إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٤

ومن شعره المشهور قوله :

أبدا تحن إليكم الأرواح

ووصالكم ريحانها والراح

وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم

وإلى لذيذ لقاكم ترتاح

وارحمة للعاشقين تكلفوا

ستر المحبة والهوى فضّاح

بالسرّ إن باحوا تباح دماؤهم

وكذا دماء العاشقين تباح

وإذا هم كتموا تحدّث عنهم

عند الوشاة المدمع السفّاح

وبدت شواهد للسقام عليهم

فيها لمشكل أمرهم إيضاح

خفضوا الجناح لكم وليس عليهم

للصب في خفض الجناح جناح

فإلى لقاكم نفسه مرتاحة

وإلى رضاكم طرفه طمّاح

عودوا بنور الوصل من غسق الجفا

فالهجر ليل والوصال صباح

صافاهم فصفوا له فقلوبهم

في نورها المشكاة والمصباح

وتمتعوا فالوقت طاب بقربكم

راق الشراب ورقّت الأقداح

مترنحا وهو الغزال الشارد

وبخده الصهباء والتفاح

وبثغره الشهد الشهيّ وقد بدا

في أحسن الياقوت منه أفاح

يا صاح ليس على المحب ملامة

إن لاح في أفق الوصال صباح

لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى

كتمانه فنمى الغرام فباحوا

سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها

لما دروا أن السماح رباح

ودعاهم داعي الحقائق دعوة

فغدوا بها مستأنسين وراحوا

ركبوا على سنن الوفا ودموعهم

بحر وشدّة شوقهم ملّاح

والله ما طلبوا الوقوف ببابه

حتى دعوا وأتاهم المفتاح

لا يطربون لغير ذكر حبيبهم

أبدا فكل زمانهم أفراح

حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم

فتهتكوا لما رأوه وصاحوا

أفناهم عنهم وقد كشفت لهم

حجب البقا فتلاشت الأرواح

فتشبهوا في أن تكونوا مثلهم

إن التشبه بالكرام فلاح

قم يا نديم إلى المدام فهاتها

في كاسها قد دارت الأقداح

من كرم إكرام بدنّ ديانة

لا خمرة قد داسها الفلّاح

٢٨١

وله في النظم والنثر أشياء لطيفة لا حاجة إلى الإطالة بذكرها.

وكان شافعي المذهب ، ويلقب بالمؤيد بالملكوت ، وكان يتهم بانحلال العقيدة والتعطيل ويعتقد مذهب الحكماء المتقدمين ، واشتهر ذلك عنه ، فلما وصل إلى حلب أفتى علماؤها بإباحة قتله بسبب اعتقاده وما ظهر لهم من سوء مذهبه. وكان أشد الجماعة عليه الشيخان زين الدين ومجد الدين أبناء جهبل.

وقال الشيخ سيف الدين الآمدي المقدم ذكره في حرف العين : اجتمعت بالسهروردي في حلب فقال لي : لابد أن أملك الأرض ، فقلت له : من أين لك هذا؟ قال : رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر ، فقلت : لعل هذا يكون اشتهار العلم وما يناسب هذا ، فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه ، ورأيته كثير العلم قليل العقل.

ويقال إنه لما تحقق القتل كان كثيرا ما ينشد :

أرى قدمي أراق دمي

وهان دمي فها ندمي

والأول مؤخوذ من قول أبي الفتح علي بن محمد البستي :

إلى حتفي مشى قدمي

أرى قدمي أراق دمي

فلم أنفكّ من ندم

وليس بنافعي ندمي

وكان ذلك في دولة الملك الظاهر صاحب حلب ابن السلطان صلاح الدين رحمه‌الله ، فحبسه ثم خنقه بإشارة والده السلطان صلاح الدين ، وكان ذلك في خامس رجب سنة سبع وثمانين بقلعة حلب وعمره ثمان وثلاثون سنة.

وقال القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد قاضي حلب في أوائل سيرة صلاح الدين : وكان رحمه‌الله عليه كثير التعظيم لشعائر الدين ، يقول ببعث الأجسام ونشورها ، ومجازاة المحسن بالجنة والمسيء بالنار ، مصدقا بجميع ما وردت به الشرائع ، منشرحا بذلك صدره ، مبغضا للفلاسفة والمعطلة ومن يعاند الشريعة. ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر أعز الله أنصاره بقتل شاب نشأ يقال له السهروردي قيل عنه إنه كان معاندا للشرائع مبطلا ،

٢٨٢

وكان قد قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره وعرّف السلطان به ، فأمر بقتله فطلبه أياما فقتله (١).

ونقل سبط ابن الجوزي في تاريخه عن ابن شداد المذكور أنه قال : لما كان يوم الجمعة بعد الصلاة سلخ ذي الحجة سنة سبع وثمانين وخمسمائة أخرج الشهاب السهروردي ميتا من الحبس بحلب ، فتفرق عنه أصحابه. قلت : وأقمت بحلب سنين للاشتغال بالعلم الشريف ورأيت أهلها مختلفين في أمره وكل واحد يتكلم على قدر هواه ، فمنهم من ينسبه إلى الزندقة والإلحاد ، ومنهم من يعتقد فيه الصلاح وأنه من أهل الكرامات ، ويقولون ظهر لهم بعد قتله ما يشهد له بذلك (٢). وأكثر الناس على أنه كان ملحدا لا يعتقد شيئا نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة ، وأن يتوفانا على مذهب أهل الحق والرشاد.

وهذا الذي ذكرته في تاريخ قتله هو الصحيح وهو خلاف ما نقلته في أول هذه الترجمة.

وحبش بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة وبالشين المعجمة ، وأميرك بفتح الهمزة وبعدها ميم مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة وبعدها راء مفتوحة ثم كاف ، وهو إسم أعجمي معناه أمير تصغير أمير ، وهم يلحقون الكاف في آخر الأسم للتصغير. وسهرورد بضم السين وسكون الهاء وفتح الراء والواو وسكون الراء الثانية وفي آخرها دال مهملة ، وهي بليدة من أعمال زنجان من عراق العجم ا ه ما في ابن خلكان.

وقال ابن أبي أصيبعة في طبقاته عيون الأنباء : ومن نظمه :

فز بالنعيم فإن عمرك ينفد

وتغنّم الدنيا فليس مخلّد

وإذا ظفرت بلذة فانهض بها

لا يمنعنّك عن هواك مفنّد

وصل الصبوح مع الغبوق فإنما

دنياك يوم واحد يتردد

وعدوك تشرب في الجنان مدامة

ولتندمنّ إذا أتاك الموعد

كم أمة هلكت ودار عطلت

ومساجد خربت وعمر معهد

__________________

(١) لم ينقل ابن خلكان عبارة ابن شداد كلها وقد نقلناها عنه برمتها.

(٢) أقول : يؤيد هذا ما ذكره في الطبقات أن الملك الظاهر بعد مدة نقم على الذين أفتوا في دمه وقبض على جماعة منهم واعتقلهم ... إلخ ما تقدم.

٢٨٣

ولكم نبي قد أتى بشريعة

قدما وكم صلوا لها وتعبدوا

وقال أيضا :

أقول لجارتي والدمع جار

ولي عزم الرحيل عن الديار

ذريني أن أسير ولا تنوحي

فإن الشهب أشرفها السواري

وإني في الظلام رأيت ضوءا

كأن الليل زيّن بالنهار

إلى كم أجعل الحيّات صحبي

إلى كم أجعل التنّين جاري

وكم أرضى الإقامة في فلاة

وفوق الفرقدين رأيت داري

ويأتيني من الصنعاء برق

يذكرني بها قرب المزار

وقال عند وفاته وهو يجود بنفسه لما قتل :

قل لأصحاب رأوني ميّتا

فبكوني إذ رأوني حزنا

لا تظنوني بأني ميّت

ليس ذا الميّت والله أنا

أنا عصفور وهذا قفصي

طرت عنه فتخلّى رهنا

وأنا اليوم أناجي ملأ

وأرى الله عيانا بهنا

فاخلعوا الأنفس عن أجسادها

لترون الحق حقا بيّنا

لا ترعكم سكرة الموت فما

هي إلا إنتقال من هنا

عنصر الأرواح فينا واحد

وكذا الأجسام جسم عمّنا

ما أرى نفسي إلا أنتم

واعتقادي أنكم أنتم أنا

فمتى ما كان خيرا فلنا

ومتى ما كان شرا فبنا

فارحموني ترحموا أنفسكم

واعلموا أنكم في إثرنا

من رآني فليقوّي نفسه

إنما الدنيا على قرن الفنا

وعليكم من كلامي جملة

فسلام الله مدح وثنا

أقول : إن قبر السهروردي المترجم ضمن مسجد خارج باب الفرج ، وذلك المكان مشهور عند العوام بالساليوردي ، وهو عن يسار الزقاق المعروف ببوابة القصب الذي يرحل منه إلى محلة الجديدة ، وللمسجد صحن متسع خرب. وفي سنة ١٣٢٨ وضعت دائرة المعارف يدها على هذا المكان واعتبرته من الأوقاف المندرسة ، وعمرت هذا الصحن

٢٨٤

مع جانب من المسجد طابقين أضافتهما إلى عقارات دائرة المعارف وآجرتهما إلى دائرة البرق والبريد. وقبر السهروردي درس وهو أمام باب الدائرة المذكورة بينه وبين الباب نحو خمسة أذرع ، واتخذ له قبر آخر ضمن ما أبقي من المسجد مسجدا تغطية وتعمية كي لا يقال إنهم درسوا القبر ، والمكان الذي أبقي من المسجد هو عن يسار الداخل من الباب الثاني الذي يصعد منه إلى الطابق العلوي المتخذ الآن دائرة البرق.

وبعد كتابة ما تقدم كتب لنا بعض من نثق به من الواقفين على أحوال هذا المكان ما خلاصته : لما فتحت جادة الخندق وأنشئ فيها المنازل والحوانيت صار بعض ذوي النفوذ يؤجرون الأرض التي هي أمام المسجد المذكور لباعة الفحم والحطب أملا بأن يتملكوها ويصير لهم حق التصرف ، ولما شعر بذلك مفتش المعارف وقتئذ السيد نجيب أفندي الباقي فحص عن حقيقة هذا المسجد فوجد أنه زاوية يقام فيها الذكر ، وفي ذلك حجج وأوامر سلطانية وجدت عند صبوحي داده شيخ التكية المولوية بكلّز ، وبموجب قانون الأوقاف المندرسة وضع مجلس المعارف يده على هذه الزاوية وأرضى صبوحي داده بمبلغ ٧٥ ليرة عثمانية لقاء مصاريف أدعى أنه وضعها منه ، وعمرت الزاوية المذكورة مع صحنها الواسع طابقين من غلة الأوقاف المندرسة وذلك في سنة ١٣٢٨ و١٣٢٩ بقصد أن تؤجر الحوانيت التي في الطابق السفلي وتتخذ الطابق العلوي دائرة للمعارف ، وهكذا تم الأمر وقتئذ ، واتخذت الغرفة التي فوق المسجد للقراءة وجلب إليها كثير من الكتب العلمية والأدبية ، وبقيت دائرة المعارف فيها سنة كاملة. ثم إن ناظر البرق والبريد في ذلك العهد حينما زار حلب استحسن هذا المحل وطلب أن يتخذ دائرة للبرق والبريد ، وكان الوالي حينئذ جلال الدين بك ، فوافقه على ذلك وأرغم إدارة المعارف أن تؤجره ب ٥٠٠ ليرة عثمانية سنويا إلى إدارة البرق والبريد ، وتضعضعت تلك الكتب وصارت دائرة المعارف تنتقل من مكان إلى آخر داخل دار الحكومة.

ثم الذي وجدنا عليه أسلافنا من أهل حلب أنهم يعتقدون في السهروردي كل بركة وخير ، ولم نجد في كلامه الذي قدمناه ما يستحق أن يفتى بحل دمه ، هذا دعاؤه الذي يقول فيه : اللهم يا قيام الوجود ... إلخ. صريح في أنه مؤمن بالله وملائكته ورسله معلن فيه أن ثمة حشرا ونشرا ، وما أشبه كلامه المنقول عن ابن خلكان بحكم ابن عطاء الله الإسكندري. ومعنى قوله :

٢٨٥

لو علمنا أننا ما نلتقي

لقضينا من سليمى الوطرا

أي لو علمنا أننا بعد الخلاص من أقفاص هذه الحياة لا نجد شيئا أي لا حشر هناك ولا نشر لتركنا هذه النفس تشرح في ميادين الشهوات وتتمتع بملاذ هذه الحياة ، ولكن لعلمنا أن الحشر والنشر والعذاب والنعيم أمور واقعة لا محالة أعرضنا عن زهرة الحياة الفانية ووجهنا القلوب إلى ما فيه البقاء السرمدي والنعيم الأبدي وهو الحياة الأخروية كما قال الله تعالى : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى)(١).

وماذا نطلب منه رعاك الله بعد إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وقد تقرر أنه لا يخرج الإنسان من الإيمان إلا ما أدخله فيه.

وربما يشتم من قوله : (فز بالنعيم فإن عمرك ينفد) إنكاره لأمر المعاد ، مع أن تأويل هذه الأبيات وحملها على محمل حسن بل على معنى شريف عمل سهل على من تأمل فيها قليلا وكان له أدنى ذوق في فهم المعاني.

والخلاصة أن من تأمل في أدعية هذا الرجل وكلامه هنا وفي كتابه «هياكل النور» ونظمه الذي أوردناه خصوصا الأبيات التي أنشدها عند مماته يستدل على أنه كان رجلا من أعاظم الرجال الذين سمت إلى العلياء نفوسهم ، وزهدوا في هذه الحياة الفانية ، وتيقنوا أنها عرض ، ووجهوا قلوبهم إلى الله تعالى ، وأقبلوا بكليتهم إلى جناب قدسه.

والذي يتراءى لنا من شعره أنه شعر رجل صدّيق لا شعر رجل زنديق والله أعلم بخفايا الصدور وضمائر القلوب.

١٣٦ ـ أبو بكر بن مسعود الكاساني

صاحب بدائع الصنائع المتوفى سنة ٥٨٧

أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني ملك العلماء علاء الدين ومصنف «البدايع» الكتاب الجليل. أنشدني من شعره في منتصف شوال سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ووجد ذلك بخطه على نسخة بخط يده من البدايع :

__________________

(١) الضحى : ٤.

٢٨٦

سبقت العالمين إلى المعالي

بصائب فكرة وعلوّ همّه

ولاح بحكمتي نور الهدى في

ليال بالضلالة مدلهمّه

يريد الجاهلون ليطفئوه

ويأبى الله إلا أن يتمّه

تفقه صاحب البدايع على محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي المنعوت بعلاء الدين ، وقرأ عليه معظم تصانيفه مثل «التحفة» في الفقه وغيرها من كتب الأصول ، وزوجه شيخه المذكور بإبنته فاطمة الفقيهة العالمة. قيل إن سبب تزويجه بابنة شيخه أنها كانت من حسان النساء ، وكانت حفظت التحفة تصنيف والدها ، وطلبها جماعة من ملوك بلاد الروم فامتنع والدها ، فجاء الكاساني ولزم والدها واشتغل عليه وبرع في علمي الأصول والفروع وصنف كتاب البدايع وهو شرح التحفة وعرضه على شيخه ، فازداد فرحا به وزوجه ابنته وجعل مهرها منه ذلك ، فقال الفقهاء في عصره : شرح تحفته وتزوج ابنته. وأرسل رسولا من ملك الروم إلى نور الدين محمود بحلب ، وسبب ذلك أنه تناظر مع فقيه ببلاد الروم في مسألة المجتهدين هل هما مصيبان أم أحدهما مخطىء ، فقال الفقيه : المنقول عن أبي حنيفة أن كل مجتهد مصيب ، فقال الكاساني : لا ، بل الصحيح عن أبي حنيفة أن المجتهدين مصيب ومخطىء والحق في جهة واحدة ، وهذا الذي تقوله مذهب المعتزلة ، وجرى بينهما كلام في ذلك ، فرفع الكاساني على الفقيه المقرعة ، فقال ملك الروم : هذا افتيات على الفقيه ، فاصرفه عنا ، فقال الوزير : هذا رجل كبير ومحترم ولا ينبغي أن يصرف ، بل ننفذه رسولا إلى الملك نور الدين محمود ، فأرسل إلى حلب ، وكان قبل ذلك قدم الرضي السرخسي صاحب «المحيط» إلى حلب فولاه نور الدين الحلاوية ، واتفق عزله كما ذكرته في ترجمته ، فولى السلطان صاحب البدايع الحلاوية عوضه بطلب الفقهاء ذلك منه ، فتلقاه الفقهاء بالقبول ، وكانوا في غيبته يبسطون له السجادة ويجلسون حولها في كل يوم إلى أن يقوم.

وله غير «البدايع» من المصنفات منها «السلطان المبين» في أصول الدين.

قال ابن العديم : سمعت أبا عبد الله محمدا قاضي العسكر يقول : لما قدم الكاساني إلى دمشق حضر إليه الفقهاء وطلبوا منه الكلام معهم في مسألة. فقال : لا أتكلم في مسألة فيها خلاف أصحابنا ، فعينوا مسائل كثيرة ، فجعل كلما ذكروا مسألة يقول : ذهب إليها من أصحابنا فلان وفلان ، فلم يزل كذلك حتى إنهم لم يجدوا مسألة إلا وقد ذهب إليها

٢٨٧

واحد من أصحاب أبي حنيفة ، فانفض المجلس على ذلك.

قال ابن العديم : سمعت ضياء الدين محمد بن خميس الحنفي يقول : حضرت الكاساني عند موته فشرع في قراءة سورة إبراهيم حتى انتهى إلى قوله : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ)(١) خرجت روحه عند فراغه من قوله وفي الآخرة.

قال ابن العديم : وسمعت خليفة بن سليمان يقول : مات علاء الدين يوم الأحد عاشر رجب سنة سبع وثمانين وخمسماية ، وولي التدريس بعده افتخار الدين الهاشمي في سابع عشر رجب. ودفن علاء الدين الكاساني عند زوجته فاطمة داخل مقام إبراهيم الخليل بظاهر حلب ، وكان الكاساني لم يقطع زيارة قبرها في كل ليلة جمعة إلى أن مات. والدعاء عند قبرهما مستجاب وذلك مشهور بحلب ، ويعرف قبرهما عند الزوار بحلب بقبر المرأة وزوجها. وخلف ولدا ذكرا ا ه (ط ح ق).

وقال في آخر الطبقات في كتاب الأنساب : الكاساني بفتح الكاف وسكون الألفين بينهما سين مهملة نسبة إلى كاسان بلدة وراء الشاش ا ه.

وقال اللكنوي في تراجم الحنفية : الأشعار التي نسبها إليه قد نسبها حسن جلبي في حواشي التلويح إلى الحكيم عمر الخيام والله أعلم.

أقول : وقبره في حجرة عن يمين الداخل إلى مقام إبراهيم الخليل ومحرر على بابها :

(١) بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بعمارته مولانا الملك.

(٢) الظاهر غياث الدنيا والدين أبو الفتح غازي.

(٣) ابن الملك الناصر خلد الله ملكه في سنة أربع وتسعين وخمسمائة.

الكلام على كتابه بدايع الصنايع

قال في كشف الظنون في الكلام على «تحفة الفقهاء» لعلاء الدين السمرقندي : أولها : الحمد لله حق حمده ... إلخ. وصنف تلميذه الإمام أبو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي المتوفى سنة ٥٨٧ شرحا عظيما في ثلاث مجلدات وسماه «بدائع الصنائع في ترتيب

__________________

(١) إبراهيم : ٢٧.

٢٨٨

الشرائع» ، وهذا الشرح تأليف يطابق اسمه معناه ، أوله : الحمد لله العالي القادر ... إلخ ، ذكر فيه أن المشايخ لم يصرفوا الهمم إلى الترتيب سوى أستاذه ، والغرض الأصلي من التصنيف في كل فن هو تيسير سبيل الوصول إلى المطلوب ، ولا يلتئم هذا المرام إلا بترتيب تقتضيه الصناعة ، وهو التفحص عن أقسام المسائل في هذا الشرح بالترتيب الصناعي الذي يرتضيه أرباب الصنعة ا ه.

وقال العلامة ابن عابدين في حاشيته : هذا الكتاب جليل الشأن لم أر له نظيرا في كتبنا ا ه.

وقد طبع في مصر سنة ١٣٢٨ في سبع مجلدات في المطبعة الجمالية لمحمد أمين الخانجي الكتبي الحلبي نزيل مصر على نفقة محمد أسعد باشا الجابري رحمه‌الله وابن عمه الحاج مراد أفندي من وجهاء الشهباء ، وذلك بتحسين بعض أهل العلم والفضل جزاهما الله خيرا. وكان طبعه على نسخة في خزانة كتب الحاج عبد القادر أفندي الجابري رحمه‌الله والد الحاج مراد أفندي ، إلا أن الكتاب لم يخل من الأغلاط عسى أن تتدارك في الطبعة الثانية. ويوجد منه نسخ كثيرة في مكاتب الآستانة في المكتبة العمومية ومكتبة داماد إبراهيم باشا وغيرها يطول الكلام لو ذكرنا تفصيلها. ويوجد نسخة في ستة أجزاء في المكتبة السلطانية بمصر ، ونسخة في ثلاثة أجزاء في التكية الإخلاصية بحلب مما وقفه الشيخ إسحق البخشي على التكية أخذ جزء منها حين الطبع. وبالجملة فهو كتاب جليل في بابه لا يستغني عنه من يرغب التوسع في فقه السادة الحنيفة والوقوف على أدلتهم في المذهب وقواعدهم.

١٣٧ ـ محمد بن علي المازندراني الشيعي المتوفى سنة ٥٨٨

محمد بن علي بن شهراسوب أبو جعفر السروري المازندراني رشيد الدين الشيعي أحد شيوخ الشيعة ، حفظ القرآن وله ثماني سنين وبلغ النهاية في أصول الشيعة. كان يرحل إليه من البلاد ، ثم تقدم في علم القراءات والغريب والنحو ، ووعظ على المنبر أيام المقتفي ببغداد ، فأعجبه وخلع عليه. وكان بهي المنظر حسن الوجه والشيبة صدوق اللهجة مليح المحاورة واسع العلم كثير الخشوع والعبادة والتهجد لا يكون إلا على وضوء. أثنى عليه ابن أبي طي في تاريخه ثناء كثيرا. توفي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.

٢٨٩

ومن تصانيفه : كتاب في النحو سماه الفصول جمع فيه أمهات المسائل. وكتاب المكنون المخزون في عيون الفنون. كتاب أسباب نزول القرآن. كتاب متشابه القرآن. كتاب الأعلام والطرايق في الحدود والحقايق. كتاب مناقب آل أبي طالب. كتاب المثالب. كتاب المائدة والفائدة ، جمع فيه أشياء من النوادر والفوائد.

عاش تسعا وتسعين سنة وشهرين ونصف وتوفي بحلب في التاريخ المذكور رحمه‌الله ا ه (الوافي بالوفيات).

وترجمه الملا في مختصره لتاريخ الإمام الذهبي فقال : قال ابن أبي طي في تاريخه في ترجمة المازندراني المذكور : نشأ في العلم والدراسة وحفظ القرآن وله ثماني سنين ، واشتغل بالحديث ولقي الرجال ، ثم تفقه وبلغ النهاية في فقه أهل البيت ، ونبغ في علم الأصول حتى صار رحلة ، ثم تقدم في علوم القرآن والقرآءات والغريب والتفسير والنحو ، وركب المنبر للوعظ ونفقت سوقه عند الخاصة والعامة. وكان مقبول الصورة مستعذب الألفاظ مليح الغوص على المعاني. حدثني قال : صار لي سوق بمازندران حتى خافني صاحبها ، فأرسل يأمرني بالخروج عن بلاده ، فصرت إلى بغداد في أيام المقتفي ، ووعظت فعظمت منزلتي واستدعيت وخلع علي ، وناظرت واستظهرت على خصومي فلقبت برشيد الدين وكنت ألقب بعز الدين ، ثم خرجت إلى الموصل ، ثم أتيت حلب. قال : وكان نزوله على والدي فأكرمه وزوجه بنت أخته فربيت في حجره وغذاني من علمه وبصرني في ديني. وكان إمام عصره وواحد دهره. وكان الغالب عليه علم القرآن والحديث ، كشف وشرح وميز الرجال وحقق طريق طالبي الإسناد وأبان مراسيل الأحاديث من الآحاد ، وفرق بين رجال الخاصة والعامة ، يعني بالخاصة الشيعة وبالعامة السنة.

حدثني أبي قال : ما زال أصحابنا بحلب لا يعرفون الفرق بين ابن بطة الشيعي من ابن بطة الحنبلي ، حتى قدم الرشيد فقال : ابن بطة الحنبلي بالفتح والشيعي بالضم.

وكان عند أصحابنا بمنزلة الخطيب للعامة ويحيى بن معين في معرفة الرجال. وقد عارض كل علم من علوم العامة بمثله وبرز عليهم بأشياء حسنة لم يصلوا إليها. وكان بهي المنظر حسن الوجه والشيبة صدوق اللهجة مليح المحاورة واسع العلم كثير الفنون كبير الخشوع والعبادة والتهجد لا يجلس إلا على وضوء. توفي ليلة سادس عشر شعبان ودفن بجبل الجوشن عند مشهد الحسين ا ه.

٢٩٠

١٣٨ ـ خالد بن محمد القيسراني الوزير المتوفى سنة ٥٨٨

خالد بن محمد بن نصر بن صغير الرئيس موفق الدين أبو البقا ابن الأديب البارع أبي عبد الله المخزومي الخالدي بن القيسراني الكاتب وزير السلطان نور الدين. كان صدرا نبيلا وافر الجلالة بارع الكتابة يكتب الخط المحقق كتابة ينفرد بها. بعثه نور الدين رسولا إلى الديار المصرية فسمع من عبد الله بن رفاعة والسلفي ، وبدمشق من ابن عساكر ، وحدث بحلب. روى عنه الموفق يعيش النحوي وغيره. ومات بها في جمادى الآخرة ا ه (مختصر الذهبي في وفيات سنة ثمان وثمانين وخمسمائة).

وقال ابن كثير في تاريخه في الفصل الذي عقده في وفاة السلطان نور الدين : إن وزيره المذكور قص عليه أنه رأى في منامه أنه يغسل ثياب الملك نور الدين ، فأمره أن يكتب مناشير بوضع المكوسات والضرائب عن البلاد وقال : هذا تفسير رؤياك ، وكتب إلى الناس يستعجل منهم في حل مما كان أخذ منهم ويقول : إنما صرف في قتال أعدائكم من الكفرة. وكتب بذلك إلى سائر ممالكه وبلدان سلطانه وأمر الوعاظ أن يستحلوا من التجار لنور الدين ا ه.

١٣٩ ـ إبراهيم بن سعيد بن الخشاب المتوفى سنة ٥٨٩

إبراهيم بن سعيد بن يحيى بن الخشاب القاضي الرئيس أبو طاهر الحلبي ، من أعيان الحلبيين وكبرائهم ، كان فاضلا أديبا شاعرا منشئا له نظر في العلوم إلا أنه كان من أجلّاء الشيعة المعروفين ، وكان دمث الأخلاق ظريفا مطبوعا ، وهو والد المولى الصدر بهاء الدين الحسن بن الخشاب. توفي في ذي القعدة ا ه (ذهبي من وفيات سنة تسع وثمانين وخمسمائة).

١٤٠ ـ عبد الملك بن جهبل الملقب زين الدين المتوفى سنة ٥٩٠

عبد الملك بن نصر الله بن جهبل بفتح الجيم والباء الموحدة ، ويعرف أيضا بالزين ، فقيه فاضل متدين ، سمع بمكة وحدث ودرس بحلب بالمدرسة البدرية وبمدرسة الزجاجين

٢٩١

وانتفع به جماعة. ومات بها سنة تسعين وخمسمائة ، ذكره التفليسي ا ه (ط ش أسنوي).

وذكره الإمام السبكي في طبقاته المطبوعة ، ووقع اسمه حرمل وهو سهو من الطبع ، والصواب أنه ابن جهبل كما هنا.

١٤١ ـ يوسف بن الخضر المتوفى سنة ٥٩٢

يوسف بن الخضر بن عبد الله الحلبي والد محمد المعروف ولده بابن الأبيض ، مولده سنة إحدى وعشرين وخمسمائة ، تفقه على ابن الحسن المعروف ببرهان الدين البلخي.

قال ابن العديم : روى لنا عنه ولده أبو عبد الله محمد بن يوسف : تولى القضاء والتدريس بشيزر مدة ، ثم أقام بحلب إلى أن استدعي إلى دمشق وولي قضاءها نيابة عن محمد ابن علي القرشي قاضي دمشق ، ولم يزل بها إلى أن مات بها في رمضان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة ، ودفن بتربة خارج باب الفراديس ا ه (طبقات الحنفية للقرشي).

١٤٢ ـ أحمد بن محمد الغزنوي المتوفى سنة ٥٩٣

أحمد بن محمد بن محمود بن سعيد الغزنوي ، معيد درس الإمام الكاساني صاحب البدايع. تفقه على أحمد بن يوسف الحسني العلوي ، وانتفع به جماعة من الفقهاء وتفقهوا به ، وصنف في الفقه والأصول كتبا حسنة مفيدة منها : كتاب الروضة في اختلاف العلماء ، ومقدمته المختصرة في الفقه المشهورة ، وكتابه في أصول الفقه ، وكتاب في أصول الدين وسمه بروضة المتكلمين ، واختصره ووسمه بالمنتقي من روضة المتكلمين.

توفي بحلب بعد سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة ودفن بمقابر الفقهاء الحنفية قبل مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام ا ه (ط ح ق).

قال اللكنوي في كتابه الفوائد البهية في طبقات الحنفية في ترجمة المذكور : قد طالعت من تأليفه المقدمة ، وهو مصغّر حجما مكبّر علما ، أوله : الحمد لله الذي عم البلاد بنعمته ... إلخ. ونسبة الغزنوي إلى غزنة بفتح الغين وسكون الزاي المعجمة ثم نون مفتوحة : بلدة من أول بلاد الهند ، ذكره السمعاني ا ه.

٢٩٢

١٤٣ ـ عبد السلام الفارسي المتوفى سنة ٥٩٦

عبد السلام بن محمد الشيخ ظهير الدين الفارسي أحد الائمة المعتبرين.

قال ابن باطيش : قدم الموصل فصادف من صاحبها قبولا وفوض إليه تدريس الفريقين الشافعية والحنفية ، وبقي بها مدة يدرس وافر الحرمة. ثم توجه إلى حلب على عزيمة العود إلى الموصل. ثم مات بها سنة ست وتسعين وخمسمائة ا ه (ط ك للسبكي).

وترجمه ابن كثير في وفيات هذه السنة فقال : الشيخ ظهير الدين عبد السلام الفارسي شيخ الشافعية بحلب ، أخذ الفقه عن محمد بن يحيى تلميذ الغزالي وتلمذ للفخر الرازي ، وقد رحل إلى مصر وفرض عليه أن يدرس بتربة الشافعي فلم يقبل ، وصار إلى حلب فأقام بها إلى أن توفي في هذه السنة ا ه.

١٤٤ ـ علوان الشاعر المعروف بالباز الأشهب المتوفى سنة ٥٩٦

علوان بن عبد الله بن عبيد الشاعر الحلبي المعروف بالباز الأشهب ، كان أديبا متفننا مليح الإيراد. توفي سنة ست وتسعين وخمسمائة ببغداد. ومن شعره :

سل البانة الغناء هل مطر الحمى

وهل آن للورقاء أن تترنما

وهل عذبات الرند نبهها الصبا

لذكر الصّبا قدما فقدكنّ نوّما

وإن تكن الأيام قصت جناحها

فقد طالما مدت بنانا ومعصما

بكتها الغوادي رحمة فتنفست

وأعطت رياض الحسن سرا مكتمّا

وشقّت ثيابا كنّ سترا لأمرها

فلما رآها الأقحوان تبسما

خليليّ هل من سامع ما أقوله

فقد منع الجهال أن أتكلما

عرفت المعالي قبل تعرف نفسها

ولا سفرت وجها ولا ثغرت فما

وأوردتها ماء البلاغة منطقا

فصارت الجيد الدهر عقدا منظّما

وكانت تناجيني بألسن حالها

فأدرك سرّ الوحي منها توهما

فما لليالي لا تقرّ بأنني

خلقت لها منها بدورا وأنجما

وربّ جهول قال لو كان صادقا

لأمكنت الأيام أن يتقدما

٢٩٣

ولم يدر أني لو أشاء حويتها

ولكن صرفت النفس عنها تكرّما

أبى الله أن ألفى بخيلا بمدحه

وقد جعل الشكوى إلى المدح سلّما

إن المرء لم يحكم على النفس قادرا

يمت غير مأجور ويحيا مذمّما

سلام على الماء الذي طاب موردا

وإن صيرته وقفة الذل علقما

فقد كنت لا أبغي سوى العز مطعما

ولا أرتضي ماء ولو بلغ الظما

وكنت متى مثلّت للنفس حاجة

أرى وجه إعراض ولو كنت أينما

وأحسب أن الشيب غيّر حالتي

وصيّر كل الغانيات محرما

ا ه (فوات الوفيات لابن شاكر).

١٤٥ ـ طاهر بن نصر الله بن جهبل المتوفى سنة ٥٩٦

مجد الدين طاهر بن نصر الله بن جهبل أخو عبد الملك. كان عالما زاهدا فاضلا في الفقه والحساب والفرائض. سمع الحديث من جماعة. حدث وصنف للسلطان نور الدين كتابا في فضل الجهاد ، ودرّس بحلب بالمدرسة النورية ، وهو أول من درّس في الصلاحية بالقدس الشريف ، وهو أول والد بني جهبل الفقهاء الدمشقيين. مات في سنة ست وتسعين وخمسمائة عن أربع وستين سنة. ذكره الذهبي في العبر. ا ه (ط ش أسنوي).

وترجمه في «الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل» بنحو ما هنا ، وذكر أن وفاته بالقدس الشريف. والمترجم وأخوه زين الدين المتقدم آنفا هما اللذان اعتصبا على الشيخ السهروردي إلى أن كان من أمره ما هو مذكور في ترجمته.

زيادة بيان في ترجمته مع مزيد كلام على المدرسة الزجاجية

قال في كنوز الذهب في الكلام على المدرسة الزجاجية : وقد رأيت بخط أبي المعالي ابن عشائر ما ملخصه : طاهر بن نصر الله بن جهبل بن نصير بن زيد بن جناب بن نصير ابن عمرو بن عصمة بن هريرة بن قريط بن عبد الله بن أبي بكر عبيد بن كلاب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أبو محمد الحلبي المعروف بالمجد. كان من كبار الفقهاء الشافعية بحلب. كان عنده ديانة. ولي التدريس بالزجاجية ، واتصل

٢٩٤

إلى قطب الدين النيسابوري وصاهره وفوض إليه تدريس النورية المعروفة بالنفري ، فدرّس بها إلى أن جرت له حالة مع النائب في القضاء بحلب أبي البركات محمد بن منصور الشهرزوري أوجبت ضيق صدره ، فسار من حلب وأقام بالقدس ، وولي التدريس بها بالمدرسة الناصرية. وكان سمع الحديث من كمال الدين عمر بن حموية وأبي بكر الجيلي.

وكان سبب رحيله من حلب أن الضياء بن الشهرزوري رجمت داره أياما ، فاتهم بذلك أبا الفتح بن مجد الدين طاهر وشكاه إلى السلطان الملك الظاهر ، وتكرر ذلك منه ، فاستدعاه السلطان ليلة من الليالي إلى القلعة فصعد فالتقاه حسام الدين محمود شحنة حلب (١) فأجلسه في دهليز القلعة إلى أن مضى الربع من الليل ، فصعدت رقعة من الضيا ابن الشهرزوري يشكو فيها صدر الدين ويقول : إننا في هذه الساعة رجمنا ، فاستدعى السلطان حسام الدين الشحنة وطلب منه إحضار الصدر فقال : يا مولاي والله إنه قاعد عندي من أول الليل ، فأمر بإنزاله إلى منزل أبيه ، فقال له أبوه : يا بني ما بقى يمكننا القعود بحلب ، فأصبحا وسافرا. ثم بدا له في الطريق فرد ابنه ليأتيه بأهله وما يحتاج إليه ، وكان قد آذاه عمر بن العجمي وطلب مشاركته في الزجاجية ، فجاء إليّ وقال : نخرج إلى الشيخ علي الفاسي ، فخرجت معه فذكر ما عامله عمر بن العجمي وقال : إنه قد رشا جماعة وإنه استعان عليّ بذلك وأنا أستعين عليه برفع الأيدي في الأسحار.

وكتب الدولعي إلى الناصر صلاح الدين بسبب الكمال عمر بن العجمي شفاعة يذكر فيها حال الزجاجية وأن المجد بن جهبل هو ابن بنت جد الكمال ابن العجمي (الذي هو الباني والواقف للمدرسة) وعنه تلقى تدريس المدرسة وأن من جملة من درّس بها الحافظ المرادي شيخ الدولعي وأقام بها إلى أن مات. قال : وكان قبل المرادي بها شيخ متصوف يدعى الظهير ، وكان قبل هذا الظهير الإمام عبد الله القصيري ، وكان ممن صحب الغزالي والكيا الهراسي وأسعد الميهني (٢).

قال الدولعي : وبعد موت شيخنا المرادي استدعى السلطان نور الدين لشيخنا شرف الدين مكانة يعني ابن أبي عصرون وابتنى له المدرسة التي هي الآن تحت يد ولده ، ووصل

__________________

(١) هو الجد الأعلى لبني الشحنة كما ذكره في أوائل الدر المنتخب.

(٢) من رجال ابن خلكان.

٢٩٥

إلى حلب وما كملت فاستعار له مدرسة جد هذا الكمال ابن العجمي ، وكان جده إذ ذاك مجاورا بيت الله الحرام ، فقدم ومنع شرف الدين عن مدرسته ومنعه دخولها والأخذ من وقفها بعدما سئل أن يصبر عليه حتى تنجز مدرسته ، فما فعل وما اعترض عليه نور الدين ولا مجد الدين ، بل مكّناه من أمر مدرسته ، واستناب لها فقيها يقال له البرهان ، فلما درج بالوفاة استنابوا هذا المجد بن جهبل (أي المترجم) ولدهم ، ولما توفي جد الكمال ابن العجمي عهد قبل وفاته إلى ولده أبي صالح شهاب الدين بالعهد الشرعي والإسناد الشرعي ، وكان جاريا في المدرسة وما لها والمدرس على قاعدة والده في غير معارض ، إلى أن حضرته الوفاة فعهد إلى ابن عمه القطب فجرى فيها على سنن ابن عمه.

ومن العجب أن يذكر الغير أن الوقف عليها من وقف أتابك زنكي ، وجد هذا الكمال على أكمل سعادة عمّر هذه المدرسة قبل أن يلي أتابك حلب بدهر وجرت بسبب ذلك شدائد وأخذ منه مصادرة من أجلها مرتين بسعي الوشاة خمسة وعشرون ألف دينار على ما حكاه للخادم من هو عنده صدوق ، وكان وحيدا في حلب مع شدة شوكتهم في ذلك الوقت وتمكنهم من الدول ، وأحرقوا عمارة هذه المدرسة مرتين ، إلى أن ملك أتابك حلب فاستعان عليهم بأن توصل إلى أن أذن له أن ينقل قسيم الدولة آقسنقر (والده) إلى مدرسته كفا لأيدي الحلبيين (الشيعة) واستظهارا عليهم ، فأذن له في ذلك لا أن أتابك نقل أباه إليها وبناها ووقف عليها ، وفحوى الشفاعة طلب النظر في هذه المدرسة للكمال عمر بن العجمي ، وليس فيها تصريح ولا تلويح بطلب التدريس له ا ه. وهذه المكاتبة التي كتبها الدولعي قال ابن عشائر أخرجها إليّ بعض أحفاد كمال الدين عمر المذكور فنقلت منها هذا والله تعالى أعلم. انتهى ما رأيته بخط أبي المعالي بن عشاير في بعض مجاميعه ومختاراته من تاريخ الصاحب كمال الدين بن العديم ا ه.

١٤٦ ـ الشيخ شعيب الأندلسي المتوفى سنة ٥٩٦

قال ابن شداد في الكلام على مدارس الشافعية : (المدرسة الشعيبية) : كانت هذه مسجدا يقال أول ما اختطه المسلمون عند فتحها من المساجد ، وعرف بأبي الحسن علي ابن عبد الحميد الغضايري أحد الأولياء من أصحاب السري السقطي ، فلما ملك نور الدين حلب وأنشأ بها المدارس وصل الشيخ شعيب بن أبي الحسن الأندلسي الفقيه فصير

٢٩٦

له هذا المسجد مدرسة وجعله مدرسا بها فعرفت به إلى عصرنا هذا ، ولم يزل مدرسا بها إلى أن توفي سنة ست وتسعين وخمسمائة ا ه.

قال أبو ذر : وكانت وفاته في طريق مكة ودفن بين تيما وبين جفر بني عنزة ، وكان من الفقهاء المعتبرين والزهاد المعروفين من أصحاب الحافظ أبي الحسن علي بن سليمان المرادي ، وانقطع في هذا المسجد فعرف به وانقطع عنه اسم الغضايري ، وكان نور الدين يعتقده فرتبه ليدرس على مذهب الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه ا ه.

ثم وليها بعده الشيخ شمس الدين محمد بن موسى الجزري ، ولم يزل بها إلى أن توفي سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. ثم وليها موفق الدين أبو القاسم الكردي الحميدي ، ولم يزل بها إلى أن ولي قضاء المعرة في أوائل سنة اثنتين وأربعين وستمائة ، فوليها بعده قوام الدين أبو العلاء الفضل بن سلطان بن شجاع ، ثم خرج عنها إلى حمص سنة خمس وخمسين فوليها بدر الدين محمد بن إبراهيم بن خلكان المعروف بقاضي تل باشر ، وقد وليها قبل فتنة تيمر الإمام ناصر الدين أبو المعالي بن عشائر ، ولما عزل نفسه عن نظرها أنشد :

تشعب قلبي بالشعيبية التي

بها أشعب الطماع يبدو ويخطر

سأترك مغناها غنى وتعففا

(وكم مثلها فارقتها وهي تصفر)

كذا رأيته بخط ابن القرناص.

وهذه المدرسة الآن شاغرة عن الشعاير والدرس بل ولا يعلم أحد أنها مدرسة ، وعليها وقف ببلد أعزاز ، وقد استولى الناس على وقفها وتركوها خالية صفراء كغيرها من المدارس لا مدرس ولا أنيس ولا فقيه ولا جليس ، مقفرة العرصات خالية من إقامة الصلاة ، ولها منارة محكمة قصيرة وعليها كتابة كوفية لا أدري ما هي. ا ه.

الكلام على هذه المدرسة

موقعها في آخر محلة باب أنطاكية ، وإذا كنت داخلا من باب البلد واستقبلت الشرق فإنها تقابلك ويبقى بينك وبينها قدر ٢٥ ذراعا ، وفوق بابها حجرة عليها كتابة كوفية هذه صورتها :

٢٩٧

الله

صنعه سعيد

المقدسي بن عبد

الله رحمه

وفوق هذا الباب منارة صغيرة ، وتحتها على طول الجدار قبلة وشمالا وغربا حجارة ضخمة عليها كتابة كوفية بديعة من النوع المسمى بالمزهر تدلك على عناية أهل ذاك العصر بالخط وترقيه في عصرهم. وقد استحضرت من له إلمام بقراءة هذا الخط فصعب عليه ذلك ، لأن الأيام ذهبت بكثير من الحروف وشوهت الأحجار فتعسر قراءتها ، غير أنه تمكن من قراءة بعض ما كتب على الجدار من الجهة الشمالية وهي : (في سنة خمس وأربعين وخمسمائة) وذلك تاريخ بناء نور الدين الشهيد رحمه‌الله لها. وللمدرسة صحن صغير وراءه قبلية عرضها ٢٦ قدما وطولها ٥٦ في وسطها عمودان من الحجر الأصفر علو الواحد ثلاثة أذرع. وقل من الناس من يعرف أن هذا الموضع كان مدرسة ، لأنه منذ أزمنة متطاولة مسجد تصلى فيه الأوقات الخمس لا غير. وهو الآن في حوزة دائرة الأوقاف ، وله من العقارات أربع دور وسبعة حوانيت تقوم بلوازمه.

ذكر ما كان بجوارها من الآثار

المدرسة الزيدية :

قال أبو ذر : وتعرف الآن بالألواحية ، وهي داخل باب أنطاكية ، أنشأها إبراهيم ابن إبراهيم المعروف بأخي زيد الكيال الحلبي ، انتهت سنة خمس وخمسين وستمائة ، ودرس فيها شمس الدين أحمد بن محيي الدين محمد بن أبي طالب العجمي وعليه انقضت الدولة ، ولما نزل بها الألواحي نسبت إليه ا ه.

وقال في الكلام على الدروب : (درب الزيدية) : هو الدرب الذي به المدرسة ويرأسه مسجد تحت الساباط ، وكان هذا المسجد قد جعل دارا وأبيع وانتزعه قاضي القضاة السوبيني وأعاذه مسجدا كما كان. وعلى بابه سبيل ماء وعلى علوه طبقة ا ه.

٢٩٨

أقول : لا أثر الآن لهذه المدرسة ولا لهذا المسجد ولا يعلم موقعهما.

الكلام على درب البزادرة وما فيه :

قال أبو ذر : هو الملاصق لسور باب أنطاكية إلى ناحية القبلة ، سمي بذلك لأن الذين يحملون طيور الكفال يسكنون هناك. وبه حجر ينفع للبرقة ا ه.

وقال : في باب الخواصات بدرب البزادرة داخل باب أنطاكية إلى ناحية الجلّوم تجاه البرج المعروف بالشيخ شمس الدين محمد النواوي الشافعي بحائط هناك حجر أبيض عليه كتابة قيمة ينفع للمبروق ظهره ا ه.

أقول : لم تزل هذه الحجرة موجودة وهي معروفة عند أهل المحلة ، إلا أن اعتقاد الناس بنفعها لذلك قد زال ولله الحمد.

١٤٧ ـ عفيف بن سكرة الطبيب اليهودي المتوفى آخر هذا القرن

عفيف بن سكرة هو عفيف بن عبد القاهر بن سكرة ، يهودي من أهل حلب عارف بصناعة الطب مشهور بأعمالها وجودة النظر فيها ، وله أولاد وأهل أكثرهم مشتغلون بصناعة الطب ، ومقامهم بمدينة حلب ، ولعفيف بن سكرة من الكتب مقالة في القولنج ألفها للملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وذلك في سنة أربع وثمانين وخمسمائة ا ه (عيون الأنباء).

* * *

٢٩٩

(أعيان القرن السابع)

١٤٨ ـ محمود بن النحاس المتوفى سنة ٦٠٢

والكلام على المدرسة الشاذبختية

قال أبو ذر : هذه المدرسة بدرب العدول وهو سوق النشّابين ، أنشأها الأمير جمال الدين شاذبخت الخادم الهندي الأتابكي وكان نائبا عن نور الدين بحلب بقلعتها. ومحرابها عجيب وبها إيوان وخلاوي للفقهاء. وشاذبخت المذكور استمر أمره بالقلعة وحفظها على ولد نور الدين الصالح مدة حياته. وكان شاذبخت شهما من الرجال ذا رأي سديد وعقل وافر وتدبير حسن ، وله اليد البيضاء في فعل المعروف وبناء الربط والمدارس ، بنى بحلب مدرستين هذه والأخرى ظاهر حلب شماليها ، وكان يعرف بمشهد الزرازير ، ورأيته وهو عامر ثم إن الدولة هدمته وأخذت أحجاره لعمارة سور حلب ، والفاعل لذلك باك نائب السلطنة بقلعة حلب في زمن الأشراف. ونقل ابن العديم عز الدين وقفه بمربع شريف إلى الشاذبختية المذكورة. ووقف شاذبخت المذكور أوقافا على الصدقات وعلى خانقاه شنقرجا. ووقف بحرّان خانقاه للصوفية ، ولما توفي الصالح حفظ حلب ولم يزل يأمر فيها وينهى إلى أن قدم عز الدين. انتهى ما رأيته بخط ابن عشائر.

ولما كملت هذه المدرسة استدعي من سنجار نجم الدين مسلم بن سلامة ليوليه تدريسها ، فقدم حلب وأصبح ليذكر بها الدرس ، واحتفل شاذبخت لوليمة يعملها فسير الظاهر غازي إليه وسأله أن يوليها موفق الدين بن النحاس ، فلم يسعه مخالفة الظاهر وانعكس عليه مقصوده ، فتولى الموفق المدرسة ، وسار النجم عن حلب. ولم يزل الموفق متوليها إلى أن توفي يوم الأربعاء ثالث عشر ربيع الآخر سنة اثنتين وستمائة بتل عبده من عمل حرّان عائدا من رسالة حملها لصاحب تبريز من جهة الظاهر غازي ونقل إلى حلب فدفن بها.

وتولى بعده تدريسها القاضي شمس الدين محمد بن يوسف بن الخضر المعروف بابن

٣٠٠