إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٤

القاضي الأبيض قاضي العسكر العادلي ، ولم يزل مدرسا بها إلى أن توفي ليلة الخميس سابع عشري شهر رمضان سنة أربع عشرة وستمائة. وتولى تدريسها بعده الصاحب كمال الدين أبو القاسم عمر بن أبي جرادة ولم يزل مدرسا بها وولده مجد الدين عبد الرحمن ، ولم يزل ينوب عن والده إلى أن استقل بها أخوه جمال الدين محمد ولد الصاحب كمال الدين ، إلى أن كانت فتنة التتر سنة ثمان وخمسين والتدريس بأيديهم إلى زماننا. وقد نزل بها الشيخ باكير الحنفي وكان يدرس بها متبرعا علوما شتى ا ه (كنوز الذهب).

ذكر ما كان بجوارها من الآثار

خانكاه نور الدين :

قال أبو ذر : (خانكاه نور الدين) : خانكاه أنشأها نور الدين محمود بن زنكي في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة في غلبة ظني. قاله ابن شداد : قلت : أظنها التي إلى جانب مدرسة شاذبخت التي بدرب العدول وهو سوق النشابين ، وعلى بابها حوانيت كانت من مصالح هذه الخانكاه من داخلها فأخرجت وجعلت حوانيت ا ه.

وفي الهامش بخط محمد بن عمر الموقع : هذه تعرف الآن بالشيجرية ا ه.

اليشبكية :

قال أبو ذر : (اليشبكية) : تربة ومسجد ومكتب أيتام ، أنشأها يشبك كافل حلب إلى جانب الحوض الذي أنشأه ألطنبغا العلائي ، وجعل في المسجد قارىء حديث وذلك في خامس المحرم سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة ، ووقف عليها السوق المنسوب إليه استأجره من أربابه وعمره ووقفه ، ووقف عليها الجنينة التي يسكنها كافل حلب وغير ذلك ا ه.

وتقدم بعض ذلك في الكلام على تولية حلب للأمير يشبك اليوسفي في الثاني (ص ٤١٩) ولا أثر الآن لهذه التربة ولا لهذا المكتب ، والمسجد باق يسمى جامع سوق العبي تقام به الصلوات ، ولا مدرس فيه ، وهو ما بقي من أوقافه وهي عبارة عن ثمانية حوانيت ونصف تحت يد دائرة الأوقاف.

٣٠١

الشاذبختية التي بظاهر حلب :

قد تقدم اسم بانيها وأين كانت في الشاذبختية التي داخل حلب. أول من درس بها موفق الدين أبو الثنا محمود بن النحاس باعتبار شرط الواقف أن من درس في الجوانية كان إليه التدريس في البرانية ، ولم يزل مدرسا بهما إلى أن توفي في التاريخ الذي قدمنا ذكره.

ثم وليها بعده صفي الدين محمد بن أحمد بن يوسف الأنصاري السلاوي ولم يزل مدرسا بها إلى أن مات في شهر رجب سنة ست عشرة وستمائة ، فوليها بعده ولده شمس الدين محمد ولم يزل مدرسا بها إلى أن توفي ، فوليها بعده نجم الدين أحمد بن الصاحب كمال الدين ابن العديم ولم يزل مدرسا بها إلى أن مات ببلاد الروم وحمل إلى حلب فدفن بها سنة ثمان وثلاثين وستمائة ، فوليها افتخار الدين أبو المفاخر محمد بن يحيى بن محمد بن أبي جرادة المعروف بابن العديم وعليه انقضت الدولة ، وقتل بحلب. وهذه المدرسة لم يبق منها إلا الرسوم ا ه.

وقد تكلمنا على المدرستين في الجزء الثان ي (ص ٧٣).

١٤٩ ـ الملك المسعود بن صلاح الدين يوسف المتوفى سنة ٦٠٣

قال الصلاح الصفدي في حوادث سنة ٦٠٣ : فيها توفي الملك المسعود بن صلاح الدين يوسف بن أيوب بمدينة رأس عين ، وكان قد نام في بيت ومعه ثلاث من خدمه وعندهم منقل نار ولا منفذ في البيت ، فانعكس البخار فأخذ على أنفاسهم فماتوا جميعا ، فحمل المسعود في محفة إلى حلب ودفن فيها ا ه.

١٥٠ ـ أبو الفضل بن يامين الطبيب اليهودي المتوفى سنة ٦٠٤

أبو الفضل بن يامين اليهودي الحلبي المعروف بالشريطي من يهود حلب ، قرأ على شرف الدين الطوسي عند وروده إلى حلب ، وكان الشرف مع إحكامه لعلم الرياضة يحكم أشياء أخر من أصول ، فأخذ هذا اليهودي عنه أطرافا من علوم القوم أحكم منها علم العدد وعلم حل الزيج وتسيير المواليد وعملها ، وشارك في غير ذلك مشاركة غير مفيدة ، وكان يعاني

٣٠٢

في أول أمره جر الشريط ، وكان مجفوا من اليهود ، وربما عانى شيئا من الطب لأوساط الناس ، ثم غلبت عليه السوداء فأفسدت منه محل التخيل. ومات في شهور سنة أربع وستمائة ولم يخلف وارثا ا ه (أخبار العلماء).

١٥١ ـ الحسين بن هبة الله الموصلي المتوفى بعد الستمائة

الحسين بن هبة الله الموصلي المعروف بضياء الدين بن زاهر ، ويعرف بدهن الحصا ، النحوي الأديب الشاعر. قال في البدر السافر : تصدر لإقراء العربية في الموصل وتقرب عند ملكها ، ثم تغير فسافر إلى صلاح الدين وخدم ابنه بحلب ، فرتب له راتبا على الإقراء إلى أن مات بعد الستمائة. ومن شعره :

يبتهج الناس بأعيادهم

لأجل ذبح ولإفطار

وإنما عظم سروري بها

للثم من أهوى بلا عار

أرقبها حولا إلى قابل

لأنها غاية أوطاري

ا ه (بغية الوعاة).

١٥٢ ـ القاضي أسعد بن ممّاتي المصري المتوفى بحلب سنة ٦٠٦

القاضي الأسعد أبو المكارم أسعد بن الخطير أبي سعيد مهذب بن مينا بن زكريا بن أبي قدامة بن أبي مليح مماتي المصري الكاتب الشاعر. كان ناظر الدواوين بالديار المصرية ، وفيه فضائل وله مصنفات عديدة ، ونظم سيرة السلطان صلاح الدين (١) ونظم كتاب كليلة ودمنة ، وله ديوان شعر رأيته بخط ولده ، فمن ذلك قوله :

__________________

(١) وله من الكتب : قوانين الدواوين في نظام حكومة مصر وقوانينها في الدولة الأيوبية ، طبع بمصر سنة ١٢٩٩ وهو من الكتب الإدارية الهامة ، وله أيضا الفاشوش في أحكام قراقوش ، منه خلاصة في المكتبة السلطانية ا ه (آداب اللغة العربية لجرجي زيدان).

وله مختصر الذخيرة لابن بسام منه نسخة في المكتبة الزكية بمصر وفي خزانتنا جزء فيه منتخبات منها. ا ه.

من مقالة في نوادر المخطوطات لأحمد تيمور باشا نشرها في مجلة الهلال.

٣٠٣

تعاتبني وتنهى عن أمور

سبيل الناس أن ينهوك عنها

أتقدر أن تكون كمثل عيني

وحقك ما عليّ أضر منها

وله في شخص ثقيل رآه بدمشق :

حكى نهرين ما في الأر

ض من يحكيهما أبدا

حكى في خلقه ثورا

وفي أخلاقه بردى

وله في غلام نحوي :

وأهيف أحدث لي نحوه

تعجبا يعرب عن ظرفه

علامة التأنيث في لفظه

وأحرف العلّة في طرفه

وله :

سمراء قد أزرت بكل أسمر

بلونها ولينها وقدّها

أنفاسها دخان ندّخالها

وريقها من ماء ورد خدّها

لو كتب البدر إلى خدمتها

رسالة ترجمها بعبدها

وله :

وأكتم السر حتى عن إعادته

إلى المسرّ به من غير نسيان

وذاك أن لساني ليس يعلمه

سمعي بسرّ الذي قد كان ناجاني

وكان الأسعد المذكور قد خاف على نفسه من الوزير صفي الدين بن شكر ، فهرب من مصر مستخفيا وقصد مدينة حلب لائذا بجناب السلطان الملك الظاهر رحمه‌الله ، وأقام بها حتى توفي سنة ست وستمائة وعمره اثنتان وستون سنة ودفن في المقبرة المعروفة بالمقام على جانب الطريق بالقرب من مشهد الشيخ علي الهروي. ومماتي بفتح الميمين والثانية منهما مشددة وهو لقب أبي مليح المذكور ، وكان نصرانيا أسلم هو وجماعته في ابتداء الملك الصالحي ، وإنما قيل له مماتي لأنه وقع في مصر غلاء عظيم وكان كثير الصدقة والإطعام وخصوصا لصغار المسلمين ، فكانوا إذا رأوه ناداه كل واحد منهم مماتي فاشتهر به.

وقال أبو طاهر بن مكنة المغربي يرثيه بهذين البيتين :

٣٠٤

طويت سماء المكرما

ت وكوّرت شمس المديح

من ذا أؤمل أو أرجّي

بعد موت أبي المليح

ا ه (ابن خلكان).

وله في معجم الأدباء لياقوت ترجمة حافلة نقتضب منها ما ذكره من حين خروجه من مصر قاصدا حلب وسبب ذلك ، قال :

كان بين الأسعد وبين الصفي عبد الله بن علي بن شكر ذحل قديم أيام رئاسته عليه ، ووقعت من الأسعد إهانة في حق ابن شكر فحقدها عليه إلى أن تمكن منه ، فلما ورد مصر أحضر الأسعد إليه وأقبل بكليته عليه وفوض إليه جميع الدواوين التي كانت باسمه قديما ، وبقي على ذلك سنة كاملة ، ثم عمل له المؤامرات ووضع عليه المحالات وأكثر فيه التأويلات ولم يلتفت إلى أعذاره ولا أعاره طرفا لاعتذاره ، فنكبه نكبة قبيحة ووجه عليه أموالا كثيرة وطالبه بها ، فلم يكن له وجه لأنه كان عفيفا ذا مروءة ، فأحال عليه الأجناد فقصدوه وطالبوه ، وأكثروا عليه وآذوه ، واشتكوه إلى ابن شكر فحكمهم فيه. فحدثني المؤيد إبراهيم بن يوسف الشيباني قال : سمعت الأسعد يقول علّقت في المطالبة على باب داري بمصر على ظهر الطريق في يوم واحد إحدى عشرة مرة ، فلما رأوا أنني لا وجه لي قيل لي : تحيّل ونجّم هذا المال عليك في نجوم ، فقلت : أما المال فلا وجه له عندي ، ولكن إن أطلقت وملكت نفسي استجديت من الناس وسألت من يخافني ويرجوني ، فلعلي أحصل من هذا الوجه ، فأما من وجه حاصل فليس لي بعد ما أخذتموه مني درهم واحد ، فنجّم المال عليّ وأطلقت وبقيت مديدة إلى أن حل بعض نجوم المال عليّ ، فاختفيت واستترت وقصدت القرافة وأخفيت نفسي في مقبرة الماذرائيين وأقمت بها مدة عام كامل ، وضاق الأمر عليّ فهربت قاصدا للشام على اجتهاد من الأستاذ ، فلحقني في بعض الطريق فارس مجد فسلم علي وسلم إليّ مكتوبا ، ففضضته وإذا هو من الصفي بن شكر يذكر فيه : لا تحسب أن اختفاءك عني كان بحيث لا أدري أين أنت ولا أين مكانك ، فأعلم أن أخبارك كانت تأتيني يوما يوما ، وأنك كنت في قبور الماذرائيين بالقرافة منذ يوم كذا ، وأنني اجتزت هناك واطلعت فرأيتك بعيني ، وأنك لما خرجت هاربا عرفت خبرك ، ولو أردت ردّك لفعلت ، ولو علمت أنك قد بقي لك مال أو حال لما تركتك ، ولم يكن ذنبك عندي

٣٠٥

مما يبلغ أن أتلف معه نفسك ، وإنما كان مقصودي أن أدعك تعيش خائفا فقيرا ممججا (١) في البلاد ، فلا تظن أنك هربت مني بمكيدة صحت لك عليّ ، فاذهب إلي غير دعة الله. قال : وتركني القاصد وعاد ، فبقيت مبهوتا إلى أن وصلت إلى حلب. فحدثني الصاحب جمال الدين الأكرم أدام الله علّوه : لما ورد إلى حلب نزل في داري فأقام عندي مدة وذلك في سنة ٦٠٤ ، وعرف الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين خبره فأكرمه وأجرى عليه. في كل يوم دينارا صوريا وثلاثة دنانير أخرى أجرة دار ، فكان يصل إليه في كل ثلاثة أشهر ثلاثون دينارا غير بر وألطاف ما كان يخليه منها ، وأقام عنده على قدم العطلة إلى سنة ٦٠٦ كما ذكرنا ، ومات فدفن بظاهر حلب بمقام بقرب قبر أبي بكر الهروي. وله تصانيف كثيرة يقصد بها قصد التأدب وفي معرض وقائع تجري ويعرضها على الأكابر لم تكن مفيدة إفادة علمية ، وإنما كانت شبيهة بتصانيف الثعالبي وأضرابه (سردها في المعجم جميعها وهي تزيد على عشرين مؤلفا) ثم قال :

وكان له نوادر حسنة حادة ، منها ما حدثني به الصاحب القاضي الأكرم قال : ركبنا وخرجنا يوما نسير بظاهر حلب ، فكان خروجنا من أحد أبوابها ، ودرنا سور البلد جميعه ثم دخلنا من ذلك الباب فقال : اليوم تسييرنا تدليك ، قلت : كيف؟ قال : من برّا برّا.

وكان السديد بن المنذر وهو رجل فقيه اتصل بالسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بعض الاتصال ، فجعل لنفسه بذلك سوقا واستجلب بما يمتّ به من ذلك وإن كان باطلا رزقا ، وكان أعور رديئا قليل الدين بغيضا ، ولما أحدث الملك الظاهر غازي قناة الماء بحلب وأجراها في شوارعها ودور الناس فوض إلى ابن المنذر النظر في مصالحها ورزق على ذلك رزقا حسنا نحو ثلاثمائة درهم في الشهر ، فسأل عنه الأمير فارس الدين ميمون القصري والأسعد بن مماتي حاضر ، فقال له مسرعا : هو اليوم مستخدم على قناة ، فأعجب بحسن هذه النادرة الحاضرين.

وقيل للأسعد يوما : أي شيء يشبه ابن المنذر؟ فقال : يشبه الزب ، فاستبردوا ذلك وظنوا أنه إنما ذهب إلى عورة فقط ، فقال : مالكم لا تسألونني كيف يشبهه؟ فقالوا :

__________________

(١) لعل الصواب : مهججا.

٣٠٦

كيف؟ قال : هو أقرع أصلع أعور ، يسمع بلا أذن ، يدخل المداخل الرديئة بحدة واجتهاد ويرجع منكسرا. فاستحسن ذلك.

وله شعر ، من ذلك قوله في الثلج في رجب سنة ٦٠٥ :

قد قلت لما رأيت الثلج منبسطا

على الطريق إلى أن ضلّ سالكها

ما بيّض الله وجه الأرض في حلب

إلا لأن غياث الدين مالكها

وقال أيضا فيه :

لما رأت عيني الثلج ساقطا كالأقاحي

وصار ليل الثرى منه أبيضا كالصباح

حسبت ذلك من ذوب در عقد الوشاح

أو من حباب الحميّا

أو من ثغور الملاح

فما على داخل النار بعد ذا من جناح (١)

وقال أيضا فيه :

بسيف غياث الدين غازي بن يوسف بن أيوب دام القتل واتصل الفتح

وشاهدته في الدست والثلج دونه

فقلت سليمان بن داود والصرح

وقال أيضا فيه :

مذ رأينا الصبح يزدا

ن ويزداد انفراشا

وحسبنا نوره يط

رد من خلف الفراشا

نثر الثلج علينا

ياسمينا وفراشا

ورأى أن يرسل الأس

هم بالبرد فراشا

فغدا الكافور في عن

برة الأرض فراشا

وقال أيضا فيه :

لما رأت عيني الثلج خلته الياسمينا

__________________

(١) في الأصل : من صباح. وهو تصحيف.

٣٠٧

وقلت من عجب منه أصبح الآس مينا

وخلته من ثغور الملاح للّاثمينا

فما أرادوا من الد

ر قطّ إلا ثمينا

وقال فيه أيضا :

لما رأيت الثلج قد

أصحت به الأرض سما

وأنست الصبي الصبا

وأذكرت جهنما

خفت فما فتحت من

تعاظم الخوف فما

فإن نما صبري وه

وناقص فإنما

وقال فيه أيضا :

لما رأيت الثلج قد

غطّى الوهاد والقنن

سألت أهل حلب

هل تمطر السما اللبن

نقل من خطه ومن شعره أيضا :

وحياة ذاك الوجه بل وحياته

قسم يريك الحسن في قسماته

لأرابطنّ على الغرام بثغره

لأفوز بالمرجوّ من حسناته

وأجاهدن عواذلي في حبّه

بالمرهفات عليّ من لحظاته

قد صيغ من ذهب وقلّد جوهرا

فلذاك ليس يجوز أخذ زكاته

وله أيضا :

يعاهدني أن لا يخون وينكث

ويحلف لي ألا يصدّ ويحنث

ومن أعجب الأشياء أنك ساكن

بقلبي وأني عن مكانك أبحث

وللحسن يالله طرف مذكّر

يتيه به عجبا وطرف مؤنّث

١٥٣ ـ علي بن محمد بن خروف النحوي الأندلسي المتوفى سنة ٦٠٩

علي بن محمد بن خروف الأندلسي ، حضر من إشبيلية وكان إماما في العربية محققا مدققا ماهرا عارفا مشاركا في علم الأصول ، صنف شرحا لكتاب سيبويه جليل الفائدة

٣٠٨

وحمله إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار ، وشرحا للجمل ، وكتابا في الفرائض. وله رد على أبي زيد السهيلي وعلى جماعة في العربية. أقرأ النحو في بلاد عديدة ، وأقام بحلب مدة ، واختل عقله بأخرة حتى مشي في الأسواق عريانا بادي العورة مكشوف الرأس. وتوفي سنة تسع وستماية.

ومن شعره في كأس :

أنا جسم للحميّا

والحميّا لي روح

بين أهل الظرف أغدو

كلّ يوم وأروح

وقال في مليح حبسه القاضي :

أقاضي المسلمين حكمت حكما

أتى وجه الزمان به عبوسا

حبست على الدرهم ذا جمال

ولم تحبسه إذ سلب النفوسا

كتب إلى قاضي القضاة محيي الدين بن الزكي يستقيله من مشارفة مارستان نور الدين ، وكان بوابه يسمى السّيد وهو في اللغة الذئب :

مولاي مولاي أجرني فقد

أصبحت في دار الأسى والحتوف

وليس لي صبر على منزل

بوّابه السّيد وجدّي خروف

ودعاه نجم الدين بن اللهيب إلى طعامه فلم يجبه وكتب إليه :

ابن اللهيب دعاني

دعاء غير نبيه

إن سرت يوما إليه

نوى الذي في أبيه

وقال أيضا :

يا ابن اللهيب جعلت مذهب مالك

يدعو الأنام إلى أبيك ومالك

يبكى الهدى ملء الجفون وإنما

ضحك الفساد من الصلاح الهالك

وقد قال فيه أيضا :

لابن اللهيب مذهب

في كل غي قد ذهب

يتلو الذي يبصره

تبّت يدا أبي لهب

٣٠٩

وقال في نيل مصر :

ما أعجب النيل ما أحلى شمائله

في ضفتيه من الأشجار أرواح

من جنة الخلد فيّاض على ترع

تهبّ فيها هبوب الريح أرواح

ليست زيادته ماء كما زعموا

وإنما هي أرزاق وأرواح

ا ه من فوات الوفيات (لابن شاكر).

وذكر ابن خلكان في ترجمة القاضي بهاء الدين بن شداد المتوفى سنة ٦٣٢ قال : أخبرني جماعة ممن كانوا عنده قبل وصولنا إليه أنه قدم عليه الأديب نظام الدين علي بن محمد القيسي القرطبي المعروف بابن خروف الشاعر المشهور ، فكتب إليه رسالة وفي أولها أبيات يستجديه فروة قرظ ، وهي :

بهاء الدين والدنيا

ونور المجد والحسب

طلبت مخافة الأنوا

ء من نعماك جلد أبي

وفضلك عالم أني

خروف بارع الأدب

حلبت الدهر أشطره

وفي حلب صفا حلبي

ذو الحسب الباهر ، والنسب الزاهر ، يسحب ذيول سيراء السرّاء ، ويحب النحاة من أجل الفرّاء ، ويمن على الخروف النبيه ، بجلد أبيه ، قاني الصباغ ، قريب عهد بالدباغ ، ما ضل طالب قرظة ولا ضاع ، بل ذاع ثناء صانعه وضاع ، أثيث خمائل الصوف ، يهزأ من الرياح بكل هوجاء عصوف ، إذا ظهر إهابه ، يخافه البرد ويهابه ، ما في الثياب له ضريب ، إذا نزل الجليد والضريب ، ولا في اللباس له نظير ، إذا عري من ورقه الغصن النضير ، لا كطيلسان ابن حرب ، ولا جلد عمرو الممزق بالضرب ، كأنه من جلد حمل الحربا ، الذي يراعي البدور والنجم لا من جلد السخلة الجربا ، التي ترعى الشجر والنجم ، فرجي النوع ، أرجي الضوع ، ليكون تارة لحافا وتارة بردا ، وهو في الحالين يحيي حرا ويميت بردا ، لا يزال مهديه سعيدا ، ينجز للأولياء وعدا وللأعداء وعيدا ، إن شاء الله تعالى والسلام.

قال ابن خلكان : وفي هذه الرسالة كلام يحتاج إلى ايضاح ، وهو قوله : (لاكطيلسان

٣١٠

ابن حرب) ، وهو مثل مشهور بين الأدباء ، فإذا كان الشيء باليا شبهوه بطيلسان ابن حرب ، ولذلك سبب لابد من ذكره وهو أن أحمد بن حرب ابن أخي يزيد المهلي أعطى أبا علي إسماعيل بن إبراهيم بن حمدويه البصري الحمدوي الشاعر الأديب طيلسانا خليعا ، فعمل فيه الحمدوي مقاطيع عديدة ظريفة سارت عنه وتناقلتها الركبان ، فمن ذلك قوله من أبيات :

يا ابن حرب كسوتني طيلسانا

ملّ من صحبة الزمان فصدّا

طال ترداده إلى الرفو حتى

لو بعثناه وحده لتهدّا

وساق ابن خلكان ما قاله الحمدوي من الشعر في هذا الطيلسان ويطول الشرح لو نقلنا هنا جميع ما قاله. ثم قال : ويقال إنه عمل في هذا الطيلسان مائتي مقطوع في كل مقطوع معنى بديع. وأما قوله : (ولا جلد عمر والممزق بالضرب) فيريد قول النحاة : ضرب زيد عمرا ، فإنهم أبدا يستعملون هذا المثال ولا يمثلون بغيره ، فكأنهم يمزقون جلده لكثرة الضرب ا ه.

أقول : يوجد نسخة من شرحه لكتاب سيبويه في الخزانة التيمورية بمصر ، إلا أنها ناقصة من أولها.

١٥٤ ـ أبو الحجاج يوسف الإسرائيلي الطبيب المتوفى أوائل هذه المائة

أبو الحجاج يوسف الإسرائيلي مغربي الأصل من مدينة فاس ، وأتى إلى الديار المصرية ، وكان فاضلا في صناعة الطب والهندسة وعلم النجوم ، واشتغل في مصر بالطب على الرئيس موسى بن ميمون القرطبي ، وسافر يوسف بعد ذلك إلى الشام وخدم الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وكان يعتمد عليه في الطب ، وخدم أيضا الأمير فارس الدين ميمون القصري.

ولم يزل أبو الحجاج يوسف مقيما في حلب ويدرس في صناعة الطب إلى أن توفي بها.

وله من الكتب رسالة في ترتيب الأغذية اللطيفة والكثيفة في تناولها. شرح الفصول لأبقراط ا ه (طبقات الأطباء).

٣١١

١٥٥ ـ عيسى بن سعدان الشاعر المتوفى بعد الستمائة

قال ياقوت في المعجم في الكلام على جبل السمّاق : إنه جبل عظيم من أعمال حلب الغربية ، يشتمل على مدن كثيرة وقرى وقلاع عامتها للإسماعيلية الملحدة ، وأكثرهم في طاعة صاحب حلب ، وفيه بساتين ومزارع كلها عذي ، والمياه الجارية به قليلة إلا ما كان من عيون ليست بالكثيرة في مواضع مخصوصة ، ولذلك تنبت فيه جميع أشجار الفواكه وغيرها حتى المشمش والقطن والسمسم وغير ذلك. وقيل إنه سمي بذلك لكثرة ما ينبت فيه من السمّاق. وقد ذكره شاعر حلبي عصري يقال له عيسى بن سعدان ولم أدركه فقال :

وليلة بتّ مسروق الكرى أرقا

ولهان أجمع بين البرء والخبل

حتى إذا نار ليلي نام موقدها

وأنكر الكلب أهليه من الوهل

طرقتها ونجوم الليل مطرقة

وحلت عنها وصبغ الليل لم يحل

عهدي بها في رواق الصبح لامعة

تلوي ضفائر ذاك الفاحم الرجل

وقولها وشعاع الشمس منخرط

حييت يا جبل السمّاق من جبل

يا حبذا التلعات الخضر من حلب

وحبذا طلل بالسفح من طلل

يا ساكني البلد الأقصى عسى نفس

من سفح جوشن يطفي لاعج الغلل

طال المقام فواشوقا إلى وطن

بين الأحصّ وبين الصحصح الرمل

ماذا يريد الهوى مني وقد علقت

إني أنا الأرقم ابن الأرقم الدغل

البيت الأخير من تاريخ ابن شداد.

وأورد له في الكلام على باب الجنان قوله :

يا لبرق كلما لاح على

حلب مثّلها نصب عياني

بات كالمذبوب في شاطي قويق

ناشر الطرّة مسحوب الجران

كلما مرت به ناسمة

موهنا جنّ على باب الجنان

ليت شعري من ترى أرسله

أنسيم البان أم رفع الدخان

وأورد له في الكلام على فامية وليلون :

٣١٢

يا دار علوة ما جيدي بمنعطف

إلى سواك ولا قلبي بمنجذب

ويا قرى الشام من ليلون لا بخلت

على بلادكم هطّالة السحب

ما مر برقك مجتازا على بصري

إلا وذكرني الدارين من حلب

ليت العواصم من شرقي فامية

أهدت إليّ نسيم البان والغرب

ما كان أطيب أيامي بقربهم

حتى رمتني عوادي الدهر من كثب

وأورد له في الكلام على الدارين ، وهو ربض الدارين بحلب ، وهو مكان نزه خارج باب أنطاكية قوله :

يا سرحة الدارين أية سرحة

مالت ذوائبها عليّ تحنّنا

أرسى بواديك الغمام ولا غدا (١)

نفس الخزامى الحارثيّ وجوشنا

أمنفّرين الوحش من أبياتكم

حبا لظبيكم أسا أو أحسنا

أشتاقه والأعوجية دونه

ويصدني عنه الصوارم والقنا

وأورد له أبياتا في الكلام على دابق ذكرناها في الجزء الأول (ص ١٢٠).

١٥٦ ـ علي بن أبي بكر الهروي المتوفى سنة ٦١١

أبو الحسن علي بن أبي بكر بن علي الهروي الأصل الموصلي المولد السايح المشهور نزيل حلب. طاف البلاد وأكثر من الزيارات ، وكاد يطبق الأرض بالدوران ، فإنه لم يترك برا ولا بحرا ولا سهلا ولا جبلا من الأماكن التي يمكن قصدها ورؤيتها إلا رآه ، ولم يصل إلى موضع إلا كتب خطه في حائطه ، ولقد شاهدت ذلك في البلاد التي رأيتها مع كثرتها. ولما سار ذكره بذلك واشتهر به ضرب به المثل فيه.

ورأيت لبعض المعاصرين وهو ابن شمس الخلافة جعفر بيتين في شخص يستجدي من الناس بأوراقه ، وقد ذكر فيهما هذه الحالة ، وهما :

أوراق كديته في بيت كل فتى

على اتفاق معان واختلاف روي

قد طبّق الأرض من سهل ومن جبل

كأنه خطّ ذاك السائح الهروي

__________________

(١) هكذا في الأصل وفي معجم البلدان ، ولعل الصواب : عدا.

٣١٣

وإنما ذكرت البيتين استشهادا بهما على ما ذكرته من كثرة زيارته وكتب خطه.

وكان مع هذا فيه فضيلة وله معرفة بعلم السيميا ، وبه تقدم عند الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين صاحب حلب ، وأقام عنده وكان كثير الرعاية له.

وبنى له مدرسة بظاهر حلب وفي ناحية منها قبة وهو مدفون فيها ، وفي تلك المدرسة بيوت كتب على باب كل بيت منها ما يليق به. ورأيته كتب على باب الميضاة : بيت المال في بيت الماء ، ورأيت في قبته معلقا عند رأسه غصنا وهو حلقة خلقية ليس فيه صنعة وهو أعجوبة ، وقيل إنه رآه في بعض سياحاته فاستصحبه وأوصى أن يكون عند رأسه ليعجب منه من يراه.

وله مصنفات منها : «كتاب الإشارات في معرفة الزيارات» (١) ، وكتاب «الخطب الهروية» (٢) ، وغير ذلك.

ورأيت في بعض حائط الموضع الذي يلقي فيه الدروس من المدرسة المذكورة بيتين مكتوبين بخط حسن وكأنهما كتابة رجل فاضل نزل هناك قاصدا الديار المصرية ، فأحببت ذكرهما لحسنهما وهما :

رحم الله من دعا لأناس

نزلوا ها هنا يريدون مصرا

نزلوا والخدود بيض فلما

أزف البين عدن بالدمع حمرا

وتوفي في شهر رمضان في العشر الأوسط سنة إحدى عشرة وستمائة في المدرسة المذكورة ، ودفن في القبة رحمه‌الله تعالى.

والهروي بفتح الهاء والراء وبعدها واو وهذه النسبة إلى مدينة هراة وهي إحدى كراسي مملكة خراسان ، بناها الإسكندر ذو القرنين عند مسيره إلى المشرق ا ه (ابن خلكان).

قال في كنوز الذهب : قال جمال الدين بن واصل : كان عارفا بأنواع الحيل والشعبذة ،

__________________

(١) تكلمنا على هذا الكتاب في الفصل الثاني من المقدمة وذكرنا ثمة ما يوجد من نسخة في المكاتب ومنه نسخة في مكتبة قره جلبي في الآستانة ونمرتها ٢١٠.

(٢) يوجد نسخة منه في برلين.

٣١٤

وصنف خطبا وقدمها للناصر لدين الله ، فوقّع له بالحسبة في سائر البلاد وإحياء ما شاء من الموات والخطابة بحلب.

وكان هذا التوقيع بيده له به شرف ولم يباشر شيئا من ذلك. انتهى. قلت : قد سمع من عبد المنعم الفراوي تلك الأربعين السباعية ، وروى عنه الصدر البكري وغيره ، ورأيت له المزارات والمشاهد التي عاينتها في البلاد ا ه.

أقول : موضع المدرسة وراء الرباط المشهور الآن بجامع الفردوس خارج محلة باب المقام ، بين المدرسة والرباط مقدار رمية سهم ، ولم يبق منها إلا آثار جدرانها وأحجار بابها ، وحولها كرم ، وقبره باق ضمن القبة مكتوب عليه وعلى أطرافه آية : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(١) ... إلخ ، فسبحان الباقي بعد فناء خلقه.

وذكر له في الكشف من المؤلفات : «منازل الأرض ذات الطول والعرض». قال : وذكر في إشاراته أنه كتبه واستوعب فيه ما قدر عليه ووصل إليه في سياحته.

وذكر له جرجي زيدان في تاريخ آداب اللغة العربية (صحيفة ٨٨ جلد ٣) من المؤلفات «التذكرة الهروية في الحيل الحربية» قال : وهو من كتب السياسة والحرب ضمنه ما يحتاج إليه الملوك في سياسة الرعية وما يعتمدون عليه في الحرب وما يدخرونه لدفع المشكلات مما يؤول إلى بقاء دولتهم وحفظ بلادهم ، في (٢٤) بابا في واجبات السلطان والوزراء والحجاب والولاة والقضاة وأرباب الديوان والجلساء والرسل والحيلة في إرسالهم والجواسيس وأصحاب الأخبار وجمع المال والذخائر وآلة الحرب وبناء الحصون وغير ذلك. منه نسخة في المكتبة السلطانية في جملة كتب أحمد زكي باشا في ١٥٦ صحيفة ا ه.

تتمة الكلام على المدرسة الهروية

تكلمنا في الجزء الثاني في صحيفة (١٨٤) على هذه المدرسة. ثم وجدت أبا ذر في كنوز الذهب تكلم عليها فأحببت إلحاق ما ذكره هنا تتمة للفائدة ، قال :

هذه المدرسة خارج باب المقام. قال ابن شداد : أنشأها الشيخ أبو الحسن علي بن

__________________

(١) لقمان : ٢٦.

٣١٥

أبي بكر الهروي. وأعلم أن الشيخ عليا المذكور مدفون في قبة جانب هذه المدرسة ، وبناء القبة قيل هو كهيئة الكعبة ، فلذلك كانت خاملة في الزايات (١) ، ومكتوب عليها حكم ومواعظ ، وبها بئر من خارجها تنسب إلى سيدنا الخليل عليه‌السلام ، وقد قال الهروي المذكور : إن هذه البئر ظهرت بهذه التربة. ومن المواعظ التي على تربته من كلامه :

قل لمن يغترّ بالدنيا وقد طال عناه

هذه تربة من شيد هذا وبناه

طال ما أتعبه الحرص وقد هدّ قواه

طلب الراحة في الدنيا فما نال مناه

سلكت القفار وطفت الديار وركبت البحار ، ورأيت الآثار وسافرت البلاد وعاشرت العباد ، فلم أجد صديقا صادقا ، ولا رفيقا موافقا ، فمن قرأ هذا الخط فلا يغتر بأحد قط. ابن آدم دع الاحتيال فما يدوم حال ، ولا تغالب التقدير فلن يفيد التدبير ، ولا تحرص على جمع مال ينتقل إلى من لا ينفعك شكره ويبقى عليك وزره. سبحان مشتت العباد في البلاد ، وقاسم الأرزاق في الآفاق ، هذه تربة الغريب الوحيد علي بن أبي بكر الهروي ، عاش غريبا ومات وحيدا ، لا صديق يدنيه ولا خليل ينعيه ، ولا أهل يرونه ولا إخوان يقصدونه ، ولا ولد يطلبه ولا زوجة تنادمه. آنس الله وحدته ورحم غربته. وهو القائل :

طفت البلاد مشارقا ومغاربا

ولكم صحبت لسائح وحبيس

ورأيت كلّ غريبة وعجيبة

ورأيت هولا في رخا وبؤوسي

أصبحت من تحت الثرى في وحدة

أرجو إلهي أن يكون أنيسي

الطمع يذل الأنفس العزيزة ويستخدم العقول الشريفة.

(وعلى قبره) : يا عزيز أرحم الذليل ، يا قادر ارحم العاجز. يا باقي ارحم الفاني ، يا حي ارحم الميت. اللهم إني ضيفك ونزيلك وفي جوارك وفي حرمك. وأنت أول من أكرم ضيفه ورحم جاره وأعان نزيله ، يا رب يا مغيث.

__________________

(١) لعل الصواب : حافلة في الزيارات.

٣١٦

(وعلى باب خارج تربته في الحوش) : فرّ من الخلق فرارك من الأسد.

(وعلى باب الميضاة) : بيت المال في بيت الماء.

وأول من درّس بها في زمانه موفق الدين أبو القاسم بن عمر الكردي الحميدي ، ولم يزل مدرسا بها إلى أن خرج عنها ، وكانت وفاته سنة عشر وستماية. ثم درّس فيها الشيخ الإمام شمس الدين حامد بن أبي العميد القزويني ، ولم يزل مدرسا بها إلى أن توفي ثامن عشري جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وستماية ، ومولده سنة ٥٤٧ ، ووليها بعده ولده عماد الدين محمد ولم يزل بها إلى أن كانت فتنة التتر ، فدثر بعضها ولم يبق بها ساكن ، وخرب وقفها لأنه كان سوقا بالحاضر ا ه.

١٥٧ ـ عبد القادر الرهاوي ثم الحرّاني المتوفى سنة ٦١٢

عبد القادر بن عبد الله الفهمي الرهاوي ثم الحراني المحدث الحافظ الرحّال أبو محمد محدث الجزيرة. ولد في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وخمسمائة بالرها.

صنف في الفرائض والحساب وجمع مجاميع مفيدة ، منها كتاب «الأربعين» الذي خرجه بأربعين إسنادا لا يتكرر فيه رجل واحد من أولها إلى آخرها مما سمعه في أربعين مدينة ، وهو كبير في مجلدتين ، وكتاب «المادح والممدوح» يتضمن ترجمة شيخ الإسلام الأنصاري وذكر من مدحه وكذلك مادحو مادحيه ، وقد طال الكتاب بذلك. توفي يوم السبت ثاني جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وستماية بحران رحمه‌الله ا ه (الدر المنضد).

وترجمة ابن عبد الهادي في طبقات الحفاظ فقال : هو عبد القادر بن عبد الله الإمام الحافظ الرحّال أبو محمد الرهاوي الحنبلي محدث الجزيرة. ولد بالرها سنة ست وثلاثين وخمسماية ونشأ بالموصل ، وكان مملوكا لبعض التجار فأعتقه ، فطلب العلم وأقبل على الحديث ، وسمع مسعود بن الحسن الثقفي وأبا جعفر محمد بن الحسن الصيدلاني ومعمر ابن الفاخر وعبد الرحيم بن أبي الوفا وطبقتهم بأصبهان ، وأبا العلاء الحافظ بهمذان ، وعبد الجليل بن أبي سعد بهراة ، وأبا محمد بن الخشاب وخلقا ببغداد ، وابن عساكر بدمشق ، والسلفي أبا طاهر بالإسكندرية ، وسمع بنيسابور ومرو وسجستان وواسط والموصل وغيرها ، وعمل الأربعين المتباينة الإسناد في مجلد. حدث عنه ابن نقطة وزكي الدين البرزالي

٣١٧

والحافظ الضياء بن خليل والصريفيني وإسمعيل بن ظفر وابن عبد الكريم وعبد العزيز بن الصيقل وابن حمدان الفقيه وآخرون.

قال ابن نقطة : كان عالما ثقة مأمونا صالحا إلا أنه كان عسرا في الرواية لا يكثر عنه إلا من أقام عنده.

وقال يوسف بن خليل : كان حافظا ثبتا كثير السماع كثير التصنيف متقنا ختم به علم الحديث.

وقال أبو محمد المنذر : كان حافظا ثقة راغبا في الإنفراد عن أرباب الدنيا. وقال أبو شامة : كان صالحا مهيبا زاهدا ناسكا خشن العيش ورعا.

مات بحران في جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وستماية ا ه.

وترجمه ياقوت في معجم البلدان في الكلام على الرها ، ومما قاله : أنه سكن بالموصل بدار الحديث المظفرية مدة يحدث ، وسكن بأخرة بحرّان ، وكان ثقة صالحا ، وأكثر سفره في طلب الحديث والعلم كان على رجله ، وخلف كتبا وقفها بمسجد كان يسكنه بحرّان ا ه.

١٥٨ ـ مسعود بن الفضل النقاش الشاعر المتوفى سنة ٦١٣

مسعود بن الفضل بن أبي الحسن الكامل الأديب أبو الفتح الحلبي النقاش الشاعر. كان مختصا بالظاهر غازي. توفي بحلب سنة عشر وستمائة عن أربع وسبعين سنة ، وقيل وفاته سنة ثلاث وستمائة والصحيح الأول. ومن شعره :

أصل تلافي من تلافيكم

فعلموني كيف أرضيكم

قلبتم قلبي وما خلته

يشقى وقد أصبح يؤويكم

أحبابنا هذا الظلوم الذي

يقتلني في الحب يفتيكم

وأيّ خلق الله يرضى لكم

بفتّ أكباد محبّيكم

لا متّعت عيني بكم إن رأت

واستحسنت غير معانيكم

٣١٨

ولا أسفت (١) روحي بلقياكم

إن حدثتني بتسليكم

وقال أيضا :

مالي سوى حبكم مذهب

ولا إلى غيركم مذهب

بددتم شملي فيا هل ترى

يجمعني يوما بكم مذهب

وساح دمعي في هواكم دما

فصرت فيكم مثلا يضرب

أبكي وأنتم نصب عيني كما

يغصّ بالماء الذي يشرب

وقال أيضا :

أيّ يد عندي وأيّ منّه

للركب إن بشّرني بهنّه

صاحوا الرحيل فظللت والها

أنشد قلبي بعد عنسهنّه

كالتي بالحي قد شدوا العرى

ليلهم وأرخوا الأعنّه (٢)

وما سمعت قبل أن يرتحلوا

بمطلع الشهب من الأسنّه

يا حادي الأظعان ربّ فرج

أحدثه طيب حد يثهنّه

شرعت السجوف عن بهيّ

تحسبها الأقمار في الدجنّه (٢)

وشعره كثير منسجم من هذه النسبة.

قال أبو الفتح المذكور : اشتريت من دمشق فاكهة بأربعين درهما وقوسين بأربعين وقصدت شيزر ، فنزلت بخان في الربض فأخبر صاحبها مسعود بخبري فاستدعاني فدخلت عليه وقدمت له الهدية وانشدته أبياتا غزلا ومديحا ، فلما أنهيتها أخرج من تحت طراحته خمسة دراهم وقال : أنفق هذه عليك الليلة فطباخنا مريض ، فنزلت إلى الخان ، فلما كان صبيحة ذلك اليوم جاءني أستاداره وقال : الأمير يسلم عليك ويقول لك : كم ثمن الفاكهة والقوسين؟ قلت : معاذ الله أن أذكر ثمنا ، وإنما أهديتهما للأمير ، فقال : لابد ، فقلت : اشتريتهما من دمشق بثمانين واكتريت لي ولهما بعشرين درهما ، فمضى وعاد ومعه مائة

__________________

(١) لعل الصواب : ولا اشتفت ..

(٢) هكذا في الأصل.

٣١٩

درهم وقال : هو يعتذر إليك وما في الخزانة شيء ، فامتنعت من أخذها وخرجت من شيزر ولم أبت بها وقلت :

ما أليق النحس بمسعودكم

على الورى يا ساكني شيزر

فيا ملوك الأرض هموا به

فإنه والله شيء زري

ا ه (الوافي بالوفيات للصفدي).

قال في الكشف : ديوان مسعود بن الفضل الحلبي المعروف بابن فطيس في مجلدين.

١٥٩ ـ محمد بن يوسف بن الخضر المتوفى سنة ٦١٤

محمد بن يوسف بن الخضر بن عبد الله الحلبي ، عرف بابن الأبيض. كان والده نائبا عن قاضي القضاة محيي الدين بن الزكي ، وتولى قضاء العسكر ثم انتقل إلى حلب ودرس بالشاذبختية. وولد بحلب في صفر سنة ستين وخمسمائة ، ومات بحلب في رمضان سنة أربع عشرة وستمائة. وهو القائل :

ألا كل من لا يقتدي بأئمة

فقسمته ضيزى عن الحق خارجه

فخذهم : عبيد الله عروة قاسم

سعيد أبو بكر سليمان خارجه

قال المنذري في التكملة : مات فجأة ، صلى التراويح وسلم. وقيل إنه توفي وهو ساجد.

قال : وسمع بحلب من والده ، وبدمشق من أبي طاهر بركات الخشوعي ، وقدم مصر وسمع بها من الحافظ علي بن المفضل المقدسي ، ودرس بدمشق بمسجد خاتون وغيرها وحدث ا ه (ط ح قرشي).

وقال أيضا في آخر الكتاب في باب من عرف بابن فلان : ابن الأبيض ، تفقه على والده يوسف وعلى العلامة أبي بكر الكاساني صاحب البدايع وعلى برهان الدين مسعود ، وتفقه عليه أبو القاسم عمر بن أحمد بن العديم مؤرخ حلب ا ه.

٣٢٠