إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٤

الدين ، وكلاهما من مدرسي المدرسة النظامية المشهورة في بغداد كما ذكره ابن خلكان في ترجمتهما ، ولما شاهد المترجم تلك المدرسة العظيمة ورقّي العلم في بغداد في ذلك العصر الزاهر أثر ذلك في نفسه ، ولما عاد إلى وطنه أشار على صاحب حلب وقتئذ سليمان بن عبد الجبار في ذلك وشرعا في بنائها ونسبت إليهما ، وتهافت الناس بعد ذلك على تشييد المدارس والخوانك وغير ذلك من الآثار الخيرية ، فانتشر العلم ونفقت أسواقه في هذه البلاد وتقدمت به تقدما عظيما ، والفضل في ذلك يرجع إلى هذا الإمام الكبير. فرحمه‌الله رحمة واسعة وأجزل له الثواب بمنه وكرمه.

ولا بأس بهذه المناسبة أن نذكر أول من بنى المدارس في الإسلام فإنه مما تتوق إلى معرفته النفوس فنقول : قال أبو ذر في أول كلامه على مدارس حلب :

أول من بنى المدارس في الإسلام

قال بعضهم : أول من بنى المدارس نظام الملك قوام الدين الحسن بن علي الطوسي. بنى مدرسة بنيسابور ومدرسة بالبصرة ومدرسة بمرو ومدرسة بآمد طبرستان ومدرسة بالموصل. قال الحافظ الذهبي : زعم بعضهم أنه أول من بنى المدارس وليس كذلك ، فقد كانت المدرسة البيهقية بنيسابور قبل أن يولد نظام الملك ، والمدرسة السعدية بنيسابور أيضا بناها الأمير نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود لما كان واليا بنيسابور ، ومدرسة ثالثة بنيسابور بناها إسماعيل بن علي المثنى الأسترابادي الواعظ الصوفي شيخ الخطيب ، ومدرسة رابعة أيضا بنيسابور بنيت للأستاذ أبي إسحق الأسفرايني. وقال الحاكم في ترجمة الأستاذ أبي إسحاق : لم يبن بنيسابور مدرسة قبلها مثلها. وهذا صريح في أنه بني قبلها غيرها ، والغالب على الظن أن نظام الملك أول من رتب فيها المعاليم للطلبة ، فإنه لم يكن لهم في المدارس التي قبلها معلوم ، وكان بناء النظامية ببغداد سنة تسع وخسمين وأربعمائة.

ورأيت في كلام بعضهم : فتحت يوم السبت عاشر ذي القعدة من السنة المذكورة ، وشرع في عمارتها سنة سبع وخمسين.

وترجمة نظام الملك طويلة ، قتل في رمضان سنة خمس وثمانين وأربعمائة بقرية قريبة من نهاوند ، وقيل إن السلطان ملكشاه دس عليه من قتله ، ولم يعش السلطان بعده إلا خمسة وثلاثين يوما والله تعالى أعلم.

٢٤١

١١٢ ـ حميد بن منقذ المتوفى سنة ٥٦٤

حميد بن مالك بن مغيث بن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم أبو الغنايم الكناني المنقذ الملقب بمكين الدولة ، ولد بشيزر سنة إحدى وتسعين وأربعمائة ونشأ بها ، وانتقل إلى دمشق فسكنها مدة طويلة ، واكتتب في العسكر ، وكان يحفظ القرآن ، وذكر أنه حفظه في مدة قريبة. وله شعر حسن فيه شجاعة وعفاف. أنشدنا أبو الغنائم لنفسه :

ما بعد جلّق للمرتاد منزلة

ولا كسكانها في الأرض سكان

فكلها بمجال الطرف منتزه

وكلهم لصروف الدهر أقران

وهم وإن بعدوا مني بنسبتهم

إذا بلوتهم بالودّ إخوان

وله فيها :

وبلدة جمعت من كل مبهجة

فما يفوت لمرتاد بها وطر

بكل مشترف من ربعها أفق

وكل مشترف من أفقها قمر

قال لنا أبو الغنائم : واشتقت إلى تربة أخي يحيى رحمه‌الله وأنا بماردين فعملت :

بالشام لي جدث وجدت بفقده

وجدا يكاد القلب منه يذوب

فيه من البأس المهيب صواعق

تخشى ومن ماء السماء قليب

فارقت حتى حسن صبري بعده

وهجرت حتى النوم وهو حبيب

قال : وعملت شعرا وقد خرجنا إلى الحرب وتذكرت أخي يحيى رحمه‌الله :

يذكرني يحيى الرماح شوارعا

وبيض المواضي جرّدت للوقائع

وأقسم ما رؤياه في العين بهجة

بأحسن من أوصافه في المسامع

قال : وعملت في الخمر لسبب أوجب لي ذلك :

وقهوة كدموع الصبّ صافية

تكاد بالكاس بين الشرب تلتهب

يطفو الحباب عليها وهي راسية

كأنه فضة من تحتها ذهب

قال : وعملت فيها أيضا :

٢٤٢

وسلافة أزرى احمرار شعاعها

بالورد والوجنات والياقوت

جاءت مع الساقي تنير بكأسها

فكأنها اللاهوت في الناسوت

قال : وعملت في معاتبة صديق :

أدنو بودّي وحظّي منك يبعدني

هذا لعمرك عين العين والغبن

وإن توخيتني يوما بلائمة

رجعت باللوم إيفاء على الزمن

وحسن ظني موقوف عليك فهل

غيرت بالظن بي عن رأيك الحسن

حدثني الأمير أبو الحارث عبد الرحمن بن محمد بن مرشد المنقذي قال : توفي الأمير مكين الدولة حميد ليلة النصف من شعبان سنة أربع وستين وخمسمائة بحلب على ما بلغني رحمه‌الله تعالى ا ه (ابن عساكر).

١١٣ ـ عبد الرحمن الغزنوي الحنفي المتوفى سنة ٥٦٤

الإمام عبد الرحمن بن محمود بن محمد بن جعفر الغزنوي أبو الفتح ، وقيل أبو محمد الحنفي الملقب علاء الدين ، مدرس المدرسة الحلوية ، تولى تدريسها سنة ٥٤٨ وبقي إلى أن توفي بحلب لسبع بقين من شوال سنة أربع وستين وخمسمائة. (ا ه كنوز الذهب) وسيأتي ذلك في ترجمة الكمال بن العديم المتوفى سنة ٦٦٠.

١١٤ ـ ياروق التركماني المتوفى سنة ٥٦٤

ياروق بن أرسلان التركماني. قال ابن خلكان : كان مقدما جليل القدر في قومه وإليه تنسب الطائفة الياروقية من التركمان. وكان عظيم الخلقة هائل المنظر ، سكن بظاهر حلب في جهتها القبلية وبنى على شاطىء قويق فوق تل مرتفع هو وأهله وأتباعه أبنية مرتفعة وعمائر متسعة وتعرف الآن بالياروقية ، وهي شبه القرية ، وسكنها هو ومن معه ، وهي إلى اليوم معمورة مسكونة آهلة يتردد إليها أهل حلب في أيام الربيع ويتنزهون هناك في الخضرة على قويق ، وهو موضع كثير الانشراح والأنس (هذه القرية تدعى الآن قرية الأنصاري). وتوفي ياروق المذكور في المحرم سنة أربع وستين وخمسمائة رحمه‌الله تعالى. هكذا ذكره بهاء الدين المعروف بابن شداد في سيرة السلطان صلاح الدين رحمهما‌الله تعالى.

٢٤٣

وياروق بفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف راء مضمومة ثم واو ساكنة وفي الآخر قاف. وقويق بضم القاف وفتح الواو وسكون الياء المثناة وبعدها قاف وهو نهر صغير بظاهر حلب يجري في الشتاء والربيع وينقطع في الصيف (علة قديمة) وقد ذكرته الشعراء في أشعارهم كثيرا خصوصا أبا عبادة البحتري فإنه كرر ذكره في عدة قصائد ، فمن ذلك قوله في جملة قصيدة :

يا برق أسفر عن قويق فطرّتي

حلب فأعلى القصر من بطياس

عن منبت الورد المعصفر صبغه

في كل ناحية ومجنى الآس

أرض إذا استوحشت ثم أتيتها

حشدت علي فأكثرت إيناسي

وبطياس بفتح الباء الموحدة (في المعجم بكسر الباء) وسكون الطاء المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف سين مهملة ، وهي قرية كانت بظاهر حلب ودثرت ولم يبق لها اليوم أثر. وكان صالح بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي‌الله‌عنهم قد بنى بها قصرا وسكنه هو وبنوه ، وهو بين النيرب والصالحية ، وهما قريتان في شرقي حلب ، وكان القصر على الرابية المشرفة على النيرب ولم يبق منه في هذا الزمان سوى آثار دارسة. هكذا وجدته مضبوطا بخط بعض الفضلاء من أهل حلب ا ه.

١١٥ ـ أسد الدين شيركوه المتوفى سنة ٥٦٤

الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي عم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، تقدم شيء من ترجمته في ترجمة ابن أخيه في الجزء الأول وأنه كان مقدما عند السلطان نور الدين الشهيد ثم عند ابن أخيه السلطان صلاح الدين أيوب ، وقد كان ابن أخيه أرسله للبلاد المصرية ، وسبب ذلك كما ذكره ابن خلكان في ترجمته أن الفرنج لما وصلوا إلى بلبيس (من بلاد مصر) وملكوها وقتلوا أهلها في سنة أربع وستين سيروا إلى أسد الدين وطلبوه ومنّوه ودخلوا في مرضاته لأن ينجدهم ، فحضر إليهم وطرد الفرنج عنهم ، وكان وصوله إلى مصر في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة ، وعزم شاور على قتله وقتل الأمراء الكبار الذين معه ، فبادروه وقتلوه. وتولى أسد الدين الوزارة في ربيع الآخر وأقام بها شهرين وخمسة أيام ، ثم توفي فجأة في الثالث والعشرين من جمادى الاخرة سنة أربع وستين

٢٤٤

وخمسمائة بالقاهرة ودفن بها ، ثم نقل إلى مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد مدة بوصية منه رحمه‌الله تعالى.

قال السمهودي في تاريخ المدينة المنورة : وفي قبلة رباط الوزير جمال الدين محمد بن أبي المنصور الأصفهاني وزير بني زنكي من دار عثمان أيضا بالقرب من المسجد النبوي تربة اشترى أرضها أسد الدين شيركوه بن شافدي (١) وحمل إليها هو وأخوه نجم الدين أيوب والد صلاح الدين بعد موتهما ودفنا فيها سنة ست وسبعين وخمسمائة ا ه.

آثاره بحلب

المدرسة الأسدية الجوانية

قال أبو ذر في كنوز الذهب : المدرسة الأسدية الشافعية التي داخل باب قنسرين وتعرف محلتها بالرحبة أنشأها أسد الدين شيركوه بن شاذي بن مروان ، وهذه المدرسة مشتملة على إيوان كبير وخلاوي للفقهاء وبركة ماء ، وتاريخها مكتوب في رخامة فوق إيوانها لا أستطيع قراءته لعلوه (٢). وأول من درس بها قطب الدين مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري (ستأتي ترجمته قريبا) ، ثم تولاها شمس الدين أبو المظفر حامد بن أبي العميد عمر بن أميري بن ورشي القزويني ، ولم يزل بها إلى أن رحل عن حلب إلى مدينة حمص سنة ستمائة ، فوليها بعده الشيخ شمس الدين عبد الله الكشوري ولم يزل بها إلى أن توفي سادس عشر ربيع الأول سنة ثمان وستمائة ، ووليها العلامة تقي الدين أبو عمر عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى ابن أبي نصر المعروف بابن الصلاح ، ثم وليها بعده أخوه سديد الدين إبراهيم ، ثم رحلا ، ووليها بعد سديد الدين ولده ، وولي تدريسها بعده الفقيه صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان الشهروزوري الكردي ، ولم يزل بها إلى أن توفي ليلة الخميس ثامن عشرين ذي الحجة سنة ثمان عشرة وستماية ، وكانت ولادته سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. ثم وليها شرف الدين محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح ولم يزل بها إلى أن توفي بالاستسقاء ، ثم وليها معين الدين بن المنصور بن القاسم

__________________

(١) هكذا في الأصل ، ولعلها تصحيف شاذي ، كما هو معروف.

(٢) لا أثر لذلك الآن.

٢٤٥

الشهرزوري مدة شهر واحد ، ثم رحل إلى حمص ووليها نجم الدين محمد بن محمد بن عبد الله بن علوان الأسدي ، ولم يزل بها إلى أن تزهد في سنة تسع وثلاثين وستماية وخرج منها ، فوليها قوام الدين أبو العلاء المفضل بن السلطان المعروف بابن حادور الحموي ، ولم يزل مدرسا بها إلى أن ولي قضاء معرة النعمان في سنة ست وأربعين ، ثم عزل عن المعرة وعاد إلى حلب فولي المدرسة الشعيبية مدة.

ثم ولي قضاء حمص سنة خمس وخمسين وستماية ، ثم عزل عن حمص وتوفي سنة ستين وستماية بحماة ، ثم وليها رشيد الدين عمر بن إسماعيل الفارقاني سنة ست وأربعين وستماية ، ولم يزل مدرسا بها إلى سنة ثلاث وخمسين وستماية ، ثم خرج إلى دمشق ووليها مدة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن خلكان ، ولم يزل بها إلى أن كانت وقعة التتر فخرج من حلب إلى ديار مصر فمات بالفيوم.

قلت : وهذه المدرسة لها وقف بدمشق كبير ووقف بحلب وهو حصة بقرية سارد وحوانيت خارج بانقوسا استبدلها ابن الحسفاوي بحانوت في سويقة حاتم.

قال لي والدي : إن درسها كان يقام قبل تيمور على الشمع الموكبي بعد صلاة الصبح ، ثم نخرج إلى باب قنسرين فنسمع زفة القلعة ونحن قاصدون بقية المدارس التي خارج البلد لأجل الدروس. ودرّس بها جماعة كالسيد عبد الله وآخرا الشيخ شرف الدين الأنصاري وانتقل بعده التدريس لولده ثم لولد ولده ، وعنه أخذ شيخنا المؤرخ ، وكان يدرس أولا نيابة عنه. ودرّس بها الشريف الحسيني قاضي حلب وجماعة ا ه كلام أبي ذر.

أقول : موقع هذه المدرسة في محلة باب قنسرين فوق الجامع المعروف بجامع الكريمية بقليل أمام الزقاق الذي يأخذ بك إلى جامع الرومي ولم تزل معروفة بهذا الاسم ، والباقي من بنائها القديم القبلية وطولها نحو ٢٢ ذراعا وعرضها نحو ٩ أذرع ، وهناك فوق المحراب قبة عظيمة الارتفاع لكنها سائرة إلى الخراب ، وفي يمين القبلية مخدعان قبلة وشمالا كان بهما قبور درست الآن ، وفي صحن المدرسة مصطبة أمام القبلية وحوض كبير يملأ من القناة وبجانبه صهريج ماء كان مردوما عثر عليه منذ عشرين سنة ، فاصلح من قبل أهل الخير وصار يملأ من القناة أيضا. وكانت حجر المدرسة متهدمة فجددت سنة ١٣١٦ ، وهي مع حجرة التدريس ثماني حجر ، وشيخها الآن الشيخ عبد الله المعطي الفرضي وهو مشهور بعلم الفرائض ، وهي تحت يد دائرة الأوقاف ، والباقي من أوقافها فرن ودكان

٢٤٦

بجانبها وبدل تخميس أراض عشرية. وهذه المدرسة يقال لها الأسدية الجوانية ، وكان لها مدرسة أخرى يقال لها الأسدية وهي :

المدرسة الأسدية تجاه القلعة

قال أبو ذر : هذه المدرسة على باب بني الشحنة داخل القنطرة : أنشأها بدر الدين بدر الخادم عتيق أسد الدين شيركوه. كانت دارا يسكنها فوقفها بعد موته. وأول من درس بها صائن الدين أيوب بن خليل بن كامل ولم يزل إلى أن توفي في غرة شعبان المعظم سنة ثلاث وخمسين وستمائة ، فوليها بعده قطب الدين محمد بن عبد الكريم بن عبد الصمد ابن هبة الله بن أبي جرادة ، ولم يزل بها إلى أن توفي ، فوليها بعده الشيخ مجد الدين الحسن ابن أحمد بن هبة الله بن أمين الدولة ، ولم يزل بها إلى أن قتل في وقعة التتر ، والآن تدريسها بيد بني علاء الدين بن الشحنة. وعلى بابها مكتوب : جددت هذه المدرسة المباركة للفقهاء المشتغلين في دولة السلطان العزيز الطواشي بدر الظاهري الأسدي في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ا ه.

قال في الدر المنتخب : إن هذه المدرسة خربها الملا محمد ناظر الأوقاف بحلب كان سنة خمس وثلاثين وتسعمائة ولم يبق لها عين ولا أثر ، ودخلت في العمارة التي أنشأها الوزير خسرو باشا المشتملة على مسجد وجامع ومدرسة وخانكاه معدة للضيوف ، وهي أول عمارة أنشئت بحلب منذ الفتح العثماني ا ه.

أقول : وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على المدرسة الخسروية في الجزء الثالث.

١١٦ ـ علي بن محمد التنوخي المتوفى بعد ستين وخمسمائة

علي بن محمد بن علي بن محمد بن يزيد أبو الحسن التنوخي الحلبي ، قدم دمشق مرة.

أنشدنا أبو اليسر شاكر بن عبد الله بن محمد بن سليمان وكتب لي بخطه : أنشدني علي بن محمد لنفسه بحلب في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وخمسمائة وكتب بها إلى دمشق :

٢٤٧

طيف سرى موهنا والليل ما انقضبا

إليّ سرا ونجم الغرب ما غربا

فلى الفلا وجلا جنح الدجى وخلا

من الرقيب وولّى ممعنا هربا

ظن الدجنّة تخفيه وكيف وقد

وشى بمسراه نور مزّق الحجبا

كأنه بدر تمّ لاح في غسق

وهنا فلما رأته الأعين احتجبا

أفديه من زائر زور زيارته

يبدو لعيني وتخفي جفنه الرقبا

أودى بصبري وأشجاني وأرقني

لما به وأراق الدمع فانسكبا

وأودع الروع أحشائي وأذهب ما

أبقى الفراق وما رد الذي ذهبا

وكنت أحسبه وافي يبشرني

بلمّ شمل شتيت طالما انشعبا

وأن قد قرب الترحال عن حلب

والدار عما قليل تجمع الغربا

فكان لمح سراب لاح بارقه

فاشتد إذ بصر الظامي به طلبا

حتى إذا جاءه لم يلق موضعه

فما يسكّن من أحشائه لهبا

فعاد باليأس والنفس النفيسة قد

طارت شعاعا وأنضى جسمه تعبا

كذاك حظي من الأحباب إن وصلوا

صدوا وإن سئلوا أضنوا بما طلبا

يجزون بالعرف نكرا من أحبهم

وبالقطيعة لا بالقرب من قربا

وإن هم مرة سرّوا بوصلهم

ضرّوا بهجرهم أضعافه حقبا

كالدهر يرضي بما يولي وشيمته

أن يسترد الذي أعطى كما وهبا

وعاذل عادل عن مذهبي سفها

يروم بالعذل تسهيل الذي صعبا

يقول لي (١) وهو فيما قال متهم

عندي ولو كان صدقا خلته كذبا

إلى م تشتاق دارا بان ساكنها

عنها وتندب ربعا دارسا خربا

إذا رآه الخليّ البال مرّ به

بكى له رحمة بالدمع فانتحبا

مستبدلا من ظباء الأنس وحشته

فلا وكم أوانس انسانا بها عذبا (٢)

عينا تصيد أسود الغيد أعينها

تلك الظباء اللواتي لحظهن ظبا

فقلت والشوق يطويني وينشرني

طيّ السجل إذا ما فض أو كتبا

أصخ بسمعك نحوي واجتنب نفسي

تسمع حديثا له في الخافقين نبا

__________________

(١) في الأصل : لهم.

(٢) هكذا في الأصل.

٢٤٨

ما كنت أول مشتاق إلى وطن

بكى وحنّ إلى أحبابه وصبا

ولا بأول من لجّ الغرام به

فباح لمّا شكى من قلبه وصبا

صبّ إذا لاح برق من ديارهم

كأنما خلته من قلبه حلبا

يجانب النوم إن مرت بجانبه

ريح الجنوب ويصبو أن تهب صبا

ويستطير اشتياقا كلما لمع ال

برق اليمانيّ من تلقائهم وخبا

فهل معين لذي عين مسهدة

عين من الدمع منها الماء ما نضبا

بادي الصبابة لا يصبو إلى عذل

حلف الكآبة لا ينفك مكتئبا

أغراه بالوجد من أغراه بعدهم

من التصبّر عنهم فاستحال هبا

يريك ظاهره بالعين باطنه

فغير خاف سوى ما في الضمير خبا

قد كان يأمل أن يقضي الزمان له

إليهم رجعة يقضي بها أربا

فعاقه قذل عما يحاوله

فإن قضى بهم وجدا فلا عجبا

لو خيّر الخلد من أوطانه بدلا

لم يرضها بدلا منها فدع حلبا

ولو تزف إليه الأرض قاطبة

لم يرض أرضا سواها مسرحا وربا

وكيف أرضى بأرض ما وجدت بها

صديق صدق حوى فضلا ولا أدبا

إلا أناسا سئمت العيش بعدهم

إذا غدا الناس رأسا خلتهم ذنبا

لا يأمرون بمعروف كذاك ولا

ينهون عن منكر خوفا ولا رعبا

إذا بلوتهم ألفيتهم نفرا

وإن بلوتهم ألفيتهم أدبا

وإن نثرت عليهم كلما انتظموا

در القريض جزوني عنه مشخلبا

وكلما حضروا أحضرت من أدبي

مآدبا حار في آدابها الأدبا

طلس الدباب أضل الله سعيهم

تطيلسوا اللؤم لما استعذبوا العذبا

وشر ما نالني فيها وأعجبه

أني اتخذت الأعادي وصلة قربا

أقمت حولين في أكناف أكنفها

حلف السقام أقاسي الهم والوصبا

لم أحظ منهم بحظ مذ حللت بها

أغنى من الود لا مالا ولا نشبا

فقرب الله في الترحال عن بلد

فيه الأجانب خير لي من القربا

وباعد الله داري من ديارهم

ولا لقيّ لي إن سميتهم نسبا (١)

__________________

(١) هكذا في الأصل.

٢٤٩

ومزقت يد دهر السوء شملهم

في كل شعب كشمل فرقت شعبا

فما أقلهم نفعا وأكثرهم

قطعا لذي رحم ثوب الغنى سلبا

ا ه (ابن عساكر) والمشخلب كلمة عراقية : خرز بيض يشاكل اللؤلؤ والحلي ويتخذ من الليف والخرز.

١١٧ ـ الحسين بن محمد المعروف بالنجم المتوفى في هذا العقد ظنا

الحسين بن محمد بن أسعد الفقيه المعروف بالنجم. تفقه على أبيه محمد بن أسعد وسمع منه الحديث. قال ابن العديم : ولي التدريس بالحلاوية ، وله تصانيف في الفقه ، منها شرح الجامع الصغير لمحمد بن الحسن ، فرغ من تصنيفه بمكة ، وله الفتاوي والواقعات. وكان فقيها فاضلا عالما متدينا ، وحكى حكاية طويلة عنه في حضوره عند نور الدين محمود ابن زنكي وقد سأله عن لبس خاتم في يده كانت فيه لوزات من ذهب فقال له : تتحرز من هذا وتحمل إلى خزانتك من المال الحرام في كل يوم كذا وكذا. وإن نور الدين أمر بتبطيل ذاك. ا ه (ط ح ق).

١١٨ ـ محمد بن أحمد السمرقندي المتوفى في عقد السبعين ظنا

محمد بن أحمد بن أبي أحمد أبو منصور السمرقندي صاحب تحفة الفقهاء (١). تفقهت عليه ابنته فاطمة العالمة الصالحة ، وكانت تحفظ التحفة. وتفقه عليه زوجها أبو بكر الكاساني صاحب كتاب البدائع ، وسيأتي له زيادة في ترجمة تلميذه أبي بكر بن مسعود الكاساني في الكنى. ا ه (ط ح ق).

وترجمه اللكنوي في الفوائد البهية وقال : إنه تفقه على أبي المعين ميمون المكحولي وعلى صدر الإسلام أبي اليسر البزدوي. ولم يذكر تاريخ وفاته وعلى الظن أنها في نواحي هذه السنين.

__________________

(١) يوجد نسخة في مكتبة حالت أفندي في الآستانة ورقمها ١٧٤ ، وفي مكتبة بني جامع ورقمها ٣٧٤ وهو ممزوج بتمامه مع شرحه المسمى ببدائع الصنائع للإمام الكاساني وسيأتي ذلك قريبا.

٢٥٠

١١٩ ـ منصور بن أبي الدميك النحوي الشاعر

منصور بن المسلّم بن علي بن أبي الخرجين أبو نصر الحلبي النحوي المؤدب الشاعر ، يعرف بابن أبي الدميك. قال ياقوت : كان أديبا فاضلا نحويا له تصانيف وردود على ابن جني ، منها تتمة ما قصر فيه ابن جني في شرح أبيات الحماسة ، وديوان شعر وقفت عليه بخطه الرائق ، فوجدته مشحونا بالفوائد النحوية ، وقد شرح ألفاظه اللغوية وأعربها فدل على تبحره في علم العربية. ومن نظمه :

أأحبابنا إن خلف البين بعدكم

قلوبا ففيها للتفرق نيران

رحلتم على أن القلوب دياركم

وأنكم فيها على البعد سكان

عسى مورد من سفح جوشن نافع

فإني إلى تلك الموارد ظمآن

وما كل ظنّ ظنّه المرء كائن

يقوم عليه للحقيقة برهان

وعيش الفتى طعمان قند وعلقم

كما حاله قسمان رزق وحرمان

ا ه (بغية الوعاة). ولم يذكر وفاته ، وعلى الظن أنها في هذا القرن.

وقال ياقوت في معجم البلدان : (أشمونيث) : عين في ظاهر حلب في قبلتها تسقي بستانا يقال له الجوهري وإن فضل منها شيء صب في قويق ، ذكرها منصور بن مسلم ابن أبي الخرجين يتشوق حلب :

أيا سائق الأظعان من أرض جوشن

سلمت ونلت الخصب حيث ترود

أبن لي عنها تشف ما بي من الجوى

فلم يشف ما بي عالج وزرود

هل العوجان الغمر صاف لوارد

وهل خضبّته بالخلوق مدود

وهل عين أشمونيث تجري كمقلتي

عليها وهل ظلّ الجنان مديد

إذا مرضت ودت بأن ترابها

لها دون أكحال الأساة برود

ومن جرّب الدنيا على سوء فعلها

يعيب ذميم العيش وهو حميد

إذا لم تجد ما تبتغيه فخض بها

غمار السرى أمّ الطلاب ولود

٢٥١

١٢٠ ـ نجم بن عبد المنعم المعروف بابن أبي درهم

الشاعر المتوفى سنة ٥٧٠

نجم بن عبد المنعم بن الحسن بن الخضر أبو الثريا الحلبي المعروف بابن أبي درهم الشاعر. كان متعصبا في السنة مظهرا لها بحلب ، وقدم دمشق وأقام بها مدة ثم عاد إلى حلب ، ثم قدمها مرة أخرى. كتبت عنه شيئا من شعره ، أنشدني نجم لنفسه :

ما ازداد واشوك إلا ازددت فيك هوى

تأبى مقاصد قلبي منك ما قصدوا

والله ما زهّدوني فيك إذ عذلوا

وإنما رغّبوني في الذي زهدوا

سعوا إليّ بمكروه كما شهدت

في صدق ودّك أحشائي بها شهدوا

حتى إذا استيأسوا من طاعتي لهم

جاؤوا إليك سعاة فيّ واجتهدوا

فما وثقت بصدقي إن تكذبهم

ولا اعتقدت بعهدي كالذي اعتقدوا

يا قلب مت كمدا ممن تظن به

أو عش فريدا فكل الناس قد فسدوا

حدثنا أبو عبد الله محمد بن الحسن بن أحمد بن الملجي وكتبه لي بخطه قال : الناجم ابن الشائم المعروف بابن أبي درهم رجل في البديهة لا يجارى وفي البحر لا يضاهى ، أشد الناس أنفاسا في مذهب السنة وأقواهم فيها مهاجرا للباطنية ، وله معهم مقامات يعجز عن مثلها الأسود ويلين عندها الجلمود ، سلم فيها ونصره الله عليهم. أنشدني أبياتا حائية استجدت منها بيتا هو :

أنا صاحي الفؤاد ما دمت سكران

وسكران إذا ما كنت صاحي (١)

وأبوه الشائم شيخ من أهل بالس ا ه (ابن عساكر).

١٢١ ـ هاشم بن أحمد الأسدي المتوفى سنة ٥٧٧

هاشم بن أحمد بن عبد الواحد بن هاشم بن محمد بن هاشم الأسدي الخطيب. قال ياقوت : أصلهم من الرقة وانتقلوا إلى حلب ، وكان حسن القراءة والعبادة والزهد ، صنف

__________________

(١) في عجز البيت اختلال. ولعل الصواب : وسكران ما إذا كنت صاحي.

٢٥٢

«اللحن الخفي» ، و «أفراد أبي عمرو بن العلاء» وغير ذلك ، وولي خطابة حلب ، ولما خطب اعتنقه أبو عبد الله محمد بن نصر القيسراني وقال له :

شرح المنبر صدرا

لتلقيك رحيبا

أترى ضمّ خطيبا

منك أم ضمّخ طيبا

ولد سنة ست وتسعين وأربعمائة ومات في جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين وخمسمائة ا ه (بغية الوعاة).

وقال الملا في مختصره لتاريخ الذهبي في ترجمته : شيخ خير زاهد بارع في العربية ، كتب عنه أبو سعد بن السمعاني والخطيب يونس بن محمد الفارقي ، وروى عنه أبو القاسم ابن صصري وقال : كان خطيب حلب جامعا لفنون شتى.

وترجمه أبو ذر في كنوز الذهب ، ومما قاله : أنه خطيب حلب وابن خطيبها ، وهم أسديون وأصلهم من الرقة وانتقلوا إلى حلب أيام الملك رضوان ، وأول من انتقل منهم علي بن هاشم ، ومن تصانيف هاشم المترجم كتاب مناجاة العارفين وكتاب خطب وغير ذلك. وورد إلى بغداد حاجا وسمع عليه بها خطبة وخلع عليه ببغداد في الأيام المستنجدية وشرف بسيف مكتوب عليه :

شرفي على كل البيوت (١) لأنني

قدما سكنت خزانة المستنجد

درب الخطيب هاشم شرقي الجامع

قال أبو ذر : هو منسوب إلى الخطيب أبي طاهر هاشم بن أحمد بن عبد الواحد بن هاشم الأسدي ، وهذا الدرب كان يعرف قديما بدرب التميمي وهو الذي يفتح إليه بابا المدرسة الشرفية ، وكان على رأس الدرب حوض ماء وبه مسجد ، وبهذا الدرب مكان عظيم البناء وقد جعل قاسارية ، وبهذه القاسارية حصة وقف على الشرفية ، ثم اتخذت دارا في سنة ثمان وسبعين. ورأيت في بعض التواريخ أنه كان على باب الجامع دير ولا أدري محله الآن ، ثم صار غالب الدرب المذكور لعماد الدين بن الترجمان ، وكان لبني الترجمان

__________________

(١) لعل الصواب : السيوف.

٢٥٣

ثروة وانقرضوا ، ولهم مساكن بدرب الديلم تجاه أمكنتهم التي هي شرقي المدرسة انتهى.

١٢٢ ـ الإمام علوان بن عبد الله الأسدي

المعروف بابن الأستاذ المتوفى سنة ٥٧٨

علوان بن عبد الله بن علوان أبو عبد الله الأسدي الحلبي ابن الأستاذ ، إمام زاهد عابد ، علق عنه أبو المواهب بن صصري وقال : أقام بالحجاز سنين وكان للمجاورين به راحة مات في شعبان ا ه (مختصر الذهبي من وفيات سنة ثمانية وسبعين وخمسمائة). قال الدحلاني في تاريخ مكة : وفي أيام مكثر بن عيسى أبطل السلطان صلاح الدين الأيوبي صاحب مصر المكس المأخوذ من الحجاج في البحر على طريق عيذاب ، وكان من لم يؤد بعيذاب يؤخذ منه بجدة وهو سبعة دنانير مصرية على كل إنسان ، وكان يأخذ ذلك أمير مكة ، وكان سبب إبطاله أن الشيخ علوان الأسدي الحلبي حج ، فلما وصل إلى جدة طولب بذلك فأبى أن يسلم لهم شيئا وأراد الرجوع ، فلا طفوه وبعثوا إلى صاحب مكة ، وكان الشريف مكثر بن عيسى ، فأمر بإطلاقه ومسامحته ، فلما طلع إلى مكة اجتمع به واعتذر إليه بأن مدخول مكة لا يفي بمصالحنا ، وهذا الحامل لنا على هذا ، فكتب الشيخ علوان إلى السلطان صلاح الدين وذكر له حاجة أمير مكة وعرّفه أن البلد ضعيفة وأنها ما تدخل ما يكفيه وأن ذلك هو الذي حمله على هذه البدعة الشنيعة ، فأنعم عليه مولانا السلطان صلاح الدين بثمانية آلاف إردب قمح ، وقيل بألفي دينار وألفي إردب وأمره بترك هذه المظلمة.

١٢٣ ـ مسعود بن محمد النيسابوري المتوفى سنة ٥٧٨

أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري الطرثيثي الفقيه الشافعي الملقب قطب الدين ، تفقه بنيسابور ومرو على أئمتهما وسمع الحديث من غير واحد ، ورأى الأستاذ أبا نصر القشيري ، ودرّس بالمدرسة النظامية بنيسابور نيابة عن الجويني ، وكان قد قرأ القرآن الكريم والأدب على والده ، وقدم بغداد ووعظ بها وتكلم في المسائل فأحسن ، وقدم دمشق سنة أربعين وخمسمائة ووعظ بها وحصل له قبول ، ودرّس بالمدرسة المجاهدية بالزاوية الغربية من جامع دمشق بعد موت الفقيه أبي الفتح نصر الله المصيّصي. وذكره

٢٥٤

الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق ، ثم خرج إلى حلب وتولي التدريس في المدرستين اللتين بناهما له نور الدين محمود وأسد الدين شيركوه ، ثم مضى إلى همدان وتولى التدريس بها ، ثم رجع إلى دمشق ودرّس بالزاوية الغربية وتفرد برياسة أصحاب الشافعي رضي‌الله‌عنه.

وكان عالما صالحا ، صنف كتاب «الهادي» في الفقه وهو مختصر نافع لم يأت فيه إلا بالقول الذي عليه الفتوى ، وجمع للسلطان صلاح الدين عقيدة تجمع جميع ما يحتاج إليه في أمر دينه وأحفظها أولاده الصغار حتى ترسخ في أذهانهم من الصغر.

قال ابن شداد في سيرة السلطان : ورأيته يعني السلطان وهو يأخذها عليهم وهم يقرؤونها بين يديه من حفظهم.

وكان متواضعا قليل التصنع مطرحا للتكليف. وكانت ولادته سنة خمس وخمسمائة ، وتوفي سنة ثمان وسبعين وخمسمائة بدمشق ودفن بالمقبرة التي أنشأها جوار مقبرة الصوفية غربي دمشق وزرت قبره غير مرة ا ه (ابن خلكان).

أقول : المدرسة التي بناها نور الدين محمود هي المدرسة النفرية وقد تقدم ذكرها في الجزء الثاني في صحيفة (٦٧). وقد ذكر أبو ذر في الكلام عليها من تولى التدريس بها وأولهم المترجم ، ثم قال في الآخر : وتولى التدريس بها الشيخ زين الدين عبد الملك بن الشيخ شرف الدين عبد الله العجمي سنة ست وخمسين وستمائة ، ولم يزل مدرسا بها إلى أن استولت التتر على حلب ، واستمر بها بعد ذلك إلى أن خرج من حلب. وهذه المدرسة آل أمرها إلى التاج الكركي قاضي حلب (المتوفى سنة ٨٤٠) وكان يسكن بقاعتها ، والمدرسة المذكورة تجاه المدرسة الصاحبية التي أنشأها ابن شداد الآتي ذكرها بالقرب من جامع المرحوم تغري بردي (جامع الموازيني) ومن وقفها تل باجر ا ه. ومدرسة أسد الدين شيركوه هي الأسدية الجوانية في محلة باب قنسرين وقد تقدم الكلام عليها.

١٢٤ ـ محمد بن حمزة المتوفى سنة ٥٧٩

محمد بن أحمد بن حمزة الحلبي أبو الفرج الملقب شرف الكتاب. قال ياقوت : كان نحويا لغويا فطنا شاعرا مترسلا قدم بغداد وقرأ على ابن الخشاب وابن الشجري ، وصحب الوزير ابن هبيرة ، وسمع الحديث من أبي جعفر الثقفي ، ومات سنة تسع وسبعين وخمسمائة ا ه (بغية الوعاة).

٢٥٥

١٢٥ ـ محمد بن حرب أبو الرجا (١) المتوفى سنة ٥٨٠

محمد بن حرب بن عبد الله النحوي الحلبي أو المرجّى أحد أعيان حلب والمشهورين منهم بعلم الأدب ، مات بدمشق في سنة ٨١ أو ٨٢. وحدثني ابن الجبراني قال : مات شيخنا بدمشق في سنة ٥٨٠. وحدثني كمال الدين أبو القاسم عمر بن أبي جرادة أدام الله أيامه قال : حدثني محمد بن عبد الواحد بن حرب الخطيب خطيب قلعة حلب إملاء من لفظه قال : حدثني أبو المرجّى محمد بن حرب أبو عبد الله النحوي قال : رأيت في النوم إنسانا ينشدني هذا البيت :

أروم عطا الأيام والدهر مهلكي

ممرّ لها والدهر رهن عطاها

فأجزته بأبيات :

أيا طالب الدنيا الدنية إنها

سترديك يوما إن علوت مطاها

صن النفس لا تركن إليها فإن أبت

فردد عليها آي آخر طاها (٢)

ودع روضي الآمال والحرص إنه

إذا ردع النفس الهدى سطّاها

فلابد يوما أن تلم ملمة

فتبسط منا عقدة نشطاها (٣)

أنشدني الأخ أبو القاسم أحمد بن هبة الله بن سعد الجبراني النحوي الحلبي قال : أنشدني شيخي أبو الرجا محمد بن حرب الإنابي ، وإناب قرية من بلد أعزاز من نواحي حلب لنفسه في صفة الرمان :

ولما فضضت الختم عنهن لاح لي

فصوص عقيق في بيوت من التبر

ودر ولكن لم يدنسه غائص

وماء ولكن في مخازن من خمر

وأنشدني قال : أنشدني المذكور لنفسه :

لما بدا ليل عارضيه لنا

يحكي سطورا كتبن كالمسك

تلا علينا العذار سورة وال

ليل وغنّى لنا (قفا نبك)

__________________

(١) لعل اسمه مختلف فيه ، فمرة أبو الرجا وأخرى أبو المرجى.

(٢) يريد قوله تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) ... إلخ.

(٣) أي عقداها.

٢٥٦

وأنشدني له :

يجلى سنا شمعة تشابهني

وقدا ولونا وأدمعا وفنا

قال : وله أرجوزة في مخارج الحروف ا ه (معجم الأدباء).

١٢٦ ـ عالي بن إبراهيم الغزنوي المتوفى سنة ٥٨١

عالي بن إبراهيم بن إسماعيل الغزنوي أبو علي. قال ابن مكتوم : له تفسير مختصر سماه «تفسير التفسير» فرغ منه بحلب في رمضان سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ، فيه أعاريب ومسائل نحوية ا ه (بغية الوعاة).

قال ابن العديم في ترجمة الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد : سمعت شيخنا موفق الدين يعيش بن علي قال : أخبرني الأمير حسام الدين محمود بن الختلو شحنة حلب قال : لما عزل محيي الدين بن الشهرزوري عن قضاء حلب وتوجه إلى الموصل جاء إليّ الفقيه عالي الغزنوي وكان يدرّس بمدرسة الحدادين (١) إلى داري وكانت تحت القلعة فقال لي : قد توجه محيي الدين بن الشهرزوري إلى الموصل وتحتاجون قاضيا فتأخذ لي قضاء حلب ، قال : فصعدت إلى الملك الصالح وقلت له : هنا عالي الغزنوي فقيه جيد والمصلحة أن يوليه المولى قضاء حلب ، فالتفت إلي وقال : بالله وبحياتي هو سألك في هذا؟ فقلت له : إي والله هو جاءني وسألني في ذلك ، فقال : والله ما وقع في خاطري أن أولي قضاء حلب أحدا غيره ، ولكن حيث سأل هو الولاية والله لا وليته إياه ا ه.

١٢٧ ـ أبو اليسر شاكر بن عبد الله المعري المتوفى سنة ٥٨١

أبو اليسر شاكر بن عبد الله بن محمد بن أبي المجد بن عبد الله بن محمد بن سليمان المعري. قال العماد : كان كاتب الإنشاء لنور الدين محمود بن زنكي قبلي ، فلما استعفى وقعد في بيته توليت الإنشاء بعده ، ومولده بشيزر في جمادى الآخرة سنة ٤٩٦ ، وكان

__________________

(١) سيأتي الكلام عليها في آخر ترجمة الكمال ابن العديم المتوفى سنة ٦٦٠ بعد الكلام على المدرسة الحلوية وهناك ذكر وفاة المترجم كما ذكرناه هنا.

٢٥٧

قد تولى ديوان الإنشاء سنين كثيرة ، قال : وأنشدني لنفسه :

وردت بجهلي مورد الصب فارتوت

عروقي من محض الهوى وعظامي

ولم تك إلا نظرة بعد نظرة

على غرة منها ووضع لثام

فملت بقلبي من تثني طماعه

أقرت بها حتى الممات عظامي

وله أيضا :

سارقته نظرة أطال بها

عذاب قلبي وما له ذنب

يا جور حكم الهوى ويا عجبا

تسرق عيني ويقطع القلب

وله :

يا لقومي من عارض دبّ في الخد

دبيبا من تحت عقرب صدغ (١)

قعد القلب منهما في بلاء

وعذاب ما بين قرص ولدغ

وله :

غريت بهم نوب الليالي فاغتدوا

ما تستقر لهم بأرض دار

حتى كأنهم طريف بضائع

وكأن أحداث الزمان تجار

وله :

تعمم رأسي بالمشيب فساءني

وما سرني تفتيح نور بياضه

وقد أبصرت عيني خطوبا كثيرة

فلم أر خطبا أسودا كبياضه

وتقدم بعض ترجمته في كتاب الإنصاف (ص ٩٦) وذكر ثمة أن وفاته كانت سنة ٥٨١ ا ه (معجم الأدباء).

__________________

(١) في الأصل : يا عارضا دبّ ...

٢٥٨

١٢٨ ـ فاطمة السمرقندية العالمة الفاضلة زوجة صاحب البدائع

المتوفاة في هذا العقد

فاطمة بنت محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي مؤلف التحفة ، وهي زوجة الإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني صاحب البدائع ، تفقهت على أبيها وحفظت مصنفة التحفة.

قال ابن العديم : حكى والدي أنها كانت تنقل المذهب نقلا جيدا ، وكان زوجها الكاساني ربما يهم في الفتوى فترده إلى الصواب وتعرفه وجه الخطأ ، فيرجع إلى قولها.

قال : وكانت تفتي ، وكان زوجها يحترمها ويكرمها ، وكانت الفتوى أولا تخرج عليها خطها وخط أبيها السمرقندي ، فلما تزوجت بالكاساني كانت الفتوى تخرج بخط الثلاثة.

قال داود بن علي أحد فقهاء الحلاوية بحلب : هي التي سنت الفطر في رمضان للفقهاء بالحلاوية. كان في يديها سواران فأخرجتهما وباعتهما وعملت بثمنهما الفطور كل ليلة ، واستمر على ذلك إلى اليوم.

قال ابن العديم : أخبرني الفقيه أحمد بن يوسف بن محمد الأنصاري الحنفي قال : كان الكاساني عزم على العود من حلب إلى بلاده فإن زوجته حثته على ذلك ، فلما علم الملك العادل نور الدين محمود استدعاه وسأله أن يقيم بحلب ، فعرفه سبب السفر وأنه لا يقدر أن يخالف زوجته ابنة شيخه ، فاجتمع رأي الملك وزوجها الكاساني على إرسال خادم بحيث لا تحجب عنه ويخاطبها عن الملك في ذلك ، فلما وصل الخادم إلى بابها استأذن عليها ، فلم تأذن له واحتجبت منه ، وأرسلت إلى زوجها تقول له : بعد عهدك بالفقه إلى هذا الحد أما علمت أنه لا يحل أن ينظر إليّ هذا الخادم ، وأي فرق بينه وبين الرجال في جواز النظر. فعاد الخادم وذكر ذلك لزوجها بحضرة الملك ، فأرسلوا إليها امرأة برسالة نور الدين ، فخاطبتها فأجابتها إلى ذلك. وأقامت بحلب إلى أن ماتت ، ثم مات الكاساني بعدها ودفن عندها رحمة الله عليهما ا ه (طبقات الحنفية للقرشي).

١٢٩ ـ سكرة اليهودي الطبيب

سكرة الحلبي : كان شيخا قصيرا من يهود مدينة حلب ، وكانت له دربة بالعلاج

٢٥٩

وتصرف في المداوة. حدثني الشيخ صفي الدين خليل بن أبي الفضل بن منصور التنوخي الكاتب اللاذقي قال : كان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بحلب ، وكانت له في القلعة بها حظية يميل إليها كثيرا ، ومرضت مرضا صعبا ، وتوجه الملك العادل إلى دمشق وبقي قلبه عندها وكل وقت يسأل عنها ، فتطاول مرضها ، وكان يعالجها جماعة من أفاضل الأطباء ، وأحضر إليها الحكيم سكرة فوجدها قليلة الأكل متغيرة المزاج لم تزل جنبها إلى الأرض ، فتردد إليها مع الجماعة ، ثم استأذن الخادم في الحضور إليها وحده فأذنت له ، فقال لها : يا ستي أنا أعالجك بعلاج تبرئين به في أسرع وقت إن شاء الله تعالى وما تحتاجين معه إلى شيء آخر ، فقالت : افعل ، فقال : أشتهي أن مهما أسألك عنه تخبريني به ولا تخفيني ، فقالت : نعم ، وأخذ منها أمانا ، فقال : تعرفيني ما جنسك ، فقالت : علانية ، فقال : العلان في بلادهم نصارى ، فعرفيني أيش كان أكثر أكلك في بلدك ، فقالت : لحم البقر ، فقال : يا ستي ، وما كنت تشربين من النبيذ الذي عندهم؟ فقالت : كذا كان ، فقال : أبشري بالعافية. وراح إلى بيته واشترى عجلا وذبحه وطبخ منه وجاب معه في زبدية منه قطع لحم مصلوق وقد جعلها في لبن وثوم وفوقها رغيف خبز فأحضره بين يديها وقال : كلي ، فمالت نفسها إليه وصارت تجعل اللحم في اللبن والثوم وتأكل حتى شبعت ، ثم بعد ذلك أخرج من كمه برنية صغيرة وقال : يا ستي هذا شراب ينفعك فتناوليه ، فشربته وطلبت النوم وغطيت بفرجية فرو سنجاب فعرقت عرقا كثيرا وأصبحت في عافية ، وصار يجيب لها من ذلك الغذاء والشراب يومين آخرين ، فتكاملت عافيتها ، فأنعمت عليه وأعطته صينية مملوءة حليا ، فقال : أريد مع هذا أن تكتبي لي كتابا إلى السلطان وتعرفيه ما كنت فيه من المرض وأنك تعافيت على يدي ، فوعدته بذلك وكتبت كتابا إلى السلطان تشكر منه وتقول له فيه : إنها كانت قد أشرفت على الموت وإن فلانا عالجني وما وجدت العافية إلا على يديه ، وجميع الأطباء الذين كانوا عندي ما عرفوا مرضي ، وطلبت منه أن يحسن إليه ، فلما قرأ الكتاب استدعاه واحترمه وقال له : هم شاكرون من مداواتك ، فقال : يا مولانا كانت من الهالكين وإنما الله عزوجل جعل عافيتها على يدي لبقية أجل كان لها ، فاستحسن قوله وقال : أيش تريد أعطيك؟ فقال : يا مولانا تطلق لي عشرة فدادين خمسة في قرية صمع وخمسة في قرية عندان ، فقال : نطلقها لك بيعا وشراء حتى تبقى مؤبدة لك. وكتبت له ذلك وخلع عليه ، وعاد إلى

٢٦٠