إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٤

المعروف بابن العديم ، إلى أن مات فوليها نجم الدين سالم إلى أن توفي فوليها قاضي البلستين من بلاد الروم ، ولم يزل بها إلى أن مات فوليها بدر الدين محمد بن نجم الدين أبي الحسن علي بن إبراهيم المعروف بابن خشنام ، وعليه انقرضت الدولة ، وآل تدريسها بعد هؤلاء لبني العديم. ومن جملة أوقافها بعض حمام العتيق ببانقوسا ا ه (كنوز الذهب).

قال في الدر المنتخب : ووقفها ثلاثة أرباع حمّام العتيق ببانقوسا شركة الطواشية وأربع أفدنة من النيرب وأربع أفدنة من دابق. وهذه المدرسة أيضا من المدارس التي انتزعها والدي من القاضي جمال الدين بن العديم بحكم جهلة ، وأدركت والدي وكان يقيم بها بأهله وعياله أيام الصيف في كل سنة.

الخانكاه الجمالية :

هذه الخانكاه أنشأها جمال الدولة إقبال الظاهري تحت القلعة في حدود الأربعين وستمائة.

قلت : هي برأس درب المبلط تجاه تربة الظاهر بالسلطانية. ومن وقفها ربع حمّام ببانقوسا المعروفة بحمام العتيق ا ه.

٢٠٣ ـ عبد المحسن التنوخي المتوفى سنة ٦٤٣

عبد المحسن بن حمود بن عبد المحسن بن علي أمين الدين التنوخي الحلبي الكاتب المنشيء البليغ. ولد سنة سبعين وخمسمائة وتوفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة. رحل وسمع بدمشق من حنبل وابن طبرزد والكندي وغيرهم. وعني بالأدب. جمع كتابا في الأخبار والنوادر في عشرين مجلدا روي فيه بالسند. وله ديوان شعر وديوان ترسل وكتاب «مفتاح الأفراح في امتداح الراح». وكتب لصاحب صرخد عز الدين أيبك ووزر له. وكان ذكيا خيرا كامل الأدوات.

ومن شعره :

اشتغل بالحديث إن كنت ذا فهم ففيه المراد والإيثار

وهو للعلم معلم وبه بين ذوي الدين تحسن الآثار

٣٨١

إنما الرأي والقياس ظلام

والأحاديث للورى أنوار

كن بما قد علمته عاملا

فالعلم دوح منهن تجنى الثمار

وإذا كنت عالما وعليما

بالأحاديث لم تمسّك نار

وقال يعاتب صديقا له :

سألتك حاجة ووثقت فيها

بقول نعم وما في ذاك عاب

ولم أعلم بأني من أناس

ظموا قلبي وعندهم الشراب

وقال في المعنى :

ظننت به الجميل فجئت أرضى

إليه بهمتي طولا وعرضا

فلما جئته ألفيت شخصا

حمى عرضا له وأباح عرضا

وقال أيضا :

كأنما نارنا وقد خمدت

وجمرها بالرماد مستور

دم جرى من فواخت ذبحت

من فوقه ريشهن منثور

وقال أيضا :

أتانا بكانون يشب ضرامه

كقلب محب أو كصدر حسود

كأن احمرار النار من تحت فحمه

خدود عذارى في معاجر سود

وقال في غلام جميل الصورة لابس أصفر :

قد قلت لما أن بصرت به

في حلة صفراء كالورس

أو ما كفاه أنه قمر

حتى تدرّع حالة الشمس

وقال أيضا :

أقول لنفسي حين نازل لمتي

مشيبي ولما يبق غير رحيلي

أيا نفس قد مر الكثير فأقصري

ولا تحرصي لم يبق غير قليل

ولا تأملي طول البقاء فإنني

وجدت بقاء الدهر غير طويل

وقال أيضا :

٣٨٢

لله هل يا ملول

إلى الوصال وصول

أم هل إلى سلسبيل

من ريق فيك سبيل

صلني فما ذا التجافي

من ذا الجمال جميل

ساءت لبعدك حالي

ولست عنك أحول

قضى اعتدالك فينا

أن ليس عنك عدول

ما مال قدّك إلا

ظلما عليّ يميل

فهل شمائل ريح

مرّت به أم شمول

إن كنت تنكر أني

بمقلتيك قتيل

فهل دمي كاد من خدك الأسيل يسيل

وذا الدلال على ما

بي من هواك دليل

لكن يهون على الغمر في الهوى ما يهول

ا ه فوات الوفيات لابن شاكر.

قال جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربية (صحيفة ٢٢ جلد ٣) : لم نقف على كتابة في الأخبار والنوادر ، وإنما وصلنا ديوانه المسمى «مفتاح الأفراح في امتداح الراح» على نسق أبي نواس ، وفيه مجون. منه نسخ خطية في برلين وفينا ا ه.

٢٠٤ ـ أبو البقا بن يعيش شارح المفصّل المتوفى سنة ٦٤٣

أبو البقا يعيش بن علي بن يعيش بن أبي السرايا بن محمد بن علي بن المفضّل بن عبد الكريم بن محمد ابن يحيى بن حيان القاضي بن بشر بن حيان الأسدي الموصلي الأصل الحلبي المولد والمنشأ الملقب موفق الدين النحوي ، ويعرف بابن الصائغ.

قرأ النحو على أبي السخا فتيان الحلبي وأبي العباس المغربي والنيروزي ، وسمع الحديث على أبي الفضل عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي بالموصل ، وعلى أبي محمد عبد الله بن عمرو بن سويد التكريتي ، وبحلب من أبي الفرج يحيى بن محمود الثقفي والقاضي أبي الحسن أحمد بن محمد الطرسوسي وخالد بن محمد بن نصر بن صغير القيسراني ، وبدمشق على تاج الدين الكندي وغيرهم ، وحدث بحلب. وكان فاضلا ماهرا في النحو والتصريف.

٣٨٣

رحل من حلب في صدر عمره قاصدا بغداد ليدرك أبا البركات عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن الأنباري وتلك الطبقة بالعراق وبلاد الجزيرة ، فلما وصل إلى الموصل بلغه خبر وفاته فأقام بالموصل مديدة وسمع الحديث بها ، ثم رجع إلى حلب. ولما عزم على التصدر للإقراء سافر إلى دمشق واجتمع بالشيخ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي الإمام المشهور وسأله عن مواضع مشكلة في العربية وعن إعراب ما ذكره أبو محمد الحريري في المقامة العاشرة المعروفة بالرحبية وهو قوله في أواخرها : (حتى إذ لألأ الأفق ذنب السرحان ، وآن انبلاج الفجر وحان) ، فاستبهم جواب هذا المكان على الكندي ، هل الأفق وذنب السرحان مرفوعان أو منصوبان ، أو الأفق مرفوع وذنب السرحان منصوب ، أو على العكس ، وقال له : قد علمت قصدك وأنك أردت إعلامي بمكانتك من هذا العلم. وكتب له خطه بمدحه والثناء عليه ووصف تقدمه في الفن الأدبي.

قلت (القائل ابن خلكان) : وهذه المسألة يجوز فيها الأمور الأربعة ، والمختار منها نصب الأفق ورفع ذنب السرحان.

ولما وصلت إلى حلب لأجل الاشتغال بالعلم الشريف وكان دخولي إليها يوم الثلاثاء مستهل ذي القعدة سنة ست وعشرين وستمائة ، وهي إذ ذاك أم البلاد ، مشحونة بالعلماء والمشتغلين ، وكان الشيخ موفق الدين المذكور شيخ الجماعة في الأدب لم يكن فيهم مثله ، فشرعت في القراءة عليه ، وكان يقري بجامعها في المقصورة الشمالية بعد العصر ، وبين الصلاتين بالمدرسة الرواحية ، وكان عنده جماعة قد تنبهوا وتميزوا به وهم ملازمون مجلسه لا يفارقونه في وقت الإقراء. وابتدأت بكتاب اللمع لأبن جني فقرأت عليه معظمها مع سماعي لدروس الجماعة الحاضرين ، وذلك في أواخر سنة سبع وعشرين وما أتممتها إلا على غيره لعذر اقتضى ذلك. وكان حسن التفهيم لطيف الكلام طويل الروح على المبتدي والمنتهي ، وكان خفيف الروح ظريف الشمائل كثير المجون مع سكينة ووقار. ولقد حضرت يوما حلقته وبعض الفقهاء يقرأ عليه اللمع لابن جني فقرأ بيت ذي الرمة في باب النداء :

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النقا آانت أم أمّ سالم

فقال له الشيخ : إن هذا الشاعر لشدة وله في المحبة وعظم وجده بهذه المحبوبة أم سالم وكثرة مشابهتها للغزال كما جرت عادة الشعراء في تشبيههم النساء الصباح الوجوه بالغزلان

٣٨٤

والمها اشتبه عليه الحال فلم يدر هل هي امرأة أم ظبية فقال : آانت أم أم سالم. وأطال الشيخ موفق الدين القول في ذلك وبسط بأحسن عبارة بحيث يفهمه البليد البعيد الذهن ، وذلك الفقيه منصت مقبل على كلامه بكليته ، حتى يتوهم من يراه على تلك الصورة أنه قد تعقل جميع ما قاله الشيخ من شرحه ، فلما فرغ الشيخ من قوله قال له الفقيه : يا مولانا أيش في هذه المرأة الحسناء يشبه الظبية؟ فقال له الشيخ قول منبسط : تشبهها في ذنبها وقرونها ، فضحك الحاضرون وخجل الفقيه ، وما عدت رأيته حضر مجلسه.

وكنا يوما نقرا عليه بالمدرسة الرواحية فجاءه رجل من الأجناد وبيده مسطور بدين ، وكان الشيخ له عادة بالشهادة في المكاتيب الشرعية ، فقال : يا مولانا أشهد على ما في هذا المسطور ، فأخذه الشيخ من يده وقرأ أوله : أقرت فاطمة ، فقال له الشيخ : أنت فاطمة؟ فقال الجندي : يا مولانا الساعة تحضر ، وخرج إلى باب المدرسة فأحضرها وهو يتبسم من كلام الشيخ.

وكنا يوما نقرأ عليه في داره فعطش بعض الحاضرين وطلب من الغلام ماء ، فأحضره ، فلما شرب قال : ما هذا إلا ماء بارد ، فقال له الشيخ : لو كان خبزا حارا كان أحب إليك.

وكنا يوما عنده بالمدرسة الرواحية فجاء المؤذن وأذّن قبل العصر بساعة جيدة ، فقال الحاضرون : أيش هذا يا شيخ وأين وقت العصر؟ فقال الشيخ موفق الدين : دعوه عسى أن يكون له شغل فهو مستعجل.

وكان يوما عنده القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد قاضي حلب ، فجري ذكر زرقاء اليمامة وأنها كانت ترى الشيء من المسافة البعيدة حتى قيل : تراه من مسيرة ثلاثة أيام ، فجعل الحاضرون يقولون ما علموه من ذلك ، فقال الشيخ موفق الدين : أنا أرى الشيء من مسيرة شهرين ، فتعجب الكل من قوله وما أمكنهم أن يقولوا له شيئا ، فقال له القاضي : كيف هذا يا موفق الدين؟ فقال : لأني أرى الهلال ، فقلت له : كان قلت مسافة كذا وكذا سنة ، فقال : لو قلت هذا عرف الجماعة الحاضرون (غرضي ، وكان قصدي الإبهام عليهم) (١).

__________________

(١) ما بين قوسين إضافة من وفيات الأعيان ليست في الأصل.

٣٨٥

وكان الشيخ موفق الدين المذكور كثيرا ما ينشد هذه الأبيات :

وقد كنت لا آتي إليك مخاتلا

لديك ولا أثني عليك تصنّعا

ولكن رأيت المدح فيك فريضة

عليّ إذا كان المديح تطوّعا

ففهت بما لم يخف عنك مكانه

من القول حتى ضاق مما توسّعا

فلا تتخالجك الظنون فإنها

مآثم واترك فيّ للصلح موضعا

فلو غيرك الموسوم عندي بريبة

لأعطيت فيه مدّعي القول ما ادّعى

فو الله ما طوّلت بالقول فيكم

لسانا ولا عرّضت للذم مسمعا

ولكنني أكرمت نفسي فلم تهن

وأجللتها من أن تذلّ وتخضعا

فباينت لا أنّ العداوة باينت

وقاطعت لا أنّ الوفاء تقطّعا

وشرح الشيخ موفق الدين كتاب «المفصل» لأبي القاسم الزمخشري شرحا مستوفيا وليس في جملة الشروح مثله (١) ، وشرح «التصريف الملوكي» لابن جني شرحا جيدا (٢) وانتفع به خلق كثير من أهل حلب وغيرها ، حتى إن الرؤساء الذين كانوا بحلب ذلك الزمان كانوا تلامذته.

وكانت ولادته لثلاث خلون من شهر رمضان سنة ست وخمسين وخمسمائة بحلب ، وتوفي بها في سحر الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة ، ودفن من يومه بتربته بالمقام المنسوب إلى إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه ا ه (ابن خلكان).

__________________

(١) قال فانديك في كتابه «اكتفاء القنوع بما هو مطبوع» في صحيفة ٣٠١ : شرح ابن يعيش على المفصل هذا طبع في جلدين في لايبسك عام ١٨٨٦ باعتناء العلامة ياهن عن أربع نسخ خطية موجودة في مكاتب لايبسك وأكسفورد والقسطنطينية والقاهرة ا ه. ويوجد من المطبوعة نسخة في المكتبة السلطانية بمصر ، وهناك أجزاء متعددة خطية. ويوجد منه نسخ متعددة في مكاتب الآستانة في مكتبة سليم آغا والفاتح وأيا صوفية وولي الدين ويكي جامع ولا له لي.

(٢) منه نسخة في السلطانية في الكتب الشنقيطية ذكره أحمد تيمور باشا في مقالته نوادر المخطوطات المنشورة في مجلة الهلال.

٣٨٦

٢٠٥ ـ القاضي الأكرم علي بن يوسف القفطي المتوفى سنة ٦٤٦

قال ياقوت في معجم الأدباء : علي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد بن موسى ابن أحمد بن محمد بن إسحاق بن محمد بن ربيعة بن الحارث بن قريش بن أبي أوفى بن أبي عمرو بن عادية بن حيان بن معاوية بن تيم بن شيبان بن ثعلبة بن عكاشة بن صعب ابن علي بن بكر بن وائل أبو الحسن القفطي ، يعرف بالقاضي الأكرم ، أحد الكتاب المشهورين المبرزين في النظم والنثر.

وكان أبوه القاضي الأشرف كاتبا أيضا ومنشئا.

وكانت أمه امرأة من بادية العرب من قضاعة وأمها جارية حبشية كانت لأخت أبي عزيز قتادة الحسني أمير مكة ، تزوجها أحد بني عمها العلويين وجاءت منه بأولاد ، ثم مات عنها فتزوجها رجل من بليّ فجاءت منه ببنين وبنات منهم أم القاضي الأكرم أدام الله علوه ، وكان والده الأشرف خرج يشتري فرسا من تلك البوادي وقد قاربوا أرض مصر للنجعة ، فرآها فوقعت منه بموقع فتزوجها ونقلها إلى أهله ، وكانت ربما خرجت في الأحيان إلى البادية استرواحا على ما ألفته ونشأت عليه ويخرج ابنها معها مدة ، قال :

وكانت امرأة صالحة مصلية حسنة العبادة فصيحة اللهجة ، وكانت إذا أردت سفرا اشتغلت بما يصلح أموري في السفر وهي تبكي وتقول :

أجهّز زيدا للرحيل وإنني

بتجهيز زيد للرحيل ضنين

وحدثني أطال الله بقاءه قال : كنت وأنا صبي قد قدمت من مصر واستصحبت سنّورا أصبهانيا على ما تقتضيه الصبوة ، واتفقت أن ولدت عدة من الأولاد في دارنا ، فنزل سنّور ذكر فأكل بعض تلك الجراء ، فغمني ذلك وأقسمت أن لابد لي من قتل الذي أكلها ، فصنعت شركا ونصبته في علّيّة في دارنا وجلست ، فإذا بالسنّور قد وقع في الحبالة ، فصعدت إليه وبيدي عكاز وفي عزمي هلاكه ، وكان لنا جيرة وقد خرب الحائط بيننا وبينهم ونصبوا فيه بارية إلى أن يحضر الصناع ، وكان لرب تلك الدار بنتان لم يكن فيما أظن أحسن منهما صورة وجمالا وشكلا ودلالا ، وكانتا معروفتين بذلك في بلدنا وكانتا بكرين ، فلما هممت بقتله إذا قد انكشف جانب البارية فوقعت عيني على ما بهر المشايخ فيكف الشبان حسنا وجمالا. وإذاهما تومئان إليّ بالأصابع تسألاني إطلاقه ، قال : فأطلقته

٣٨٧

ونزلت وفي قلبي ما فيه لكوني كنت أول بلوغي ، والوالدة جالسة في الدار لمرض كان بها فقالت لي : ما أراك قتلته كما كان عزمك ، فقلت لها : ليس هو المطلوب إنما هو سنّور غيره ، فقالت : ما أظن الأمر على ذلك ، ولكن هل أومىء إليك بالأصابع حتى تركته؟ فقلت : من يومئ إليّ؟ ولا أعرف معنى كلامك ، فقالت على ذلك : يا بنيّ اسمع مني ما أقول لك :

ثنتان لا أرضى انتهاكهما

عرس الخليل وجارة الجنب

وكان مع هذا البيت بيت آخر أنسيته ، قال : فو الله لكأن ماء وقع على نار فأطفأها ، فما صعدت بعد ذلك إلى سطح ولا غرفة إلى أن فارقت البلاد ، ولقد جاء الصيف فاحتملت حره ولم أصعد إلى سطح تلك الصيفية. ثم وجدت هذا البيت في أبيات الأحوص بن محمد ، منها :

قالت وقلت تخرّجي وصلي

حبل امرىء كلف بكم صبّ

صاحب إذا بعلي فقلت لها

الغدر أمر ليس من شعبي

ثنتان لا أصبو لوصلهما

عرس الخليل وجارة الجنب

الشوق أقتله برؤيتكم

قتل الظما بالبارد العذب

قال لي : ولدت في أحد ربيعي سنة ٥٦٨ بمدينة قفط من الصعيد الأعلى إحدى الجزائر الخالدات حيث الأرض الأربعة وعشرون في أول الإقليم الثاني ، وبها قبر قبط بن مصر ابن سام بن نوح.

ونشأ بالقاهرة. اجتمعت بخدمته في حلب فوجدته جم الفضل كثير النبل عظيم القدر سمح الكف طلق الوجه حلو البشاشة ، وكنت ألازم منزله ويحضر أهل الفضل وأرباب العلم ، فما رأيت أحدا فاتحه في فن من فنون العلم كالنحو واللغة والفقه والحديث وعلم القرآن والأصول والمنطق والرياضة والنجوم والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل وجميع فنون العلم على الإطلاق إلا وقام به أحسن قيام ، وانتظم في وسط عقدهم أحسن انتظام. وله تصانيف أذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

أنشدني لنفسه بحلب في جمادى الآخرة سنة ٦١٣ :

ضدان عندي قصّرا همّتي

وجه حييّ ولسان وقاح

٣٨٨

إن رمت أمرا خانني ذو الحيا

ومقولي يطمعني في النجاح

فأنثني في حيرة منهما

لي مخلب ماض وما من جناح

شبه جبان فر من معرك

خوفا وفي يمناه عضب الكفاح

وأنشدني أدام الله علوه في أعور لنفسه :

شيخ لنا يعزى إلى منذر

مستقبح الأخلاق والعين

من عجب الدهر فحدث به

بفرد عين ولسانين

ومما أملاه عليّ أدام الله علوه من فضل :

وأما سؤاله عن سبب التأخر والتجمع والتوقف عن التطاول في طلب الرياسة والتوسع ، والتعجب من التزامي قعر البيت ، وارتضائي بعد السابق (١) بأن أكون السكّيت ، فلا تنسبني في ذلك إلى تقصير ، وكيف ولساني في اللسن غير ألكن ، وبناني في البيان غير قصير. ولقد أعددت للرياسة أسبابها ، ولبست لكفاح أهلها جلبابها ، وملكت من موادها نصابها ، وتسلمت لأحلاسها وضاربت أضرابها ، وباريتهم في ميدان الفضائل ، فكنت السابق وكانوا الفساكل (١). وظننت أني قد حللت من الدولة أمكن مكانها ، وأصبحت إنسان عينها وعين إنسانها ، فإذا الظنون مخلفة ، وشفار عيون الأعداء مرهفة ، والفرقة المظنونة بالإنصاف غير منصفة. وصار ما اعتمدته من أسباب التقريب مبعدا ، ومن اعتقدته لي مساعدا غدا عليّ مسعدا ، وأصبح لمثالبي موردا من أعددته لمرادي موردا ، وجسست مقاصد المراشد فوجدتها بهم مقفلة ، ومتى أظهرت فضيلة اعتمدوا فيها تعطيل المشبهة وشبه المعطلة ، وإذا ركبت أشهب النهار لنيل مرام ، ركبوا أدهم الليل لنقض ذلك الإبرام ، وإن سمعوا مني قولا أذاعوا ، وإن لم يسمعوا اختلقوا من الكذب ما استطاعوا. وقد صرت كالمقيم وسط أفاع لا يأمن لسعها ، وكالمجاور لنار يتقي شررها ويستكفي لذعها ، والله المسؤول توسيع الأمور إذا ضاقت مسالكها ، وهو المرجو لإصلاح قلوب الملوك على مماليكهم إذا هو ربّ المملكة ومالكها.

وها أنا جاثم جثوم الليث في عرينه ، وكامن كمون الكميّ في كمينه ، وأعظم ما كانت النار لهبا إذا قل دخانها ، وأشد ما كانت السفن جريا إذا سكن سكانها ، والجياد تراض

__________________

(١) في الأصل وفي معجم الأدباء : السبق ... الفسكل.

٣٨٩

ليوم السباق ، والسهام تكن في كنائنها لإصابة الأحداق ، والسيوف لا تنتضى من الأغماد إلا ساعة الجلاد ، واللآلىء لا تظهر من الأسفاط إلا للتعليق على الأجياد. وبينما أنا كالنهار الماتع طاب أبرداه ، إذ تراني كالسيف القاطع خشن حداه ، ولكل أقوام أقوال ، ولكل مجال أبطال نزال ، وسيكون نظري بمشيئة الله الدائم ونظرهم لمحة ، وريحي في هذه الدولة المنصورة عادية وريحهم فيها نفحة ، وها أنا مقيم تحت كنف إنعامها ، راج وابل إكرامها من هاطل غمامها ، منتظر لعدوي وعدوها أنكأ سهامها من وبيل انتقامها.

وأملى عليّ قال :

كتبت إلى أبي القاسم بن أبي الحسن شيث ، وكان قد انصرف عن الملك الظاهر ثم رجع إليه بأمر من الملك الظاهر : مقدم سعد مؤذن بسمو ومجد للمجلس الجمالي لا زال غاديا في السعادة ورائحا ، ممنوحا من الله بالنعم مانحا ، ميسرا له أرجح الأعمال كما لم يزل على الأماثل راجحا ، موضحا له قصد السبيل كوجهه الذي ما برخ مسفرا واضحا ، وقد رد الله بأوبته ما نزح من السرور ، وأعاد بعودته الجبر إلى القلب المكسور ، ولأم بإلمامه صدوعا في الصدور ، والواجب التفاؤل بالعود إذ العود أحمد ، وألا يخطر الطيرة ببال إذ نهى عن التطير أحمد ، بل يقال انقلب إلى أهله مسرورا ، وتوطن من النعمة الظاهرية جنة وحريرا ، ودعا عدوه لعوده ثبورا ، وصلي من نار حسده سعيرا ، أسعد الله مصادره وموارده ، ووفر مكارمه ومحامده ، وأيد ساعده ومساعده.

وأنشدني لنفسه أدام الله علّوه من قصيدة قالها في الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب صاحب حلب ، مطلعها :

لا مدح إلا لمليك الزمان

من المنى في بابه والأمان

غياث دين الله في أرضه

إن أخلف البرق وضن العنان

في كفّه ملحمة للندى

مثل التي تعهد يوم الطعان

فالعسر مصروع بساحاته

واليسر سام في ظهور الرعان

وراحتاه راحة للورى

على كريم الخلق مخلوقتان

فكفّه اليمني لبسط الغنى

وكفّه اليسر لقبض العنان

٣٩٠

تعرب في الهيجاء أسيافه

عن حركات مثل لفظ اللسان

كسر وفتح ببلاد العدى

وبعده ضمّ لمال مهان

ومنها في صفة ولديه :

بكران بل بدران ما يكسفان

روحان للملك وريحانتان

لؤلؤتا بحر وإن شئت قل

ياقوتتا نحر وعقدا لبان

فرعان في دوحة عزّ سمت

غيثان بل بحران بل رحمتان

سيملكان الأرض حتى يرى

لي منهما حرّان والرقّتان

ومنها :

فاسلم على الدهر شديد القوى

ذا مرة ما شدّ كفّ بنان

واستوطن الشهباء في عزّة

واخسس بغمدان وقعبي لبان

وأنشدني أدام الله علّوه لنفسه من قصيدة :

إذا وجفت منك الخيول لغارة

فلا مانع إلا الذي منع العهد

نزلت بأنطاكية غير حافل

بقلّة جند إذ جميع الورى جند

فكم أهيف حازته هيف رماحكم

وكم ناهد أودى بها فرس نهد

لئن حل فيها ثعلب الغدر لاون

فسحقا له قد جاءه الأسد الورد

وكان قد اغتر اللعين بلينكم

وأعظم نار حيث لا لهب يبدو

جنى النحل مغترا وفي النحل آية

فطورا له سمّ وطورا له شهد

تمدّك أجناد الملوك تقربا

وجند السخين العين جزر ولا مدّ

تهنّ بها بكرا خطبت ملاكها

فأعطت يد المخطوب وانتظم العقد

فجيشك مهر والبنود حموله

وأسهمكم نثر وسمر القنا نقد

وله من التصانيف : «كتاب الضاد والظاء» وهو ما اشتبه في اللفظ واختلف في الخط. كتاب «الدر الثمين في أخبار المتيمين». كتاب «من ألوت الأيام عليه فرفعته ثم التوت عليه فوضعته». كتاب «أخبار المصنفين وما صنفوه». كتاب «أخبار النحويين» كبير. كتاب «تاريخ مصر» من ابتدائها إلى ملك صلاح الدين إياها في ست مجلدات. كتاب «تاريخ المغرب ومن تولاها من بني تومرت». كتاب «تاريخ اليمن»

٣٩١

منذ اختطت وإلى الآن. كتاب «المجلى في استيعاب وجوه كلّا» كتاب «الإصلاح لما وقع من الخلل في كتاب «الصحاح» للجوهري. كتاب «الكلام على الموطأ» لم يتم إلى الآن. كتاب «الكلام على الصحيح» للبخاري لم يتم. «تاريخ محمود بن سبكتكين وبنيه إلى حين انفصال الأمر عنهم». كتاب «أخبار السلجوقية منذ ابتداء أمرهم إلى نهايته». كتاب «الإيناس في أخبار آل مرداس». كتاب «الرد على النصارى وذكر مجامعهم». كتاب «مشيخة زيد بن الحسن الكندي». كتاب «نهزة الخاطر ونزهة الناظر» في أحسن ما نقل من على ظهور الكتب. وكتاب «أشعار اليزيديين» (١).

وكان الأكرم القاضي المذكور جمّاعة للكتب حريصا عليها جدا ، لم أر مع اشتمالي على الكتب وبيعي لها وتجارتي فيها أشد اهتماما منه بها ولا أكثر حرصا منه على اقتنائها ، وحصل له منها ما لم يحصل لأحد.

وكان مقيما بحلب ، وذلك أنه نشأ بمصر وأخذ بها من كل علم بنصيب.

ولي والده القاضي الأشرف النظر بالبيت المقدس من قبل الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين بن أيوب ، وصحبه القاضي الأكرم ، وذلك في سنة ٥٩١ وأقام بها مع والده مدة ، فآنس ولاة المقدس من القاضي الأكرم أدام الله عزه شرف نفس وعلو همة ، فأحبوه واشتملوا عليه ، وكانوا يسألونه أن يتسم بخدمة أحد منهم فلم يكن يفعل ذلك مستقلا ، وإنما كان يسأم العمل ويعتمد على رأيه في تدبير الأحوال ، وكان لا يدخل معهم إلا فيما لا يقوم غيره فيه مقامه.

واتفق ما اتفق بين الملك العادل أبي بكر بن أيوب وبين ابن أخيه الملك الأفضل علي ابن صلاح الدين يوسف بن أيوب والأكرم حينئذ بالبيت المقدس ، فاقتضت الحال لاتسامه بخدمة في حيز الملك أن خرج من القدس فيمن خرج منها من العساكر في سنة ٦٠٨ وصحب فارس الدين ميمونا القصري والي القدس ونابلس فالتحقا بالملك الظاهر غازي بن يوسف ابن أيوب بحلب في قصة يطول شرحها. فلما حصل بحلب كان معه ميمون القصري على سبيل الصداقة والمودة لا على سبيل الخدمة والكتابة. واتفق أن كاتب ميمون ووزيره مات ، فألزمه ميمون خدمته والاتسام بكتابته ، ففعل ذلك على مضض واستحياء ودبر أموره

__________________

(١) ذكر هذا في المطلع السعيد في ترجمة المترجم.

٣٩٢

أحسن تدبير وساس جنده أحسن سياسة وتدبير ، وفرغ بال ميمون من كل ما يشغل به بال الأمراء وأقطع الأجناد إقطاعات رضوا بها وانصرفوا شاكرين له ، لم يعرف منذ تولى أمره إلى أن مات ميمون جندي اشتكى أو تألم. وكان وجيها عند ميمون المذكور يحترمه ويعظم شأنه ويتبرك بآرائه ، إلى أن مات ميمون في ليلة صبيحتها ثالث عشر رمضان سنة ٦١٠ فأقر الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين خزانته عليه وهو ملازم لبيته متشاغل بالعلم وتصنيف الكتب ، إلى أن احتاج ديوانه إليه فعول في إصلاحه عليه وهو مع ذلك مجتنب غير راض.

ثم ساق ياقوت حكاية جرت له في القطر المصري وفصلا من إنشائه عن المقر الأشرف الملكي الظاهري عند رحيل عسكر الفرنج عن حصن الخوابي. وقال بعد ذلك :

حدثني الصاحب الوزير الأكرم أدام الله تمكينه قال : ركبت يوما سنة ٦١٨ للطلوع إلى القلعة ، فاستقبلني رجل صعلوك فقال : انظر في حالي نظر الله إليك يوم ينظر إليه المتقون ، فقلت له : ما خبرك؟ قال : أنا رجل صعلوك وكان لي دابة أسترزق عليها للعائلة ، فاتهمني الوالي بالجبّول بسرقة ملح فأخذ دابتي ثم طالبني بجباية ، فقلت : خذ الدابة ، فقال : قد أخذتها وأريد جباية أخرى ، فقلت له : أبشر بما يسرك. وطلعت إلى صاحب الأمر يومئذ وهو الأمير الكبير أتابك طغرل الظاهري وقلت : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : ثلاثة أشياء مباحة للناس مشتركون فيها : الكلأ والماء والملح. وقد جرى كيت وكيت ، ولا يليق بمثلك وأنت عامة وقتك جالس على مصلاك مستقبل القبلة والسبحة في يدك أن تكون مثل هذه الأشياء في بلدك ، فقال : اكتب الساعة إلى جميع النواحي برفع الجبايات ومحو اسمها أصلا. وأمر الولاة أن يعملوا بكتاب الله وسنة رسوله ، ومن وجب عليه حد من الحدود الشرعية يقام فيه على الفور ولا يلتمس منه شيء آخر ، ومر الساعة بإراقة كل خمر في المدينة ورفع ضمانها ، واكتب إلى جميع النواحي التي تحت حكمي بمثل ذلك ، وأوعد من يخالف ذلك عقوبتنا في الدنيا عاجلا وعقوبة الخالق في الآخرة آجلا. فخرجت وجلست في الديوان وكتبت بيدي ولم أستعن بأحد من الكتاب في شيء من ذلك ثلاثة عشر كتابا إلى ولاة الأطراف. ثم أنشد :

ولا تكتب بكفّك غير شيء

يسرّك في القيامة أن تراه

وكان المحصول من ضمان ما أطلق ما مقداره مائتا ألف درهم في السنة ، وأن أضيف

٣٩٣

إليه ما يستقبل في السنة الآتية من رخص الكروم وتعطيل ضماناتها وقلة دخلها بهذا السبب ألف ألف درهم أو ما يقاربها.

وحدثني أدام الله علوه قال : حججت في موسم ٦٠٨ وكان والدي في صحبتي ، فصادفت بمكة جماعة من أهل بلدنا ، وكنت بعيد العهد بلقاء أحد منهم ، فرآني رجل فالتحق بي كما جرت العادة ، ثم عاد إلى من في صحبته من بلدنا فأخبرهم بنا فجاءوهم إلى منزلنا فقضوا حقنا بالسلام والسؤال والحرمة ، ثم انصرفوا إلى رحالهم ، فجاء كل واحد منهم بما حضره لم يحتفلوا له ، وكان فيما جاؤونا به ظرف كبير مملوء عسلا وآخر سمنا على جمل وهو وقره ، فألقاه في خيمتنا ، فأمرت الغلمان أن يعملوا منه حيسا فيكثروا على عادة تلك البلاد ، وأكلنا وأكثرنا زيادة على ما جرت به عادتنا ، ثم طفنا بالبيت وعدنا إلى رحالنا ونمت ، فرأيت في النوم كأني في الحرم أطوف وإذا رجل شديد الأدمة مشوه الخلقة فأخذ بيدي وأخرجني من الحرم من باب إبراهيم ، فإذا به قد وقفني على الظرفين بعينهما لا أرتاب بهما ، فقال لي : أتعرف هذين؟ فقلت : نعم ، هذان ظرفان جاءنا بهما رجل على سبيل الهدية أحدهما سمن والآخر عسل ، فقال لي : ليس الأمر كذلك ، ثم حط يده على بطنهما وعصر فخرج من فمهما نار أحسست بلفحها في وجهي ، وجعلت أمسح فمي من شدة حرهما ، وانزعجت من هول ما رأيت وقمت من فراشي خائفا فما استطعت النوم إلى الغداة.

واجتمعت بمهديهما وكان يعرف بابن أبي شجاع ، فقلت له : أخبرني عن هذين الظرفين ما خبرهما؟ فقال : اشتريتهما وجئت بهما ، فقلت : يا هذا ، هل فيهما شبهة؟ فحلف أنهما من خالص ماله ، فأخبرته بالحال فبكى حينئذ ومد يده فأخذ بيدي وعاهدني أن يخرج من عهدته وقال : والله ما أعرف أن في مالي شبهة ، إلا أن لي أختين ما أنصفتهما في تركة أبيهما ، وأنا أعاهد الله أنني أرجع من وجهي هذا وأعطيهما حتى أرضيهما. قال الصاحب أدام الله علوّه : فعلمت أنها لي موعظة ، فعاهدت الله أن لا آكل بعدها من طعام لا أعرف وجهه. فكان لا يأكل لأحد طعاما ، ويقول الناس لا يعرفون بواطن الأمور ويظنونني أقول ذلك كبرا ، ومن أين لي بما يقوم بعذري عندهم.

ثم كنت بعد ذلك في حضرته بمنزله المعمور وقد عاد من القلعة بحلب فقال لي : جرت اليوم ظريفة ، فقلت : هات خبرها أدام الله إمتاعنا بك ، فما زلت تأتي بالظرائف

٣٩٤

والطرف ، فقال : حضرت اليوم في مجلس الملك الرحيم أتابك طغرل الظاهري وحضرت المائدة وفيها طعام الملوك ، شواء وشرائح وسنبوسج وحلاوات وغيرها كما جرت العادة ، فتأملته فنفرت نفسي منه ولم تقبله مع كوني قد قارب الظهر ولم أتغد ، فلم أنبسط ولا مددت يدي إليه ، فقال لي : مالك لا تأكل؟ وكان قد عرف عادتي ، فقلت له : إن نفسي لا تقبل هذا الطعام ولا تشتهيه ، فقال : لعلك شبعان ، قلت : لا والله ، إلا أنني أجد في نفسي نفرة منه ، فأشار إلى غلام فدخل داره وجاء بمائدة عليها عدة غضائر من الدجاج ، فلم تقبل نفسي إلا دجاجة واحدة معمولة تحت رمان ، فمددت يدي إليها وتناولت منها ، قال : فرأيت أتابك وهو يتعجب ، فقلت له : ما الخبر؟ فقال : أعلم أنه ليس في هذا الطعام شيء أعلم من أين وجهه ، وهو من عمل منزلي غير هذه الدجاجة ، والباقي فجاءنا من جهة ما نفسي بها طيبة ، وتشاركت أنا وهو في تلك الدجاجة مع بغضي لحب الرمان. وكان أتابك لا يأكل إلا من مال الجوالي فقط ، فجعلت أعجب من ذلك ، فقال : أعلم أنني لا أحسب هذا كرامة لي ، ولكني أعده نعمة من الله في حقي ، فإن امتناعي لم يكن عن شيء كرهته ، ولا ريب اطلعت عليه ، ولكن كان انقباضا ونفرة لا أعرف سببها ولا الإبانة عن معناها.

ثم ختم ياقوت ترجمته برسالة أرسلها المترجم إلى صديق له تتعلق بشراء كتاب يعرف بالتذكرة لابن مسلمة في اثني عشر مجلدا لم نجد في ذكرها عظيم فائدة ، غير أنها تنبىء عن شعف صاحب الترجمة بشراء الكتب النفيسة واقتنائها كما سنتلوه عليك.

وقد تأخرت وفاة صاحب الترجمة عن وفاة المترجم له وهو ياقوت عشرين سنة ، لأن وفاة ياقوت كانت سنة ٦٢٦ ووفاة المترجم كانت سنة ٦٤٦ كما سيأتي.

وترجمة ابن شاكر في فوات الوفيات فقال : هو علي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد بن موسى وزير حلب القاضي الأكرم جمال الدين أبو الحسن القفطي أحد الكتاب المشهورين. وكان أبوه القاضي الأشرف كاتبا أيضا. إلى أن قال :

وكان صدرا محتشما كامل السؤدد ، جمع من الكتب مالا يوصف وقصد بها من الآفاق ، وكان لا يحب من الدنيا سواها ، ولم يكن له دار ولا زوجة ، وأوصى بكتبه للناصر صاحب حلب وكانت تساوي خمسين ألف دينار ، وله حكايات غريبة في غرامه بالكتب.

٣٩٥

ولد سنة ٥٦٠ (١) وتوفي سنة ست وأربعين وستمائة. ثم ساق ما له من المؤلفات وقد قدمنا ذكرها نقلا عن ياقوت.

وفي هامش معجم الأدباء ما نصه : وتوفي علي بن يوسف القفطي في شهر رمضان سنة ٦٤٦ بحلب ودفن بظاهر حلب بالقرب من مقام إبراهيم عليه‌السلام (٢).

وقال الصلاح الصفدي في تاريخه المرتب على السنين في حوادث سنة ٦٤٦ في ترجمة الوزير المذكور بعد أن ترجمه بعين ما نقلناه عن فوات الوفيات : وله حكايات عجيبة في غرامه بالكتب ، منها أنه وقع له نسخة مليحة من كتاب الأنساب لابن السمعاني بخطه يعوزها مجلد من أصل خمسة ، فلم يزل يبحث عليه ويطلبه من مظانه فلم يحصل له ، فبعد أيام اجتاز بعض من يعرفه بسوق القلانسيين فوجدوا أوراقا منه ، فأحضرها إليه ، وذكر القصة ، فأحضر الصانع وسأله عنه فقال : اشتريته في جملة أوراق وعملته قوالب للقلانس. فحدث عنده من الهم والغم والوجوم ما لا يمكن التعبير عنه ، حتى إنه بقي أياما لا يركب إلى القلعة وقطع جلوسه ، وأحضر من ندب على الكتاب كما يندب على الميت المفقود المؤيس منه ، وحضر عنده الأعيان يسلونه كما يسلى من فقد له عزيز. والحكايات الدالة على عشقه بالكتب كثيرة ا ه.

قال في «الطالع السعيد» : وذكره ابن سعيد وقال : نظم بيتين في جارية اشتراها وهما :

تبدت فهال البدر من كلف بها

وحقك مثلي في دجى الليل حائر

وماست فشق الغصن غيظا ثيابه

ألست ترى أوراقه تتناثر

قال : وزعم أنه لا يؤتى لهما بثالث ، فأنشدته في الحال :

وعاجت فألقى العود في النار نفسه

كذا نقلت عنه الحديث المحابر

وقالت فغار الدر واصفرّ لونه

لذلك ما زالت تغار الضرائر

__________________

(١) يظهر أن الأصح أن ولادته كانت سنة ٥٦٨ كما تقدم عن ياقوت.

(٢) قال أبو ذر في الكلام على الترب : تربة القفطي خارج حلب بالقرب من مقام الخليل أنشأها أبو الحسن علي ابن يوسف القفطي وهي قبة لطيفة محكمة البناء ومكتوب على ظاهرها (كل من عليها فان) ... إلخ الآية ا ه. قلت : ولا أثر الآن لهذه القبة.

٣٩٦

وذكرنا في المقدمة في تعداد مؤلفاته التاريخية أن من جملتها «تاريخ آل بويه» و «وأخبار العلماء بأخبار الحكماء». وهذان التاريخان لم يذكرهما ياقوت ولا ابن شاكر ولا الصلاح الصفدي ، والأول معذور لأنه توفي قبل المترجم بعشرين سنة كما قدمناه ، فلعله ألفهما بعد وفاته. وقلنا في المقدمة : إن أخبار العلماء بأخبار الحكماء قد طبع وإنا قد التقطنا ما فيه من تراجم أطباء الشهباء وأثبتناها في مواضعها.

٢٠٦ ـ إسماعيل بن سودكين المتوفى سنة ٦٤٦

إسماعيل بن سودكين بن عبد الله أبو الطاهر النوري. صحب الشيخ أبا عبد الله محمد ابن علي بن العربي مدة وكتب عنه كثيرا من تصانيفه. وسمع بمصر من أبي الفضل محمد ابن يوسف الغزنوي وأبي عبد الله محمد بن حامد الأرتاحي ، وبحلب من الشريف أبي هاشم عبد المطلب بن الفضل الهاشمي وحدث. وكان فقيها فاضلا محدثا شاعرا ، له نظم حسن وكلام في التصوف. مولده بالقاهرة سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمسماية. ومات بحلب سنة ست وأربعين وستماية ا ه (ط ح للقرشي).

وقال الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام في ترجمة المذكور : إن أباه كان من مماليك السلطان نور الدين فتزهد هو وتصوف ا ه.

٢٠٧ ـ مفضّل بن بصيلة المتوفى سنة ٦٤٦

مفضّل بن أبي محمد بن أبي المكارم أبو المكارم الحلبي المعروف بابن بصيلة. كتب عنه الحافظ الدمياطي وذكر في معجم شيوخه أن وفاته سنة ست وأربعين وستماية ، ومولده بحلب سنة اثنتين وستين وخمسماية ا ه (ط ح للقرشي).

٢٠٨ ـ صدّيق بن رمضان المتوفى سنة ٦٤٧

صديق بن رمضان بن علي بن عبد الله أبو الفضل وأبو بكر الدمشقي الصوفي نزيل حلب. ولد سنة اثنتين وسبعين وخمسماية ، وسمع من القاضي أبي سعد بن عصرون ويحيى الثقفي. روى عنه شيوخنا ابن الظاهري والدمياطي وإسحق النحاس. وتوفي في السادس

٣٩٧

والعشرين من شوال رحمه‌الله تعالى ا ه. (ذهبي من وفيات سنة سبع وأربعين وستماية) ا ه.

٢٠٩ ـ الحسن بن أبي طاهر الخشاب المتوفى سنة ٦٤٨

الحسن بن أبي طاهر إبراهيم بن سعيد بن يحيى بن محمد بن الخشاب الحلبي من كبراء الحلبيين ، وهم بيت حشمة وتشيع. مات في جمادى الآخرة ا ه (ذهبي من وفيات سنة ثمان وأربعين وستمائة).

الكلام على درب بني الخشاب :

قال أبو ذر : هو الآخذ من رأس درب الزجاجين إلى ناحية باب قنسرين. وكان بهذا الدرب بيوتهم وهي باقية ، وبأوله بيت عليه بوابة عظيمة كان لبني القطب بن العجمي ، وكان به مكتب أيتام تقدم الكلام عليه (١). وفي أول هذا الدرب حوض ماء وقد عطل ، وبهذا الدرب باب صغير يسمى باب الخوخة يأخذ إلى ناحية الجلّوم ، وبهذا الدرب تربة بني الخشاب ، وبهذا الدرب قاعة تسمى قاعة الجوهري ، وبرأس هذا الدرب مسجد يعرف بابن مشكور (٢) وقد جعل حبسا الآن. ا ه.

الكلام على التربة الخشابية :

قال أبو ذر : التربة الخشابية بالقرب من باب قنسرين والجرن الأصفر ، جددها الحسن ابن إبراهيم بن الخشاب في سنة ثلاث وثلاثين وستماية ، وهو مذكور مع أقاربه ، ولبني الخشاب تربة أخرى بالقرب من مصبغة حلب جعلت الآن معصرة ، ثم صارت فرنا ، قيل لي إنها تربة أم الذي بني المئذنة (مئذنة الجامع الكبير). وأخبرني من رآها متهدمة وبها شبابيك ، والأولى عليها وقف من جملته مزرعة الدوير عند بلّيرمون ا ه.

__________________

(١) قال أبو ذر في الكلام على مكاتب الأيتام : مكتب ابن مقلد غربي الزجاجية بالدرب المتوجه إلى التربة الخشابية تحت الساباط تجاه بيت ابن مقلد ، وقد عطل وخرب وقفه وهو صفة إيوان تحت الساباط المذكور ، وكان وقفه حوانيت على جسر باب النصر فخربت في محنة تيمور ثم عمرت في سنة خمس وثمانماية لما عمر السوق ا ه. أقول : ولا أثر الآن لهذا المكتب ، والحوانيت التي كانت على الجسر ذهبت لما طم الخندق وصار جادة.

(٢) توفي ابن مشكور سنة ٧٧٨ وانظر ترجمته هناك.

٣٩٨

أقول : هذا الزقاق يعرف الآن بزقاق أبي درجين في محلة باب قنسرين ، والتربة كانت خربة يضع فيها من يستأجر الفرن الذي وراءها المعروف بفرن الأصفر القش والحطب. وفي سنة ١٣١٥ عمرها الشيخ مصطفى بن الشيخ إبراهيم الهلالي الدار عزاني القادري الخلوتي زاوية وجمع ما صرفه على عمارتها من أهل الخير واليسار وصار يقيم فيها الذكر مساء كل يوم جمعة ، إلى أن توفي رحمه‌الله يوم الاثنين لأربع مضت في ربيع الآخر سنة ١٣٣٧. وقد كان قبل ذلك يقيم الذكر في المسجد المعروف بمسجد الأصفر وهو مسجد قديم كان أنشأه أبو الحسن محمد بن الخشاب كما ذكره أبو ذر في الكلام على درب الخانكاه.

وفي أثناء عمارة الزاوية وجد عدة قبور قديمة درست كلها وهي في الموضع الذي يقام فيه الذكر ، ولم يبق من آثار التربة المذكورة سوى جدارها الشرقي ، وهناك حجرة قديمة كتب عليها بعد البسملة : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ). جدد عمارة هذه التربة المعروفة ببني الخشاب تغمد الله ساكنيها بالرحمة الفقير إلى رحمة الله الحسن بن الخشاب (أي المترجم) في شهور سنة ثلاث وثلاثين وستمائة ا ه.

٢١٠ ـ أحمد بن يوسف الحسيني المتوفى سنة ٦٤٨

أحمد بن يوسف بن علي بن محمد بن أحمد أبو نصر ، وقيل أبو العباس ، عماد الدين الحسيني. تفقه على أحمد بن محمود الغزنوي. مولده سنة نيف وستين وخمسمائة بحلب. نقله ابن العديم. وسمع الحديث من أبي هاشم عبد المطلب بن الفضل الهاشمي شيخ الحنفية. وخرج من حلب إلى مصر جافلا من التتر لما وصل التتار إلى بلاد الروم سنة أربعين وستمائة ، وحدث بمصر فأضر بها ، ثم عاد إلى حلب فأقام بها صابرا محتسبا إلى أن مات في سنة ثمان وأربعين وستمائة بحلب. وذكره شيخنا قطب الدين في تاريخ مصر ، كتب عنه الحافظ الدمياطي ا ه. (ط ح للقرشي).

٢١١ ـ الحافظ يوسف بن خليل بن قراجا المتوفى سنة ٦٤٨

يوسف بن خليل بن قراجا بن عبد الله الحافظ شمس الدين أبو الحجاج الدمشقي الآدمي

٣٩٩

نزيل حلب. ولد سنة خمس وخمسين وخمسمائة بدمشق ، وكان مشتغلا بصنعته إلى أن صار ابن نيف وثلاثين سنة ، فأخذ يسمع الحديث ، فسمع من يحيى الثقفي وأحمد بن حمزة بن الموازيني وابن صدقة الحراني. ثم طلب الحديث وكتب الطباق ونسخ أجزاء ، وتخرج عند الحافظ عبد الغني وسمع منه الكثير. وكان شابا فطنا مليح الخط فحسن له الحافظ الرحلة وإدراك الأسانيد العراقية ، فرحل إلى بغداد سنة ثمان وثمانين وسمع بها الكثير من ذاكر بن كامل ويحيى بن بوش وابن كليب ورجب بن مذكور وأبي منصور وعبد الله بن المبارك الأزجي وخلق من أصحاب ابن الحصين وغيره ، ورجع إلى بلده بحديث كثير وقد فهم وحفظ وصار من خيار الطلبة ، فبقي متطلعا إلى ما بأصبهان من العوالي في هذا الوقت ، فرحل إليها في سنة إحدى وتسعين وأدرك بها أسنادا في غاية العلو. أكثر عن أصحاب أبي علي الحداد وسمع الكثير من مسعود الحمال وخليل بن بدر الداراني وأبي الفضائل عبد الرحيم الكاغدي وأبي جعفر محمد بن إسماعيل الطرسوسي وأبي طاهر بن فارشاه وأبي المكارم اللبان والكراني وناصر الويدح ومحمد بن أحمد المعاد ومحمد بن الحسن الأصفهيد وخلق. وكتب الكتب الكبار والأجزاء ، وحسن خطه واتسع حفظه وجلب إلى الشام خيرا كثيرا. ثم رحل إلى مصر وسمع من البوصيري وإسمعيل بن ياسين وأبي الجود المقري وفاطمة بنت سعد الخير وجماعة.

قال عمر بن الحاجب : سألت أبا إسحق الصريفيني عنه فقال : حافظ ثقة عالم بما يقرأ عليه ، لا يكاد يفوته اسم رجل.

وقال ابن الحاجب : وسألت الضياء عنه فقال : حافظ سمع وحصل الكثير ، وهو صاحب رحلة وتطواف. قال ابن الحاجب : هو أحد الرحالين بلد أحدهم فضلا (هكذا) وأوسعهم رحلة ، نقل بخطه المليح ما لا يدخل تحت الحصر. وهو طيب الأخلاق مرضي الطريقة متقن حافظ ثقة. قلت : روى عنه جماعة من كبار الحفاظ ، وأنبأ عنه الحافظ الدمياطي وابن الظاهري ومحمد بن سليمان المغربي ومحمد بن جوهر المقري وعلي بن أحمد الهاشمي والبها أيوب بن النحاس وأخوه إسحق وعز الدين عبد العزيز بن العديم الحاكم وأخوه عبد المحسن وطاهر بن عبد الله بن العجمي وعبد الملك بن عنيفة وسنقر الزيني وعبد الله ابن محمد المخزومي وأبو حامد المؤذن وتاج الدين صالح الفرضي وأبو بكر الدشتي وآخرون. وممن يروي عنه في هذا الوقت وهو سنة أربع عشرة ابن ساعد بمصر ونخوة بنت النصيبي

٤٠٠