه نقصانا

كذاك أيضا لها عبد الحميد غدا

عبدا يجر من التقصير أردانا

أتت وعبدك مغمور بعلته

فغادرته صحيحا خير ما كانا

وكيف لا تدفع الأسقام عن جسدي

وهي الصّبا حملت روحا وريحانا

فما على طيفها لو عاد يطرقنا

فربما زار أحيانا وأحيانا

فاسلم وأنت أمين الدين أحسن من

وشّى الطروس بمنظوم ومن زانا

ولا تخطت إليك الحادثات ولا

حلت بربعك يا أعلى الورى شانا

وأنشدني كمال الدين أدام الله علاءه لنفسه في الغزل فاعتمد فيه معنى غريبا :

وأهيف معسول المراشف خلته

وفي وجنتيه للمدامة عاصر

يسيل إلى فيه اللذيذ مدامة

رحيقا وقد مرت عليه الأعاصر

فيسكر منه عند ذاك قوامه

فيهتز تيها والعيون فواتر

كان أمير النوم يهوى جفونه

إذا همّ رفعا خالفته المحاجر

خلوت به من بعد ما نام أهله

وقد غارت الجوزاء والليل ساتر

فوسدته كفي وبات معانقي

إلى أن بدا ضوء من الصبح سافر

فقام يجر البرد منه على تقى

وقمت ولم تحلل لإثم مآزر

كذلك أحلى الحب ما كان فرجه

عفيفا ووصل لم تشنه الجرائر

وأنشدني لنفسه بمنزله بحلب في ذي الحجة سنة ٦١٩ وإملائه :

وساحرة الأجفان معسولة اللمى

مراشفها تهدي الشفاء من الظما

حنت لي قوسي حاجبيها وفوّقت

إلى كبدي من مقلة العين أسهما

فواعجبا من ريقها وهو طاهر

حلال وقد أضحى عليّ محرّما

فإن كان خمرا أين للخمر لونه

ولذته مع أنني لم أذقهما

لها منزل في ربع قلبي محله

مصون به مذ أوطنته لها حمى

٤٥٠

جرى حبها مجرى حياتي فخالطت

محبتها روحي ولحمي والدما

تقول إلى كم ترتضي العيش أنكدا

وتقنع أن تضحي صحيحا مسلّما

فسر في بلاد الله واطّلب الغنى

تفز منجدا إن شئت أو شئت متهما

فقلت لها إن الذي خلق الورى

تكفل لي بالرزق منّا وأنعما

وما ضرني أن كنت رب فضائل

وعلم عزيز النفس حرا معظّما

إذا عدمت كفاي مالا وثروة

فقد صنت نفسي أن أذل وأحرما

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي

لأخدم من لاقيت لكن لأخدما

لا يظنن الناظر في هذه الأبيات أن قائلها فقير وقير ، فإن الأمر بعكس ذلك لأنه رب ضياع واسعة وأملاك جمة ونعمة كثيرة وعبيد كثيرة وإماء وخيل ودواب وملابس فاخرة وثياب ، ومن ذلك أنه بعد موت أبيه اشترى دارا كانت لأجداده قديما بثلاثين ألف درهم ، ولكن نفسه واسعة وهمته عالية والرغبات في الدنيا بالنسبة إلى الراغبين ، والشهوة لها على قدر الطالبين.

وأنشدني لنفسه بمنزله في التاريخ :

احذر من ابن العم فهو مصحّف (١)

ومن القريب فإنما هو أحرف

القاف من قبر غدا لك حافرا

والراء منه ردى لنفسك يخطف

والياء يأس دائم من خيره

والباء بغض منه لا يتكيّف

فاقبل نصيحتي التي أهديتها

إني بأبناء العمومة أعرف

وأنشدني أيضا لنفسه بمنزله سالكا طريق أهله في الافتخار :

سألزم نفسي الصفح عن كل من جنى

عليّ وأعفو حسبة وتكرما

وأجعل مالي دون عرضي وقاية

ولو لم يغادر ذاك عندي درهما

وأسلك آثار الألى اكتسبوا العلا

وحازوا خلال الخير ممن تقدما

أولئك قومي المنعمون ذوو النهى

بنو عامر فاسأل بهم كي تعلّما

إذا ما دعوا عند النوائب إن دجت

أناروا بكشف الخطب ما كان أظلما

__________________

(١) أي ابن الغم.

٤٥١

وإن جلسوا في مجلس الحكم خلتهم

بدور ظلام والخلائق أنجما

وإن هم ترقوا منبرا لخطابة

فأفصح من يوما بوعظ تكلّما

وإن أخذوا أقلامهم لكتابة

فأحسن من وشّى الطروس ونمنما

بأقوالهم قد أوضح الدرّ واغتدى

بأحكامهم علم الشريعة محكما

دعاؤهم يجلو الشدائد إن عرت

وينزل قطر الماء من أفق السما

وقائلة يا بن العديم إلى متى

تجود بما تحوي ستصبح معدما

فقلت لها عني إليك فإنني

رأيت خيار الناس من كان منعما

أبى اللؤم لي أصل كريم وأسرة

عقيلية سنّوا الندى والتكرما

وأنشدني لنفسه وقد رأى في عارضه شعرة بيضاء وعمره ٣١ سنة :

أليس بياض الأفق بالليل مؤذنا

بآخر عمر الليل إذ هو أسفرا

كذاك سواد النبت يقرب يبسه

إذا ما بدا وسط الرياض منوّرا

ودخلت إلى كمال الدين المذكور يوما فقال لي : ألا ترى أنا في السنة الحادية والثلاثين من عمري وقد وجدت في لحيتي شعرات بيضا؟ فقلت أنا فيه :

هنيئا كمال الدين فضلا حبيته

ونعماء لم يخصص بها أحد قبل

لداتك في شغل بداعية الصبا

وأنت بتحصيل المعالي لك الشغل

بلغت لعشر من سنّينك رتبة

من المجد لا يسطيعها الكامل الكهل

ولما أتاك الحكم والفهم ناشئا

أشابك طفلا كي يتم لك الفضل

انتهى ما قاله ياقوت في معجم الأدباء في ترجمة الكمال المذكور وتراجم آبائه وأجداده وأعمامه ، وقد وجدنا من المناسب نقل جميع ما ذكره ياقوت في تراجم بني العديم وإن كان بعضها قد تقدم لتتصل سلسلة الكلام على هذا البيت الكبير ، على أنها لا تخلو من فوائد زائدة على ما ذكرناه فيما تقدم من تلك التراجم. وقد ترجمه ياقوت بما ترجمه به سنة ٦١٩ وهو في الحادية والثلاثين من عمره كما علمت ، وقد كانت وفاة ياقوت سنة ٦٢٦ ووفاة المترجم سنة ٦٦٠ كما سيأتي ، فتأخرت وفاته عن وفاة مترجمه أربعة وثلاثين سنة ، ولا ريب أن تلك المدة الطويلة زادته علما وفضلا وجاها وقدرا. وجلالة فضل هذا الرجل وماله على الشهباء من الأيادي البيضاء بذلك التاريخ العظيم المسمى ب «بغية الطلب في تاريخ

٤٥٢

حلب» الذي بسطنا الكلام عليه في المقدمة قضت علينا أن نستقصي أخباره ونذكر جميع ما نقف عليه من تراجمه ، وهي وإن طالت وتكرر بعضها ولكنك تجد في كل واحدة منها من الزيادات والفوائد ما لا تجده في الأخرى ، وجدير أن يبسط بأمثال هذا الرجل المقال وإن طال. على أنك إذا تأملت قليلا فيما ترجمه به ياقوت وهو في هذا السن لتيقنت أنه لو تأخرت وفاته عنه لأفرد لترجمته مجلدا على حدة ، ولحكمت على من ترجمه بعده بأنه قد قصر في ترجمته غاية التقصير ولم يوفه بعض ما يستحقه. والعجب كل العجب كيف أهمل ابن خلكان في تاريخه وفيات الأعيان ذكره وذكر ابن أبي طي بن حميدة مع أنهما من معاصريه ويعرفهما حق المعرفة ، لأنه بقي في حلب لتلقي العلوم فيها من سنة ٦٢٦ إلى سنة ٦٣٥ كما تقدم في ترجمة أبي البقا يعيش وترجمة القاضي بهاء الدين بن شداد. والأغرب من ذلك أنه نقل عنهما في غير موضع من تاريخه هذا ، ولا ندري ما هو العذر الذي نلتمسه لابن خلكان على ذلك ، ولا ريب أنه أهمل ترجمتهما لشيء كان في نفسه مما لا يخلو عنه المتعاصرون.

وهنا نذكر لك ما ذكره في كشف الظنون في الكلام على وفيات الأعيان لابن خلكان من الانتقاد عليه حيث قال : وقد شنع عليه بعض المؤرخين من جهة اختصاره تراجم كبار العلماء في أسطر يسيرة وتطويله في تراجم الشعراء والأدباء في أوراق وصحائف ، وربما يكون من طول ترجمته مطعونا بانحلال العقيدة وهو يثني عليه ويذكر أشعاره وقصائده ، ولعل العذر فيه ما أشار إليه من أن اشتهار ذلك العالم كالشمس لا يخفي وعدم اشتهار ذلك الشاعر ا ه. أقول : وهذا العذر ليس بشيء إذا تأملت أدنى تأمل.

ولنعد إلى ذكر ما وعدنا به فنقول :

قال في فوات الوفيات : (عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة) الصاحب العلامة رئيس الشام كمال الدين العقيلي الحلبي المعروف بابن العديم. ولد سنة ثمان وثمانين وخمسماية وتوفي سنة ستين وستماية ، وسمع من أبيه ومن عمه أبي غانم محمد وابن طبرزد والافتخار (أي افتخار الدين عبد المطلب الهاشمي المتوفى سنة ٦١٦) والكندي والخرستاني ، وسمع جماعة كثيرة بدمشق وحلب والقدس والحجاز والعراق. وكان محدثا فاضلا حافظا مؤرخا صادقا فقيها مفتيا منشيا بليغا كاتبا محمودا ، درس وأفتى وصنف وترسل عن الملوك. وكان رأسا في الخط لا سيما النسخ والحواشي ، أطنب الحافظ شرف الدين (عبد المؤمن

٤٥٣

الدمياطي) في وصفه وقال : ولي قضاء حلب خمسة من آبائه متتالية ، وله الخط البديع أو الحظ الرفيع والتصانيف الرائقة ، منها تاريخ حلب أدركته المنية قبل إكمال تبييضه. روى عنه الدواداري وغيره. ودفن بسفح المقطم في القاهرة ا ه. ثم ذكر سؤال ياقوت له لم سميتم ببني العديم. ثم ذكر مؤلفاته التي ذكرها ياقوت ، لكنه نقص منها «ضوء الصباح في الحث على السماح» ، وزاد على ما ذكره ياقوت كتاب «دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري» ، وكتاب «تبريد حرارة الأكباد على فقد الأولاد».

ثم قال : وكان إذا سافر يركب في محفة تشيله بين بغلين ويجلس فيها ويكتب. وفد إلى مصر رسولا وإلى بغداد ، وكان إذا قدم إلى مصر يلازمه أبو الحسين الجزار ، فقال بعض أهل العصر :

يا ابن العديم عدمت كل فضيلة

وغدوت تحمل راية الإدبار

ما إن رأيت ولا سمعت بمثلها

نفس تلذ بصحبة الجزّار

قال : ومن شعر الصاحب كمال الدين :

بدا يسحر الألباب بالحسن والحسنى

هلالا إليه آية المقصد الأسنى

وزرّر أزرار القميص ترائبا

وضم إليه الدعص والغصن اللدنا

وقال : وكتب بها إلى نور الدين بن سعيد :

يا أحسن الناس نظما غير مفتقر

إلى شهادة مثلي مع توحده

إن كان حظي كسا خطا كتبت به

إلي حسنا بدا في لون أسوده

فقد أتت منك أبيات تعلّمني

نظم القريض الذي يحلو لمنشده

أرسلتها تقتضيني ما وعدت به

والحر حاشاه من إخلاف موعده

وما نسيت ولكن عاقني ورق

يجيد خطي فآتيه بأجوده

وسوف أسرع فيه الآن مجتهدا

حتى يوافيك بدرا في مجلّده

بأحرف حسنت كالوجه دارية

مثل الحواشي عذار في مورّده

وكتب إلى ولده (١) قاضي القضاة مجد الدين :

__________________

(١) في الأصل : إلى والده ، والصواب ما أثبتناه.

٤٥٤

هذا كتابي إلى من غاب عن نظري

وشخصه في سويدا القلب والبصر

ولا يمنّ بطيف منه يطرقني

عند المنام ويأتيني على قدر

ولا كتاب له يأتي فأسمع من

أنبائه عنه فيه أطيب الخبر

حتى الشمال التي تسري على حلب

ضنّت عليّ فلم تخطر ولم تسر

أخصه بتحياتي وأخبره

أني سئمت من الترحال والسفر

أبيت أرعى نجوم الليل مكتئبا

مفكرا في الذي ألقى إلى السحر

وليس لي أرب في غير رؤيته

وذاك عندي أقصى السول والوطر

ا ه ما في فوات الوفيات لابن شاكر.

ومن لطائفه الدالة على مكارم أخلاقه وعلو همته ما ذكره ابن أبيك الصفدي في شرحه للامية العجم عند قول الطغرائي (أريد بسطة كف ... إلخ) أن إنسانا رفع قصته إلى الصاحب كمال الدين ابن العديم فأعجبه خطه فأمسكها وقال لرافعها : هذا خطك؟ قال : لا ولكن حضرت إلى باب مولانا فوجدت بعض مماليكه فكتبها لي ، فقال : عليّ به ، فلما حضر وجده مملوكه الذي يحمل مداسه ، وكان عنده في حال غير مرضية فقال : هذا خطك؟ قال : نعم ، قال : هذه طريقتي ، من هو الذي أوقفك عليها؟ فقال : يا مولانا كنت إذا وقعت لأحد على قصة أخذتها منه وسألته المهلة عليّ حتى أكتب عليها سطرين أو ثلاثة ، فأمره أن يكتب بين يديه ليراه فكتب :

وما تنفع الآداب والعلم والحجا

وصاحبها عند الكمال يموت

فكان إعجاب الصاحب بالاستشهاد أكثر من الخط ، ورفع منزلته عنده حينئذ ا ه.

ومما قاله في منتخب شذرات الذهب في أخبار من ذهب في حقه : كان قليل المثل عديم النظر فضلا ونبلا ورأيا وحزما وذكاء وبهاء وكتابة وبلاغة ، درّس وأفتى وصنف وعلّم وناب عن الملك الناصر في سلطنة دمشق ، وكان خطه في غاية الحسن ، وكان له معرفة تامة بالحديث والتاريخ وأيام الناس ، وكان حسن الظن بالفقراء والصالحين.

وذكره ابن كثير في حوادث سنة ٦٦٠ ومما قاله في حقه : الأمير الوزير الرئيس الكبير صنف لحلب تاريخا مفيدا يقرب من أربعين مجلدا ، وكان جيد المعرفة بالحديث حسن الظن

٤٥٥

بالفقراء والصالحين كثير الإحسان إليهم ، وقد أقام بدمشق في الدولة الناصرية المتأخرة ، وكانت وفاته بمصر ، ودفن بسفح المقطم بعد الشيخ عز الدين بعشرة أيام. وقد أورد له الشيخ قطب الدين (أي اليونيني) في الذيل أشعارا حسنة ا ه.

وقال أبو الفدا في حوادث سنة ٦٦٠ : وفيها في ذي الحجة توفي الصاحب كمال الدين عمر ابن عبد العزيز (صوابه بن أحمد كما تقدم غير مرة ، ويظهر أن الخطأ من النساخ) المعروف بابن العديم ، انتهت إليه رياسة أصحاب أبي حنيفة. وكان فاضلا كبير القدر ، ألف تاريخ حلب وغيره من المصنفات (١). وكان قدم إلى مصر لما جفل الناس من التتر ، ثم عاد بعد خراب حلب إليها ، فلما نظر ما فعله التتر من خراب حلب وقتل أهلها بعد تلك العمارة قال في ذلك قصيدة طويلة منها :

هو الدهر ما تبنيه كفاك يهدم

وإن رمت إنصافا لديه فتظلم

أباد ملوك الفرس جمعا وقيصرا

وأصمت لذي فرسانها منه أسهم

وأفنى بني أيوب مع كثر جمعهم

وما منهم إلا مليك معظّم

وملك بني العباس زال ولم يدع

لهم أثرا من بعدهم وهم هم

وأعتابهم أضحت تداس وعهدها

تباس بأفواه الملوك وتلثم

وعن حلب ما شئت قل من عجائب

أحل بها يا صاح إن كنت تعلم

ومنها :

فيالك من يوم شديد لغامه

وقد أصبحت فيه المساجد تهدم

وقد درست تلك المدارس وارتمت

مصاحفها فوق الثرى وهي ضخّم

__________________

(١) أقول : ومن مصنفاته (التذكرة) قال في مجلة المقتبس في الجلد السابع سنة ١٣٣٠ في صحيفة ٨١١ بعد ترجمة ابن العديم : ولابن العديم شعر مستملح ونثر عذب ، ومن كتبه التي أبقتها الأيام كتاب التذكرة دخل دار الكتب السلطانية بالقاهرة مجلد منه في بضعة أجزاء أولها الجزء الخامس وآخرها الجزء الحادي عشر ، وهي ٢٥٠ ورقات صغرى أولها لعلي بن إبراهيم بن عبد المحسن بن قرناص الخزاعي الحموي :

جفني بجفنك قد جفاه هجوعه

والقلب واصله عليك ولوعه

وسقام جسمي فيك عز ذهابه

والنوم عز على الجفون رجوعه

إلى أن قال بعد نقل نموذجات من شعر شعراء عصره : هذه نموذجات من هذه التذكرة الممتع النافع ، ويا حبذا لو صحت عزيمة أحد علماء مصر بنشر الموجود منها لأنها أثر نفيس خصوصا وهي مكتوبة بخط صاحبها وفيها من الأشعار والأخبار ما يلذ ويفيد ا ه.

٤٥٦

وهي طويلة وآخرها :

ولكنما لله في ذا مشيئة

فيفعل فينا ما يشاء ويحكم

وترجمة علاء الدين ابن خطيب الناصرية في تاريخه «الدر المنتخب» فقال : مولده بحلب في العشر الأول من ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. سمع بحلب من ابن طبرزد والافتخار (عبد المطلب الهاشمي) وعبد الرحمن بن علوان وبهاء الدين يوسف بن رافع ابن شداد قاضي حلب وثابت وابن دوربه وجماعة كثيرة من أهل البلد والقادمين إليه ، وبدمشق من الكندي والقاضي ابن الخرستاني وابن طاووس وابن البنا والحسين بن صصري والبها عبد الرحمن وابن المنى وأحمد بن عبد الله العطار والعماد إبراهيم بن عبد الواحد وغيرهم ، وببغداد من عبد العزيز بن محمود بن الأخضر وغيره ، وحدث. سمع منه ولده المجد وابن مسدي وابن الحاجب وذاكراه في معجمها والدمياطي وذكره في معجمه وأبو القاسم أحمد بن محمد بن الحسين وغيرهم. وحدث بالكثير في بلاد متعددة ، ودرس وأفتى وصنف. قال الذهبي : وكان عديم النظر فضلا ونبلا وذكاء ورأيا ودهاء ومنظرا ورواء وجلالة ومهابة ، وكان محدثا حافظا ومؤرخا صادقا وفقيها مفتيا ومنشئا بليغا. وذكره الدمياطي في معجمه وأثنى عليه ، وكذلك الشيخ شهاب الدين محمود ، قال في تاريخه : وكان إماما عالما فاضلا متفننا في العلوم جامعا لها ، أحد الرؤساء المشهورين والعلماء المذكورين ، وترسل الى الخليفة والملوك مرارا كثيرة ، وكانت له الوجاهة العظيمة عند الخلفاء والملوك وهو مع ذلك كثير التواضع لين الجانب حسن الملتقى والبشر لسائر الناس مع ما هو منطو عليه من الديانة الوافرة والتحري في أقواله وأفعاله. وأما خطه ففي الغاية العليا من الجودة ، ومعرفته بالحديث والتاريخ وأيام الناس على أكمل ما يكون. وجمع لحلب تاريخا أبدع فيه ما شاء ومات وبعضه مسودة ، ولو كمل تبييضه كان أربعين مجلدا. وكان حسن الظن بالفقراء والصالحين كثير البر لهم والإحسان إليهم. وحضر عند الشيخ عبد الله اليونيني الكبير وطلب منه أن يلبسه الخرقة فأعطاه قميصه كأنه تفرس فيه الخير والصلاح انتهى.

ومن نظمه ما أنشده له الحافظ أبو محمد الدمياطي قال : أنشدنا الصاحب يعني كمال الدين بن العديم لنفسه بسر من رأى :

نزلنا سر من را فازدهتنا

محاسنها الدوارس إذ نزلنا

٤٥٧

وخاطبنا لسان الحال منها

حللنا قبلكم ثم ارتحلنا

قال : وأنشدني ببغداد لنفسه وقد التمس منه بها مقال من خطه البديع :

يا من له همة تسمو إلى الرتب

ورغبة في بديع الخط والأدب

أسهرت ليلك في تحرير أحرفه

وفي نهارك لا تصبو إلى تعب

طلبت مني مثالا تستعين به

على إجادة ما تبقيه في الكتب

فلم أجد منع ما حاولته حسنا

إذ كنت أهلا لنيل النجح في الطلب

فهاك خطا كزهر الروض باكره

طلّ الندى وسقته أعين السحب

يبدي لنا غرس بغداد به ثمر

حكاه في الحسن منسوب إلى حلب

أقلامه سبعة تزري برونقها

وحسن منظرها بالسبعة الشهب

قال الشيخ شهاب الدين محمود : ولما وصل إلى الديار المصرية في بعض سفراته رسولا إليها حمل إليه أيدمر مولى محيي الدين الجزري المسمى بعد ذلك إبراهيم الصوفي شعره ليتصفحه ، فطالعه وكتب عليه لنفسه :

وكنت أظن الترك تختص أعين

لهم إن رنت بالسحر فيها وأجفان

إلى أن أتاني من بديع قريضهم

قواف هي السحر الحلال وديوان

فأيقنت أن السحر أجمعه لهم

يقر لهم هاروت فيه وسحبان

فكتب إليه أيدمر يشكره ويسأله أن يكتب اسمه تحت الشعر الذي كتب على الديوان :

لك الفضل أولى الناس بالحمد منعم

تعرّف بالإحسان إذ رثّ عرفان

وبارقة من فضل علياك خبّرت

بأن سحاب الفضل عندك هتّان

أتتني على الديوان أبياتك التي

يفصّل منها للبلاغة ديوان

فدلت وإن قلّت على ما وراءها

كما شفّ عن سر الصحيفة عنوان

فلو عاينت عينا ابن مقلة خطكم

لغضّ أناة أو رنا وهو خزيان

فكيف يكون السحر فينا وعندنا

وخطك هاروت ولفظك سحبان

فيا ملكا أبدى ندى كن متمما

ليشفع من يمناك بالحسن إحسان

وتوّجه والمأمور غيرك باسمك ال

كريم فأسماء الأكارم تيجان

بحوك وشى الرياض ويتثنى [هكذا]

ويبقى شهيدا عندها منه غدران

٤٥٨

وإن امرأ أضحى الكمال بعينه

فمن أين يعروه وحاشاه نقصان

على أنه الصبح المنور شهرة

وليس بمطلوب على الصبح برهان

ولما جاء التتار إلى حلب في سنة ثمان وخمسين وستمائة جفل الصاحب كمال الدين إلى مصر مع من جفل ، ولما أزاح التتار عن حلب عاد إليها فوجدها خرابا بعد تلك العمارة ، فقال فيها قصيدة لنفسه ميمية (قدمنا ما وجد منها) ثم رجع إلى القاهرة واستمر بها إلى أن توفي بها في العشرين من جمادى الأولى ، وقيل تاسع عشر سنة ستين وستمائة بظاهر مصر ودفن من يومه بسفح المقطم تغمده الله تعالى برحمته ا ه.

وترجمه الشيخ محمد العرضي (من رجال القرن الحادي عشر) في مجموعته وذكر أن من جملة مؤلفاته «الإشعار بما للملك من النوادر والأشعار» ، و «مراد المراد ومواد المواد».

(ثم قال) : قال الذهبي : وبحسن خطه يضرب المثل ، من ذلك ما أنشدنيه ابن القيسراني :

بخدّ معذّبي آيات حسن

فقل ما شئت فيه ولا تحاشي

ونسخة حسنه قرنت فصحّت

وها خط الكمال على الحواشي

وقال فيه بدر الدين بن حبيب :

وعذار مزخرف الخدّ يهوى

طائر القلب ناره كالفراش

فهو كالمسك أو كنمل بعاج

أو كخط الكمال فوق الحواشي

وقال علي بن عثمان الإربلي :

وميّز بين فوديه وفرق

دقيق كالصراط المستقيم

حروف ملاحة دقت وجلّت

معانيها كخط ابن العديم

وكتب إليه سعد الدين بن عربي يطلب منه شيئا من خطه :

ألا يا سيد الوزراء طرّا

نوالك سابق مني السؤالا

يرجي العبد منك سطور نسخ

يزيل بنورها عنه الضلالا

٤٥٩

فخطك فيه للظمآن ريّ

إذا ما خط غيرك كان آلا

ولا أرضى بخط فيه نقص

وعندي همة ترجو الكمالا

ومن عجب وأنت بلا مثيل

بأني أبتغي منك المثالا

وله أيضا :

شغلت يمينك يا ذا المعالي

بقبض اليراع وفيض النوال

فلا ابن هلال ولا غيره

يدانيك يا ابن العديم المثال

فأنت (١) الهلال فكيف ابنه

غدا قاصرا عن محل الكمال

وقال الصاحب كمال الدين (اي المترجم) : أنشدني الملك الناصر لنفسه :

البدر يجنح للغروب ومهجتي

لفراق مشبهة أسى تتقطّع

والشرب قد خاط النعاس جفونهم

والصبح من جلبابه يتقطّع

قال : وأنشدني لنفسه يتشوق إلى حلب :

لك الله إن شارفت أعلام جوشن

ولاحت لك الشهبا وتلك المعالم

فبلّغ سلاما من محب متيم

ينوح اشتياقا حين تشدو الحمائم

قال العرضي بعد أن ذكر وفاته بالتاريخ المتقدم : ودفن بسفح المقطّم من القرافة بالقرب من المسجد المعروف بالعارض بتربة موسى بن يغمور.

قال جمال الدين يحيى بن مطروح يمدح المترجم وهما في ديوانه المطبوع :

خرجت من النعيم إلى النعيم

إلى المولى الكمال بن العديم

ولو لا أن أسيء لقلت إني

خرجت من الجحيم إلى النعيم

آثاره بحلب

قال في كنوز الذهب : (المدرسة العديمية) : هذه المدرسة خارج باب النيرب ، أنشأها الصاحب كمال الدين عمر بن العديم وبنى إلى جوارها تربة وجوسقا وبستانا ، ابتدأ

__________________

(١) في الأصل : فأن.

٤٦٠