إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٤

وصاحب لا أملّ الدهر صحبته

يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد

لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت

عيني عليه افترقنا فرقة الأبد

٢٤٢ ـ عبد اللطيف السعدي الأنصاري المتوفى سنة ٦٥٨

عبد اللطيف بن أبي الفتح أحمد بن يوسف بن عبد الواحد الأنصاري السعدي الحلبي الإمام نجم الدين. قتل في وقعة حلب في العشر الأوسط من صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة ، وقتل معه في الوقعة أخوه شيخ الإسلام فخر الدين يوسف أبو الفضل ، ويأتي إن شاء الله تعالى ا ه (ط ح للقرشي).

٢٤٣ ـ عمر بن عبد المنعم المتوفى سنة ٦٥٨

عمر بن عبد المنعم بن أمين الدولة الحلبي. تفقه وسمع من أبي هاشم عبد المطلب الهاشمي وحدث ، وكان إماما فقيها. مات بحلب في العشر الأوسط من صفر سنة ثمان وخمسين في الوقعة ، وهو ابن عم إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم المذكور فيما تقدم ا ه. (ط ح للقرشي).

٢٤٤ ـ عبد الواحد بن العديم المتوفى سنة ٦٥٨

عبد الواحد بن عبد الله بن عبد الصمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هرون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن عامر بن أبي جرادة أبو محمد الفقيه الشاعر. مولده بحلب سنة اثنتين وعشرين وستمائة ، وقتل بها في وقعة التتار في صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة ا ه. (ط ح للقرشي).

٢٤٥ ـ شيخ الإسلام علي بن خشنام المتوفى سنة ٦٥٨

علي بن إبراهيم بن خشنام بن أحمد الحلبي شيخ الإسلام. قتل في وقعة حلب سنة ثمان وخمسين وستماية. سمع من داود بن الحافظ معمر بن عبد الواحد بن الفاخر أربعين

٤٢١

الجوزقي بسماعه من أم البها فاطمة بنت محمد بن أبي سعد البغدادي. أنبأ أبو عثمان سعيد ابن أبي سعيد أحمد بن محمد العيار ، أنبأ أبو بكر محمد بن زكريا الجوزقي (١) ، قلت : أنبأني الحافظ الدمياطي عن علي بن خشنام وحدث بها عنه بحلب ، سمع من جمال الدين الظاهري. روى عنه الدمياطي في معجم شيوخه ا ه. (ط ح ق).

وترجمه صاحب المنهل فقال : علي بن إبراهيم بن خشنام شيخ الإسلام جمال الدين أبو الحسن الحميدي الكردي الحنفي. كان إماما بارعا مفتيا ، أفتى ودرس واشتغل عدة سنين وتفقه به جماعة من الأعيان والطلبة ، وكان ممن اجتمع فيه العلم والعمل ، وانتهت إليه رئاسة السادة الحنفية في زمانه. روى عنه الدمياطي والبدر محمد بن التوزي وغيرهما ا ه.

٢٤٦ ـ أحمد بن الخضر المتوفى سنة ٦٥٨

أحمد بن محمد بن يوسف بن الخضر بن عبد الله بن عبد الرحيم أبو الطيب الحلبي الفقيه. مولده بحلب سنة ثمان وخمسين وخمسماية. كتب عنه الدمياطي ويأتي أبوه محمد ابن يوسف وأخوه عبد الله بن محمد بن يوسف وجدهما يوسف بن الخضر. ودرس مدة بحلب ، وسمع من أبي حفص عمر بن طبرزد وحدث ، ومات سنة ثمان وخمسين وستماية بحلب ا ه (ط ح للقرشي).

٢٤٧ ـ الحسن بن أمين الدولة المتوفى سنة ٦٥٨

الحسن بن أحمد بن هبة الله بن أبي القاسم الوزير هبة الله بن محمد بن عبد الباقي كنيته أبو محمد الملقب مجد الدين ، عرف بابن أمين الدولة ، وهبة الله الملقب أمين الدولة تقدم في الهمزة إبراهيم بن أمين الدولة. فقيه فرضي محدث ، شرح مقدمة الإمام سراج الدين شرحا حسنا ، وحدث بحلب ، سمع منه الشيخ جمال الدين الظاهري. وقتل في وقعة حلب في العشر الأوسط من صفر سنة ثمان وخمسين وستماية.

__________________

(١) تتمة السند بعد الجوزقي كما في الدر المنتخب في ترجمته : أنبأنا أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ حدثنا عبد الرحمن ابن بشر عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عمر عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. وقد اتفقا عليه من حديث مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن ا ه.

٤٢٢

أنبأني الحافظ عبد المؤمن الدمياطي أنشده الحسن بن أحمد لنفسه :

كأن البدر حين يلوح طورا

وطورا يختفي تحت السحاب

فتاة كلما سفرت بوجه

توارت خوف واش بالحجاب

وله رحمة الله تعالى :

عليك بصحبة الأخيار والزم

طريقهم وكن فطنا نبيها

وأهل الشر لا تقرب إليهم

فهم كالنار تحرق ما لديها

ا ه (ط ح للقرشي).

٢٤٨ ـ يوسف بن أحمد الأنصاري المتوفى سنة ٦٥٨

يوسف بن أحمد بن يوسف بن عبد الواحد أبو الفضل الأنصاري الحلبي الحنفي الفقيه. كان إماما فاضلا متميزا من المشهورين بحلب. سمع من ابن اللتي والقاضي بهاء الدين يوسف ابن رافع بن شداد وجماعة ، وببغداد من ابن بهروز وأبي طالب ابن القبيطي ، وبدمشق من مكرم وجماعة وحدث ، وراح في الوقعة ا ه ذهبي (من وفيات سنة ثمان وخمسين وستماية).

وفي المنهل الصافي : هو أحد فقهاء الحنفية في زمانه ، وهو من بيت علم وفضل ، سمع ببغداد من أبي المنجا عبد الله بن أحمد ابن اللتي وغيره ، وسمع بحلب ودمشق ورحل وكتب وحصل ودأب ودرس وتصدى للإشغال سنين وانتفع به عامة الطلبة ، وكان إمام وقته وشيخ الحنفية في زمانه ا ه.

٢٤٩ ـ الأمير الكبير أبو علي حسام الدين الغرياني المتوفى سنة ٦٥٨

أبو علي بن محمد الأمير أبي علي بن باساك الأمير الكبير حسام الدين الغرياني المعروف بابن أبي علي. كان رئيسا مدبرا خبيرا قوي النفس. قال قطب الدين : طلبه الملك الناصر يوما فقال : وددت الموت الساعة ، فإن ناصر الدين القيمري عن يساره وابن يغمور عن يمينه والموت أهون من القعود تحت أحدهما. وأما ناصر الدين القيمري فإنه سمح له بالقعود

٤٢٣

فوقه وفهم ذلك قبل وصوله فتهلل وجهه ودخل فأكرموه كرامة عظيمة وجلس إلى جانب السلطان ، وكان له اختصاص بالملك الصالح نجم الدين الأيوبي ، فلما تملك الصالح إسماعيل حبسه وضيّق عليه ، ثم أفرج عنه وتوجه إلى مصر ، وقد ناب في السلطنة بدمشق لنجم الدين أيوب عقيب الخوارزمية وجاء فحاصر بعلبك سنة أربع وأربعين وبها أولاد الصالح إسماعيل فسلموها بالأمان. ثم ناب في السلطنة بمصر ، وتوفي أبوه عنده فبنى على قبره قبة ، وكان على نيابة السلطنة عند موته للصالح نجم الدين ، فجهز القصاد إلى حصن كيفا إلى الملك المعظم ليسرع. ثم حج الأمير حسام الدين سنة تسع وأربعين وأصابه في أواخر عمره صرع وتزايد به وكثر ، فكان سبب موته. وكان مولده بحلب سنة اثنتين وتسعين وخمسماية ، وأصله من إربل : وله شعر جيد وأدب ا ه (ذهبي من وفيات سنة ثمان وخمسين وستماية).

٢٥٠ ـ عبد الرحمن بن عبد الرحيم العجمي باني الشرفية المتوفى سنة ٦٥٨

عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن بن طاهر بن محمد بن الحسين بن علي أبو طالب شرف الدين بن العجمي الحلبي الشافعي من بيت العلم والرياسة بحلب. درس بالظاهرية ووقف مدرسة بحلب ودفن بها ، وكانت وفاته حين دخلت التتار حلب في صفر سنة ثمان وخمسين وستماية ، فعذبوه بأن صبوا عليه ماء باردا في الشتاء فتشنج حتى مات رحمه‌الله تعالى ا ه. (من البداية والنهاية لابن كثير).

وقال اليونيني في الذيل : سمع من ابن طبرزد وغيره ، وكان من الرؤساء المشهورين ، معروف بجلالة القدر ومكارم الأخلاق ، وله بر ومعروف (لعله لذلك عرف بقاضي الحاجات واشتهر به إلى زماننا هذا). وكانت وفاته في الرابع والعشرين من صفر بعد وقعة التتر. ولما هجم التتر حلب عذبوه في الشتاء بأن صبوا عليه الماء البارد ليدفع لهم المال ، فتشنج وأقام أياما ثم مات. وكان يدرس بالمدرسة الظاهرية خارج حلب. ومولده في سنة تسع وستين وخمسمائة بحلب وبيته مشهور بالتقدم والجلالة والسنة والعلم والحديث رحمه‌الله تعالى ا ه.

٤٢٤

آثاره بحلب

المدرسة الشرفية الشافعية :

قال أبو ذر في كنوز الذهب : أنشأها الشيخ الإمام شرف الدين أبو طالب عبد الرحمن ابن العجمي وصرف على عمارتها ما ينيف على أربعمائة ألف كذا. قال ابن شداد : وهذه المدرسة حسنة مليحة وهي غاية الارتفاع وحسن البناء والصنعة ، فالبوابة (أي الباب) لم ينسج على منوالها ، وإيوانها فرد في بابه ، ومحرابها غاية في الجودة ، ورخام أرضها محكم ، وبركتها من أعاجيب الدنيا لا يهتدي لتركيبها إلا الحذاق ، وعمقها الآن قامة وبسطة ، وقيل كانت أعمق من ذلك ، وكان يأتي الماء إليها من دولاب تجاه باب المدرسة الكبير ، وصنع لها واقفها سربا لأجل خلائها من المدرسة إلى خارج البلد لم يشارك أحدا فيه بل مختص بهذه المدرسة ، وقد خسفت تنورتها التي خارج المدرسة شماليها وأسقفت ، وبهذه التنورة جباب لأجل القاذورات إذا امتلأت سرحت في السراب.

وهذه المدرسة مبنية بالحجر الهرقلي وعليها نورانية ظاهرة ، ورؤيتها تورث فرحا وانشراح صدر ، وكيف لا ومعلم بنائها هو العبد الصالح شيخ الطريقة أبو بكر النصبة المدفون بمقام الشيخ فارس في جبل بابلّي (١) واسمه مكتوب على محرابها ، واسم النحات

__________________

(١) أقول : مكتوب على الجدار القبلي في تربة الشيخ فارس من الخارج كما قرأته في سنة ١٣٤٢ :

(١) بسم الله الرحمن الرحيم هذه تربة العبد الفقير إلى رحمة الله تعالى الكريم.

(٢) سلطان الطريقة وشيخ الحقيقة أبو بكر النصبة المراغي قدس الله روحه توفي.

(٣) في سنة إحدى وستماية ليلة نصف رمضان وكانت ليلة الجمعة رضي الله تعالى عنه.

ومكتوب هناك على الباب :

(١) عمر هذا المسجد المبارك في أيام مولانا السلطان الملك.

(٢) الظاهر غياث الدنيا والدين أبو المظفر الغازي بن الملك.

(٣) الناصر أحسن الله إليه يوسف بن الشيخ أبي بكر النصبة.

ومكتوب على حجر فوق شباك في الصحن الخارجي :

(١) جدد هذا المسجد في أيام مولانا السلطان.

(٢) الملك الناصر خلد الله تعالى ملكه وأعزه العبد الفقير الراجي رحمة.

(٣) ربه أبو بكر المجد بن ... في سنة ثمان وأربعين وستمائة.

أقول : لم أقف على ترجمة للشيخ فارس وكذا لم أقف على ترجمة لأبي بكر النصبة بأكثر مما ذكرته هنا.

وإلى الجانب الشرقي الجنوبي من مقام الشيخ فارس قبة أخرى على جبلة هناك فيها قبور وحولها قبور كثيرة على

٤٢٥

مكتوب على بابها واسمه أبو الثنا بن ياقوت. وصنع لها طرازا على حائطها الأعظم ليكتب عليه ما أراد ، وكذلك على إيوانها فلم يتفق ذلك لأن واقفها اخترمته المنية ولم يكملها ، ومدة عمارتها أربعون سنة. وكان رحمه‌الله لا يجلس على دككها التي خارج بابها لئلا تنسب إليه إنما كان يجلس على دككها داخل الباب وفي إيوانها.

وهذه المدرسة بها ثلاثة أدوار من الخلاوي المحكمة البناء والأبواب والخزائن. وبها بأعلى الإيوان مع أعلى حاصلها المعروف الآن بالمغارة قاعة مليحة للمدرس ، ولهذه القاعة باب من الإيوان وباب من أرض المدرسة ، وبصدر هذا الإيوان بادهنج له ثلاثة أبواب ، ثم سد بابان منهم لأجل الزلزلة خوفا على الإيوان. وفي هذه المدرسة بئران وصهريجان على بئر منهم قنطرة من الحديد مكتوب عليها : (وقف هذه القنطرة واقف هذه المدرسة عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن العجمي على مصالح الجب في شهر ربيع الأول سنة أربعين وستماية) واسم صانعها علي بن أبي بكر بن مسلم. وعليها خط بالكوفي لا أدري ما هو. وهذه الكتابة ليست حفرا إنما هي بالقلم المجوز وعليها صنعة حفر من بدائع الرسم ، وهذه القنطرة الحديد من العجائب ومشاهدتها تورث الفكرة كيف صنعت (١).

وإلى جانب هذه المدرسة تربة الواقف وهو مدفون بها بوصية منه. وعليها وقف وزاد وقفها بنت ابنة عائشة.

وإلى جانب قبليتها مسجد قديم لم يغيره الواقف بل عمر حائطه وأبقى باب المسجد في مكانه وفتح له إلى قبلية المدرسة بابا آخر ، كذا قيل لي. ورأيت في كتاب وقفها أن الواقف هو الذي بناه ووقفه مسجدا. وإلى جانب هذا المسجد بيت كان إصطبلا للعجول التي كانت تجذب الأحجار لبناء المدرسة. وكان الواقف رحمه‌الله إذا عاقه في طريق العجول الذي تجذب الأحجار عائق من بناء اشتراه من مالكه وهدمه حتى تمر العجول هناك. وكان

__________________

مسافة بضع دقائق طولا وعرضا وعلى بعض ألواح القبور محرر سنة ١٢٣١ و١٢٣٥ مما دل على أن هذا المكان في هذا الحين كان آهلا بالسكان وأن هناك أبنية كثيرة ، وقد رأيت في كتاب وقف بني الجلبي الموقوف على المدرسة الأحمدية من جملة عقارات وقفهم حمام في بابلى ، ومما لا ريب فيه أنه لا حمام بدون سكان ويغلب على الظن أن خراب هذا المكان كان في الزلزلة التي حصلت سنة ١٢٣٧.

(١) أخذت هذه القنطرة منذ عشر سنوات أخذتها دائرة المعارف وأرسلتها لمتحف الآستانة ولا أدري إن كانت وصلت إليه أم لا.

٤٢٦

بهذه المدرسة من الأبواب المنجورة على الخلاوي من أحسن الصنايع المطعم والحفر والخيط والمكوك وغير ذلك مما يفتخر به الصناع ، وقد ذهب غالبها من عدم التعهد. وكان بالمغارة المذكورة في هذه المدرسة من الرخام الملون والفصوص الملونة ما لا مزيد عليه ليرخم به الإيوان وحائطه والقبلية وحائطها ، فلما توفي واقفها رحمه‌الله تعالى أخذه أقاربه واقتسموه وجعلوه في بيوتهم. وقد وقف الواقف رحمه‌الله تعالى على هذه المدرسة الكتب النفيسة من كل فن من حديث وتفسير وفقه ونحو وغير ذلك ، فمن كتبها مسند الإمام الشافعي والأم وجميع كتب الإمام الشافعي وكتب الأصحاب كتفسير الثعلبي وغيره من التفاسير ، وكالنهاية والحاوي الكبير والإبانة والتتمة والذخائر والشامل ، ومن الحديث الكتب الستة. وكان بها جميع كتب المذاهب ولم يفته شيء سوى كتب الرافعي والنووي لأنهما لم تصل كتبهما إذ ذاك إلى حلب.

وكان بها أربعون نسخة من التنبيه (١) وجميع كتب الغزالي ، وكانت أسماء الكتب مثبتة عند أقاربه في درج كبير فذهب في محنة تيمر.

وبلغني أنه شرط واقفها أن يشتري لأبواب المدرسة الحصر من عبدان والبسط من أقصراي ، وأقاربه يقولون إن من شرطه أن لا يتعرض على الناظر في أمر المدرسة وإن اعترض معترض يغلق بابها ويعود وقفها وقفا على أهليه (٢). وقد وقف لها الأوقاف الجليلة كالقرشية في طريق بالس وغير ذلك ، ولها مؤذن يؤذن على بابها. ومن جملة الموقوف على المؤذنين حصة بقرية حربيل. ووقف غير واقفها عليها وهو الطرسوسي حصة بقرية ديد حين آلت إليها. ولها باب من جهة القبلة يفتح إلى بيوت الخطيب هاشم.

وقد درس فيها ولده محيي الدين محمد واسمه مكتوب على الكتب الموقوفة عليها ، وأعاد له فيها عشرة أنفس لم يكن في عصرهم في سائر البلاد مثلهم إلى أن قتل شهيدا بأيدي التتر بعد استيلائهم على حلب. وأما الواقف فإنه توفي بعد استيلاء التتر على حلب في رابع عشري صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة. ثم قيض الله لهذه المدرسة من درس بها تبرعا قبل فتنة تيمر وبعدها والدي الحافظ برهان الدين ، ورحل إليه الحفاظ من البلاد للأخذ

__________________

(١) هو للإمام أبي إسحق الشيرازي المتوفى سنة ٤٧٦ في فروع الفقه الشافعي. انظر الكشف.

(٢) هناك كتب أبو ذر على الهامش ما نصه : وقد رأيت ذلك في كتاب وقفها ا ه.

٤٢٧

عنه بها كشيخ الإسلام ابن حجر والحافظ العلامة شمس الدين بن ناصر الدين. وهذه المدرسة من شرط واقفها أن يقرأ بها البخاري وقرأه والدي بعد اللنك بها. وإذا تذكرت ما كانت عليه هذه المدرسة من كثرة الفضلاء وتردادهم إليها للسماع عليهم ولسماعهم وما هي عليه الآن تذكرت قول الشاعر :

هذي منازل قوم قد عهدتهم

في رغد عيش رغيد ما له خطر

صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا

إلى القبور فلا عين ولا أثر

ا ه.

أقول : موقع المدرسة المذكورة شرقي الجامع الكبير بدرب يعرف قديما بدرب الديلم.

قال أبو ذر : درب الديلم هو الآخذ من باب الجامع (الشرقي) إلى عقبة الياسمين وبه المدرسة الشرفية.

وهي مشهورة عند الناس الآن بالأشرفية وهو غلط ، وبانيها رحمه‌الله مدفون في قبة داخل المدرسة من الجهة الشمالية ، ولها شباكان على الجادة من جهتي الغرب والشمال وللناس فيه اعتقاد عظيم يقصدونه كثيرا للزيارة خصوصا النساء ، وهو مشهور لديهم بقاضي الحاجات ، حتى إن هذا الإسم صار علما على هذا المكان.

ولما عرضت الجادة وذلك سنة ١٣٣٥ خربت هذه القبة القديمة وحول قبره من وسطها إلى طرفها من الجهة القبلية ، ولما بنيت الحوانيت ثمة كما سيأتي اتخذ له حجرة صغيرة بين هذه الحوانيت ولها شباكان كما تقدم.

وهذه المدرسة كانت عامرة بالعلم والتدريس آهلة بالطلاب والعلماء ، وسيمر بك الكثير من مدرسيها ، ونخص بالذكر منهم المحدث الكبير الشيخ إبراهيم بن محمد سبط بني العجمي المتوفى سنة ٨٤١ وستأتيك ترجمته الواسعة.

ثم أهمل أمر التدريس فيها وانحطت عن شأنها وذلك من أكثر من مئتي سنة. وفي أواخر القرن الماضي اتخذ قبليتها الشيخ محمد العريف الخطاط المشهور مكتبا يؤدب فيه الأطفال ويعلمهم الخط ، واشتهر بشيخ الأشرفية وصار ذلك لقبا له.

٤٢٨

وفي سنة ١٢٩٩ عمر متولي وقف أحمد مطاف باشا من الجهة الشرقية قبوا كبيرا وبيتا اتخذ مكتبا وذلك بدلا عن مكتب كان شرقي مدفن أحمد مطاف باشا الكائن في محلة الجلّوم ، وعند ذلك غادر الشيخ محمد الأشرفي هذا المكان إلى المسجد المعروف بالقرموطية في محلة باحسيتا.

ولم يزل هذا المكتب يؤدب فيه الأطفال ويدفع الراتب لمعلمه من واردات وقف أحمد مطاف باشا المعروف الآن بوقف بني الغنام إلى سنة ١٣٤٢ ، ففي هذه السنة اهتم مدير الأوقاف السيد يحيى الكيالي بأمر هذه المدرسة العظيمة فخرب حجرها الغربية التي عن يمين باب المدرسة ويسارها وكان يسكنها بعض الفقراء الغرباء ، والرواق والمطهرة اللذين كانا في الجهة الشمالية وكانت كلها مشرفة على الخراب ، وعمر مكانها عشرة حوانيت كبيرة ، وعرضت الجادة من الجهة الغربية ذراعين ومن الجهة الشمالية ثلاثة أذرع ، فتحسن المكان تحسنا عظيما وأوجرت هذه الحوانيت بنحو ثلاثمائة ليرة عثمانية ذهبا.

وفي سنة ١٣٤٣ وهي السنة الماضية شرع أيضا بعمارة قاعة كبيرة فوق ذلك القبو الكبير والبيت الذي بجانبه ، وأخذ لهذه القاعة غرفة من الطابق العلوي من خان الصابون الذي ثلثاه ملك لجون دويك من تجار اليهود وثلثه تابع لدائرة الأوقاف ، ودفع له قيمة حصته من هذه الغرفة ، وذلك لتكون القاعة مربعة ، وبني في الجهة الشرقية بيت كبير له من جهته القبلية أربعة عواميد ضخمة ، والقصد من ذلك أن تتخذ هذه القاعة لإلقاء المحاضرات العلمية ، وذلك القبو الكبير والبيتان اللذان بجانبه لوضع خزائن الكتب والمطالعة.

ورمم القبلية أيضا ودهنها بحيث عادت إليها بهجتها الأولى ، وقبتها تعد من الآثار العربية الهامة لما فيها من بديع الصنعة وحسن الهندام. والمسجد الصغير الذي كان غربي هذه القبلية الذي ذكره أبو ذر في كلامه المتقدم عليها دخل في عمارة الحوانيت المتقدمة.

وهذه الهمة القعساء التي أبرزها مدير الأوقاف السيد يحيى الكيالي وصارت سببا لعمران هذه المدرسة بعد أن كادت تدرس يستحق عليها مزيد الثناء والشكر وقد خلدت له ذكرى حسنة على ممر الدهور والأحقاب.

وقد دخلت هذه السنة وهي سنة ١٣٤٤ ونحن الآن في أوائل شهر ربيع الثاني منها

٤٢٩

والعمل قائم في المدرسة ، غير أنه على إثر ترك السيد يحيى الكيالي لمديرية دائرة الأوقاف وذلك منذ شهرين لأسباب يطول شرحها وليس هنا موضع بسطها عدلت دائرة الأوقاف عن الغاية التي قدمناها ، وفي عزمها أن تقسم تلك القاعة إلى غرف وتتخذ هذه المدرسة مركزا لدائرتها.

وعسى أن تهتم الدائرة ببناء حجر للطلاب فوق تلك الحوانيت بدلا من الحجر التي كانت تحت ، ويعين لهذه المدرسة المدرسون فيحيا هذا المكان بالعلم والدراسة كما حيي بالعمران ، ويكون قد تحقق بذلك أيضا غرض الواقف ومقاصده.

(استدراك) : شمالي هذه المدرسة الزقاق المعروف الآن بزقاق الزهراوي وكان يعرف قديما بدرب البازيار ، وقد تكلمنا على هذا الدرب في ترجمة البازيار في أوائل هذا الجزء وذكرنا ما كان هناك من الآثار ، وفاتنا أن نذكر أن بهذا الدرب كان سكن سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز ، وكان به أيضا مدرسة يقال لها المدرسة البدرية.

المدرسة البدرية :

قال أبو ذر : هذه المدرسة في صدر درب البازيار وبابها باق وهي خراب ، وبها الآن بيت عمر في هذه الأزمان ، أنشأها بدر الدين عتيق عماد الدين شادي بن الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب ولها وقف وصار وقفها ملكا. كذا قاله ابن شداد ا ه.

الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد بن العديم المتوفى

سنة ٦٦٠ وترجمة أسرته

عمر بن أحمد بن أبي جرادة ، يعرف بابن العديم العقيلي ، يكنى أبا القاسم ويلقب كمال الدين ، من أعيان أهل حلب وأفاضلهم ، وهو عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد ابن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد ابن أبي جرادة صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه.

واسم أبي جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل أبي القبيلة ابن كعب بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن

٤٣٠

حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

وبيت أبي جرادة بيت مشهور من أهل حلب ، أدباء شعراء فقهاء عباد زهاد قضاة يتوارثون الفضل كابرا من كابر وتاليا من غابر. وأنا أذكر قبل شروعي في ذكره شيئا من مآثر هذا البيت وجماعة من مشاهيرهم ، ثم أتبعه بذكره ناقلا ذلك كله من كتاب ألفه كمال الدين أطال الله بقاءه وسماه «الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة» وقرأته عليه فأقرّ به.

سألته أولا : لم سميتم ببني العديم؟ فقال : سألت جماعة من أهلي عن ذلك فلم يعرفوه ، وقال : هو اسم محدث لم يكن آبائي القدماء يعرفون بهذا ، ولا أحسب إلا أن جد جدي القاضي أبا الفضل هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة مع ثروة واسعة ونعمة شاملة كان يكثر في شعره من ذكر العدم وشكوى الزمان فسمي بذلك ، فإن لم يكن هذا سببه فلا أدري ما سببه.

حدثني كمال الدين أبو القاسم قال : حدثني جمال الدين أبو غانم محمد بن هبة الله ابن محمد بن أبي جرادة عمي قال : لما ختمت القرآن قبّل والدي رحمه‌الله بين عيني وبكى وقال : الحمد لله يا ولدي هذا الذي كنت أرجوه فيك ، حدثني جدك عن أبيه عن سلفه أنه مامنا أحد إلى زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من ختم القرآن. قال المؤلف : وهذا منقبة جليلة لا أعرف لأحد من خلق الله شرواها ، وسألت عنها قوما من أهل حلب فصدقوها. وقال لي زين الدين محمد بن عبد القاهر النصيبي : دع الماضي واستدل بالحاضر فإنني أعد لك كل من هو موجود في وقتنا هذا وهم خلق ليس فيهم أحد إلا وقد ختم القرآن وجعل يتذكرهم واحدا واحدا فلم يخرم بواحد.

حدثني كمال الدين أطال الله بقاءه قال : وكان عقب بني أبي جرادة من ساكني البصرة في محلة بني عقيل بها ، فكان أول من انتقل منهم عنها موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عامر بن أبي جرادة إلى حلب بعد المائتين للهجرة وكان وردها تاجرا.

وحدثني قال : حدثني عمي أبو غانم محمد بن هبة الله بن محمد بن أبي جرادة قال : سمعت والدي يذكر فيما تأثره عن سلفه أن جدنا قدم من البصرة في تجارة إلى الشام فاستوطن حلب. قال : وسمعت والدي يذكر أنه بلغه أنه وقع طاعون بالبصرة فخرج منها جماعة

٤٣١

من بني عقيل وقدموا الشام فاستوطن جدنا حلب. قال : وكان لموسى من الولد محمد وهارون وعبد الله ، فأما محمد فله ولد اسمه عبد الله ولا أدري أعقب أم لا ، وأما العقب الموجود الآن فلهارون وهو جدنا ولعبد الله وهم أعمامنا.

فمن ولد عبد الله القاضي أبو طاهر عبد القاهر بن علي بن عبد الباقي بن محمد بن عبد الله بن موسى بن أبي جرادة وهو من سادات هذا البيت وأعيانهم ، ومات في جمادى الأولى من سنة ٤٦٣. فقال القاضي أبو الفضل هبة الله بن أحمد بن أبي جرادة يرثيه وكانت قد توفيت قبل وفاة والده القاضي أبي الفضل أخته بأيام قلائل فتوجع للماضين :

صبرت لا عن رضى مني وإيثار

وهل يرد بكائي حتم أقدار

أروم كف دموعي وهي في صبب

وأبتغي برد قلبي وهو في نار

ما لليالي تعرّي جانبي أبدا

من أسرتي وأخلائي وأوزاري

تلذ طعم مصيباتي فأحسبها

تظمى فيروي صداها ماء أشفاري

محاسن جدّت الأرض الفضاء بها

وطالما صنتها عن لحظ أبصار

وواضح كسنا الإصباح أنقله

من رأي عيني إلى سري وإضماري

إن الردى أقصدتني غير طائشة

سهامها في فتى كالكوكب الواري

رمته صائبة الأقدار عن كثب

وما رعت (١) عظم أقدار وأخطار

وهي قصيدة غراء طويلة.

ومنهم أبو المجد عبد الله بن محمد بن عبد الباقي بن محمد ، شيخ فاضل أديب شاعر له معرفة باللغة والعربية ، سمع بحلب أستاذه أبا عبد الله الحسين بن عبد الواحد بن محمد ابن عبد القادر القنسريني المقرىء مؤلف كتاب «التهذيب في اختلاف القراء السبعة» وسمعه ولده الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله ، وله أشعار حسان منها :

توسوس عن عليّ الزمان

ففي كل يوم له معضله

فلو جعلوا أمره ليلة

إليّ لأصبح في سلسله

ومات الشيخ أبو المجد بحلب في حدود سنة ٤٨٠.

__________________

(١) في الأصل : وما ربحت. وقال المؤلف في الحاشية : كذا في الأصل. والصواب ما أثبتناه.

٤٣٢

ومنهم ولده الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة صدر زمانه وفرد أوانه ، ذو فنون من العلوم ، وخطه مليح جدا على غاية من الرطوبة والحلاوة والصحة ، وله شعر يكاد يختلط بالقلب ويسلب اللب لطافة ورقة ، تصدر بحلب لإفادة العلوم الدينية والأدبية متفردا بذلك كله ، ورتب غريب الحديث لأبي عبيد على حروف المعجم رأيته بخطه ، وشرع في شرح أبياته شروعا لم يقصر فيه ظفرت منه بكراريس من مسوداته لأنه لم يتم. سمع بحلب والده أبا المجد وأبا الفتح عبد الله بن إسماعيل الحلّي وأبا الفتيان محمد بن سلطان بن حيّوس الشاعر وغيرهم ، ورحل عن حلب قاصدا للحج في ثالث شعبان سنة ٥١٦ ، ووصل إلى بغداد وسمع بها أبا محمد عبد الله بن علي المقرئ وغيره. ولم يتيسر للناس في هذا العام حج فعاد من بغداد إلى حلب ، ثم سافر إلى الموصل بعد ذلك في سنة ٣١ وسمع بها ، وأدركه تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني فسمع منه بحلب هو وجماعة وافرة. وذكره السمعاني في المذيل لتاريخ بغداد. قال المؤلف : وقد ذكرته في هذا الكتاب في موضعه بما ذكره السمعاني به.

حدثني كمال الدين قال : سمعت والدي رحمه‌الله يقول : كتب الشيخ أبو الحسن بن أبي جرادة بخطه ثلاث خزائن من الكتب لنفسه وخزانة لابنه أبي البركات وخزانة لابنه أبي عبد الله. ومن شعره (أنبأنا به تاج الدين زيد بن الحسن الكندي) من قصيدة يصف فيها طول الليل :

فؤاد بالأحبة مستطار

وقلب لا يقرّ له قرار

وما أنفك من هجر وصدّ

وعتب لا يقوم له اعتذار

وعيني دمعها جم غزير

ولكن نومها نزر غرار

كأن جفونها عند التلاقي

تلاقيها الأسنة والشفار

وهذا حالها وهم حلول

فكيف بها إذا خلت الديار

أبيت الليل مرتفقا كئيبا

لهمّ في الضلوع له أوار

كأن كواكب الفلك اعتراها

فتور أو تخوّنها المدار

منها :

فيا لك ليلة طالت ودامت

فليس لصبحها عنها انسفار

٤٣٣

أسائلها لابلغ منتهاها

لعل الهم يذهبه النهار

ومات الشيخ أبو الحسن في سنة ٥٤٨ عن ٨٨ سنة (١).

ومنهم ولده أبو علي الحسن بن علي بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة ، وكان فاضلا كاتبا شاعرا أديبا يكتب النسخ على طريقة أبي عبد الله بن مقلة والرقاع على طريقة علي ابن هلال ، وخطه حلو جيد جدا خال من التكلف والتعسف ، سمع أباه بحلب وكتب عنه السمعاني عند قدومه حلب ، وسار في حياة أبيه إلى الديار المصرية واتصل بالعادل أمير الجيوش وزير المصريين وأنس به ، ثم نفق بعده على الصالح بن رزيك وخدمه في ديوان الجيش ، ولم يزل بمصر إلى أن مات في سنة ٥٥١ (٢). ومن شعره في صدر كتاب كتبه إلى أخيه عبد القاهر في سنة ٥٤٦ :

سرى من أقاصي الشام يسألني عني

خيال إذا ما راد يسلبني مني

تركت له قلبي وجسمي كليهما

ولم يرض إلا أن يعرّس في جفني

وإني ليدنيني اشتياقي إليكم

ووجدي بكم لو أن وجد الفتي يدني

وأبعث آمالي فترجع حسّرا

وقوفا على ضنّ من الوصل أو ظنّ

فليت الصبا تسري بمكنون سرنا

فتخبرني عنكم وتخبركم عني

وليت الليالي الخاليات عوائد

علينا فتعتاض السرور من الحزن

ومن شعره :

ما ضرهم يوم جدّ البين لو وقفوا

وزوّدوا كلفا أودى به الكلف

تخلفوا عن وداعي ثمت ارتحلوا

وأخلفوني وعودا مالها خلف

وواصلوني بهجر بعدما وصلوا

حبلي وما أنصفوني لكن انتصفوا

فليتهم عدلوا في الحكم إذا ملكوا

وليتهم أسعفوا بالطيف من شغفوا

ما للمحب وللعذّال ويحهم

خانوا وماتوا ولما عنّفوا عنفوا

أستودع الله أحبابا ألفتهم

لكن على تلفي يوم النوى ائتلفوا

__________________

(١) تقدمت له ترجمة أخرى على حدة في وفيات سنة ٥٤٦ وقلنا الأصح في وفاته ما ذكر هناك.

(٢) تقدمت له ترجمة على حدة في وفيات سنة ٥٥١.

٤٣٤

عمري لئن نزحت بالبين دارهم

عني فما نزحوا دمعي وما نزفوا

يا حبذا نظرة منهم على عجل

تكاد تنكرني طورا وتعترف

سقت عهودهم غدّاء واكفة

تهمي ولو أنها من أدمعي تكف

أحبابنا ذهلت ألبابنا ومحا

عتابنا لكم الإشفاق والأسف

بعدتم فكأن الشمس واجبة

من بعدكم وكأن البدر منخسف

يا ليت شعري هل يحظى برؤيتكم

طرفي وهل يجمعن ما بيننا طرف

ومضمر في حشاه من محاسنكم

لفظا هو الدرّ لا ما يضمر الصدف

كنا كغصنين حال الدهر بينهما

أو لفظتين لمعنى ليس يختلف

فأقصدتنا صروف الدهر نابلة

حتى كأن فؤادينا لها هدف

فهل تعود ليالي الوصل ثانية

ويصبح الشمل منا وهو مؤتلف

ونلتقي بعد يأس من أحبتنا

كمثل ما يتلاقى اللام والألف

وما كتبت على مقدار ما ضمنت

مني الضلوع ولا ما يقتضي اللهف

فإن أتيت بمكنوني فمن عجب

وإن عجزت فإن العذر منصرف

ومنهم أخوه أبو البركات عبد القاهر بن علي بن عبد الله بن أبي جرادة ، كان ظريفا لطيفا أديبا شاعرا كاتبا له الخط الرائق والشعر الفائق والتهذيب الذي تبحر في جودته ويلتحق بالنسبة إلى ابن البواب ، والتأنق في الخط المحرر الذي يشهد بالتقدم في الفضل وإن تأخر. سمع بحلب أباه أبا الحسن وغيره وكتب عنه جماعة من العلماء. وكان أمينا على خزائن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي وذا منزلة لطيفة منه ، ومن شعره (وكتبه بليقة ذهب) :

ما اخترت إلا أشرف الرتب

خطا أخلّد منه في الكتب

والخط كالمرآة ننظرها

فترى محاسن صورة الأدب

هو وحده حسب يطال به

إن لم يكن إلاه من حسب

ما زلت أنفق فيه من ذهب

حتى جرى فكتبت بالذهب

وقال أيضا وهو بدمشق في سنة ٥٤٩ :

أمتّ ببذلي خالصا من مودتي

إلى من سواء عنده المنع والبذل

٤٣٥

وتحسب نفسي والأمانيّ ضلّة

بأني من شغل الذي هو لي شغل

ألا إن هذا الحب داء موافق

وإن شفاء الداء ممتنع سهل

عفا الله عمن إن جنى فاحتملته

تجنّى فعاد الذنب لي وله الفضل

ومن كلما أجمعت عنه تسليا

تبينت أن الرأي في غيره جهل

سأعرض إلا عن هواه فإنه

جميل بمثلي حبّ من ماله مثل

وألقى مقال الناصحين بمسمع

ضربت عليه بالغواية من قبل

فعندي وإن أخفيت ذاك عن العدا

عزيمة هم لا تكلّ ولا تألو

ولي في حواشي كل عذل تلفّت

إلى حب من في حبه قبح العذل

وإني لأدنى ما أكون من الهوى

إذا أرجف الواشون بي أنني أسلو

هذا لعمري والله الغاية في الحسن والطلاوة والرونق والحلاوة.

وقال أيضا :

عاد قلبي إلى الهوى من قريب

ما محبّ بمنته عن حبيب

طال يا همتي تماديك في الرش

د خذي من غواية بنصيب

وإذا ما رأيت حسنا غريبا

فاستعدي له بوجد غريب

يا غزالا مالت به نشوة العج

ب فهزّت عطفيه هزّ القضيب

بين ألحاظك المراض وبيني

نسب لو رعيت حقّ النسيب

أنت أجريت أعين الدمع من عي

ني وأوريت زند قلبي الكئيب

لا تقل ليس لي بذلك علم

فعلى مقلتيك سيما مريب

ما تعدّيك في الذي أنت فيه

إن حظي لديك حظّ أديب

ومات في سنة ٥٥٢.

ومنهم ابن أخيه أبو الفتح عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي جرادة ، وكان يجيد الكتابة ، وجمع مجاميع حسنة ، وجمع شعر والده أبي عبد الله الحسن وشعر عمه أبي البركات عبد القاهر ، وله شعر لا بأس به ، منه :

من ذا مجيري من يدي شادن

مهفهف القدّ مليح العذار

قد كتب الشعر على وجهه

أسطر مسك طرسها جلّنار

٤٣٦

فهؤلاء من بني عبد الله بن موسى بن عيسى.

وأما أخوه هارون بن موسى فهو أول من اشترى بحلب ملكا في قرية تعرف بأورم الكبرى. وكان له ولدان زهير وأحمد والعقب لزهير ، وهو الذي اشترى أكثر أملاك بني جرادة مثل أورم الكبرى ويحمول وأقذار ولؤلؤة والسين وهي قرى ، ووقف وقفا على شري فرس يجاهد به في سبيل الله وتوفي في حدود سنة ٣٤٠.

فمن ولد زهير أبو الفضل وهو أبو الفضل عبد الصمد بن زهير بن هارون بن موسى ، ولادته في حدود ال ٣٢٠. سمع بحلب أبا بكر محمد بن الحسين الشيعي وغيره ، وروى عنه ابن أخيه القاضي أبو الحسن أحمد ومشرق العابد وجماعة. ولعله مات في حدود سنة ٣٩٠ وليس له عقب.

ومنهم أبو جعفر يحيى بن زهير بن هارون بن موسى وهو العديم إليه ينسبون ، وقد ذكرنا أنهم لا يعرفون لم سموا ذلك.

ومنهم ولده القاضي أبو الحسين أحمد بن يحيى بن زهير ، وهو أول من ولي القضاء بمدينة حلب من هذا البيت ، وقد سمع الحديث ورواه ، وقرأ الفقه على القاضي أبي جعفر محمد بن أحمد السمعاني ، وكان السمعاني إذ ذاك قاضي حلب. أنشدني كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد بن جرادة ، أنشدني والدي لجد أبيه القاضي هبة الله أحمد بن يحيى يذكر أباه ويفتخر به :

أنا ابن مستنبط القضايا

وموضح المشكلات حلّا

وابن المحاريب لم تعطّل

من الكتاب العزيز تتلى

وفارس المنبر استكانت

عيدانه من حجاه ثقلا

توفي بعد سنة ٤٢٩ (قدمنا ترجمته وقلنا إن وفاته في عقد الخمسين ظنا).

ومنهم ابنه القاضي أبو الفضل هبة الله (١) بن أحمد ، كان كبير القدر جميل الأمر مبجلا

__________________

(١) كانت ولادته سنة ثلاث عشرة وأربعمائة كما في طبقات الحنفية للقرشي. وفي الزبد والضرب : كان القاضي بحلب في أيام شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب حلب (الذي قتل سنة ٤٧٨) كسرى بن عبد الكريم

٤٣٧

عند آل مرداس ، له شعر جزل فصيح ذو معان دقاق يترفع قدره عنه ، وإنما يقول ببلاغته وبراعته. سمع الحديث من أبيه ولعله لقي أبا العلاء المعري وقرأ عليه شيئا ، وولي القضاء بحلب وأعمالها في سنة ٤٧٣ وبقي على ذلك إلى أن مات ، وكانت ولايته للقضاء في أوائل دولة شرف الدولة أبي المكارم مسلم بن قريش بعد وفاة حميه القاضي كسرى بن عبد الكريم ابن كسرى ، وكتب تقليده من بغداد عن المقتدي بالله. ومن شعره :

لي بالغوير لبانات ظفرت بها

قد سدّ من دونها لي أوضح الطرق

وبالثنية بدر لاح في غصن

أصمى فؤادي لها سهم من الملق

سرّاقة لقلوب الناظرين لها

وما يقام عليها واجب السرق

لا يفلت المرء من أشراك مقلتها

وإن تخلّص لم يفلت من العقق

وأبرزت من خلال السجف ذا شعل

لولا بقا الليل قلنا غرة الفلق

ولائم ودموع العين واكفة

لا يستبين لها جفن من الفرق

تقول أفنيته والشمل مجتمع

ولم تصنه لتوديع ومفترق

وله :

ربع لهند باللوى مصروم

أقوى فما آو به منهوم

أخفاه إلحاح البلى فظلت في

إنشاده لو لا النسيم تهوم

تضياف طرفي فيه دمع ساجم

وقرى فؤادي في ذراه هموم

هل عاذر في الربع رائي عيسهم

تحدى لها وخد بهم ورسيم

وهوى تبعّده الليالي والنوى

إن قربته خواطر ورسوم

يا صاحبيّ خذا المطايا وحدها

بدمي فما اغتالته إلا الكوم (١)

أمضين أحكام الهوى وأعنّه

ومساعد المرء الظلوم ظلوم

__________________

ابن كسرى ، ومات فولي قضاءها أبو الفضل هبة الله بن أحمد بن أبي جرادة ابن بنت كسرى المذكور ، وكان شرف الدولة يخاطبه بابن العم لكونه عقيليا والقاضي عقيلي. وفي كنوز الذهب : درب بني كسرى هو الذي به المدرسة الصلاحية ، وكان به دور بني العديم خربت في تيمور وبه مسجد لهم ، وهناك مساكن عز الدين نقيب الأشراف شيخ والدي. وكان هذا الدرب تمر فيه إلى المدرسة السيفية. وكسرى هو ابن عبد الكريم بن كسرى بن كسور السلمي قاضي حلب ، مات سنة ٤٧٣ وولي قضاء حلب سنة ٤٤٥ ا ه.

(١) عجز البيت في الأصل : تدمي فما شغلتها إلا الكوم.

٤٣٨

وله :

وما عسى يطلب الرجال من رجل

كاس من الفضل إن عرّي من المال

كالبارد العذب يوم الورد من ظمأ

والصارم العضب في روع وأوجال

همومه في جسيمات الأمور فما

يلفى مصاحب أطماح وآمال

ألذ من ثروة تأتي بإذلال

عزّ القناعة مع صون وإقلال

وما يضر امرأ أثرت مناقبه

إن أكسبته الليالي رقة الحال

وقال أيضا يمدح أبا الفضائل سابق بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس صاحب حلب ويشكره إذ لم يسمع فيه قول حساد وشوا به إليه :

خلّها إن ظمئت تشكو الأواما

لا تقلها الأين إن طال وداما

واجعل السرج إذا ما سغبت

كلأ والمورد العذب اللجاما

أو تراها كالحنايا بالسرى

وبإسراع إلى المرمى سهاما

قصرت ظهرا ورسغا وعسيبا

مثل ما طالت عنانا وحزاما

تنصب الأذنين حتى خيلت

بهما تبصر ما كان أماما

وإذا ما بارت الريح اغتدت

خلفها النكباء حسرى والنعامى

كم مقامي بين أحكام العدى

أتبع القائد لا أعصي الزماما

أكلة الطاعم لا يرهب إثما

أو أسير المنّ إن كفّ احتشاما

وإلى م الحظ لا ينصفني

من زمان جار في قصدي إلى ما

تعتلي أرؤسه أذنابه

فترى الأرجل تعلو فيه هاما

أتمنى راحة تنقذني

منهم عزت ولو كنت هماما

ومنها :

كم رموني عامدا في هوة

نارها تعلو اشتعالا واضطراما

قاصدي حتفي فكانت بك لي

نار إبراهيم بردا وسلاما

وله في المعنى في قصيدة :

٤٣٩

هنئت يا أرض العواجم (١) دولة

روّى ثراك بها أشمّ أروع

قد عاد في الأيام ماء شبابها

وتسالمت حرق الأسى والأضلع

أشكو إليك عصابة نبذوا الحيا

حسدا وشدوا في أذاي وأوضعوا

راموا ابتزازي مورثي عن أسرتي

وتأزروا في قبضه وتجمعوا

يتطلبون لي الذنوب كأنني

ممن عليه بالسنان يقعقع

لم أخش قهرهم ونصرك مصلت

دوني ولي من حسن رأيك مرجع

وله :

وما الذل إلا أن تبيت مؤملا

وقد سهرت عيناك وسنان هاجعا

أأخشى امرأ وأشتكي منه جفوة

إذا كنت بالميسور في الدهر قانعا

إذا ما رآني طالبا منه حاجة

ففي حرج إن لم يكن لي مانعا

وكان المنجمون قد حكموا له أن يموت في صدور الرجال ، فاتفق أنه اعتقل بالقلعة مدة لتهمة اتهم بها بالممالاة لبعض الملوك ، ثم أطلق بعد مدة فنزل راكبا وأصحابه حوله ، فبينما هو سائر إذ وجد ألما فقال لأصحابه : أمسكوني أمسكوني ، فأخذوه في صدورهم من على فرسه ، فلما وصل إلى منزله بقي على صدورهم إلى أن مات بحلب في سنة ٤٨٨.

ومنهم ولده القاضي أبو غانم محمد ابن القاضي أبي الفضل هبة الله ابن القاضي أبي الحسن أحمد ، وكان فقيها فاضلا زاهدا عفيفا ، سمع أباه وغيره ، وولي قضاء حلب وأعمالها وخطابتها بعد موت أبيه في أيام تاج الدولة تتش في سنة ٤٨٨ ، ولم يزل قاضيا بها إلى أن عزله رضوان لما خطب للمصريين وولي القضاء القاضي الزورني العجمي في شوال من سنة ٤٩٠ ، ثم عاود الملك رضوان الخطبة لبني العباس ، فأعاد القاضي أبا غانم إلى ولايته وجاءه التقليد من بغداد بالقضاء والحسبة عن القاضي علي بن الدامغاني بأمر المستظهر في صفر سنة ٤٩٦ ، وكان مولد القاضي أبي غانم في رجب سنة ٤٤٦ ، وهو الذي شرع في عمارة المسجد الذي بحلب يعرف ببني العديم ، وأتمه ابنه القاضي أبو الفضل هبة الله ، وكان يتولى الخطابة في المسجد الجامع والإمامة بحلب ، وكان حنفي المذهب ، وكان يؤمّ

__________________

(١) لعله العواصم.

٤٤٠