إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٤

وذكر القاضي كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد المعروف بابن العديم في تاريخه الصغير الذي سماه «زبدة الحلب في تاريخ حلب» ما مثاله : وفي سنة إحدى وتسعين يعني وخمسمائة اتصل القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بخدمة الملك الظاهر وقدم إليه إلى حلب وولاه قضاءها ووقوفها ، وعزل عن وقوفها زين الدين أبا البيان نبأ ابن البانياسي نائب محيي الدين بن الزكي ، وحل عنده بهاء الدين في رتبة الوزارة والمشاورة. انتهى كلامه.

ثم قال ابن خلكان : وكانت حلب في ذلك الزمان قليلة المدارس وليس بها من العلماء إلا نفر يسير ، فاعتنى أبو المحاسن المذكور بترتيب أمورها وجمع الفقهاء بها وعمرت في أيامه المدارس الكثيرة. وكان الملك الظاهر قد قرر له إقطاعا جيدا يحصل جملة مستكثرة ، ولم يكن له خرج كثير ، فإنه لم يولد له ولا كان له أقارب ، فتوفر له شيء كثير ، فعمر مدرسة للشافعية بالقرب من باب العراق قبالة مدرسة نور الدين محمود بن زنكي رحمه‌الله تعالى (هي المدرسة النفرية) ورأيت تاريخ عمارتها مكتوبا على سقف مسجدها وهو الموضع المعد لإلقاء الدروس وذلك في سنة إحدى وستمائة ، ثم عمر في جوارها دارا للحديث النبوي وجعل بين المكانين تربة برسم دفنه فيها ، ولها بابان باب إلى المدرسة وباب إلى دار الحديث وشباكان إلى الجهتين وهما متقابلان بحيث إن الذي يقف في أحد المكانين يرى من يكون في المكان الآخر. ولما صارت حلب على هذه الصورة قصدها الفقهاء من البلاد وحصل بها الاشتغال والاستفادة وكثر الجمع بها.

ثم ذكر ابن خلكان هنا مجيئه مع أخيه إلى حلب ونزوله في هذه المدرسة واشتغاله بالعلم إلى أن قال : ولم نزل عنده إلى أن توفي في التاريخ الآتي ذكره ، ولم يكن في مدرسته في ذلك الزمان درس عام لأنه كان المدرس بنفسه ، وكان قد طعن في السن وضعف عن الحركة وحفظ الدروس وإلقائها ، فرتب أربعة من الفقهاء الفضلاء برسم الإعادة والجماعة يشتغلون عليها. ثم قال :

وكان القاضي أبو المحاسن المذكور بيده حل الأمور وعقدها ، ولم يكن لأحد معه في الدولة كلام ، وكان سلطانها الملك العزيز أبو المظفر محمد بن الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين وهو صغير السن تحت حجر الطواشي شهاب الدين أبي سعيد طغرل وهو أتابكه ومتولي أمور الدولة بإشارة القاضي أبي المحاسن لا يخرج عنهما شيء من الأمور.

٣٦١

وكان للفقهاء في أيامه حرمة تامة ورعاية كبيرة ، خصوصا جماعة مدرسته فإنهم كانوا يحضرون مجالس السلطان ويفطرون عنده في شهر رمضان على سماطه ، وكنا نسمع عليه الحديث ونتردد إليه في داره. وقد كانت له قبة تختص به وهي شتوية لا يجلس في الصيف إلا فيها لأن الهرم كان قد أثر فيه حتى صار كفرخ الطائر من الضعف لا يقدر على الحركة للصلوات وغيرها إلا بمشقة عظيمة ، وكانت النزلات تعتريه في دماغه فلا يفارق تلك القبة ، وفي الشتاء يكون عنده منقل كبير عليه من الفحم والنار شيء كثير ، ومع هذا كله لا يزال مزكوما وعليه الفرجية البرطاسي والثياب الكثيرة وتحته الطراحة الوثيرة فوق البسط ذوات الخمائل الثخينة بحيث إنا كنا نجده عنده الحر والكرب وهو لا يشعر به لكثرة استيلاء البرودة عليه من الضعف. وكان لا يخرج لصلاة الجمعة إلا في شدة القيظ ، وإذا قام إلى الصلاة بعد الجهد يكاد يسقط ، ولقد كنت أنظر إلى ساقيه إذا وقف للصلاة كأنهما عودان دقيقان لا لحم فيهما ، وكان عقيب صلاة الجمعة يسمع المصلون عنده الحديث عليه ، وكان يعجبه ذلك. وكان حسن المحاضرة جميل المذاكرة ، والأدب غالب عليه ، وكان كثيرا ما ينشد في مجالسه :

إن السلامة من ليلى وجارتها

أن لا تمرّ على حال بناديها

وكان يتمثل أيضا كثيرا يقول صرّدر الشاعر :

وعهودهم بالرمل قد نقضت

وكذاك ما يبنى على الرمل

فأنشده في بعض الأيام فقال له بعض الحاضرين : يا مولانا قد استعمل ابن المعلم العراقي هذا المعنى استعمالا مليحا ، فقال : ابن المعلم هو أبو الغنائم ، فقال : نعم ، فقال : صاحبنا كان فكيف قال : فأنشده :

نقضوا العهود وحقّ ما يبنى على

رمل اللوى بيد الهوى أن ينقضا

فقال : ما أقصر ، ولقد تلطف في قوله بيد الهوى ، فقال له : يا مولانا ، وقد استعمله في قصيدة أخرى ، فقال : هات فأنشده :

ولم يبن على الرمل

فكيف انتقض العهد

٣٦٢

فاستحسنه.

ثم قال : وكان كلما نظر إلى نفسه على تلك الحالة من الضعف والعجز عن القيام والقعود والصلاة وسائر الحركات ينشد :

من يتمنّ العمر فليدّرع

صبرا على فقد أحبّائه

ومن يعمّر ير في نفسه

ما يتمناه بأعدائه (١)

ودخل عليه يوما رجل من أهل المغرب يقال له أبو الحجاج يوسف (تقدمت ترجمته في وفيات سنة ٦٢٣) وكان قريب العهد ببلاده ، ورد حلب في تلك الأيام ، وكان فاضلا في الأدب والحكمة ، فلما رآه على تلك الهيئة من الهزال والنحافة أنشده :

لو يعلم الناس ما في أن تعيش لهم

بكوا لأنك من ثوب الصبا عار

ولو أطاقوا انتقاصا من حياتهم

لما فدوك بشيء غير أعمار

فأعجبه ذلك ودمعت عيناه وشكر له. ثم قال :

وكان القاضي أبو المحاسن المذكور سلك طريق البغاددة في تربيتهم وأوضاعهم حتى إنه كان يلبس ملبوسهم ، والرؤساء يترددون إليه ، وكانوا ينزلون عن دوابهم على قدر أقدارهم ، لكل واحد منهم مكان معين لايتعداه.

ثم إنه تجهز إلى الديار المصرية لإحضار ابنة الملك الكامل ابن الملك العادل للملك العزيز صاحب حلب ، وكان قد عقد نكاحه عليها. فسار في أول سنة تسع وعشرين أوآخر سنة ثمان وعشرين وستماية وعاد وقد جاء بها في شهر رمضان من السنة. ولما وصل كان قد استقل الملك العزيز بنفسه ورفعوا عنه الحجز ونزل الأتابك طغرل من القلعة إلى داره تحت القلعة واستولى على الملك العزيز جماعة من الشبان الذين كانوا يعاشرونه ويجالسونه ، فاشتغل بهم ، ولم ير القاضي أبو المحاسن وجها يرتضيه فلازم داره إلى حين وفاته ، وهو باق على الحكم وإقطاعه جار عليه ، غاية ما في الباب أنه لم يبق له حديث في الدولة ولا كانوا يراجعونه في الأمر ، فكان يفتح بابه لإسماع الحديث كل يوم بين الصلاتين ، وظهر عليه الخرف بحيث إنه صار إذا جاءه الإنسان لا يعرفه ، وإذا قام سأل عنه ولا يعرفه. واستمر على هذا الحال مديدة ، ثم مرض أياما قلائل وتوفي يوم الأربعاء رابع عشر صفر سنة اثنتين

__________________

(١) في الأصل : ما يتمناه في أعدائه.

٣٦٣

وثلاثين وستماية رحمه‌الله تعالى بحلب ودفن في التربة المقدم ذكرها ، وحضرت الصلاة عليه ودفنه وما جرى بعد ذلك.

وصنف كتاب «ملجأ الحكام عند التباس الأحكام» يتعلق بالأقضية في مجلدين (موجود في المكتبة السلطانية). وكتاب «دلائل الأحكام» (موجود في مكتبة باريس وفي الأحمدية بحلب) تكلم فيه على الأحاديث المستنبط منها الأحكام في مجلدين ، وكتاب «الموجز الباهر» في الفقه وغير ذلك ، وكتاب «سيرة صلاح الدين بن أيوب» رحمه‌الله (هذه مطبوعة وقد تكلمت عليها في المقدمة).

وجعل داره خانقاه للصوفية لأنه لم يكن له وارث. ولازم الفقهاء والقراء تربته مدة طويلة يقرؤون عند قبره ، وكان قد قرر قدام كل واحد من الشباكين المذكورين اللذين للتربة سبعة قراء ، وكان غرضه أن يقرأ عنده كل ليلة ختمة كاملة ، فكان كل واحد من القراء الأربعة عشر يقرأ نصف سبع بعد صلاة العشاء الآخرة.

وفارقت حلب متوجها إلى الديار المصرية في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وستماية والأمور جارية على هذه الأوضاع. ثم بعد ذلك تغيرت تلك الأمور وانتقضت قواعدها وزال جميع ذلك على ما بلغني ا ه (ابن خلكان).

قال أبو الحسن علي بن هذيل في كتابه «عين الأدب والسياسة» : قال ابن سعيد : حكى لي الصاحب كمال الدين بن العديم أن القاضي بهاء الدين بن شداد قاضي حلب الذي بلغ عند صلاح الدين وابنه الظاهر ما لم يبلغه أحد من نظرائه مرض بحلب ، قال : فمشيت في جماعة من الشبان المبتدئين في القراءة والظهور إلى عيادته ، فعند ما دخلنا عليه قام لنا فجعلنا نحلف أن لا يفعل ، فقال : يا سبحان الله ، تتفكرون في مرضي وتتعنون من أماكنكم إلى منزلي ، ثم أبخل عليكم بقومة ، هذا والله غير طريق المروءة. ثم قال : يا أولادي ، لقد دخلت على كبير وأنا في سنكم فلم يحتفل بي ، فإلى الآن ما أذكر ذلكم إلا أسأت ذكره وندمت على وصولي إليه ، ولا يتجنب المعائب إلا أهل التجارب. قال : وكنت أتردد إلى مجلس كمال الدين بن يغمور وهو نائب السلطنة بالشام وكان يقوم لي كلما دخلت عليه ، فدخلت يوما فإذا به مضطجع فلم يقم ، وأخذ فيما كان يأخذ فيه ، فلما دخلت في اليوم الثاني قام ثم جلس ، ثم قام ثم جلس ، وقال : هذه الأخيرة عن قومة أمس ، كانت

٣٦٤

عليّ دينا لعذر تتفضل بقبوله دون مطالبة بذكره ، فعجبت من فضله وقلت : ما سار لهذا الرجل ما سار في الأقطار من باطل ا ه.

تتمة الكلام على المدرسة الصاحبية :

قال في كنوز الذهب : المدرسة الصاحبية الشافعية : أنشأها الشيخ الإمام العالم العامل العلامة أبو المحاسن وأبو العز يوسف بن رافع قاضي حلب المعروف بابن شداد تجاه المدرسة النفرية بالقرب من جامع تغري بردي (جامع الموازيني المشهور في محلة السفاحية) وقد درس بها واقفها ، واستناب القاضي زين الدين أبا محمد عبد الله بن الحافظ عبد الرحمن ابن علوان الأسدي ، ولما توفي القاضي ولي القاضي زين الدين ودرس استقلالا ، ولم يزل بها إلى أن توفي سنة خمس وثلاثين ، فوليها ولده القاضي كمال الدين أبو بكر أحمد ، ولم يزل بها مدرسا إلى أن كانت حادثة التتر ، فخرج عنها إلى ديار مصر ، ثم عاد إلى حلب في أواخر سنة إحدى وستين وستماية وولي تدريس هذه المدرسة وتدريس الظاهرية والقضاء ، ولم يزل بها إلى أن توفي ليلة الأحد رابع وقيل خامس عشر شوال سنة اثنتين وستين وستماية ، وولي تدريسها وحدها جده القاضي محيي الدين أبو المكارم محمد بن قاضي القضاة جمال الدين محمد بن عمر ، فلم يزل بها إلى أن توفي سنة تسع وستين ، ووليها أخوه افتخار الدين عثمان ، فلم يزل مدرسا بالصاحبية فقط إلى أن توفي بالديار المصرية ، ووليها ولده شرف الدين عبد المجيد مع الأوقاف بحلب وهو مستمر بها إلى تاريخ سنة سبع وسبعين وستماية.

وهذه المدرسة كانت قبل فتنة تيمر عامرة بالعلماء ، ودرس بها الشيخ شرف الدين الأنصاري وغيره ، وبعد تيمر سكن شيخنا الشيخ علاء الدين بن الوردي ، وكان يقرىء بها «الحاوي» و «البهجة» والناس يترددون إليه.

وكان شيخنا المؤرخ يدرس بها الأحد والأربعاء دائما ، وكنت أحضر معه ، ومن جملة من درس قبل الفتنة التيمرية ابن بنت الباريني. قال لي الشيخ علاء الدين بن مكتوم : إنه كان يتصفح كراسا من «الروضة» وكراسا من «المهمات» مرة واحدة ويوردهما ، وإنه لما تكرر ذلك منه أصيب بالعين فأخذته الحمى ومات.

ودرس بهذه المدرسة جماعة من القضاة كالسيد وشيخنا زين الدين بن الخرزي

٣٦٥

والباعوني. ثم تعطلت هذه المدرسة وصارت مسكنا للنساء ، حتى قدم الشيخ الصالح الزاهد علاء الدين الجبرتي فحضر إلى هذه المدرسة ورأى ما حل بها من التعطيل ، فشرع في إخراج النساء منها وفي عمارتها وتبييضها وترخيم ما تقلع من رخامها وتعزيل خلاويها وعمارة مرتفقها وفتح بركتها ، ولما فتح إيوانها الشمالي وعزله ظهر فيه قبر فأبقاه في مكانه.

وأقام شعار هذه المدرسة من ترتيب إمام ومؤذن وحصر ومصابيح وغير ذلك ، وعزم على أن يسوق إلى بركتها الماء من القناة كعادتها فما طالت مدته.

وقال ابن الوردي في ترجمة ابن شداد : وعمر بحلب دار حديث ومدرسة متلاصقتين وجعل تربة بينهما ، فقال الناس : هذه تربة بين روضتين ، ورجا أن تشمله بركة العلم ميتا كما شملته حيا ، وأن يكون في قبره من سماع الحديث والفقه بين الري والريّا.

ربما أنعش المحبّ عيان

من بعيد أو زورة من خيال

أو حديث وإن أريد سواه

فسماع الحديث نوع وصال

ومن وقفها كفر سلوان من عمل عزاز وحصة بالسوق الذي أنشأه دقماق ويباع فيه الزموط قبلي الحبالين. وقال قبل ذلك : وهذه المدرسة ليست محكمة البناء وهي صغيرة قليلة البيوت للفقهاء وبها ثلاثة أواوين ا ه.

الكلام على دار الحديث خاصة :

قال أبو ذر في الكلام على دار الحديث : ومنها دار أنشأها القاضي بهاء الدين بن شداد إلى جانب مدرسته المتقدم ذكرها في المدارس ، وهذه الدار كانت إلى محنة تيمر مجمعا لأهل الحديث يسكنون بها ويقرؤون ويسمعون ويكتبون الطباق ويدخلون إلى الآفاق ، ثم يرجعون ، وطالما مكث فيها والدي والشيخ عز الدين الحاضري والشيخ شرف الدين الأنصاري وقرؤوا ودأبوا وكتبوا ، وبعد تيمر انطوى ذلك البساط وآل أمرها إلى أن سكنها شخص حوّا وأخذ منها قطعة أرض وأضيفت إلى بيوت الجيران ، وأغلق بابها واستولى عليها من لا معرفة له ولا ألم بشيء من أمور دينه ، فضلا عن الحديث. ومن وقفها قرية كرمايل ببلد عزاز ا ه.

أقول : موضع هذه المدرسة ودار الحديث بين محلة السفاحية ومحلة ساحة بزة شمالي القسطل الواقع تجاه مسجد الخريزاني ، قسم منها في الجنينة المعروفة الآن بجنينة الفريق في

٣٦٦

غربيها ، وقسم منها في العرصة التي أمامها من جهة الغرب أيضا ، وقد دثرتا ولم يبق منهما سوى حجرة كبيرة بنيت منذ عهد قريب في جدار قصير في داخله آثار قبور ، ولعل بينهما قبر الواقف رحمه‌الله ، ومكتوب على هذه الحجرة :

(١) بسم الله الرحمن الرحيم. هذه دار حديث أنشأها لقراءة الحديث وإقرائه وحفظه وسماعه.

(٢) وإسماعه وتلقين القرآن العظيم وإقامة الصلوات الخمس في الجماعة على ما شرط في كتاب الوقف.

(٣) في أيام السلطان الملك العزيز وأخيه الملك الصالح وأتابكهما الملك الرحيم الزاهد العابد.

(٤) طغرل بن عبد الله عتيق والدة السلطان الملك الظاهر غازي بن يوسف تغمده الله برحمته.

(٥) وكذلك يفعل بوالدة الملك الناصر بتولي دولتهم يوسف بن رافع بن تميم من قضا لنا.

(٦) نعمة في مدة وقع لحقنا. (هكذا) في شهر ربيع الآخر سنة ثمان عشر وستمائة تقبل الله منه.

وقد اطلعت على وقفية الناصري الركابي الأمير ناصر الدين محمد الشهير بابن برهان وتاريخها سنة ٩٣١ التي وقف فيها مسجدا ودورا ثلاثة وغير ذلك ، وموقع المسجد والدور في جنينة الفريق ، وقد جاء في تحديد دار الواقف : وشمالا المدرسة الصاحبية ، وتمام الحد بيت جار في وقف الصاحبية المذكورة. ثم قال : وجميع الفرن الكائن تجاه الصاحبية بمحلة ساحة بزه. وقد ظهر لي أن موضع هذا الفرن في العرصة الخالية الآن الواقعة تجاه زاوية الشيخ تراب ، وقد علمنا من هذا أن المدرسة ودار الحديث كانتا في القرن العاشر عامرتين في الجملة ، ولعلهما خربتا في الزلزلة التي حصلت سنة ١٢٣٧ والله أعلم.

٣٦٧

الخانكاه البهائية :

ومن آثاره الخانكاه البهائية. قال أبو ذر : وهي بالقرب من دار الحديث التي أنشأها إلى جانب مدرسته وتربته كانت دارا يسكنها ا ه.

ذكر ما كان هناك من الآثار :

قال أبو ذر في الكلام على الرباطات : رباط بالقرب من صاحبية ابن شداد يعرف بإقامة عبد الولي البعلبكي ا ه.

أقول : ولا أثر الآن لتلك الخانقاه ولا لهذا الرباط.

تتمة الكلام على المدرسة السلطانية تجاه القلعة :

تكلمنا في الجزء الثاني في صحيفة (١٨١) على المدرسة السلطانية وقلنا ثمة : إن أول مدرس بها كان القاضي بهاء الدين بن شداد. ثم رأيت أبا ذر في كنوز الذهب تكلم على هذه المدرسة فأحببت ذكره هنا لما فيه من الفوائد قال :

هذه المدرسة تعرف قديما بالظاهرية ، وهي تجاه باب القلعة ، وهي مشتركة بين الطائفتين الشافعية والحنفية ، كان الملك الظاهر قد أسسها وتوفي ولم يتمها ، وبقيت مدة حتى شرع طغريل أتابك العزيز فيها فعمرها وكملها سنة عشرين وستماية. وهذه المدرسة مبنية بالحجارة الهرقلية المحكمة ومحرابها من أعاجيب الدنيا في جودة التركيب وحسن الرخام ، وأراد تيمور أخذه فقيل له إنه إذا أزيل لا يتركب على حاله الأول فأبقاه.

وهي كثيرة الخلاوي للفقهاء ، وبركتها ينزل إليها بدرج. وأول من درس بها وافتتحت به القاضي بهاء الدين بن شداد فذكر فيها الدرس يوما واحدا وهو يوم السبت ثامن عشر شعبان من السنة المذكورة وولي نظرها ، فولاها القاضي زين الدين أبا محمد عبد الله الأسدي قاضي القضاة بحلب ، فلم يزل مدرسا بها إلى أن توفي سنة خمس وثلاثين وستماية ، وكان يدرس بها المذهبين ، فوليها بعده ولده القاضي كمال الدين أبو بكر بن أحمد ، ولم يزل بها إلى استيلاء التتر على حلب ، وكان أيضا يدرس المذهبين الشافعية والحنفية.

ثم قال : وأعلم أن هذه المدرسة قبل محنة تيمر لما كان والدي مشتغلا بالعلم كانت

٣٦٨

روضة الأدباء ودوحة العلماء. كان أولاد حبيب الثلاثة وهم محمد والحسن والحسين يسكنون بها وينظمون وينثرون ويحدثون ، ويأتي إليهم الناس أفواجا للأخذ عنهم ، وتراجم الثلاثة في تاريخ والدي وشعرهم كثير مشهور.

وكان يسكن هناك القصاص الفاصل ، قص مصحفا بنقطة وإعرابه وجعل بين كل ورقتين ورقة سوداء ليظهر القص. ودرس بها الشيخ شرف الدين الأنصاري وغيره من القضاة ، ورزقها متوافر دارّ على أهلها.

ولم تزل المدرسة على ذلك إلى محنة تيمور فصارت كما قال الشاعر :

وتنكرت صفة الغوير فلم يكن

ذاك الغوير ولا النقا ذاك النقا

ودرس بها شيخنا (١) بعد فتنة تيمور عند ولايته القضاء ، وأخذها عنه التاج الكركي وكذلك العصرونية لينكف عن طلب القضاء ثم عادتا إليه. ودرس بها بعد شيخنا جماعة منهم العلامة السيد الحسيني قاضي حلب وضبط متحصلها من جهاتها في سنتين. ومن جهاتها عين دفنا من بلد عزاز وقمري والقيسية وحصة في أصعا وحصة في نبّل وحصة في حربثا ، ولها جهات بحلب ، وصرفها على المستحقين ولم يأخذ منها شيئا حتى سأل الفقهاء عن قدر ما يأخذ ، وبيض المدرسة وخبأ للفقهاء الذين توجهوا للحجاز وأحسن للحاضرين ونقل الفضلاء فجزاه الله خيرا ا ه.

١٨٩ ـ سليمان بن مسعود الطوسي الشاعر المتوفى سنة ٦٣٤

قال الصلاح الصفدي في حوادث سنة ٦٣٤ : فيها توفي أبو داود سليمان بن مسعود ابن الحسن بن أحمد الطوسي الحلبي شاعر لطيف ، ومن نظمه :

ألا زد غراما بالحبيب وداره

وإن لجّ واش فاحتمله وداره

وإن قدح اللوّام فيك بلومهم

زناد الهوى يوما فأورى فواره

عسى زورة يشفي بها منه خلسة

فإنك لا يشفيك غير ازدياره

وذي هيف فيه يقول لعاذلي

بعذري إذا ما لام لام عذاره

__________________

(١) يعني به القاضي علاء الدين ابن خطيب الناصرية صاحب الدر المنتخب.

٣٦٩

بوجه يضاهي البدر عند كماله

بعيد المدى من تقصه وسراره

فلا بدر إلا ما بدا من جيوبه

ولا غصن إلا ما انثنى في إزاره

فسبحان من أجرى الطلا من رضابه

ومن أنبت الريحان في جلّناره

وقد دبّ عنها صدغه بعقارب

وناظره من سيفه بشفاره

وله أيضا عفا الله عنه :

أبدى لنا من صنوف الحسن أصنافا

تروى فتسترق الألفاظ أوصافا

زبرجدا في عقيق زانه سبج

ولؤلؤا في زلال الريق شفّافا

كأنه حينما يجلو لمبسمه

يشقّ من شفتيه عنه أصدافا

يريش من مقلتيه أسهما وكذا

يسلّ منها إذا ما شاء أسيافا

ريم من الروم مطبوع على صلف

يفوق غصن النقا قدّا وأعطافا

تجاذب الريح فيه لين معطفه

كما يجاذب خصر منه أردافا

أمير حسن تراه واحدا وترى

في طرفه من جنود الحسن آلافا

وكانت وفاته بحلب رحمه‌الله تعالى ا ه.

١٩٠ ـ يوسف بن إسماعيل الشاعر المشهور بالشوّاء المتوفى سنة ٦٣٥

أبو المحاسن يوسف بن إسماعيل بن علي بن أحمد بن الحسين بن إبراهيم المعروف بالشواء الملقب شهاب الدين الكوفي الأصل الحلبي المولد والمنشأ والوفاة. كان أديبا فاضلا متقنا لعلم العروض والقوافي ، شاعرا يقع له في النظم معان بديعة في البيتين والثلاثة ، وله ديوان شعر كبير يدخل في أربع مجلدات (١) ، وكان زيه على زي الحلبيين الأوائل في اللباس والعمامة المشقوقة ، وكان كثير الملازمة لحلقة الشيخ تاج الدين أحمد بن هبة الله بن سعد ابن سعيد بن المقلد المعروف بابن الجبراني الحلبي النحوي اللغوي الفاضل (تقدمت ترجمته في وفيات سنة ٦٢٨) ، وأكثر ما أخذ الأدب عنه وبصحبته انتفع. وعاشر التاج أبا الفتح مسعود بن أبي الفضل النقاش الحلبي الشاعر المشهور زمانا (تقدمت ترجمته في وفيات سنة ٦١٣) وتخرج عليه في عمل الشعر.

__________________

(١) منه منتخبات في برلين ذكر ذلك جرجي زيدان في آداب اللغة العربية.

٣٧٠

وكان بيني وبين الشهاب الشواء مودة أكيدة ومؤانسة كثيرة ، ولنا اجتماعات في مجالس نتذاكر فيها الأدب ، وأنشدني كثيرا من شعره. وما زال صاحبي منذ أواخر سنة ثلاث وثلاثين وستمائة إلى حين وفاته. وقبل ذلك كنت أراه قاعدا عند ابن الجبراني المذكور في موضع تصدره في جامع حلب ، وكان يكثر التمشي في الجامع أيضا على جاري عادتهم في ذلك كما يعملون في جامع دمشق ، ولم يكن بيننا إذ ذاك معرفة. وكان حسن المحاورة مليح الإيراد مع السكون والتأني.

وأول شيء أنشدني من شعره قوله :

هاتيك يا صاح ربا لعلع

ناشدتك الله فعرّج معي

وأنزل بنا بين بيوت النقا

فقد غدت آهلة المربع

حتى نطيل اليوم وقفا على الساكن أو عطفا على الموضع

وأنشدني لنفسه أيضا :

ومهفهف عفّى الزمان بخدّه

فكساه ثوبي ليله ونهاره

لا مهّدت عذري محاسن وجهه

إن غضّ عندي منه غضّ عذاره

وكان كثيرا ما يستعمل العربية في شعره ، فمن ذلك قوله ولا أدري هل أنشدنيه أم لا ، فإنه أنشدني كثيرا من شعره ، وما ضبطت كل ما أنشدنيه ، وكذلك كل شيء أذكره بعد هذا لا أتحقق الحال في سماعي منه فأورده مهملا ، فمن ذلك قوله :

وكنا خمس عشرة في التئام

على رغم الحسود بغير آفه

فقد أصبحت تنوينا وأضحى

حبيبي لا تفارقه الإضافه

وله أيضا في غلام أرسل أحد صدغيه وعقد الآخر :

أرسل صدغا ولوى قاتلى

صدغا فأعيا بهما واصفه

فخلت ذا في خدّه حية

تسعى وذا عقربة (١) واقفه

__________________

(١) في الأصل : عقربا ، ولا يستقيم الوزن بها.

٣٧١

ذا ألف ليست لوصل وذا

واو ولكن ليست العاطفه

وله :

ناديت وهو الشمس في شهرة

والجسم للخفية كالفي (١)

يا زاهيا أعرف من مضمر

صل واهيا أنكر من لاشي

وله في المديح :

فتى فاق الورى كرما وبأسا

عزيز الجار مخضرّ الجناب

ترى في السلم منه غيث جود

وفي يوم الكريهة ليث غاب

إذا ما سلّ صارمه لحرب

أراك البرق في كفّ السحاب

وله أيضا في شخص لا يكتم السر :

لي صديق غدا وإن كان لا ينطق إلا بغيبة أو محال

أشبه الناس بالصدى إن تحدثه حديثا أعاده في الحال

وله أيضا :

قالوا حبيبك قد تضوّع نشره

حتى غدا منه الفضاء معطّرا

فأجبتهم والخال يعلو خدّه

أوما ترون النار تحرق عنبرا

وله :

هواك يا من له اختيال

مالي على مثله احتيال

قسمة أفعاله لحيني

ثلاثة مالها انتقال

وعدك مستقبل وصبري

ماض وشوقي إليك حال

وله أيضا :

إن كان قد حجبوه عني غيرة

منهم عليه فقد قنعت بذكره

كالمسك ضاع لنا وضاع مكانه

عنّا فأغنى نشره عن نشره

__________________

(١) الشطر الثاني مختل الوزن ، ولعل الصواب : والجسم في خفيته كالفي.

٣٧٢

وله أيضا :

فديت بنفسي رأس عين ومن فيها

وبيض السواقي حول زرقى سواقيها

إذا راقني منها جواري عيونها

أراق دمي منها عيون جواريها

وله في غلام قد ختن :

هنأت من أهواه عند ختانه

فرحا وقلبي قد عراه وجوم

يفديك من ألم ألم بك امرؤ

يخشى عليك إذا ثناك نسيم

أمعذبي كيف استطعت على الأذى

جلدا وأجزع ما يكون الريم

لو لم تكن هذي الطهارة سنّة

قد سنّها من قبل إبراهيم

لفتكت جهدي بالمزيّن إذ غدا

في كفّه موسى وأنت كليم

ومعظم شعره على هذا الأسلوب ، وقد أوردت منه أنموذجا فيه كفاية.

وكان من المغالين في التشيع ، وأكثر أهل حلب ما كانوا يعرفونه إلا بمحاسن الشواء ، والصواب فيه هو الذي ذكرته ههنا ، وأن اسمه يوسف وكنيته أبو المحاسن. وبعد هذا رأيت في كتاب عقود الجمان الذي وضعه صاحبنا الكمال ابن الشعار الموصلي وقد بنى ترجمة المذكور على يوسف وكنيته أبو المحاسن ، وكان صاحبه وأخذ عنه كثيرا من شعره ، وهو من أخبر الناس بحاله وأعلم ذلك في وقته. وكان مولده تقريبا في سنة اثنتين وستين وخمسمائة ، وتوفي يوم الجمعة تاسع عشر المحرم سنة خمس وثلاثين وستمائة بحلب ودفن ظاهرها بمقبرة باب أنطاكية غربي البلد (أي في تربة السنابلة) ، ولم أحضر الصلاة عليه لعذر عرض لي في ذلك الوقت رحمه‌الله تعالى فقد كان نعم الصاحب ا ه (ابن خلكان).

وفي الكشف قصيدة فيما يقال بالياء والواو للأديب أبي المحاسن إسماعيل (الصواب يوسف بن إسماعيل) ابن علي الشواء الحلبي أولها : (قل إن نسيت عزوته وعزيته) وشرحها محمد بن إبراهيم بن النحاس الحلبي المتوفى سنة ٦٩٧ ا ه. وسماه هدي أمهات المؤمنين ا ه.

١٩١ ـ عبد الله بن عبد الرحمن الأسدي المتوفى سنة ٦٣٥

عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن رافع الأسدي أبو محمد المعروف

٣٧٣

بابن الأستاذ ، من أهل حلب. أسمعه والده في صباه من يحيى بن محمود الثقفي وغيره ، ثم سمع هو بنفسه وكتب بخطه ، وتفقه على قاضي حلب أبي المحاسن يوسف بن رافع بن تميم ، وعني القاضي أبو المحاسن به لما رأى من نجابته ومخائل الفلاح اللائحة عليه واستفرغ جهده في تعليمه واتخذه ولدا وصاهره وجعله معيد مدرسته وله نيف وعشرون سنة. ثم ولي التدريس بعده بمدارس ونبل مقداره عند الملوك والسلاطين وارتفع شأنه وعظم جاهه ، ودخل بغداد وناظر بها. ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وتوفي سنة خمس وثلاثين وستماية ا ه (طبقات الكبرى للسبكي).

١٩٢ ـ حامد القزويني المتوفى سنة ٦٣٦

شمس الدين أبو الرضى حامد بن أبي المظفر القزويني المعروف بابن العميد ، ذكره التفليسي فقال : ولد بقزوين سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ، وتفقه بمراغة على المجد الجيلي ، وببغداد على السديد السلماسي والفخر التوقاني ، وسمع وحدث. وزاد غيره فقال : قرأ على القطب النيسابوري وقدم معه الشام سنة ست وسبعين وولي قضاء حمص ، ثم انتقل إلى حلب ودرس بها إلى أن توفي سنة ست وثلاثين وستماية ا ه (ط ش للأسنوي).

١٩٣ ـ يعقوب بن إبراهيم بن النحاس المتوفى سنة ٦٣٧

يعقوب بن إبراهيم بن النحاس. لم نقف له على ترجمة خاصة. وكان أول مدرس في المدرسة الحسامية ، ولم يزل مدرسها إلى أن توفي سنة ٦٣٧ كما ذكره أبو ذر في كلامه على هذه المدرسة.

الكلام على المدرسة الحسامية :

قال أبو ذر : هذه المدرسة غربي القلعة على رأس القناة ، أنشأها الأمير حسام الدين محمود بن ختلو والي حلب. كان أول من درس بها الشيخ بدر الدين يعقوب بن إبراهيم ابن محمد بن النحاس الحلبي ، ولم يزل مدرسا بها إلى أن توفي سنة سبع وثلاثين وستمائة ، فوليها بعده ولده محيي الدين محمد ، ولم يزل بها إلى انقضاء دولة الملك الناصر انتهى.

٣٧٤

وإلى جانبها مسجد لحسام الدين المشار إليه ، وبالقرب منهما خانكاه يقال لها العادلية بنيت في سنة ست وسبعمائة ا ه.

أقول : لم تزل هذه المدرسة موجودة ، وهي كما قال أبو ذر غربي القلعة ، وشمالي مكتب الصنائع الآن بينهما الجادة ودار للسكنى ، وأمام بابها القديم باب حادث أحدث في القرن الماضي وكتب عليه : (جددت مدرسة بني الشحنة في أيام صاحب الدولة حضرة ثريا باشا والي حلب أدام الله تعالى إجلاله عن يد الحاج يوسف والحاج عبد القادر حسني الحسبي سنة ١٢٨١).

ومتى دخلت هذا الباب تجد وراءه بابا آخر هو الباب القديم وهو من ثلاث أحجار سوداء كبار يعلو نجفة الباب حجرة كبيرة مكتوب عليها :

(١) بسم الله الرحمن الرحيم. عمر هذا المسجد في أيام عبد ...

(٢) السلطان الملك العزيز ابن الملك ...

(٣) وذلك بالإشارة الأتابكية السعيدية ... عبد الله.

(٤) الظاهرية محمود الختلو رحمه‌الله في سنة خمس عشرة (أو خمسة وعشرين) وستمائة. ا ه (١).

والذي ظهر لي أن هذه المدرسة انتقصت من طرفي الغرب والشمال ودخل ما كان فيها من الحجرات وقسم من صحنها في الدور المبنية ثمة ، لأن صحنها الموجود الآن صغير جدا ، والباقي من المدرسة قبليتها وطولها نحو ١٦ ذراعا وعرضها نحو خمسة أذرع وفي الجهة الغربية منها حجرتان صغيرتان مبنيتان حديثا بناء غير محكم إحداهما أكبر من الأخرى ، وعلى الكبيرة قنطرة ذات حجارة ضخمة تدل على أن ما وراءها من البناء كان داخلا فيها. وشرقيها حجرة صغيرة في طرفها درج تصعد منه إلى حجرة مبنية فوق باب المدرسة وهي مشرفة على الخراب. وكان يسكن المدرسة بعض النساء الفقيرات ، ثم أخرجن منذ عهد قريب وأقفل باب المدرسة. وهي الآن مهجورة بتاتا ، وهي تحت يد دائرة الأوقاف. والذي يظهر أنه لم يبق لها شيء من الأوقاف. وأما الخانكاه العادلية التي ذكرها أبو ذر فلا أثر لها الآن.

__________________

(١) محمود بن الختلو هو جد بني الشحنة العائلة المشهورة. وقد ذكره في أوائل الدر المنتخب وقال : إن له ترجمة في تاريخ ابن العديم ، ولم أقف له على ترجمة.

٣٧٥

١٩٤ ـ خليفة بن سليمان القرشي المتوفى سنة ٦٣٨

خليفة بن سليمان بن خليفة بن محمد القرشي أبو السرايا الخوارزمي الأصل الحلبي المولد والدار. مولده بحلب سنة ست وستين وخمسمائة ، وقيل سنة خمس.

قال ابن العديم : وكتب بخطه في إجازة أن مولده سنة ثلاث وخمسين.

قرأ الفقه بحلب على الإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني صاحب البدائع ، ورحل إلى بلاد العجم ، تفقه بها على جماعة منهم الصفي الأصفهاني صاحب الطريقة.

توفي ثالث عشرين شوال سنة ثمان وثلاثين وستماية بحلب ودفن بجبانة مقام إبراهيم الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم خارج باب العراق ا ه (ط ح للقرشي).

١٩٥ ـ محمد بن عبد الرحمن ابن الأستاذ المتوفى سنة ٦٣٨

محمد بن عبد الرحمن بن علوان بن رافع قاضي القضاة جمال الدين أبو عبد الله ابن الأستاذ الأسدي. ولد بحلب وسمع وحدث وناب عن أخيه القاضي زين الدين عبد الله. وتوفي بحلب سنة ثمان وثلاثين وستماية ا ه (الوافي بالوفيات).

١٩٦ ـ محمد بن عبد الله الأنصاري المتوفى في هذا العقد

محمد بن عبد الله بن ماجد جمال الدين الأنصاري الحلبي.

أنشدني الشيخ أثير الدين من لفظه قال : أنشدنا المذكور لنفسه بمصر بمكتب ابن عبد الحميد :

قف الركب يا صاح بالأجرع

قليلا لتندب قلبي معي

فقد كان يسكن بين الضلوع

وقد صار يربع بالأربع

دعاه الغرام إلى حتفه

فلبّى المنية لما دعي

فآه له من قطيع اللحاظ

ومن بالنواظر لم يقطع

ومن ذا الذي قاده طرفه

فلا يستفاد ولم يتبع

٣٧٦

فمن ينس لا أنس يوم الوداع

غداة الثنيّة من لعلع

وقولي لها بلسان الخضوع

وقد كدت أغرق في الأدمع

قفي ساعة نشتكيك الغرام

وما شئت من بعدها فاصنعي

ولم يبق لي الدهر أمنيّة

سوى أن أقول وأن تسمعي

وفي ساعة البين يا هذه

يبين المحقق من أدمعي (١)

وصح الفراق وسار الرفاق

ولم يبق في الوصل من مطمع

وبيت القصيدة أني رجعت

سليبا وما عاد قلبي معي

فيا حب إياك أن تستقرّ

ويا عين إياك أن تهجعي

كان مولده سنة إحدى وسبعين وخمسماية ا ه. (الوافي بالوفيات) فتكون وفاته في هذا العقد تقديرا.

١٩٧ ـ الأمير عبد القاهر بن عيسى التّنبي المتوفى سنة ٦٣٩

هو الأمير جمال الدين أبو الثناء عبد القاهر بن عيسى المعروف بابن التنبي. كانت وفاته رابع عشر المحرم سنة تسع وثلاثين وستمائة.

آثاره بحلب : الخانكاه التنبيّة :

قال أبو ذر : هذه الخانكاه بذيل العقبة بدرب المتوجه إلى جب السدلة ، أنشأها الأمير جمال الدين أبو الثناء عبد القاهر بن عيسى المعروف بابن التنبي. كانت دارا يسكنها فوقفها عند وفاته ، وبهذه الخانكاه قبر فلعله قبر واقفها ، وهذه الخانكاه أخذ بعضها وأضيف إلى مساكن الجيران. وسكن في هذه الخانكاه العبد الصالح الشيخ شمس الدين الغزي وكان من الأخيار ويقرىء في الجامع الكبير الأيتام لله تعالى ويطعمهم ، وللناس فيه اعتقاد ويقفون عليه مساكن ، فكان يأخذ ريعها ويطعم به الفقراء. توفي تاسع عشر ربيع الأول سنة ست وعشرين وثمانمائة ودفن بمقبرة ابن الأطعاني غربي الناعورة ا ه.

أقول : موضع هذه الخانكاه قبيل الزقاق الذي تصعد منه إلى محلة العقبة وتجاه الزقاق المعروف بزقاق الخواجه ، وقد أدركنا هذا المكان وهو خرب بتاتا ، وقد عمره منذ خمس

__________________

(١) عجز البيت في طبعة الوافي بالوفيات : يبين المحق من المدعي.

٣٧٧

سنوات التاجران صالح المكتبي ومحمد عرب خانا فوقه داران لهما ، وقبر الواقف أبقي مكانه داخل حجرة صغيرة ، وهو بجانب مطلع الدارين ومحرر عليه بخط حديث : هذا ضريح الشيخ محمد التنبي ، وهو غلط والصواب في اسمه ما تقدم.

١٩٨ ـ أرسلان شاه بن العادل المتوفى سنة ٦٣٩

أرسلان شاه بن الملك العادل. قال ابن الوردي في تتمة المختصر في حوادث سنة ٦٣٩ : فيها في ذي الحجة توفي الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه بن العادل بن أيوب بعزاز ، فإنه تعوض بها عن قلعة جعبر ، ونقل إلى حلب فدفن في الفردوس ، وتسلم نواب الناصر يوسف صاحب حلب عزاز وقلعتها وأعمالها ا ه.

١٩٩ ـ عبد الغني بن تيميّة الحراني المتوفى سنة ٦٣٩

عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن تيميّة الحراني خطيب حران وابن خطيبها سيف الدين أبو محمد بن الشيخ فخر الدين أبي عبد الله المتقدم ذكره. ولد في ثاني صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بحران. له «تصنيف الزوائد على تفسير الوالد» و «أهدى القرب إلى ساكني الترب». توفي بحران في سابع عشر المحرم سنة تسع وثلاثين وستمائة ا ه (الدر المنضد).

٢٠٠ ـ الفضل بن عبد المطلب الهاشمي المتوفى في هذا العقد تقديرا

الفضل بن عبد المطلب أبو المعالي. تقدم نسبه في ترجمة أبيه شيخ الإسلام عبد المطلب ولد بحلب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. سمع والده وغيره وحدث بحلب.

قال ابن العديم : فقيه فاضل له يد في علم الكلام والخلاف ، وتفقه بحلب على والده وغيره ، وله يد باسطة في علم العربية والأدب مع الشعر وصناعة الإنشاء ، وكان فصيحا كثير المعروف ا ه (ط ح قرشي). لم يذكر تاريخ وفاته فتكون في هذا العقد تقديرا.

٣٧٨

٢٠١ ـ محمد بن هاشم الخطيب المتوفى سنة ٦٤١

قال في كنوز الذهب : محمد بن هاشم بن أحمد بن عبد الواحد بن هاشم أبو عبد الرحمن الحلبي. له محلة بحلب. كان خطيب الجامع الأموي بحلب ، وكان يخطب بالحاضر في ورقة بيده. توفي في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين وستمائة.

ومن نظمه :

إن غرّبت حلب الشآم وغرّبت

سكنى المقيم بها عن الأبصار

[هكذا]

فلنعم عوني دمع عيني إن تفانت أسرتي وتخاذلت أنصاري

قال في الكواكب المضية : ومن نظمه يمدح الظاهر غازي :

أحبابنا بان صبري يوم بينكم

لهفا على طيب عيش لي بكم سلفا

لله أيامنا والشمل مشتمل

وحادث الدهر عنا صرفه صرفا

يا آمري الصبر إني بعد بعدهم

والله أستعذب التعذيب والتلفا

ويا مكلفي السلوان حسبك بي

يكفيك ما حل بي من فقدهم وكفى

وحق سالف عيش مر لي بهم

ما لذ عيشي ولا ورد الحياة صفا

يا قاتل الله يوم البين كم كبد

ذابت وكم مدمع فيه دما ذرفا

دعني بوجدي على فقد ... وإن

 ... برّح بي التبريح واعتسفا

داء بقلب المعنّى الصبّ ليس له

سوى مديح غياث الدين قطّ شفا

يعطي رغائب آمال إليه سرت

غرائب الجود حتى يوهم السرفا

وقال أبو ذر في الكلام على درب الخطيب هاشم : أما الخطيب هاشم فهو ابن أحمد ابن عبد الواحد خطيب حلب وابنه محمد خطيبها أيضا ، وهم أسديون. ولد ابنه (المترجم) في حدود الستين وخمسمائة ونيف على الثمانين ، وحدث عن أبيه. ولأبيه ديوان خطب. وكانا شافعيين وتوفي في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين وستمائة. وكان له (أي الهاشم) ولد آخر يسمى سعيدا خطب بحلب أيضا. سمع عبد الرحمن بن الحسن بن العجمي وسمع آباءه وعبد الواحد بن عبد الماجد القشيري وأبا بكر محمد بن علي بن ياسر الجياني.

٣٧٩

مولده في رجب سنة ست وأربعين وخمسمائة بحلب ، وتوفي يوم الجمعة خامس ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وستمائة.

وللخطيب عم يقال له سعيد بن عبد الواحد ، روى عن أبي محمد عبد الله بن محمد ابن سعيد بن سنان شيئا من شعره ، وروى عنه أخوه أحمد. ولأبي محمد بن سنان إليه أبيات يعرض فيها بذكر روشن عمله أبو طاهر بحلب ، وكان من ظرفاء الحلبيين ، والأبيات :

بحياة زينب يا ابن عبد الواحد

وبحقّ كل نبيّة في ياقد

وزينب هذه التي أقسم عليه بحياتها هي بنت الشيخ أبي نصر بن هاشم ، والقسم عليه بالنبية هو أن أبا نصر كان له ملك بقرية ياقد من قرى حلب وكان له فلاح فيها له بنت تدعي أنها نبية تبصر في المنام الوحي ، وكان الفلاح أقل عقلا من ابنه ، وكان يقسم بحق النبية ، وكان أبو نصر يحكي عن خرافات هذا الفلاح ، فلذلك أقسم عليه بها. وقلة العقل في أهل هذه القرية باق إلى الآن. وقد ادعى رجل منهم النبوة يقال له ابن الدربي وأخته أيضا تدعي النبوة.

٢٠٢ ـ الأمير إقبال الظاهري المتوفى سنة ٦٤١

قال أبو ذر : قال ابن العديم : إنه عتيق ضيفة خاتون ، وكان عنده ظلم ، ولما قدم التتار إلى ظاهر حلب سنة إحدى وأربعين وستمائة مرض من خوفه في صفر وتوفي فيه ، ودفن في التربة التي أنشأها وهي هذه ووقفها مدرسة على الحنفية.

آثاره في حلب : المدرسة الجمالية :

هذه المدرسة قبلي حلب خارج باب المقام قبلي الفردوس ، بقربها بئر ماء على جادة الطريق ، أنشأها جمال الدولة إقبال الظاهري. وقيل إنه انتخب أحجارها من أحجار الفردوس لما عمر ، فلذلك جاءت حسنة البناء محكمة النحت والآلة.

أول من درس بها شمس الدين عيسى الدمشقي ، ولم يزل بها إلى أن توفي فوليها بعده جمال الدين يوسف ، إلى أن مات فوليها قطب الدين محمد بن عبد الكريم بن عبد الصمد

٣٨٠