إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٤

وأنشدني لنفسه أيضا موشحة على طريق المغاربة :

في زهرة وطيب بستاني من أوجه ملاح

أجلو على القضيب ريحاني والورد والأقاح

ما روضة الربيع

في حلة الكمال

تزهو على ربيع

مرّت به الشمال

في الحسن كالبديع

بالحسن والجمال

ناهيك من حبيب نشوان بالدل وهو صاح

إن قلت والهيبي حياني من ثغره براح

كم بت والكؤوس

تجلى من الدنان

كأنها عروس

زفّت من الجنان

تبدو لنا الشموس

منها على البنان

لم أخش من رقيب ينهاني ألهو إلى الصباح

مع شادن ربيب فتان زندي له وشاح

خيل الصبا بركض

تجري مع الغواه

في سنتي وفرضي

لا أبتغي سواه

وحجتي لعرضي

ما تنقل الرواه

عن عاقل لبيب أفتاني أن الهوى مباح

والرشف من شنيب ريان ما فيه من جناح

وأنشدني لنفسه أيضا موشحة :

أي عنبرية

في غلائل الغلس

من زبرجديه

تنبه النعس

جادها الغمام

فانتشى بها الزهر

وابتدا الكمام

أعينا بها سهر

وشدا الحمام

حين صفق النهر

وارتدت عشيه

كملابس العرس

حللا سنيه

ما دنت من الدنس

واملأ الكؤوسا

فضة على الذهب

٣٤١

وأجلها عروسا

توّجت من الشهب

تطلع الشموسا

في سنا من اللهب

فلها مزيّه

في الدجا على القبس

بحلى شهية

كمحاسن اللعس

يخبرنا سناها

عن تطاير الشرر

فاز من جناها

من قلائد الدرر

فإذا تناهى

في الخلائق الغرر

قلت ظهريّه

أظهرت لملتمس

من علا أبيّه

ما تنال بالخلس

وأنشدني لنفسه أيضا :

لا خير في أوجه صباح

تسفر عن أنفس قباح

كالجرح يبنى على فساد

بظاهر ظاهر الصلاح

فقل لمن ماله مصون

أصبت في عرضك المباح

وأنشدني لنفسه أيضا :

جدّ الصّبا في أباطيل الهوى لعب

وراحة اللهو في حكم النهي تعب

وأقرب الناس من مجد يؤثله

من أبعدته مرامي العزم والطلب

وقادها كظلام الليل حاملة

أهلّة طلعت من بينها الشهب

منقضّة من سماء النقع في أفق

شيطانه بغمام الدرع محتجب

واسودّ وجه الضحى مما أثار به

وأشرق الأبيضان الوجه والنسب

في موقف يسلب الأرواح سالبها

حيث المواضي قواض والقنا سلب

لا يرهب المرء ما لم تبد سطوته

لو لا السنان استوى الخطّي والقصب

إن النهوض إلى العلياء مكرمة

لها التذاذان مشهود ومرتقب

والملك صنفان محصول وملتمس

والمجد نوعان موروث ومكتسب

والناس ضدّان مرزوق ومحترم

تحت الخمول ومغصوب ومغتصب

والطاهر النفس لا ترضيه مرتبة

في الأرض إلا إذا انحطت لها الرتب

والفضل كسب فمن يقعد به نسب

ينهض به الأفضلان العلم والحسب

٣٤٢

لله درّ المساعي ما استدرّ بها

خلف السيادة إلا أمكن الحلب

وحبذا همة في العزم ما انتدبت

لمبهم الخطب إلا زالت الحجب

وموطن يستفاد العزّ منه كما

أفادت العزّ من سلطانها حلب

ومنها :

مؤيد الرأي والرايات قد ألفت

ذوائب القوم من راياتها العذب

إن نازلوه وقد حقّ النزال فمن

أنصاره الخاذلان الجبن والرعب

أو كاتبوه فخيل من كتائبه

تجيب لا المخبران الرسل والكتب

مغاور ينهب الأعمار ذايله

في غارة الحرب والأموال تنتهب

في جحفل قابلوا شمس النهار على

مثل البحار بمثل الموج يضطرب

حتى كأن شعاع الشمس بينهم

فوق الدروع على غدرانها لهب

ما أنكر الهام من أسيافه ظبة

وإنما أنكرت أسيافه القرب

ما يدفع الخطب إلا كل مندفع

في مدحه الأفصحان الشعر والخطب

ومن إذا ما انتمى في يوم مفتخر

أطاعه العاصيان العجم والعرب

وأنشدني من قصيدة لنفسه أيضا :

أفي البان إذ بان الخليط مخبّر

عسى ما انطوى من عهد لمياء ينشر

فكم حركات في اعتدال سكونها

أحاديث يرويها النسيم المعطّر

يود ظلام الليل وهو ممسّك

لذاذتها والصبح وهو مزعفر

أحاديث لو أن النجوم تمتعت

بأسرارها لم تدر كيف تغوّر

يموت بها داء الهوى وهو قاتل

ويحيا بها ميت الجوى وهو مقبر

فيا لنسيم صحتي في اعتلاله

وصحوي إذا ما مر بي وهو مسكر

كأن به مشمولة بابلية

صفت وهي من غصن الشمائل تعصر

إذا نشأت مالت بلبك نشوة

كما مال مهزوز يماح ويمطر

وقال يمدح الوزير جمال الدين القاضي الأكرم أبا الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم الشيباني القفطي من صعيد مصر ويلتمس منه أن يرتبه في خدمته :

يا سيدي قد رميت من زمني

بحادث ضاق عنه محتملي

٣٤٣

وأنت في رتبة إذا نظرت

إليّ صار الزمان من قبلي

والنظم والنثر قد أجدتهما

فيك فلا تترك الإجادة لي

فداك قوم إذا وقفت بهم

رأيتني واقفا على طلل

تشغل أموالهم مساعيهم

فهم عن المكرمات في شغل

تحمي حماها أعراضهم فإذا

ماتت حماها سور من البخل

معاول الذم فيه عاملة

أعمالها في مغائر الجبل

نعلك تاج إذا رفعتهم

لرأس حاف منهم ومنتعل

فاسمع حديثي في مغازلة

تبث شكوى في موضع الغزل

قد كنت في راحة مكملة

أحيي المعالي بميّت الأمل

أرفل في عزة القناعة في

ذيل على النائبات منسدل

فعندما طالت البطالة بي

وصار لي حاجة إلى العمل

قال أناس نبه لها عمرا

فقلت حسبي رأي الوزير علي

يعني عمر بن الوبار أحد حجاب أتابك طغرل شهاب الدين الخادم المستولي في أيامنا على حلب وقلعتها.

قد بت من وعده على ثقة

أمنت في حليها من العطل

فالأكرم بن الكرام لو سبقت

وعوده بالشباب لم يحل

يفر من وعده المطال كما

تفرّ أراؤه من الزلل

أخلاقه حلوة المذاق فلو

شبهتها ما ارتضيت بالعسل

بمنطق لو سرت فصاحته

في اللكن لاستعصمت من الخطل

تمجّ أخلاقه إذا كتبت

ماء المنى من أسنة الأسل

وإن سطت في ملمة نسيت

صفين منها ووقعة الجمل

تنظم درّا على الطروس كما

ينظم در الحلّي في الحلل

مبيّن علمه لسائله

مسائلا أشكلت على الأول

لكل علم في بابه علم

يهدي إلى قبلة من القبل

أيّ جمال ما فيه أجمله

على وجوه التفصيل والجمل

٣٤٤

جلّ الذي أظهرت بدائعه

منه معاني الرجال في رجل

ا ه (معجم الأدباء لياقوت).

قال في الكواكب المضية : ومن نظمه يمدح الملك الظاهر :

وقفنا على حكم الهوى نعلن الهوى

بألفاظ دمع تفضح السرّ والنجوى

وكانت لنا دعوى من الصبر قبلها

ولكن دموع العين أبطلت الدعوى

وقد كنت قبل البين جلدا تهزني

تباريح شوق سرّها في الحشا يطوى

وأحمل ثقل الوجد والربع آهل

ولكن إذا ما الربع أقوى فلا أقوى

ومنها :

وما ساعة التوديع إلا بغيضة

ولكنها تهوى لتقبيل من أهوى

ومنها :

كأن غياث الدين غازي بن يوسف

أسرّ إليها من خلائقه نجوى

دع الشمس واستطلع شموس صفاته

تجد عند تمييز النهى أنها أضوا

ومنها :

لقد ساد حتى لم يجد طالبا علا

وجاد إلى أن لم يدع طالبا جدوى

ومنها :

وفي مقبل الآمال بالمال فابتدا

نداه وقد أصمى الرمايا وما أشوى

ندى فاق في الآفاق حتى لو أنه

سحاب أرانا الحوت في موضع الأدوا

وما ضرنا أن تبخل السحب دونه

ومن سحب كفّيه لنا أكرم المثوى

شكونا فأعدانا على الدهر نصره

وعدنا فلا دعوى علينا ولا عدوى

ومنها :

فلولا معان فيه للمدح أوضحت

معاني القوافي ما عرفنا لها نحوا

ولو لا المعاني الفائقات بعدله

عفا منزل التقوى وربع الهدى أقوى

فلا برحت أيامنا بدوامه

مهنّئة للملك والدين والتقوى

٣٤٥

١٧٦ ـ أبو عبد الله ياقوت الحموي المتوفى بحلب سنة ٦٢٦

أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي الجنس الحموي المولد البغدادي الدار الملقب شهاب الدين ، أسر من بلاده صغيرا ، وابتاعه ببغداد رجل تاجر يعرف بعسكر ابن أبي نصر إبراهيم الحموي وجعله في الكتاب لينتفع فيه في ضبط تجارته ، وكان مولاه عسكر لا يحسن الخط ولا يعلم شيئا سوى التجارة ، وكان ساكنا ببغداد ، وتزوج بها وأولد عدة أولاد ، ولما كبر ياقوت المذكور قرأ شيئا من النحو واللغة ، وشغله مولاه بالأسفار في متاجره ، فكان يتردد إلى كيش وعمان وتلك النواحي ويعود إلى الشام. ثم جرت بينه وبين مولاه نبوة أوجبت عتقه فأبعده عنه ، وذلك في سنة ست وتسعين وخمسمائة ، فاشتغل بالنسخ بالأجرة ، وحصل بالمطالعة فوائد. ثم إن مولاه بعد مدة ألوى عليه وأعطاه شيئا وسفره إلى كيش ، ولما عاد كان مولاه قد مات فحصل شيئا مما كان في يده وأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به ، وبقيت بيده بقية جعلها رأس ماله ، وسافر بها وجعل بعض تجارته كتبا.

وكان متعصبا على علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، وكان قد طالع شيئا من كتب الخوارج فاشتبك في ذهنه منه طرف قوي ، وتوجه إلى دمشق في سنة ثلاث عشرة وستمائة وقعد في بعض أسواقها وناظر بعض من يتعصب لعلي رضي‌الله‌عنه ، وجرى بينهما كلام أدى إلى ذكره عليا رضي‌الله‌عنه بمالا يسوغ ، فثار الناس عليه ثورة كادوا يقتلونه ، فسلم منهم وخرج من دمشق منهزما بعد أن بلغت القضية إلى والي البلد ، فطلبه فلم يقدر عليه ، ووصل إلى حلب خائفا يترقب ، وخرج عنها في العشر الأول أو الثاني من جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة وستماية ، وتوصل إلى الموصل ، ثم انتقل إلى إربل وسلك منها إلى خراسان ، وتحامى دخول بغداد لأن المناظر له بدمشق كان بغداديا ، وخشي أن ينقل قوله فيقتل ، فلما انتهى إلى خراسان أقام يتجر في بلادها ، واستوطن مدينة مرو مدة وخرج عنها إلى نسا ومضى إلى خوارزم ، وصادفه وهو بخوارزم خروج التتر في سنة ست عشرة وستمائة ، فانهزم بنفسه كبعثه يوم المحشر من رمسه ، وقاسى في طريقه من المضايقة والتعب ما كان يكل عن شرحه إذا ذكره ، ووصل إلى الموصل وقد تقطعت به الأسباب ، وأعوزه دنيء المآكل وخشن الثياب ، وأقام بالموصل مدة مديدة ، ثم انتقل إلى سنجار ، وارتحل منها إلى حلب وأقام بظاهرها في الخان ، إلى أن مات في التاريخ الآتي ذكره إن شاء الله تعالى.

٣٤٦

ونقلت من تاريخ إربل الذي عني بجمعه أبو البركات ابن المستوفي أن ياقوتا المذكور قدم إربل سنة سبع عشرة وستمائة ، وكان مقيما في خوارزم ، وفارقها للواقعة التي جرت فيها بين التتر والسلطان محمد بن بكش خوارزم ، وكان قد تتبع التواريخ وصنف كتابا سماه «إرشاد الألباء إلى معرفة الأدباء» يدخل في أربعة جلود كبار ذكر في أوله قال :

وجمعت في هذا الكتاب ما وقع إليّ من أخبار النحويين واللغويين والنسابين والقراء المشهورين والإخباريين والمؤرخين والوراقين المعروفين والكتاب المشهورين وأصحاب الرسائل المدونة وأرباب الخطوط المنسوبة المعينة وكل من صنف في الأدب تصنيفا أو جمع فيه تأليفا ، مع إيثار الاختصار والإعجاز في نهاية الإيجاز. ولم آل جهدا في إثبات الوفيات وتبيين المواليد والأوقات وذكر تصانيفهم ومستحسن أخبارهم والإخبار بأنسابهم وشيء من أشعارهم في تردادي البلاد ومخالطتي للعباد. وحذفت الأسانيد إلا ما قل رجاله وقرب مناله مع الاستطاعة لإثباتها سماعا وإجازة ، إلا أنني قصدت صغر الحجم وكبر النفع. وأثبت مواضع نقلي ومواطن أخذي من كتب العلماء المعول في هذا الشأن عليهم والرجوع في صحة النقل إليهم.

ثم ذكر أنه جمع كتابا في أخبار الشعراء المتأخرين والقدماء.

ومن تصانيفه أيضا كتاب «معجم البلدان» وكتاب «معجم الشعراء» وكتاب «معجم الأدباء» (هو إرشاد الألباء المتقدم الذكر) وكتاب «المشترك وضعا المختلف صقعا» وهو من الكتب النافعة ، وكتاب «المبدأ والمآل» في التاريخ وكتاب «الدول» و «مجموع كلام أبي علي الفارسي» و «عنوان كتاب الأغاني» و «المقتضب في النسب» يذكر فيه أنساب العرب. وكتاب «أخبار المتنبي». وكانت له همة عالية في تحصيل المعارف.

ثم ذكر ابن خلكان رسالة أرسلها المترجم من الموصل إلى القاضي الأكرم جمال الدين أبي الحسن القفطي وزير حلب يصف له حاله وما جرى له مع التتر وهربه منهم ، وهي طويلة جدا تدل على رسوخ قدم ياقوت في صناعة الإنشاء وطول باعه فيها فليرجع إليها من أحب الوقوف عليها. وقال بعد انتهائها : قال صاحبنا الكمال ابن الشعار الموصلي في كتاب «عقود الجمان» : أنشدني أبو عبد الله محمد بن محمود المعروف بابن النجار البغدادي

٣٤٧

صاحب «تاريخ بغداد» قال : أنشدني ياقوت المذكور لنفسه في غلام تركي وقد رمدت عينه وعليها رفائد سوداء :

ومولّد للترك تحسب وجهه

بدرا يضيء سناه بالإشراق

أرخى على عينيه فضل وقاية

ليرد فتنتها عن العشاق

تالله لو أن السوابق دونها

نفذت فهل لوقاية من واق

وكانت ولادة ياقوت المذكور في سنة أربع أو خمس وسبعين وخمسمائة ببلاد الروم ، وتوفي يوم الأحد العشرين من شهر رمضان سنة ست وعشرين وستماية في الخان بظاهر مدينة حلب حسبما قدمنا ذكره في أول الترجمة رحمه‌الله تعالى.

وكان قد وقف كتبه على مسجد الزيدي الذي بدرب دينار ببغداد وسلمها إلى الشيخ عز الدين أبي الحسن علي بن الأثير صاحب التاريخ الكبير ، فحملها إلى هناك. ولما تميز ياقوت المذكور واشتهر سمى نفسه يعقوب ، وقدمت حلب للاشتغال بها في مستهل ذي القعدة سنة وفاته ، وذلك عقيب موته والناس يثنون عليه ويذكرون فضله وأدبه ولم يقدر لي الاجتماع به ا ه (ابن خلكان).

أقول : إن المترجم كان كثير التردد إلى حلب والمقام بها ، فقد وجد فيها سنة ٦١٣ كما تقدم في أول الترجمة ، ووجد فيها سنة ٦١٩ كما ذكره هو في ترجمة الكمال بن العديم المتوفى سنة ٦٦٠ ، ووجد فيها سنة ٦٢٠ كما ذكر ذلك عن نفسه في ترجمة القاسم بن القاسم المتقدمة قبل هذه. ويغلب على الظن أنه في هذه السنة ألقى عصا التسيار في حلب وعول على البقاء فيها ، وحط رحاله في ساحة القاضي الأكرم ، وأهداه كتابه الموسوم بمعجم البلدان ، وناله من إحسانه ووافر بره كما يستفاد من آخر خطبه كتابه المذكور. ويظهر أنه بعد بقائه عدة سنوات سافر من حلب وعاد إليها في مستهل ذي القعدة سنة ست وعشرين وستماية.

وقد تكلمنا في المقدمة على كتابيه «معجم البلدان» و «معجم الأدباء» وأنهما قد طبعا. وقد طبع أيضا من مؤلفاته «المشترك وضعا والمفترق صقعا». قال جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربية (صحيفة ٨٨ جلد ٣) طبعه دوستنفليد في غوتنجن سنة ١٨٤٦ مع الفهارس في نيف وخمسمائة صحيفة.

٣٤٨

١٧٧ ـ أحمد بن هبة الله الجبراني سنة ٦٢٨

أحمد بن هبة الله بن سعد الله بن سعيد الجبراني المغربي النحوي. حدث عن أبيه وعن أبي الفرج يحيى بن محمود الثقفي. مولده سنة ثمان وعشرين وستماية ، ودفن تحت جبل جوشن. ذكره المنذري في التكملة وقال لنا عنه إجازة كتبت لنا عنه من حلب سنة خمس وعشرين وستماية. قلت : أنبأني شيخنا يوسف بن عمر الحيسي عن الحافظ عبد العظيم عنه ا ه (ط ح قرشي).

وذكره ابن خلكان في ترجمة تلميذه يوسف بن إسماعيل الشاعر المشهور بالشواء فقال : وأما شيخه ابن الجبراني فهو طائي بحتري ، وكان من قرية من أعمال عزاز يقال لها جبرين فورسطايا نسب إليها ، هكذا أخبر عن نفسه.

وكان متضلعا من علم الأدب خصوصا اللغة فإنها كانت غالية عليه ، وكان متبحرا فيها. وكان له تصدر في جامع حلب في المقصورة الشرقية المشرفة على صحن الجامع قبالة المقصورة التي يصلي فيها قضاة حلب يوم الجمعة. ولقد كنت يوما قاعدا في هذه المقصورة عند الدارابزين الذي إلى جهة الصحن وإذا به قد حضر ومعه جماعة من أصحابه وفيهم الشهاب أبو المحاسن الشواء المذكور ، وجلس في المحراب الصغير الذي في المقصورة وهو موضع تصدره ، فجعلت بالي من كلامه وأنا في ذلك الوقت مشتغل بالأدب ، فسمعته يتكلم في قاعدة الأفعال الثلاثة التي أولها واو وهي على فعل بكسر العين مثل وجل وغيره وأن مضارعه فيه أربع لغات : يوجل وييجل وياجل وييجل إلا ما شذ من الأفعال الثمانية التي هي ورم وورث وورع وورى وومق ووثق ووفق وولي فإن مضارعها أيضا بالكسر كما ضبطها ، وشذ من ذلك قولهم وسع يسع ووطىء يطأ ، وإنما يفتح هذان الفعلان في المضارع لأجل حرفي الحلق. وأطال الكلام في ذلك بما لم أقدر على حفظه في ذلك الوقت ، ولم أسمع منه غير هذا الفصل.

وكان مولده يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شوال سنة إحدى وستين وخمسمائة ، وتوفي يوم الاثنين سابع رجب من سنة ثمان وعشرين وستماية بحلب ، ودفن في سفح جبل جوشن رحمه‌الله تعالى ا ه.

وذكره الجلال السيوطي في «بغية الوعاة» فقال : أحمد بن هبة الله بن سعد الله بن

٣٤٩

سعيد الجبراني بفتح الجيم وسكون الموحدة وبالراء ، تاج الدين أبو القاسم. قال ياقوت : نحوي مقرىء فاضل إمام شاعر ، له حلقة بجامع حلب يقرأ بها العلم والقرآن ، وله ثروة. ولد سنة إحدى وستين وخمسمائة ، وأخذ النحو عن أبي السخاء فتيان الحلبي وأبي الرجاء محمد بن حرب. وقال الذهبي : روى عن أبيه ويحيى الثقفي وعنه المجد بن العديم وسنقر القضائي. وكان بصيرا باللغة والعربية. مات في سابع رجب سنة ثمان وعشرين وستماية ا ه.

١٧٨ ـ حماد البزاعي الشاعر من أهل بزاعة من معاصري ياقوت

لم أقف على تاريخ وفاته. وذكره ياقوت في الكلام على بزاعة قال : وقد خرج منها حماد البزاعي شاعر عصري وكان من المجيدين. ومن شعره في غلام اسم أبيه عبد القاهر :

نفّر نومي ظبي الحمى النافر

ونام عما يكابد الساهر

يا ليلة بثّها وأوّلها

كأوّل الحب ماله آخر

أرعى نجوما ونت وسائرها

أحير منه فليس بالسائر

مغرى بظبي المواصل من بني الموصل وهو القاطع الهاجر

صرت له أول اسم والده الأول إذ كان نصفه الآخر

شعراء بزاعة :

قال ياقوت : ومن أدبائها أبو خليفة يحيى بن خليفة التنوخي البزاعي يعرف بابن الفرس ، له شعر جيد ، منه :

حبيب جفاني لا لذنب أتيته

على هجرة أفديه بالمال والنفس

رضيت به فليهجر العام كلّه

ويجعل لي يوما من الوصل والأنس

ومنهم أبو فراس بن أبي الفرج البزاعي. وأورد له في الكلام على دير سمعان قوله :

يا دير سمعان قل لي أين سمعان

وأين بانوك خبرني متى بانوا

وأين سكانك اليوم الألى سلفوا

قد أصبحوا وهم في الترب سكان

أصبحت قفرا خرابا مثل ما خربوا

بالموت ثم انقضى عمرو وعمران

وقفت أسأله جهلا ليخبرني

هيهات من صامت بالنطق تبيان

٣٥٠

أجابني بلسان الحال إنهم

كانوا ويكفيك قولي إنهم كانوا

وقال في الكلام على دير عمان : إنه بنواحي حلب ، وتفسيره بالسريانية دير الجماعة. ومر به أبو فراس بن أبي الفرج البزاعي فقال ارتجالا :

قد مررنا بالدير دير عمانا

ووجدناه داثرا فشجانا

ورأينا منازلا وطلولا

دارسات ولم نر السكانا

وأرتنا الآثار من كان فيها

قبل تفنيهم الخطوب عيانا

فبكينا فيه وكان علينا

لا عليه لما بكينا بكانا

لست أنسى يا دير وقفتنا في

ك وإن أورثتني النسيانا

من أناس حلّوك دهرا فخلّو

ك وأمسوا قد عطّلوك الآنا

فرقتهم يد الخطوب فأصبحت

خرابا من بعدهم أسيانا

وكذا شيمة الليالي تميت ال

حيّ منا وتهدم البنيانا

حربا ما الذي لقينا من الدهر

وماذا من خطبها قد دهانا

نحن في غفلة بها وغرور

وورانا من الردى ما ورانا

١٧٩ ـ النحوي الشاعر سعيد بن سعيد من ذرية البحتري من معاصري ياقوت

ذكره ياقوت في الكلام على جبرين : (قرية قريبة من حلب) ورفع نسبه إلى البحتري الشاعر المشهور ووصفه بالجبراني النحوي المقري ، فاضل إمام شاعر له حلقة في جامع حلب يقري بها العلم والقرآن ، وله ثروة ، وسألته عن مولده فقال : في سنة ٥٦١ ، وقرأ النحو على أبي السخاء فتيان الحلبي وأبي الرجاء محمد بن حرب ، وقرأ القرآن على الدقاق المغربي. وأنشدني لنفسه :

ملك إذا ما السلم شتت ماله

جمع الهياج عليه ما قد فرقا

وأكفه تكف الندى فبنانه

لو لامس الصخر الأصم لأورقا

لكن قوله إنه قرأ على أبي السخاء فتيان هذا ليس بصحيح ، لأن وفاة فتيان كانت

٣٥١

سنة ٥٦٠ كما تقدم ومولد سعيد سنة ٥٦١ ، إلا إذا كانت ولادته سنة ٥٤١ وهناك سهو من النساخ أو الطبع فيكون ذلك صحيحا والله أعلم.

١٨٠ ـ محمد بن المنذر المغربي المراكشي المتوفى سنة ٦٢٨

محمد بن المنذر بن محمد بن أبي عقيل عبد الرحمن بن المنذر المغربي المراكشي أبو منصور الفقيه الشافعي نزيل حلب. قدم والده إلى بغداد واتصل بابن هبيرة قبل وزارته ، وتوفي بالموصل ، وولد محمد المذكور ببغداد ، وسمع بها الحديث من أبي عبد الله بن خميس ، وتفقه على أبي البركات الشيرجي وغيره ، وقرأ القرآن على أبي بكر القرطبي ، وصحب أبا النجيب السهروردي ، وسمع منه الحديث ومن المظفر بن السبلي وابن المادح وابن البطي وغيرهم ، وسمع كتاب اللالكائي من سعد الله بن حمدين في دار ابن هبيرة. ولقي عبد القادر الجيلي. وسافر إلى الشام وقرأ قطعة من تاريخ دمشق على مصنفه علي أبي القاسم بن عساكر. وكان يمتنع من الرواية ويقول : مشايخنا اسمعوا ، وهم صغار لا يفهمون ، وكذلك مشايخهم ، وأنا لا أرى الرواية عمن هذه سبيله. وعمرت وعلت سنه ولم يرو شيئا. وكان فقيها فاضلا غزير العلم عالما بالأدب. قال ابن النجار : اجتمعت به بحلب غير مرة ، وكان حسن الأخلاق كيسا ممتّعا بإحدى عينيه. توفي سنة ثمان وعشرين وستمائة بحلب ، ودفن خارج باب النصر وله شعر (ولم يذكر منه شيئا ومحلة بياض) ا ه. (الوافي بالوفيات للصفدي).

أقول : وقد تقدم شيء من أخباره في ترجمة القاضي أسعد بن مماتي.

١٨١ ـ سعيد بن أبي منصور المتوفى سنة ٦٢٨

سعيد بن أبي منصور الحلبي النحوي التاج أبو القاسم. قال القفطي : قرأ النحو على أبي الرجاء بن حرب ودخل إلى دمشق واجتمع بالتاج الكندي وتصدر بجامع حلب لإقراء العربية والقرآن ، قرر له رزق من وقف الجامع. وكان بخيلا بعلمه شديد الطلب للدنيا يدخل في دنيئات الأمور ويعامل المعاملات المخالفة للشرع إلى أن حصل منها جملة ولم ينتفع بها وخلفها لولده. مات يوم الاثنين ثامن شهر رجب سنة ثمان وعشرين وستمائة ا ه (بغية الوعاة).

٣٥٢

١٨٢ ـ محمد بن هبة الله بن العديم المتوفى سنة ٦٢٨

محمد بن هبة الله بن أبي جرادة أبو غانم عمر بن العديم عم الصاحب كمال الدين. مولده سنة ست وأربعين وخمسمائة. تفقه على مذهب أبي حنيفة ، وتعبد وانقطع ، ومات سنة ثمان وعشرين وستمائة ، ويأتي ولده يحيى. وكان يكتب على طريقة ابن البواب ويكتب في كل رمضان ختمة أو ختمتين ا ه (ط ح قرشي).

وقال في الوافي بالوفيات : وكتب تصانيف الترمذي الحكيم وعني بها ا ه.

أقول : رأيت كتابا بخطه منها هو الآن في مكتبة المجلس البلدي في الإسكندرية.

وقال ابن الأثير في حوادث سنة ثمان وعشرين وستمائة : وفيها توفي القاضي أبو غانم ابن العديم الحلبي الشيخ الصالح ، وكان من المجتهدين في العبادة والرياضة والعاملين بعلمهم ، فلو قال قائل : إنه لم يكن في زمانه أعبد منه لكان صادقا ، فرضي‌الله‌عنه وأرضاه ، فإنه كان من جملة شيوخنا ، سمعنا عليه الحديث وانتفعنا بروايته وكلامه ا ه.

وسيأتي ذكره ضمن ترجمة ابن أخيه الصاحب كمال الدين المتوفى سنة ٦٦٠ عند سياق تراجم بني العديم نقلا عن معجم الأدباء.

١٨٣ ـ يحيى بن أبي طي بن حميدة المتوفى سنة ٦٣٠

يحيى بن حميدة الشهير بابن أبي طي ، آية الله الكبرى في العلوم والفنون والأدب والشعر والتاريخ ومعرفة أخبار الصحابة والعرب وغير ذلك. ومن آثاره البديعة «أخبار الشعراء الشيعة» مرتب على الحروف الهجائية ، وكتاب «تهذيب الاستيعاب في معرفة الأصحاب» للقرطبي ، و «تاريخ مصر» ، و «مختار تاريخ المغرب» ، وكتاب «حوادث الزمان» في خمس مجلدات ورتبه على الحروف الهجائية ، وكتاب «سلك النظام في تاريخ الشام» في أربع مجلدات ، وكتاب «طبقات العلماء» ، و «عقود الجواهر في سيرة الملك الظاهر بيبرس التركي» ، وكتاب «معادن الذهب في تاريخ حلب» وهو كتاب كبير وقد ذيله ، وكتاب «كنز الموحدين في سيرة صلاح الدين» وكتاب «مناقب الأئمة الاثني عشر» وفيها زجر البشر ، وكتاب «الآل والعذب الزلال» ، و «بيان المعالم» وغير ذلك مما يطول شرحه.

٣٥٣

وكانت وفاته سنة ستمائة وثلاثين ه (نهر الذهب). وذكر له في الكشف من المؤلفات عند ذكره مناقب الأئمة الاثني عشر «الذخائر العقبى» وذكر له أيضا كتابا في السير في ثلاث مجلدات.

وفي تذكرة العلامة الشنقيطي اللغوي التي ذكر فيها المختار من نفائس المخطوطات الباقية في الأندلس (الأسكوريال) : الكتاب السادس والخمسون «المنتخب في شرح لامية العرب» صنفه يحيى بن أبي طي بن حميدة بن ظافر بن علي الحلبي الغساني ، وهو شرح لا نظير له حقيقة يشفي العليل ويروي الغليل ، يحتاج إلى نسخه وطبعه لأنه جمع من الفوائد ما لا يكاد يوجد في غيره ا ه.

وقال في هذه التذكرة : الثاني والتسعون مجموع فيه «ملقي السبيل» لأبي العلاء ، الرابع والتسعون مجموع فيه «الرسائل الإغريقية» و «الرسالة المنبجية» له أيضا كتب بها إلى الوزير القاسم المغربي ا ه. وقد فاتني ذكر ذلك في ترجمته.

١٨٤ ـ يحيى الدامغاني البغدادي المتوفى سنة ٦٣٠

يحيى بن جعفر بن عبد الله ابن قاضي القضاة أبي عبد الله محمد بن علي الدامغاني ظهير الدين أبو جعفر. مولده سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة ببغداد. قال المنذري : سمع من أبيه وحدث ، ولنا منه إجازة كتب إلينا بها من حلب غير مرة إحداهن في شوال سنة عشرين وستماية. وهو من بيت القضاء والعلم. توفي بحلب سنة ثلاثين وستمائة ا ه (ط ح قرشي).

الخانكاه الدامغانية :

قال أبو ذر : هي داخل بيت ابن نفيس العجمي خارج باب الأربعين ، كان اندثر بعضها فجددها ابن نفيس المذكور ، وهي وقف على البسطامية ، وهي نسبة إلى حسن الدامغاني وهو مدفون بها ، وكان مكتوبا عليها : وقفها أحمد ولا أعرفه ا ه.

أقول : لا أعرف مكان هذه الخانكاه ويغلب على الظن أنها دثرت.

٣٥٤

١٨٥ ـ محمد بن أبي بكر الخباز النحوي المتوفى سنة ٦٣١

نجم الدين محمد بن أبي بكر بن علي الموصلي المعروف بابن الخباز.

قال الذهبي : كان من كبار العلماء ، ولد سنة سبع وخمسين وخمسمائة واشتغل وبرع في علم العربية ، وقدم مصر فأقرأ الناس بها مدة وصنف كتبا مشهورة ، منها «شرح ألفية ابن معطي» ، ثم عاد إلى حلب ومات بها في سابع ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وستمائة ا ه (ط ش للأسنوي).

وذكره العلامة المؤرخ ابن خلكان في ترجمة القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع بن شداد وهو من جملة شيوخه الذين تلقى العلم عنهم في حلب ، قال ثمة : لما توفي شيخنا جمال الدين أبو بكر الماهاني سنة سبع وعشرين وستمائة ترددت إلى الشيخ نجم الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن علي المعروف بابن الخباز الموصلي الفقيه الإمام ، وهو إذ ذاك مدرس المدرسة السيفية ، فقرأت عليه من أول كتاب الوجيز للغزالي إلى الإقرار.

ثم قال في آخر ترجمة البهاء بن شداد : وتوفي الشيخ نجم الدين بن الخباز المذكور في السابع من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وستمائة بحلب ودفن بظاهرها خارج باب الأربعين ، وحضرت الصلاة عليه ودفنه رحمه‌الله تعالى.

١٨٦ ـ أبو بكر أحمد بن العجمي المتوفى سنة ٦٣١

لم أقف له على ترجمة ، إنما ذكره في الدر المنتخب في الكلام على الخوانق وذكر ثمة وفاته حيث قال : خانقاه أنشأها شمس الدين أبو بكر أحمد بن العجمي ، وكانت دارا يسكنها فوقفها الشيخ شرف الدين أبو طالب أخوه على الصوفية عند موته ، وتوفي سنة إحدى وثلاثين ا ه.

ومن آثاره مدرسة بالجبيل :

قال أبو ذر : هذه المدرسة ذكرها ابن شداد من جملة المدارس التي خارج حلب وهي الآن داخل السور ، لأن السور يصل إلى باب الأربعين ثم إلى خندق القلعة كما بيناه في سور حلب. أنشأها شيخ الطائفة شمس الدين أبو بكر أحمد بن أبي صالح عبد الرحيم الشهيد

٣٥٥

ابن العجمي على مذهب الإمام الشافعي والإمام مالك في سنة خمس وتسعين وخمسمائة ، ولما توفي دفن بها ، وقد دفن عنده جماعة من أقاربه كالشيخ أبي حامد ووالده عبد الرحيم وهم صالحون معتقدون ، وبنو العجمي إذا حزبهم أمر يأتون إلى قبور هؤلاء يتبركون بالدعاء عندهم ، وأهل محلتهم يأخذون من تراب قبورهم لأجل الحمى. ولما طلب جكم الذي تسلطن بحلب والدي ليحضر بيعته امتنع والدي وذهب إلى هذه المدرسة ودعا هناك فصرف الله عنه كيده. وكان قد رسم بنهب بيت والدي.

وإنما وضع هذه المدرسة هنا واقفها تبركا بخالد بن رباح أو بلال أخيه ، لأن أحدهما مدفون في مقبرة الجبيل المعروفة قديما بمقبرة الأربعين كما تقدم في فضل الزيارات. وهذه المقبرة فيها كثير من الصالحين ، وقد تقدم شرح بعضهم. وكانت هذه المقبرة متصلة بهذه المدرسة لا بناء بينهما ، والآن جدد بينهما بيوت وغيرهم ، وأهل هذه البيوت إذا حفروا أس دورهم وجدوا فيها الموتى. وهذه المدرسة الآن ملتصقة بالسور وفي إيوانها الشمالي شباك مطل على خندق البلد ، وكان قبل فتنة تمر فوق هذا الإيوان قاعة معلقة مرخمة عظيمة وبعد تيمر وجد غالبها.

وكان بنو العجمي يأتون هذه المدرسة للتنزه ، وخارج هذه المدرسة من جهة الشرق مقبرة نصفها مختص بأهل الواقف ونصفها لسائر المسلمين ، وكان بينهما حائط دثر في فتنة تيمر ، وكان كل طائفة من بني العجمي لهم موضع مختص بهم لموتاهم ، وكان بهذه المقبرة أشجار مختلفة تسقى من بركة المدرسة ، وغالب بني العجمي مدفونون في هذه المقبرة ، ووالدي مدفون بها كما تقدم.

ومن جملة أوقاف هذه المدرسة طاحون الدوير على نهر قويق من جهة القبلة وحصة من رحا المحدثة وحوانيت بسوق الهواء وحوانيت بسويقة حاتم استبدلت عن بيت كان بالقرب من المدرسة المذكورة. وكان المدرس بها أخو الواقف الشيخ شرف الدين صاحب الشرفية. وكان قبليّ هذه المدرسة في زمن الواقف رحبة واسعة ، فوضع يده صاروخان عليها بغير طريق شرعي وجعلها إصطبلا له ، وفي الغالب لا يوضع فيها دابة إلا ماتت ، وقد محا الله غالب ذرية هذا الرجل ببركة الواقف ا ه.

٣٥٦

الكلام على هذه المدرسة وهي في المحلة المعروفة بالجبيلة :

أقول : لم تزل هذه المدرسة باقية وقد اشتهرت في زماننا بجامع أبي ذر وهو ممن دفن فيها كما سيأتي في ترجمته. وقبليتها عامرة طولها نحو ٢٠ ذراعا وعرضها نحو ١٢ ذراعا ، وفيها منبر للخطابة وتقام فيها الجمعة. وشرقي هذه القبلية بيت كبير قديم في وسطه قبة مرتفعة في شرقيها شباك مطل على التربة التي هناك ، وفي هذا البيت ثمانية قبور مسنمة بالتراب لا غير هي قبور بني العجمي ومعهم المحدث الكبير إبراهيم بن محمد سبط ابن العجمي وولده أبو ذر ، لكن لا يعلم صاحب كل قبر على اليقين. وحول الصحن من جهتي الشرق والغرب حجر مشرفة على الخراب ، وفي شماليه إيوان كبير خرب له ثلاثة شبابيك مطلة على الخندق ، وحول المدرسة من جهتي الشرق والغرب دور للسكني يظهر أن بعضها مقتطع من المدرسة ، وبعض أرض المدرسة مبلط بحجارة سوداء كبار تدل حالتها على أنها مما كان مبنيا في جدران المدرسة. وشرقي المدرسة تربة واسعة آخذة نحو الشرق متصلة بأحد أبواب حلب المعروف الآن بباب الحديد ، وقد بني في آخر هذه التربة مغفر لقعود المحافظين وذلك سنة ١٢٦٥ ، وهو متصل بالباب ، وحين بنائه نبش منه عدة قبور منها قبر كان فيه تابوت من دف نقل ذلك التابوت إلى مصطبة أمام المغفر ، وهناك اتخذ له ضريح ، لكن لم يعلم صاحبه. وهذه المدرسة كما علمت هي في درب الجبيل ، وقد تكلم أبو ذر على هذا الدرب حيث قال :

الكلام على درب الجبيل :

تكلمنا على بعضه في غير هذا الموضع ولم يكن دورا وإنما كان مقابر ، وجدد بهذا الدرب مسجد قريب من مدرسة الجبيل عمره أولا الحاج محمد بن الشكيزان أدركته وكان ذا مال كثير غرق أكثره في البحر ، وبنى دارا على الخندق عظيمة فتقطع ثم أعاد ما بنى وأنفق عليه كما أخبرني بعض الناس ثلاثة آلاف أشرفي ، ثم جدد المسجد بعد انهدامه الخواجا منصور التاجر. وإلى جانبه مكتب وقعت الصاعقة عليه فاحترق ، ثم خرجت من الشباك إلى خندق البلد ورأى الناس في الخندق نارا عظيمة ا ه. أقول : وهذا المسجد لازال موجودا ، وقد جدد بعضه من سنين ويعرف الآن بمسجد أبي الشامات ، ومتولوه هم من هذه العائلة ، وفي صحن المسجد عدة قبور قديمة.

٣٥٧

١٨٧ ـ محمد بن محمد السلاوي المتوفى سنة ٦٣٢

محمد بن محمد بن أحمد بن يوسف بن غياث السلاوي أبو عبد الله الحلبي. سمع بمصر من أبي عبد الله الأرتاحي. ذكره المنذري في التكملة وقال : ما علمته حدث ، وكان فاضلا على مذهب أبي حنيفة. وله معرفة بالشروط. وسكن حلب إلى أن مات بها. ودرس بها على مذهب أبي حنيفة. قال ولده محمد بن محمد : توفي والدي يوم الأربعاء سادس عشر جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. ويأتي ولده محمد ا ه (ط ح قرشي).

١٨٨ ـ القاضي بهاء الدين يوسف بن شداد المتوفى سنة ٦٣٢

أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بن عتبة بن محمد بن عتاب الأسدي قاضي حلب المعروف بابن شداد الملقب ببهاء الدين الفقيه الشافعي. توفي أبوه وهو صغير السن فنشأ عند أخواله بني شداد فنسب إليهم. وكان شداد جده لأمه ، وكان يكنى أولا أبا العز ، ثم غير كنيته وجعلها أبا المحاسن كما ذكرته. ولد بالموصل ليلة العاشر من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وخمسماية وحفظ بها القرآن الكريم في صغره ، ثم قدم الشيخ أبو بكر يحيى بن سعدون القرطبي المقدم ذكره (أي في ابن خلكان) إلى الموصل فلازمه وقرأ عليه بالطرق السبع وأتقن عليه فن القراءات.

قال أبو المحاسن المذكور في بعض تآليفه : أول من أخذت عنه شيخي الحافظ صائن الدين أبو بكر يحيى بن سعدون القرطبي ، فإني لازمت القراءة عليه إحدى عشرة سنة فقرأت عليه معظم ما رواه من كتب القراءات وقراءة القرآن العظيم ورواية الحديث وشروحه والتفسير ، حتى كتب لي خطه بذلك ، وشهد لي بأنه ما قرأ عليه أحد أكثر مما قرأت ، وعندي خطه بجميع ما قرأته عليه في قريب من كراسين ، وفهرست ما رواه جميعه عندي وأنا أرويه عنه ، ومما يشتمل عليه فهرست البخاري ومسلم من عدة طرق ، وغالب كتب الحديث ، وغالب كتب الأدب وغيره. وآخر روايتي عنه شرح الغريب لأبي عبد القاسم ابن سلام قرأته عليه في مجالس آخرها في العشر الأخير من شعبان سنة سبع وستين وخمسمائة. ومنهم الشيخ أبو البركات عبد الله بن الخضر بن الحسين المعروف بابن

٣٥٨

الشيرجي ، سمعت عليه بعض تفسير الثعلبي وأجازني أن أروي عنه جميع ما رواه على اختلاف أنواع الروايات ، وكتب لي خطه بذلك في فهرست سماعي مؤرخا بخامس جمادى الأولى سنة ست وستين وخمسمائة. ومنهم الشيخ مجد الدين أبو الفضل عبد الله بن أحمد الطوسي الخطيب بالموصل ، وهو مشهور بالرواية حتى يقصد لها من الآفاق ، وعاش نيفا وتسعين سنة ، سمعت عليه كثيرا من مسموعاته وأجاز لي جميع ما رواه سنة ثمان وخمسين وخمسماية. ومنهم القاضي فخر الدين أبو الرضا سعيد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري ، سمعت عليه مسند الشافعي رضي‌الله‌عنه ومسند أبي عوانة ومسند أبي يعلى الموصلي وسنن أبي داود ، وكتب لي خطه بذلك وهو في فهرستي ، وسمعت عليه الجامع لأبي عيسى الترمذي وأجاز لي رواية ما رواه وكتب لي خطه بذلك في شوال سنة سبع وستين وخمسمائة. ومنهم الحافظ مجد الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي الأشيري الصنهاجي ، وأجاز لي جميع ما يرويه على اختلاف أنواعه ، وفي فهرستي خطه بذلك مؤرخا بشهر رمضان سنة سبع وخمسين وخمسمائة وفهرسته عندي بذلك. ومنهم الحافظ سراج الدين أبو بكر محمد بن الجياني ، قرأت عليه صحيح مسلم من أوله إلى آخره بالموصل والوسيط للواحدي ، وأجاز لي رواية ما يرويه في تاريخ سنة تسع وخمسين وخمسمائة. فهذه أسماء من حضر في خاطري. وقد سمعت من جماعة لم يحضرني روايتهم عند جمع هذا الكتاب كشهدة الكاتبة في بغداد وأبي المغيث في الحربية والشيخ رضى الدين القزويني المدرس بالنظامية وجماعة شذت عني طرقهم فلم أذكرهم ، إذ كان في هؤلاء غنية. هذا آخر ما ذكره عن نفسه.

وقال غيره : إنه قرأ الفقه علي أبي البركات عبد الله بن الشيرجي المذكور فقيه الموصل ، وكان عالما زاهدا متقشفا ، وتوفي سنة أربع وسبعين بالموصل ، ثم اشتغل بالخلاف على الضياء بن أبي حازم صاحب محمد بن يحيى الشهيد النيسابوري ، ثم باحث في الخلاف متفنني أصحابه كالفخر التوقاني والبروي والعماد التوقاني والسيف الخواري والعماد الميانجي ، ثم انحدر إلى بغداد بعد التأهل التام ونزل بالمدرسة النظامية وترتب فيها معيدا بعد وصوله إليها بقليل ، وأقام معيدا نحو أربع سنين ، والمدرس بها يوم ذاك أبو نصر أحمد ابن عبد الله بن محمد الشاشي ، ثم أصعد إلى الموصل في سنة تسع وستين فترتب مدرسا في المدرسة التي أنشأها القاضي كمال الدين أبو الفضل محمد بن الشهرزوري ولازم الاشتغال

٣٥٩

وانتفع به ، وله كتاب سماه «ملجأ الحكام عند التباس الأحكام» ذكر في أوائله أنه حج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وزار بيت المقدس والخليل عليه‌السلام بعد الحج والزيارة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم دخل دمشق والسلطان صلاح الدين محاصر قلعة كوكب ، فذكر أنه سمع بوصوله فاستدعاه إليه فظن أنه يسأله عن كيفية قتل الأمير شمس الدين ، فإنه كان أمير الحاج في تلك السنة من جهة صلاح الدين وقتل على جبل عرفات لأمر يطول شرحه ، فلما دخل عليه ذكر أنه قابله بالإكرام التام ، وما زاد على السؤال عن الطريق ومن كان فيه من مشايخ العلم والعمل وسأله عن جزء من الحديث ليسمعه عليه ، فأخرج له جزءا جمع فيه أذكار البخاري وأنه قرأه عليه بنفسه ، فلما خرج من عنده تبعه عماد الدين الكاتب الأصبهاني وقال له : السلطان يقول لك : إذا عدت من الزيارة وعزمت على العود فعرّفنا بذلك فلنا إليك مهم ، فأجابه بالسمع والطاعة ، فلما عاد عرّفه بوصوله فاستدعاه وجمع له في تلك المدة كتابا يشتمل على فضائل الجهاد (١) وما أعد الله سبحانه وتعالى للمجاهدين ، يحتوي على مقدار ثلاثين كراسة ، فخرج إليه واجتمع به بقيعة حصن الأكراد وقدم له الكتاب الذي جمعه وقال : إنه كان عزم على الانقطاع في مشهد بظاهر الموصل إذا وصل إليها.

ثم إنه اتصل بخدمة صلاح الدين في مستهل جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وخمسمائة ، ثم ولاه قضاء العسكر والحكم بالقدس الشريف.

ولما توفي صلاح الدين كان حاضرا وتوجه إلى حلب لجمع كلمة الإخوة أولاد صلاح الدين وتحليف بعضهم لبعض ، فكتب الملك الظاهر غياث الدين بن صلاح الدين صاحب حلب إلى أخيه الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين صاحب دمشق يطلبه منه ، فأجابه إلى ذلك ، فأرسله الظاهر إلى مصر لاستخلاف أخيه الملك العزيز عماد الدين عثمان ابن صلاح الدين ، وعرض عليه الظاهر الحكم بحلب فلم يوافق على ذلك ، فلما عاد من هذه الرسالة كان القاضي بحلب قد مات فعرض عليه فأجاب. هكذا ذكره في كتاب «ملجأ الحكام».

__________________

(١) قال فانديك في كتابه «اكتفاء القنوع بما هو مطبوع» في صحيفة ٩٠ : كتاب أحكام الجهاد النبوي لبهاء الدين بن شداد طبع في لندن سنة ١٧٥٥ م باعتناء العلامة سولتنز. ا ه.

٣٦٠