إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٤

حلب وكثرت أمواله ولم يزل في نعمة طائلة هو وأولاده بعده ا ه (طبقات الأطباء).

ولم يذكر تاريخ وفاته وهي تخمينا في نواحي هذه السنين.

١٣٠ ـ أسامة بن مرشد صاحب شيزر المتوفى سنة ٥٨٤

أبو المظفر أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الكلبي الشيزري الملقب مؤيد الدولة مجد الدين ، من أكابر بني منقذ أصحاب قلعة شيزر وعلمائهم وشجعانهم ، له تصانيف عديدة في فنون الأدب.

ذكره أبو البركات بن المستوفي في تاريخ إربل وأثنى عليه وعده في جملة من ورد عليه ، وأورد له مقاطيع من شعره.

وذكره العماد الكاتب في الخريدة وقال بعد الثناء عليه : سكن دمشق ثم نبت به كما تنبو الدار بالكريم ، فانتقل إلى مصر فبقي بها مؤمرا مشارا إليه بالتعظيم إلى أيام الصالح بن رزيك (من وزراء مصر) ، ثم عاد إلى الشام وسكن دمشق ، ثم رماه الزمان إلى حصن كيفا فأقام به حتى ملك السلطان صلاح الدين رحمه‌الله تعالى دمشق ، فاستدعاه وهو شيخ قد جاوز الثمانين.

وقال غير العماد : إن قدومه مصر كان في أيام الظافر بن الحافظ والوزير يومئذ العادل ابن السلار فأحسن إليه وعمل عليه حتى قتل حسبما هو مشروح في ترجمته. وله ديوان شعر في جزأين موجود في أيدي الناس ورأيته بخطه ونقلت منه قوله :

لا تستعر جلدا على هجرانهم

فقواك تضعف من صدود دائم

وأعلم بأنك إن رجعت إليهم

طوعا وإلا عدت عودة راغم

ونقلت منه في أبن طليب المصري وقد احترقت داره :

انظر إلى الأيام كيف تسوقنا

قسرا إلى الإقرار بالأقدار

ما أوقد ابن طليب قط بداره

نارا وكان خرابها بالنار

وله يصف ضعفه :

٢٦١

فاعجب لضعف يدي عن حملها قلما

من بعد حطم القنا في لبّة الأسد

أقول : راجع في حوادث سنة ٥٥٢ في أخبار بني منقذ حكاية قتله للأسد.

قال ابن خلكان : ونقلت من ديوانه أيضا أبياتا كتبها إلى أبيه مرشد جوابا عن أبيات كتبها أبوه وهي :

وما أشكو تلون أهل ودي

ولو أجدت شكيّتهم شكوت

مللت عتابهم ويئست منهم

فما أرجوهم فيمن رجوت

إذا أدمت قوارضهم فؤادي

كظمت على أذاهم وانطويت

ورحت عليهم طلق المحيّا

كأني ما سمعت ولا رأيت

تجنّوا لي ذنوبا ما جنتها

يداي ولا أمرت ولا نهيت

ولا والله ما أضمرت غدرا

كما قد أظهروه ولا نويت

ويوم الحشر موعدنا وتبدوا

صحيفة ما جنوه وما جنيت

ويحكم بيننا المولى بعدل

فويل للخصوم إذا ادّعيت (١)

وله بيتان في هذا الروي والوزن كتبهما في صدر كتاب إلى بعض أهل بيته في غاية الرقة والحسن وهما :

شكا ألم الفراق الناس قبلي

وروّع بالنوى حيّ وميت

وأما مثل ما ضمت ضلوعي

فإني ما سمعت ولا رأيت

ونقلت من خط الأمير أبي المظفر أسامة بن منقذ المذكور لنفسه وقد قلع ضرسه وقال : عملتهما ونحن بظاهر خلاط وهو معنى غريب ويصلح أن يكون لغزا في الضرس :

وصاحب لا أملّ الدهر صحبته

يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد

لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا

لناظريّ افترقنا فرقة الأبد

قال العماد الكاتب : وكنت أتمنى أبدا لقياه وأشيم على البعد حياه ، حتى لقيته سنة إحدى وسبعين وسألته عن مولده فقال : سنة ثمان وثمانين وأربعمائة بقلعة شيزر ، وتوفي

__________________

(١) والبيت الأخير ذكره صاحب خلاصة الأثر في ترجمة غازي باشا مع بقية الأبيات المتقدمة.

٢٦٢

في الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وثمانين وخمسمائة بدمشق ودفن في جبل قاسيون ، وتوفي والده أبو أسامة مرشد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. وشيزر بفتح الشين والزاي قلعة بالقرب من حماة وهي معروفة بهم ا ه (ابن خلكان).

قال جرجي زيدان في تاريخه آداب اللغة العربية (صحيفة ١٦ مجلد ٣) : ويمتاز المترجم عمن سواه من المؤرخين أنه أرخ نفسه ووصف سيرة حياته ورحلاته وذكر كثيرا من حوادث تلك الأيام وعادات أهلها وآدابها ، وشاهد في أسفاره أمورا وصفها ، وفي جملتها وقائع مع الصليبيين. وهاك مؤلفاته :

(١) ـ كتاب الاعتبار : هو رحلته المشار إليها ، نشرت في باريس سنة ١٨٨٦ واستخرج المستشرقون منها فوائد اجتماعية عن ذلك العصر.

(٢) ـ البديع : رتبه على ٩٥ بابا أولها التجنيس وآخرها التهذيب ، منه نسخة في المكتبة السلطانية (بمصر) ا ه.

وفي مجلة المجمع العلمي الدمشقي في المجلد الأول أن كتاب الاعتبار طبع بعناية هتربوغ درنبرغ في ليدن (هولندة) سنة ١٨٨٤ وعليه تعاليق إفرنسية في ٢٠٢ صفحة وله فهارس مفيدة ا ه. فعلى هذا يكون كتاب الاعتبار طبع مرتين.

١٣١ ـ عبد الله بن أبي عصرون المتوفى سنة ٥٨٥

أبو سعد عبد الله بن أبي السري محمد بن هبة الله بن مطهر بن علي بن أبي عصرون ابن أبي السرى التميمي الحديثي ثم الموصلي الفقيه الشافعي الملقب شرف الدين ، كان من أعيان الفقهاء وفضلاء عصره وممن سار ذكره وانتشر أمره ، قرأ في صباه القرآن الكريم بالعشر على أبي الغنائم السلمي السروجي والبارع أبي عبد الله بن الدباس وأبي بكر المرزقي وغيرهم ، وتفقه أولا على القاضي المرتضي أبي محمد عبد الله بن القاسم الشهرزوري وعلى أبي عبد الله الحسن بن خميس الموصلي ثم على أسعد الميهني ببغداد ، وأخذ الأصول عن أبي الفتح بن برهان الأصولي وقراء الخلاف. وتوجه إلى مدينة واسط وقرأ على قاضيها الشيخ أبي علي الفارقي وأخذ عنه فوائد المهذب ، ودرس بالموصل في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة ، وأقام بسنجار مدة ، ثم انتقل إلى حلب في سنة خمس وأربعين ، ثم قدم دمشق

٢٦٣

لما ملكها الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي في صفر سنة تسع وأربعين وخمسمائة ، ودرس بالزاوية الغربية من جامع دمشق ، وتولى أوقاف المساجد ، ثم رجع إلى حلب وأقام بها وصنف كتبا كثيرة في المذهب منها : «صفوة المذهب في نهاية المطلب» في سبع مجلدات وكتاب «الانتصار» (لمذهب الإمام الشافعي كما في كشف الظنون) في أربع مجلدات ، وكتاب «المرشد» في مجلدين ، وكتاب «الذريعة في معرفة الشريعة» ، وصنف «التيسير في الخلاف» أربعة أجزاء ، وكتابا سماه «مأخذ النظر» و «مختصرا في الفرائض» وكتابا سماه «الإرشاد المعرب في نصرة المذهب» ولم يكمله ، وذهب فيما نهب له بحلب ، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به. وتعين بالشام وتقدم عند نور الدين صاحب الشام وبنى له المدارس بحلب وحمص وحماة وبعلبك وغيرها ، وتولى القضاء بسنجار ونصيبين وحران وغيرها من ديار بكر ، ثم عاد إلى دمشق سنة سبعين وخمسمائة وتولى القضاء بها في سنة ثلاث وسبعين ، ثم عمي في آخر عمره قبل موته بعشر سنين ، وابنه محيي الدين محمد ينوب عنه وهو باق على القضاء ، ثم صنف جزءا لطيفا في جواز قضاء الأعمى وهو على خلاف مذهب الإمام الشافعي. ورأيت في كتاب الزوائد تأليف أبي الحسن العمراني صاحب كتاب «البيان» وجها أنه يجوز وهو غريب ، لم أره في غير هذا الكتاب. ووقع لي كتاب جميعه بخط السلطان صلاح الدين رحمه‌الله قد كتبه من دمشق إلى القاضي الفاضل وهو بمصر وفيه فصول من جملتها حديث الشيخ شرف الدين المذكور وما حصل له من العمى وأنه يقول : إن قضاء الأعمى جائز وإن الفقهاء قالوا إنه غير جائز ، فتجتمع بالشيخ أبي الطاهر بن عوف الإسكندراني وتسأله عما ورد من الأحاديث في قضاء الأعمى هل يجوز أم لا. وبالجملة فلا شك في فضله.

وقد ذكره أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق ، وذكره العماد الكاتب في كتاب الخريدة وأثنى عليه وقال : ختمت به الفتاوي ، وذكر له شيئا من الشعر. وأنشدني بعض المشايخ قال : سمعته كثيرا ما ينشد ولا أعلم هل هماله أم لا. وذكرهما العماد الكاتب في الخريدة :

أؤمل أن أحيا وفي كل ساعة

تمر بي الموتى تهز نعوشها

وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي

بقايا ليال في الزمان أعيشها

وأورد له أيضا في الخريدة قوله :

٢٦٤

أؤمل وصلا من حبيب وإنني

على ثقة عما قليل أفارقه

تجاري بنا خيل الحمام كأنما

يسابقني نحو الردى وأسابقه

فيا ليتنا متنا معا ثم لم يذق

مرارة فقدي لا ولا أنا ذائقه

وأورد له أيضا :

يا سائلي كيف حالي بعد فرقته

حاشاك مما بقلبي من تنائيكا

قد أقسم الدمع لا يجفو الجفون أسى

والنوم لازارها حتى ألاقيكا

وأورد له أيضا :

وما الدهر إلا ما مضى وهو فائت

وما سوف يأتي وهو غير محصّل

وعيشك فيما أنت فيه فإنه

زمان الفتى من مجمل ومفصّل

وكانت ولادته سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة بالموصل ، وتوفي في رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمائة بمدينة دمشق ودفن في مدرسته التي أنشأها داخل البلد وهي معروفة به ، وزرت قبره مرارا (ا ه ابن خلكان).

وقال الصلاح الصفدي في «نكت الهميان» : وبنى له نور الدين المدارس بحلب وحماة وحمص وبعلبك ، وبنى هو لنفسه مدرسة بحلب (١) وأخرى بدمشق وأضر آخر عمره وهو قاض ، فصنف جزءا في قضاء الأعمى وجوازه ، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في مقدمة الكتاب (أي نكت الهميان). ثم ذكر له من المؤلفات بعد التي تقدمت كتاب «التنبيه في معرفة الأحكام» و «فوائد المهذب» في مجلدين ، وقال إن له غير ذلك. (ثم قال) : وكتب القاضي الفاضل رحمة الله جوابا لمن كتب إليه بموت القاضي : وصل كتاب حضرة القاضي جمع الله شملها ، وسر بها أهلها ، ويسر إلى الخيرات سبلها ، وجعل في ابتغاء رضوانه قولها وفعلها ، وفيه زيادة وهي نقص الإسلام ، وثلم في البرية تتجاوز رتبة الانثلام إلى الانهدام ، وذلك ما قضاه الله تعالى من وفاة الإمام شرف الدين أبي عصرون رحمة الله عليه وما حصل بموته من نقص الأرض من أطرافها ، ومن مساءة أهل الملة ومسرة أهل خلافها ، فلقد كان علما للعلم منصوبا ، وبقية من بقايا السلف الصالح محسوبا.

__________________

(١) لم يذكر ذلك ابن شداد ولا صاحب الدر المنتخب ولا أبو ذر في كنوز الذهب.

٢٦٥

وقد علم الله اغتمامي لفقد حضرته ، واستيحاشي لخلو الدنيا من بركته ، واهتمامي بما عدمت من النصيب الموفور من أدعيته ا ه.

الكلام على المدرسة العصرونية

قال أبو ذر في كنوز الذهب : كانت روضة العلماء ، وكانت أولا دارا لأبي الحسن علي بن أبي الثريا وزير بني مرداس ، فانتقلت إلى نور الدين بالطريق الشرعي فجعلها مدرسة وجعل فيها مساكن للمرتبين بها من الفقهاء ، وذلك في سنة خمسين وخمسمائة ، واستدعى لها من حلّ بناحية سنجار ابن أبي عصرون ، فلما وصل إلى حلب ولي تدريس المدرسة المذكورة والنظر فيها ، وهو أول من درّس بها فعرفت به. وبنى له نور الدين مدرسة بمنبج وبحماة وحمص وبعلبك ودمشق ، وفوض إليه أن يولي التدريس فيها من شاء ، قاله ابن شداد. قلت : وعلى بابها مكتوب بتولي ابن أبي عصرون. وهذه المدرسة بلغني من المتقدمين أنها محصورة ، والدليل على ذلك ما تقدم من قول ابن شداد أنه جعل فيها مساكن للمرتبين بها. وهذه المدرسة يدخل إلى داخلها بدرج ، ولها باب آخر من الغرب ، وبها قاعة لمدرسها ، ووقف لها واقفها أوقافا حوانيت وقرى داخل حلب وخارجها. ثم بعد المحنة التيمرية لما قدم المؤيد إلى حلب جدد سوقها وجعله نصفين نصفا لمدرسته بالقاهرة ونصفا لهذه المدرسة وذلك بطريق شرعي ، فجزاه الله خيرا لأنه كان قادرا على استيجاره بأجرة بخسة ، وذلك بإشارة شيخنا المؤرخ وتكلمه مع القاضي ناصر الدين بن البارزي كاتب سره ، وقام بعمارته القاضي شهاب الدين بن السفاح ، ورتب والدي الفقهاء على السوق المذكور. وفي سنة أربع وسبعين (وثمانمائة) عدد الفقهاء المرتبين بها فوق المائة. ثم قال ما خلاصته :

أن القاضي عبد الله بن عصرون لم يزل متوليا أمر تدريس هذه المدرسة تدريسا ونظرا إلى أن خرج إلى دمشق سنة سبعين وخمسمائة ، ولما خرج استخلف فيها ولده نجم ، ولم يزل بها إلى أن ولي قضاء حماة ، فخرج عنها واستناب فيها ابن أخيه عبد السلام. وهنا ساق أبو ذر أسماء من ولي التدريس بها بما يطول ذكره إلى أن قال : وبعد المحنة التيمورية درّس بها شيخنا المؤرخ دروسا حافلة سيما لما أن كافل حلب قصروه اعتنى بعمارة المدارس ، فعمر شيخنا المدرسة المذكورة ودرّس بها وحضر معه الكافل وفضلاء حلب

٢٦٦

كوالدي والشيخ عبيد والشيخ بدر الدين بن سلامة ، ثم درّس بها القاضي جمال الدين الباعوني وعمر المدرسة في أيامه ولم يستثن أحدا من القطع بل قطع معلومه أولا. ودرّس فيها الشريف الحسيني قاضي حلب دروسا محكمة تدل على سعة اطلاعه وهذا آخر من درّس بها ا ه.

أقول : موقع هذه المدرسة في محلة الفرافرة جنوبي الجامع المعروف الآن بجامع الحيّات ، وكانت خربة مهجورة ، ففي سنة ١٢٩٩ سعى جميل باشا والي حلب في عمارة قبو كبير في غربيها عن يمين الداخل من بابها واتخذ مكتبا ابتدائيا ، ثم عمر في جهتها الشرقية بعض حجر صار يسكنها بعض الطلبة الغرباء ، ثم هجرت وصارت مسكنا للفقراء وبجانبها من جهة القبلة قاسارية تدل هيئتها على أنها كانت حجر مدرسة ، ويغلب على الظن أنها كانت حجر المدرسة الناصرية الآتي ذكرها ، وهذه القاسارية مع المدرسة العصرونية خربتهما إدارة الأوقاف في هذه السنة (سنة ١٣٤٣) وهي مباشرة بتعميرهما دورا للسكنى يضاف ريعها لواردات الأوقاف العامة.

المدرسة الناصرية

قال أبو ذر : هذه المدرسة كانت قديما كنيسة لليهود تعرف بكنيسة مثقال ، ثم في سنة سبع وعشرين وسبعمائة حكم قاضي القضاة كمال الدين بن الزملكاني بوجوب انتزاع هذه الكنيسة من أيديهم وجعلها فيئا للمسلمين بعد أن ثبت عنده أنها محدثة في دار الإسلام ، وعمل بها درسا يتعلق بهذه المسألة ، ثم بنيت الكنيسة المذكورة مدرسة للعلم ، وكتب إلى السلطان الناصر فأمر بعمارة منارة لها وجعل فيها خطبة ، وسبب ذلك أنه كان يدرس بالعصرونية التي إلى جانبها ، فسمع صوت اليهود فسأل عن ذلك فقيل له : إنها كنيسة ، فتقدم بعض الحاضرين وشهد بما تقدم فحكم بذلك ا ه.

أقول : وقد نظم الزين عمر بن الوردي قصيدة غراء في أخذ هذه الكنيسة وجعلها مدرسة للحديث مادحا بها القاضي كمال الدين بن الزملكاني ، وهي في ديوانه المطبوع في صحيفة ٢٤٩ ومطلعها :

علا لك ذكر ليس يشبهه ذكر

وأحرزت فخرا ليس يدركه الفخر

وهي طويلة جدا.

٢٦٧

وهذه المدرسة تعرف الآن بجامع الحيّات كما تقدم ، وذلك لرسوم حيّات من الحجر في قنطرة بابها الباقي إلى الآن ، وقد تقدم ذكرها وما كتب بالقلم العبراني على حجرة مبنية في جدارها الشرقي في الجزء الأول (ص ٨٥) ، ولا يدرس فيها الآن ، وقبليتها عامرة تقام فيها الصلوات والجمعة ، وأطراف صحنها من الجهات الثلاث خرب في حاجة إلى الترميم لتعود إلى ما كانت عليه.

المدرسة الشهابية وتربتها

قال في الدر المنتخب : هي تجاه الناصرية ، وهي من مدارس الحنفية بحلب ا ه.

وفي هذه المدرسة تربة تدعى التربة الشهابية ذكرها أبو ذر في الكلام على الترب.

درب الدقصلارية

قال أبو ذر : كانوا تسعة إخوة تجارا قبل فتنة تيمور يتجرون بسوق العصرونية ، وربما نسب السوق إليهم ، ونزل عليهم السخومي شارح المصابيح وكان عالما دينا منقطعا عن الناس توفي قبل تيمور. وارتحلوا من حلب قبل فتنة تيمور إلى القدس ، وسببه أن واحدا منهم لبس تفصيلة جاءته من العجم ، فجسها شخص وسأله عن مقدار ثمنها ، فقال لأخوته : هذا بلد لا يسكن ، وارتحلوا ، ولهم دار عظيمة واسعة الأرجاء ، وبهذا الدرب مسجد قديم له منارة وبه المدرسة الكاملية ا ه.

المدرسة الكاملية

هذه المدرسة بالقرب من الناصرية تجاه الدقصلارية ، أنشأها ابن كامل وسكنها الشيخ جمال الدين يوسف الملطي الحنفي ، وترجمته في تاريخ والدي ا ه أبو ذر والدر المنتخب.

أقول : ولا أثر لهذه المدارس الآن ، والذي هو أمام المدرسة الناصرية المعروفة الآن بجامع الحيّات هو سبيل ماء وهو معطل الآن ، فعلى هذا تكون هذه المدارس قد دخلت في عمارة الخان الكبير المعروف بخان الوزير في الجهة الشرقية منه.

٢٦٨

١٣٢ ـ الشريف حمزة بن زهرة الإسحاقي الحسيني المتوفى سنة ٥٨٥

الشريف حمزة بن زهرة الإسحاقي الحسيني أبو المكارم ، السيد الجليل الكبير القدر العظيم الشأن العالم الكامل الفاضل ، المدرس المصنف المجتهد ، عين أعيان السادات والنقباء بحلب ، صاحب التصانيف الحسنة والأقوال المشهورة ، له عدة كتب ، وقبره بحلب بسفح جبل جوشن عند مشهد الحسين له تربة معروفة مكتوب عليها اسمه إلى الإمام الصادق عليه‌السلام وتاريخ موته أيضا. وجدهم محمد الممدوح الحراني بن أحمد الحجازي ممدوح أبي العلاء المعري. وجمهور عقب إسحق المؤتمن ينتهي إلى محمد هذا.

قال العمري : كان أبو إبراهيم لبيبا عاقلا ، ولم تكن له حال واسعة ، فزوجه الحسين الحراني ابن عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن علي الخطيب العلوي العمري بنته خديجة المعروفة بأم سلمة ، وكان أبو عبد الله الحسيني العمري متقدما بحرّان مستوليا عليها ، وقوي أمر أولاده حتى استولوا على حرّان وملكوها على آل وثّاب. قال : فأيد أبو عبد الله الحسين العمري أبا إبراهيم بماله وجاهه ، ونبغ أبو إبراهيم وتقدم وخلف أولادا سادة فضلاء علماء نقباء وقضاة ذوي وجاهة وتقدم وجلالة. هذا كلامه. وعقبه الآن من رجلين أبي عبد الله جعفر نقيب حلب ، وأبي سالم محمد ، ولأعقابهما توجه وعلم وسيادة ، فهم أجلاء نقباء حلب وعلماؤها وقضاتها. ولهم تربة معروفة مشهورة ، رحمهم‌الله تعالى.

انتقل جدهم محمد بن الحسين بن إسحق من المدينة إلى الكوفة ثم إلى الري ثم إلى حران ثم إلى حلب وديارها.

هذا ما وقفت عليه من ترجمة هذا الشريف الكبير في بعض الكتب ، وهي موجزة كما ترى ، ويغلب على الظن أن له ترجمة واسعة في تاريخ الصاحب ابن العديم المسمى بغية الطلب ، ولم يصل إلي إلا بعض هذا الكتاب كما ذكرت ذلك في المقدمة.

وقد أبقت أيدي الزمان قبر المترجم في تربتهم الكائنة في سفح جبل جوشن جنوبي المشهد ، وبينه وبين التربة أذرع ، وقد كانت تلك التربة مردومة فاكتشفت في شهر جمادى الأولى سنة ١٢٩٧. وقد حاط المرحوم جميل باشا ما بقي من هذه التربة بجدران حفظا لها ، وقبر المترجم ظاهر فيها ، وعلى أطرافه كتابة حسنة الخط وهذا نصها :

٢٦٩

(بسم الله الرحمن الرحيم هذه تربة الشريف الأوحد الطاهر ركن الدين بن أبي المكارم حمزة بن علي بن زهرة بن علي بن محمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين بن إسحق ابن جعفر الصادق صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الأئمة الطاهرين. وكانت وفاته في رجب سنة خمس وثمانين وخمسمائة رضي‌الله‌عنه).

الكلام على نقابة الأشراف

قد علمت أن المترجم كان نقيب الطالبيين في مدينة حلب. وسيأتيك في كتابنا الكثير من ذريته ممن تولوا نقابة الأشراف فيها. ويظهر أن هذه الوظيفة دامت في هذا البيت الرفيع إلى ما بعد الألف.

ونقابة الأشراف وظيفة هامة في العالم الإسلامي ، وقد كان لها تأثير كبير في تربية البيوتات الشريفة وإصلاح أحوالها وتدبير شؤونها مما أدى إلى إجلال الناس لهم واحترامهم وتوقيرهم ووضعهم بالمكان الذي يليق بشرف نسبهم وكرم محتدهم ، فكان من ذلك اقتداء الناس بهم واقتفاؤهم لأثرهم وطاعتهم لهم ونفوذ كلمتهم فيهم ، وكانوا يأتمرون بأوامرهم ويذعنون لرغائبهم إلى غير ذلك مما يعود بعظيم الفائدة على هذا المجتمع.

ولما كان الكثير من الناس لا يعلمون وظيفة نقابة الأشراف ولا الشروط التي يجب أن يتصف بها النقباء أحببت أن أذكر ذلك هنا ناقلا هذا البحث الهام عن كتاب الآداب السلطانية للإمام الماوردي رحمه‌الله ، قال :

(الباب الثامن في ولاية النقابة على ذوي الأنساب)

وهذه النقابة موضوعة على صيانة ذوي الأنساب الشريفة عن ولاية من لا يكافئهم في النسب ولا يساويهم في الشرف ليكون عليهم أحبي وأمره فيهم أمضى.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم) فإنه لاقرب بالرحم إذا قطعت وإن كانت قريبة ، ولا بعد بها إذا وصلت وإن كانت بعيدة.

وولاية هذه النقابة تصح من إحدى ثلاث جهات ، إما من جهة الخليفة المستولي على كل الأمور ، وإما ممن فوّض الخليفة إليه تدبير الأمور كوزير التفويض وأمير الإقليم ، وإما من نقيب عام الولاية استخلف نقيبا خاص الولاية ، فإذا أراد المولى أن يولي على الطالبيين

٢٧٠

نقيبا أو على العباسيين نقيبا يخير منهم أجلهم بيتا وأكثرهم فضلا وأجزلهم رأسا فيولى عليهم لتجتمع فيه شروط الرياسة والسياسة ، فيسرعوا إلى طاعته برياسته ، وتستقيم أمورهم بسياسته.

والنقابة على ضربين خاصة وعامة ، فأما الخاصة فهو أن يقتصر بنظره على مجرد النقابة من غير تجاوز لها إلى حكم وإقامة حد ، فلا يكون العلم معتبرا في شروطها ويلزمه في النقابة على أهله من حقوق النظر اثنا عشر حقا.

أحدها : حفظ أنسابهم من داخل فيها وليس منها أو خارج عنها وهو منها ، فيلزمه حفظ الخارج منها كما يلزمه حفظ الداخل فيها ليكون النسب محفوظا على صحته معزوا إلى جهته.

الثاني : تمييز بطونهم ومعرفة أنسابهم حتى لا يخفى عليه منهم بنوات ولا يتداخل نسب في نسب ، ويثبتهم في ديوانه على تمييز أنسابهم.

والثالث : معرفة من ولد منهم من ذكر أو أنثى فيثبته ، ومعرفة من مات منهم فيذكره ، حتى لا يضيع نسب المولود إن لم يثبته ولا يدعي نسب الميت غيره إن لم يذكره.

والرابع : أن يأخذهم من الآداب بما يضاهي شرف أنسابهم وكرم محتدهم ، لتكون حشمتهم في النفوس موفورة ، وحرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم محفوظة.

والخامس : أن ينزههم عن المكاسب الدنيئة ، ويمنعهم من المطالب الخبيثة ، حتى لا يستقل منهم مبتذل ، ولا يستضام منهم متذلل.

والسادس : أن يكفهم عن ارتكاب المآثم ، ويمنعهم من انتهاك المحارم ، ليكونوا على الدين الذي نصروه أغير ، وللمنكر الذي أزالوه أنكر ، حتى لا ينطق بذمهم إنسان ، ولا يشنأهم لسان.

والسابع : أن يمنعهم من التسلط على العامة لشرفهم والتشطط عليهم لنسبهم ، فيدعوهم ذلك إلى المقت والبغض ويبعثهم على المناكرة والبعد ، ويندبهم إلى استعطاف القلوب وتأليف النفوس ، ليكون الميل إليهم أوفى والقلوب لهم أصفى.

٢٧١

والثامن : أن يكون عونا لهم في استيفاء الحقوق حتى لا يضعفوا عنها ، وعونا عليهم في أخذ الحقوق منهم حتى لا يمنعوا منها ، ليصيروا بالمعونة لهم منتصفين وبالمعونة عليهم منصفين ، فإن من عدل السير فيهم إنصافهم وانتصافهم.

والتاسع : أن ينوب عنهم في المطالبة بحقوقهم العامة في سهم ذوي القربى في الفيء والغنيمة الذي لا يختص به أحدهم ، حتى يقسم بينهم بحسب ما أوجبه الله تعالى لهم.

والعاشر : أن يمنع أياماهم أن يتزوجن إلا من الأكفاء لشرفهن على سائر النساء ، صيانة لأنسابهن وتعظيما لحرمتهن إن يزوجن غير الولاة أو ينكحن غير الكفاة.

والحادي عشر : أن يقوّم ذوي الهفوات منهم فيما سوى الحدود بما لا يبلغ به حدا ولا ينهر به دما ، ويقيل ذا الهيئة منهم عثرته ويغفر بعد الوعظ زلته.

والثاني عشر : مراعاة وقوفهم بحفظ أصولها وتنمية فروعها ، وإذا لم يرد إليه جبايتها راعى الجباة لها فيما أخذوه وراعى قسمتها إذا قسموه ، وميز المستحقين لها إذا خصت ، وراعى أوصافهم فيها إذا شرطت ، حتى لا يخرج منها مستحق ، ولا يدخل فيها غير محق.

وأما النقابة العامة فعمومها أن يرد إليه في النقابة عليهم ما قدمناه من حقوق النظر خمسة أشياء :

أحدها : الحكم بينهم فيما تنازعوا فيه.

والثاني : الولاية على أيتامهم فيما ملكوه.

والثالث : إقامة الحدود عليهم فيما ارتكبوه.

والرابع : تزويج الأيامى اللاتي لايتعين أولياؤهن أو قد تعين فعضلوهن.

والخامس : إيقاع الحجر على من عته منهم أو سفه ، وفكّه إذا أفاق ورشد.

فيصير بهذه الخمسة عام النقابة ، فيعتبر حينئذ في صحة نقابته وعقد ولايته أن يكون عالما من أهل الاجتهاد ليصح حكمه وينفذ قضاؤه.

ثم ذكر هنا الإمام الماوردي رحمه‌الله حكم قضائه وقضاء القضاة بين الأشراف بما فيه طول ، فارجع إليه إن شئت.

وفي هذه الأزمنة قد تبدلت هذه الأحوال وتغيرت تلك الأوضاع ، ولا يراعى في النقباء

٢٧٢

شيء من هذه الشروط ، ولا يقومون بشيء من هذه الأعمال. وقد درست معالم تلك الوظيفة الجليلة ولم يبق منها سوى اسمها ولله في خلقه شؤون.

١٣٣ ـ الأمير الفقيه عيسى الهكاري المتوفى سنة ٥٨٥

الفقيه أبو محمد عيسى بن محمد بن عيسى بن محمد بن أحمد بن يوسف بن القاسم ابن عيسى بن محمد بن القاسم بن محمد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، ويقال له الهكاري الملقب ضياء الدين.

كان أحد الأمراء بالدولة الصلاحية كبير القدر وافر الحرمة معولّا عليه في الآراء والمشورات. وكان في مبدأ أمره يشتغل بالفقه بالمدرسة الزجاجية بمدينة حلب ، فاتصل بالأمير أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين وصار إمامه يصلي به الفرائض الخمس. ولما توجه الأمير أسد الدين إلى الديار المصرية وتولى الوزارة بها كان في صحبته. ولما توفي أسد الدين اتفق الفقيه عيسى المذكور والطواشي بهاء الدين قراقوش على ترتيب السلطان صلاح الدين موضعه في الوزارة ، ودققا الحيلة في ذلك حتى بلغا المقصود ، فلما تولى صلاح الدين رأى له ذلك واعتمد عليه ولم يكن يخرج عن رأيه ، وكان كثير الإدلال عليه يخاطبه بما لا يقدر عليه غيره من الكلام. وكان واسطة خير للناس نفع بجاهه خلقا كثيرا.

ولم يزل على مكانته وتوفر حرمته إلى أن توفي يوم الثلاثاء التاسع من ذي القعدة سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالمخيم بمنزلة الخرّوبة ، ثم نقل إلى القدس ودفن بظاهرها.

وكان يلبس زي الأجناد ويعتم بعمائم الفقهاء فيجمع بين اللباسين. والخرّوبة بفتح الخاء وتشديد الراء موقع بالقرب من عكا ا ه ابن خلكان.

وترجمه السبكي في طبقاته فقال : هو الأمير ضياء الذين عيسى بن محمد الهكاري الفقيه المحقق أكبر أمراء الدولة الصلاحية ، تفقه بالجزيرة على الإمام أبي القاسم بن البرزي ، ثم انتقل إلى حلب وسمع الحديث من الحافظين أبي طاهر السلفي وأبي القاسم بن عساكر وحدث. سمع منه القاضي محمد بن علي الأنصاري وغيره.

وكان من مبادي سعده أنه اتصل بخدمة الملك أسد الدين شيركوه وصار إمامه في

٢٧٣

الصلوات ، وتوجه معه إلى مصر. وكان أحد الأسباب المعينة على سلطنة صلاح الدين بعد عمه ، فمن ثم رعى له السلطان هذه الخدمة ، وكان ذا شجاعة وشهامة فأمّره أسد الدين ، ثم رفع صلاح الدين منزلته ونقله من إمرة إلى إمرة حتى صار أكبر أمراء الدولة ، وأسر مرة.

مات بمخيمه على حصار عكا وهو مجاهد للفرنج ا ه.

آثاره بحلب

قال أبو ذر في كلامه على الجوامع : وفي بانقوسا جامع تقام فيه الخطبة يعرف بعيسى الكردي الهكاري ، كان شحنة الشرطة بحلب ا ه. ومثله في الدر المنتخب ولا أدري أي جامع هو.

١٣٤ ـ الشيخ عبد الله الحراكي المتوفى سنة ٥٨٦

عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي القاسم بن أبي الحسن علي بن كمال الدين محمد بن الحسن بن محمد بن علي الزاهد بن محمد الأقساسي بن يحيى ذي الدمعة بن الحسين ذي العبرة بن زيد الشهيد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، السيد الشريف الحسيب الشيخ الصالح الجليل الأصيل العريق القدوة الزاهد العابد الورع الناسك السالك المسلك المحقق المدقق.

(قال بعد أن أطال في وصفه) :

تعبد في جبال فلسطين بعد نزوله من المدينة المشرفة ، ثم نزل قرية من حوران تسمى بحراك فنسب إليها ، ونزل إلى الشام في أيام الشيخ رسلان الدمشقي ، وكان شيخ التصوف بها ، حتى غارت منه مشايخ الشام ، وظهر له من الكرامات ما لا يمكن العبارة عنه من الكشف الحقيقي والإلهام الرباني والإتصال النبوي. واجتمع عليه عالم كبير من المترددين عليه ما خشي به على نفسه أن يشغله ذلك عن حال المراقبة.

وكان من مناقبه رحمه‌الله أنه ما رفع طرفه إلى السماء أبدا من الحياء من الله.

فلما كثر عليه الناس ارتحل منها إلى حمص فكثر عليه الناس وتلمذ له الغالب من أهلها

٢٧٤

واشتهرت كراماته ، حتى خشي على نفسه أن يشغله ذلك عن حال المراقبة من ازدحام الناس عليه ، فارتحل منها وتوجه إلى معرة النعمان ، فازدحم عليه الناس فخشي أن يشغله ذلك عن حال المراقبة ، فارتحل منها إلى الغرزل من عملها ، فأقام بها واستوطنها. وأتته الناس من العراق وأطراف الشام وتلمذ له مالا يمكن حصرهم ، وتوفي بها سنة ست وثمانين وخمسمائة ، وبني عليه مشهد ، وأسلم يوم وفاته جماعة من النصارى ، ولم يعقب سوى خلفه أبي الحسن علي ، وكان مقاربا لوالده في الزهد والعبادة والعلم والحال ، رحمهما‌الله تعالى ، ومنه الطائفة الطاهرة القاطنة بمعرة النعمان ولهم الزاوية المشهورة بها ا ه (من بعض المجامع الحلبية).

١٣٥ ـ أبو الفتوح يحيى بن حبش السهروردي المتوفى سنة ٥٨٧

قال ابن خلكان : أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك الملقب شهاب الدين السهروردي الحكيم المقتول بحلب ، وقيل اسمه أحمد ، وقيل كنيته اسمه ، وهو أبو الفتوح.

وذكر أحمد بن أبي أصيبعة في «طبقات الأطباء» أن اسم السهروردي المذكور عمر ولم يذكر اسم أبيه. والصحيح الذي ذكرته أولا ، فلهذا بنيت الترجمة عليه ، فإني وجدته بخط جماعة من أهل المعرفة بهذا الفن ، وأخبرني به جماعة أخرى لا أشك في معرفتهم ، فقوي عندي ذلك فترجمت عليه والله أعلم.

كان المذكور من علماء عصره ، قرأ الحكمة وأصول الفقه على الشيخ مجد الدين الجيلي بمدينة المراغة من أعمال آذربيجان إلى أن برع فيهما. ومجد الدين الجيلي هذا هو شيخ فخر الدين الرازي وعليه تخرج وبصحبته انتفع ، وكان إماما في فنونه.

وقال في «طبقات الأطباء». كان السهروردي المذكور أوحد أهل زمانه في العلوم الحكمية ، جامعا للعلوم الفلسفية ، بارعا في الأصول الفقهية ، مفرط الذكاء فصيح العبارة ، وكان علمه أكثر من عقله. ثم ذكر أنه قتل في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة. والصحيح ما سنذكره في أواخر هذه الترجمة إن شاء الله تعالى وعمره نحو ست وثلاثين سنة.

ثم قال هو وابن أبي أصيبعة : وله تصانيف ، فمن ذلك كتاب التنقيحات في أصول

٢٧٥

الفقه. وكتاب التلويحات اللوحية والعرشية (١). كتاب الألواح العمادية ألفه لعماد الدين أبي بكر بن قرا أرسلان بن داود بن أرتق صاحب خرت برت. كتاب المقاومات وهو لواحق على كتاب التلويحات. كتاب هياكل النور (٢). كتاب المطارحات (٣). كتاب المعارج. كتاب اللمحة. كتاب حكمة الإشراق. وله الرسالة المعروفة بالغربة الغريبة على مثال رسالة الطير لأبي علي بن سينا ورسالة حي بن يقظان لابن سينا أيضا وفيها بلاغة تامة أشار فيها إلى حديث النفس وما يتعلق بها على اصطلاح الحكماء.

قال ابن أبي أصيبعة : حدثني الشيخ سديد الدين محمود بن عمر قال : كان شهاب الدين السهروردي قد أتى إلى شيخنا فخر الدين المارديني ، وكان يتردد إليه في أوقات وبينهما صداقة ، وكان الشيخ فخر الدين يقول لنا : ما أذكى هذا الشاب وأفصحه ، ولم أجد أحدا مثله في زماني ، إلا أني أخشى عليه لكثرة تهوره واستهتاره وقلة تحفظه أن يكون ذلك سببا لتلافه. قال : فلما فارقنا شهاب الدين السهروردي من الشرق وتوجه إلى الشام أتى إلى حلب وناظر بها الفقهاء ولم يجاره أحد ، فكثر تشنيعهم عليه ، فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام ، فتكلم معهم بكلام كثير وبان له فضل عظيم وعلم باهر ، وحسن موقعه عند الملك الظاهر وقربه وصار مكينا عنده مختصا به ، فازداد تشنيع أولئك عليه وعملوا محاضر بكفره وسيروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين وقالوا : إن بقي هذا فإنه يفسد اعتقاد الملك الظاهر ، وكذا إن أطلق فإنه يفسد أي ناحية كان بها من البلاد ، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك ، فبعث صلاح إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابا في حقه بخط القاضي الفاضل وهو يقول فيه : إن هذا السهروردي لابد من قتله ولا سبيل أنه يطلق ولا يبقى بوجه من الوجوه.

__________________

(١) نسخة منه في نور عثمانية الآستانة.

(٢) يوجد نسختان منه في مكتبة المدرسة الأحمدية بحلب ورقمهما (٧٢٦) و (٨٢٨) مع شرح وحاشية عليه للكوراني. وهو مطبوع.

(٣) يوجد نسخة منه في مكتبة داماد إبراهيم باشا ورقمها ٨٢٦ ونسخة في المكتبة الأحمدية بحلب ورقمها ١٣٠٢. ومن مؤلفاته الأسماء الإدريسية ، نسخة منه في المكتبة السلطانية بمصر.

٢٧٦

ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك وأيقن أنه يقتل وليس جهة إلى الافراج عنه اختار أنه يترك في مكان منفرد ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله تعالى ، ففعل به ذلك. وكان في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب ، وكان عمره نحو ست وثلاثين سنة.

قال الشيخ سديد الدين محمود بن عمر : ولما بلغ شيخنا فخر الدين المارديني قتله قال لنا : أليس كنت قلت عن هذا من قبل وكنت أخشى عليه منه.

أقول (من كلام ابن أبي أصيبعة) : ويحكى عن شهاب الدين السهروردي أنه كان يعرف علم السيميا وله نوادر شوهدت عنه من هذا الفن ، ومن ذلك حدثني الحكيم إبراهيم ابن أبي الفضل بن صدقة أنه اجتمع به وشاهد منه ظاهر باب الفرج وهم يتمشون إلى ناحية الميدان الكبير ومعه جماعة من التلاميذ وغيرهم ، وجرى ذكر هذا الفن وبدائعه وما يعرف الشيخ منه وهو يسمع ، فمشى قليلا وقال : ما أحسن دمشق وهذه المواضع! قال : فنظرنا وإذا من ناحية الشرق جواسق عالية متدانية بعضها إلى بعض مبيضة وهي من أحسن ما يكون بناية وزخرفة ، وبها طاقات كبار فيها نساء ما يكون أحسن منهن قط ، وأصوات مغان وأشجار متعلقة بعضها مع بعض ، وأنهر جارية كبار لم نكن نعرف ذلك من قبل. فبقينا نتعجب من ذلك وتستحسنه الجماعة وانذهلوا لما رأوا. قال الحكيم إبراهيم : فبقينا كذلك ساعة. ثم غاب عنا وعدنا إلى رؤية ما كنا نعرفه من طول الزمان ، قال لي : إلا أني عند رؤية تلك الحالة الأولى العجيبة بقيت أحس في نفسي كأنني في سنة خفية ، ولم يكن إدراكي كالحالة التي أتحققها مني.

وحدثني بعض فقهاء العجم قال : كنا مع الشيخ شهاب الدين عند القابون ونحن مسافرون عن دمشق ، فلقينا قطيع غنم مع تركمان فقلنا للشيخ : يا مولانا ، نريد من هذه الغنم رأسا نأكله ، فقال : معي عشرة دراهم خذوها واشتروا بها رأس غنم. وكان ثم تركماني فاشترينا منه رأسا بها ومشينا ، فلحقنا رفيق له وقال : ردوا الرأس وخذوا أصغر منه ، فإن هذا ما عرف يبيعكم ، يسوى هذا الرأس البختي الذي معكم أكثر من الذي قبض منكم. وتقاولنا نحن وإياه. ولما عرف الشيخ ذلك قال لنا : خذوا الرأس وامشوا وأنا أقف معه وأرضيه ، فتقدمنا وبقي الشيخ يتحدث معه ويمنيه ، فلما أبعدنا قليلا تركه

٢٧٧

وتبعنا وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به وهو لا يلتفت إليه ، ولا لم يكلمه لحقه بغيظ وجذب يده اليسرى وقال : أين تروح وتخليني؟ وإذا بيد الشيخ قد انخلعت من عند كتفه وبقيت في يد التركماني ودمها يجري ، فبهت التركماني وتحير في أمره ، ورمى اليد وخاف ، فرجع الشيخ وأخذ تلك اليد بيده اليمنى ولحقنا ، وبقي التركماني راجعا وهو يتلفت إلينا حتى غاب ، ولما وصل الشيخ إلينا رأينا في يده اليمنى منديله لا غير.

وحدثني صفي الدين خليل بن أبي الفضل الكاتب قال : حدثنا الشيخ ضياء الدين ابن صقر رحمه‌الله تعالى أن في سنة خمسمائة وتسع وسبعين قدم إلى حلب الشيخ شهاب الدين السهروردي ونزل في مدرسة الحلاوية ، وكان مدرسها يومئذ الشريف رئيس الحنفية افتخار الدين رحمه‌الله ، فلما حضر شهاب الدين الدرس وبحث مع الفقهاء وكان لابس دلق وهو مجرد بإبريق وعكاز خشب ، وما كان أحد يعرفه ، فلما بحث وتميز بين الفقهاء وعلم افتخار الدين أنه فاضل أخرج له ثوبا عتابيا وغلالة وبقيارا وقال لولده : تروح إلى هذا الفقير وتقول له : والدي يسلّم عليك ويقول لك : أنت رجل فقيه وتحضر الدرس بين الفقهاء ، وقد سير لك شيئا تكون تلبسه إذا حضرت ، فلما وصل إلى الشيخ شهاب الدين وقال له ما أوصاه سكت ساعة وقال : يا ولدي حط هذا القماش وتفضل اقض لي حاجة ، وأخرج له فص بلخش في قدر بيضة الدجاجة رمّاني ما ملك أحد مثله في قده ولونه وقال : تروح إلى السوق تنادي على هذا الفص ، ومهما جاب لا تطلق بيعه حتى تعرفني. فلما وصل به إلى السوق قعد عند العريف ونادى على الفص ، فانتهى ثمنه إلى مبلغ خمسة وعشرين ألف درهم ، فأخذه العريف وطلع إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين وهو يومئذ صاحب حلب وقال : هذا الفص قد جاب هذا الثمن ، فأعجب الملك الظاهر قده ولونه وحسنه فبلغه إلى ثلاثين ألف درهم ، فقال العريف : حتى أنزل إلى ابن افتخار الدين وأقول له. وأخذ الفص ونزل إلى السوق وأعطاه له وقال له : رح شاور والدك على هذا الثمن. واعتقد العريف أن الفص لافتخار الدين ، فلما جاء إلى شهاب الدين السهروردي وعرفه بالذي جاب الفص صعب عليه وأخذ الفص وجعله على حجر وضربه بحجر آخر حتى فتته ، وقال لولد افتخار الدين : خذ يا ولدي هذه الثياب ورح إلى والدك قبّل يده عني وقل له : لو أردنا الملبوس ما غلبنا عنه ، فراح إلى افتخار الدين وعرّفه صورة ما جرى ، فبقي حائرا في قضيته.

٢٧٨

وأما الملك الظاهر فإنه طلب العريف وقال : أريد الفص ، فقال : يا مولانا أخذه صاحبه ابن الشريف افتخار الدين مدرس الحلاوية ، فركب السلطان ونزل إلى المدرسة وقعد في الإيوان وطلب افتخار الدين إليه وقال : أريد الفص ، فعرّفه أنه لشخص فقير نازل عنده ، قال : فأفكر السلطان ثم قال : يا افتخار الدين ، إن صدق حدسي فهذا شهاب الدين السهروردي.

ثم قام السلطان واجتمع بشهاب الدين وأخذه معه إلى القلعة وصار له شأن عظيم وبحث مع الفقهاء في سائر المذاهب وعجّزهم ، واستطال على أهل حلب وصار يكلمهم كلام من هو أعلى قدرا منهم ، فتعصبوا عليه وأفتوا في دمه حتى قتل. وقيل إن الملك الظاهر سير إليه من خنقه.

قال : ثم إن الملك الظاهر بعد مدة نقم على الذين أفتوا في دمه وقبض على جماعة منهم واعتقلهم وأهانهم وأخذ منهم أموالا عظيمة.

وذكر الشيخ أحمد الملا في مختصره لتاريخ الذهبي ومن خطه نقلت قال : ونقل عن الموفق يعيش النحوي قال : لما تكلموا في السهروردي قال له تلميذ له : قد كثر القول بأنك تقول النبوة مكتسبة فاخرج بنا ، فقال : اصبر عليّ أياما حتى نأكل البطيخ ونروح ، فإن بي طرفا من السل وهو يوافقه ، ثم خرج إلى قرية دوير ابن الخشاب وبها محفرة تراب وبها بطيخ مليح ، فأقام بها عشرة أيام ، فجاء يوما المحفرة وحفر في أسفلها فطلع له حصى ، فأخذه ودهنه بدهن معه ولفه في قطن وتحمله في وسطه ووسط أصحابه أياما ، ثم أحضر بعض من يحك الجوهر فحكه فظهر كله ياقوتا أحمر ، فباع منه ووهب ، ولما قتل وجد منه شيء في وسطه ا ه.

وقال ابن أبي أصيبعة : حدثني سديد الدين محمود بن عمر المعروف بابن رقيقة قال : كان الشيخ شهاب السهروردي رث البزة لا يلتفت إلى ما يلبسه ولا له احتفال بأمور الدنيا ، قال : وكنت أنا وإياه نتمشى في جامع ميّافارقين وهو لابس جبة قصيرة مصرية زرقاء وعلى رأسه فوطة مفتولة وفي رجليه زربول ، ورآني صديق لي فأتى إلى جانبي وقال : ما جئت تماشي إلا هذه الخربندا؟ فقلت له : اسكت ، هذا سيّد الوقت شهاب الدين السهروردي ، فتعاظم قولي وتعجب ومضى.

٢٧٩

وحدثني بعض أهل حلب قال : لما توفي شهاب الدين رحمه‌الله ودفن بظاهر مدينة حلب وجد مكتوبا على قبره (الشعر قديم) :

قد كان صاحب هذا القبر جوهرة

مكنونة قد براها الله من شرف

فلم تكن تعرف الأيام قيمته

فردها غيرة منه إلى الصدف

ومن كلامه قال في دعاء : اللهم يا قيام الوجود وفائض الجود ، ومنزل البركات ومنتهي الرغبات ، منور النور ومدبر الأمور ، واهب حياة العالمين ، امددنا بنورك ووفقنا لمرضاتك ، وألهمنا رشدك وطهرنا من رجس الظلمات ، وخلصنا من غسق الطبيعة إلى مشاهدة أنوارك ومعاينة أضوائك ، ومجاورة مقربيك وموافقة سكان ملكوتك ، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من الملائكة والصديقين والأنبياء والمرسلين.

قال ابن خلكان : ومن كلامه : الفكر في صورة قدسية يتلطف بها طالب الأريحية ، ونواحي القدس دار لا يطأها القوم الجاهلون ، وحرام على الأجساد المظلمة أن تلج ملكوت السموات ، فوحد الله وأنت بتعظيمه ملآن ، واذكره وأنت من ملابس الأكوان عريان ، ولو كان في الوجود شمسان لانطمست الأركان ، وأبى النظام أن يكون غير ما كان.

(مفرد).

فخفيت حتى قلت لست بظاهر

وظهرت من سعي على الاكوان

آخر :

لو علمنا أننا ما نلتقي

لقضينا من سليمى وطرا

اللهم خلص لطيفي من هذا العالم الكثيف.

وتنسب إليه أشعار ، فمن ذلك ما قاله في النفس على مثال أبيات ابن سينا العينية ، وهي مذكورة في ترجمته فقال هذا الحكيم :

خلعت هياكلها بجرعاء الحمى

وصبت لمغناها القديم تشوّقا

وتلفتت نحو الديار فشاقها

ربع عفت أطلاله فتمزّقا

وقفت تسائله فرد جوابها

رجع الصدى أن لا سبيل إلى اللقا

فكأنها برق تألق بالحمى

ثم انطوى فكأنه ما أبرقا

٢٨٠