إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٤

أحلى الهوى ما تحلو به التهم

باح به العاشقون أو كتموا

ومعرض صرّح الوشاة له

فعلموه قتلي وما علموا

يا ربّ خذ لي من الوشاة إذا

قاموا وقمنا إليك نحتكم

سعوا بنا لا سعت لهم قدم

فلا لنا أصلحوا ولا لهم

انتهى كلام الذهبي.

وقال ابن خلكان في ترجمة المذكور : نقلت من خط الشيخ الحافظ المحدث زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري المصري رحمه‌الله تعالى قال : حكى لي أبو المجد قاضي السويداء قال : كان بالشام شاعران ابن منير وابن القيسراني ، وكان ابن منير كثيرا ما يبكت ابن القيسراني بأنه ما صحب أحدا إلا نكب ، فاتفق أن أتابك عماد الدين زنكي صاحب الشام غنّاه مغن على قلعة جعبر وهو يحاصرها قول الشاعر :

ويلي من المعرض الغضبان إذ نقل ال

واشي إليه حديثا كله زور

سلمت فازورّ يزوي قوس حاجبه

كأنني كأس خمر وهو مخمور

فاستحسنهما زنكي وقال : لمن هذان؟ فقيل لابن منير وهو بحلب ، فكتب إلى والي حلب يسيّره إليه ، فسيّره ، فليلة وصل ابن منير قتل أتابك زنكي ، فعاد ابن منير صحبة العسكر إلى حلب ، فلما دخلها قال له ابن القيسراني : هذه بجميع ما كنت تبكتني به.

قلت : ولابن القيسراني المذكور في ابن منير وكان قد هجاه :

ابن منير هجوت مني

خيرا أفاد الورى صوابه

ولم تضيّق بذاك صدري

فإن لي أسوة الصحابه

وذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق فقال في ترجمته : حدث الخطيب السديد أبو محمد عبد القاهر بن عبد العزيز خطيب حماة قال : رأيت أبا الحسين بن منير الشاعر في النوم بعد موته وأنا على قرنة بستان مرتفعة ، فسألته عن حاله وقلت له : اصعد إلي ، فقال : ما أقدر من رائحتي ، فقلت : تشرب الخمر؟ فقال : شرا من الخمر يا خطيب ، فقلت : ما هو؟ فقال : تدري ما جرى عليّ من هذه القصائد التي قلتها في مثالب الناس؟ فقلت له ما جرى عليك منها؟ فقال : لساني قد طال وثخن حتى صار مد البصر ، وكلما قرأت قصيدة منها قد صارت كلابا تتعلق في لساني. وأبصرته حافيا عليه ثياب رثة إلى

٢٢١

غاية وسمعت قارئا يقرأ من فوقه (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ.) الآية (١) ثم انتبهت مرعوبا.

وكانت ولادته سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة بطرابلس ، وكانت وفاته في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بحلب ، ودفن في جبل جوشن بقرب المشهد الذي هناك رحمه‌الله تعالى ، وزرت قبره فرأيت عليه مكتوبا :

من زار قبري فليكن موقنا

أن الذي ألقاه يلقاه

فيرحم الله امرأ زارني

وقال لي يرحمك الله

وأشعاره لطيفة فائقة ، ومن شعره من جملة قصيدة :

وإذا الكريم رأى الخمول نزيله

في منزل فالحزم أن يترحلا

كالبدر لما أن تضاءل جد في

طلب الكمال فحازه متنقلا

سفها لحلمك إن رضيت بمشرب

رنق ورزق الله قد ملأ الملا

ساهمت عيسك مرّ عيشك قاعدا

أفلا فليت بهن ناصية الفلا

فارق ترق كالسيف سلّ فبان في

متنيه ما أخفى القراب وأخملا

لا تحسبن ذهاب نفسك ميتة

ما الموت إلا أن تعيش مذللا

للقفر لا للفقر هبها إنما

مغناك ما أغناك أن تتوسلا

لا ترض من دنياك ما أدناك من

دنس وكن طيفا جلا ثم انجلى

وصل الهجير بهجر قوم كلما

أمطرتهم شهدا جنوا لك حنظلا

من غادر خبثت مغارس ودّه

فإذا محضت له الوداد تأولا

لله علمي بالزمان وأهله

ذنب الفضيلة عندهم أن تكملا

طبعوا على لؤم الطباع فخيرهم

إن قلت قال وإن سكت تقولا

أنا من إذا ما الدهر همّ بخفضه

سامته همته السماك الأعزلا

واع خطاب الخطب وهو مجمجم

راع أكلّ العيس من عدم الكلا

زعم كمنبلج الصباح وراءه

عزم كحد السيف صادف مقتلا

ومن غرر قصائده قوله :

__________________

(١) الزمر : ١٦.

٢٢٢

من ركّب البدر في صدر الردينيّ

وموّه السحر في حد اليمانيّ

وأنزل النيّر الأعلى إلى فلك

مداره في القباء الخسروانيّ

طرف رنا أم قراب سلّ صارمه

وأغيد ماس أم أعطاف خطّيّ

وبرق غادية أم برق مبتسم

يفتر من خلل الصدغ الدجوجيّ

ويلاه من فارسي النجر مفترس

بفاتر أسديّ الفتك ريميّ

يكنّ ناظره ما في كنانته

فليس ينفكّ من إقصاد مرميّ

أذلني بعد عزي والهوى أبدا

يستعبد الليث للظبي الكناسيّ

ما مان مانيّ لو لا ليل عارضه

ما شد خيل المنايا بالأمانيّ

تكنّف الحسن منه وجه مشتمل

نفار أحور في تأنيس حوريّ

أما وذائب مسك من ذوائبه

على أعالي القضيب الخيزراني

وما يجن عقيقيّ الشفاه من الريق الرحيقيّ والثغر الجمانيّ

لو قيل للبدر من في الأرض تحسده

إذا تجلى لقال ابن الفلاني

أربى عليّ بشتّى من محاسنه

تألفت بين مسموع ومرئيّ

إباء فارس مع لين الشآم مع الظرف العراقيّ في النطق الحجازيّ

وما المدامة بالألباب ألعب من

فصاحة البدو في ألفاظ تركيّ

أشبهته ببعادي ثم كان له

مزية الخلق والأخلاق والزيّ

من أين لي لهب يجري على ذهب

من صحن أبيض صافي الماء فضيّ

وروضة لم تحكها كفّ سارية

ولا شكا خدها من لثم وسميّ

يحفها سوسن غض يغازله

بنرجس بنطاف السحر موليّ

من منقذي أو مجيري من هوى رشأ

أفتى وأفتك من عمرو بن معديّ

لا يعشق الدهر إلا ذكر معركة

أو خوض مهلكة أو ضرب هنديّ

ولا يحدث إلا عن رباءته

من المهار العوالي والمهاريّ

والصافنات ولبس الضافيات وشرب الصافيات وإطراب الأغانيّ

أشهى إليه من الدوح الظليل على الروح العليل وتعزيد القماريّ

شدّ الجياد لأيام الجلاد وإرشاد الصعاد إلى طعن الأناسي

وحثّ باز على ناز وحمل قطاميّ تكدر منه عيش كدريّ

في غلمة كغصون البان يحملها

كثبان برّ على عادات برديّ

٢٢٣

يمشون في الوشي أسرابا فتحسبهم

روض الربيع على بيض الأداجي

والساحر الساخر الغرار بينهم

كالشمس تكسف أنوار الدراريّ

مهفهف القدّ سهل الخدّ أغرب في الجمال من لثغة في لفظ نجديّ

تلهيه عن كتب تروى ونضرته

لشافعيّ فقيه أو حنيفيّ

عوج القسيّ وقبّ الأعوجية والشهب الهماليج تربى في الأورايّ

والشعر في الشعر الداجي على الغنج الساجي بلين منه قلب حوشيّ

فلو بصرت به يصغي وأنشده

قلت النواسيّ يشجي قلب عذريّ

أو صائد الأنس قد ألقى حبائله

ليلا فأوقع فيها صيد وحشيّ

أغراه بي بعدما شذ النفار به

شدو القريض وألحان السريجيّ

فصار أطوع لي منه لمقلته

وصرت أعرف فيه بالعزيزي

وهذه القصيدة أورد ابن خلكان البعض منها ، وقد ظفرت بها بتمامها محررة في بعض الأوراق مع الأبيات التي قبلها وأسطر من ترجمة ابن منير فأثبتها جميعها.

أين كان يسكن ابن منير

قال أبو ذر في الكلام على درب الخابوري : وهو على باب الجامع الكبير الشمالي وهو غير نافذ منسوب إلى شمس الدين أحمد بن عبد الله بن الزبير بن أحمد بن سليمان الخابوري الشافعي خطيب الجامع ، توفي بحلب في سنة تسعين وستمائة عن تسعين سنة ، وبه كان سكن ابن منير الطرابلسي. وخربت داره فجددها الشيخ سعيد المؤدب وبه آدر الخواجا علاء الدين شبانو واسمه علي بن حسام الدين محمود بن كوكب نزيل حلب جده ، وكان إنسانا حسنا ذا مال كثير ، وكان بمسكنه قبّان للذهب ، وشرى في هذه الدور للتوسعة كل ذراع بألف ، وتوفي في مدة إقامة التتار بحلب ودفن بجامعها مع القتلي ، وهم بيت حشمة أصلهم قوالعية ، منهم الخواجا عز الدين ، وكان سكنه عند الصاحبية بالقرب من المصبغة عند بيوت الظاهر غازي وهي قاعة عظيمة ا ه.

١٠١ ـ محمد بن نصر القيسراني الشاعر المشهور المتوفى سنة ٤٤٨

أبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير بن داغر بن محمد بن خالد بن نصر بن داغر

٢٢٤

ابن عبد الرحمن بن المهاجر بن خالد بن الوليد المخزومي الخالدي الحلبي الملقب شرف المعالي عدة الدين المعروف بابن القيسراني. (قال ابن خلكان : هكذا أملى عليّ نسبه بعض حفدته) ، الشاعر المشهور ، وكان من الشعراء المجيدين والأدباء المتفننين ، قرأ الأدب على توفيق بن محمد وأبي عبد الله بن الخياط الشاعر ، وكان فاضلا في الأدب وعلم الهيئة ، سمع بحلب من الخطيب أبي طاهر وهاشم بن أحمد الحلبي وغيره ، وسمع منه الحافظان أبو القاسم بن عساكر وأبو سعيد سفيان بن السمعاني وذكراه في كتابيهما ، وكذلك أبو المعالي الحظيري وذكره في كتاب الملح أيضا. وكان هو وابن منير (المذكور قبله) شاعري الشام في ذلك العصر ، وجرت بينهما وقائع وماجريات وملح ونوادر ، وكان ابن منير ينسب إلى التحامل على الصحابة رضي‌الله‌عنهم ويميل للتشيع ، فكتب إليه القيسراني المذكور وقد بلغه أنه هجاه قوله :

ابن منير هجوت مني

خيرا أفاد الورى صوابه

ولم تضيّق بذاك صدري

فإن لي أسوة الصحابه

ومن محاسن شعره قوله :

كم ليلة بت من كاسي وريقته

نشوان أمزج سلسالا بسلسال

وبات لا تحتمي عني مراشفه

كأنما ثغره ثغر بلا وال

وظفرت بديوانه وجميعه بخطه وأنا يومئذ بحلب ، ونقلت منه أشياء حسنة رائقة ، فمن ذلك قوله في مدح خطيب :

شرح المنبر صدرا

لتلقّيك رحيبا

أترى ضمّ خطيبا

منك أم ضمّخ طيبا

وهذا الجناس في غاية الحسن. ثم وجدت هذين البيتين لأبي القاسم بن زيد بن أبي الفتح أحمد بن عبيد بن فضل الموازيني الحلبي المعروف أبوه بالماهر وأن ابن القيسراني المذكور أنشدهما للخطيب ابن هاشم لما تولى خطابة حلب فنسبا إليه.

ورأيت الأول على هذه الصورة ، وهو :

قد زها المنبر عجبا

إذ ترقّيت خطيبا

٢٢٥

وله في الغزل :

بالسفح من لبنان لي

قمر منازله القلوب

حملت تحيته الشما

ل فردّها عني الجنوب

فرد الصفات غريبها

والحسن في الدنيا غريب

لم أنس ليلة قال لي

لما رأى جسدي يذوب

بالله قل لي يا فتى

ما تشتكي قلت الطبيب

وله أيضا :

وقالوا لاح عارضه

وما ولت ولايته

فقلت عذار من أهوى

أمارته إمارته

ومن معانيه البديعة قوله من جملة قصيدة رائقة :

هذا الذي سلب العشاق نومهم

أما ترى عينه ملأى من الوسن

وهذا البيت ينظر إلى قول المتنبي في مدح سيف الدولة بن حمدان :

نهبت من الأعمال ما لو حويته

لهنئت الدنيا بأنك خالد

وكان كثير الإعجاب بقوله من جملة قصيدة :

وأهوى الذي أهوى له البدر ساجدا

ألست ترى في وجهه أثر الترب

وحضر مرة في سماع وكان المغني حسن الغناء ، فلما طربت الجماعة وتواجدوا قال :

والله لو أنصف العشاق أنفسهم

فدوك منها بما عزّوا وما صانوا

ما أنت حين تغني في مجالسهم

إلا نسيم الصّبا والقوم أغصان

وكانت ولادة ابن القيسراني المذكور سنة ثمان وسبعين وأربعمائة بعكا ، وتوفي سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بمدينة دمشق ، ودفن بمقبرة باب الفراديس. والخالدي نسبة إلى خالد بن الوليد رضي‌الله‌عنه ، هكذا يزعم أهل بيته ، وأكثر المؤرخين وعلماء الأنساب يقولون : إن خالدا رضي‌الله‌عنه لم يتصل نسبه بل انقطع منذ زمان ، والله أعلم. والقيسراني بفتح القاف نسبة إلى قيسارية وهي بليدة بالشام على ساحل البحر ا ه.

٢٢٦

وأورد له ياقوت في الكلام على (الأثارب) قوله :

عرّجا بالأثارب

كي أقضّى مآربي

وا سرقا نوم مقلتي

من جفون الكواعب

وا عجبا من ضلالتي

بين عين وحاجب

١٠٢ ـ محمد بن عبد الصمد الطرسوسي المتوفى سنة ٥٤٩

محمد بن عبد الصمد بن الطرسوسي القاضي فخر الدين أبو منصور الحلبي. كان ذا همة ومروءة ظاهرة ، له أمر نافذ في تصرفه في أعمال حلب وأثر صالح في الوقوف ا ه.

قال في كنوز الذهب في الكلام على الحلوية : ومتولي عمارتها القاضي فخر الدين أبو منصور محمد بن عبد الصمد بن الطرسوسي ، وكان ذا همة ... إلخ ما هنا.

الكلام على جامع الطرسوسي

من آثار المترجم الباقية مسجد واسع أنشأه في محلة باب قنسرين بالقرب من باب البلد ، وكان هذا الدرب قديما يعرف بالرحبة كما في ابن شداد. وقال أبو ذر : (درب الرحبة) : هو الذي به الأسدية ، ومسجد ابن الطرسوسي قبلي المدرسة في سوق ، وجدده (أي المسجد) أحمد بن محمد التاجر في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة.

والمسجد باق إلى يومنا هذا ويعرف بالطرسوسي ، والباقي له من الأوقاف داران وستة دكاكين. طول قبيلته نحو ٢٦ ذراعا وعرضها أربعة أذرع ونصف ، في آخرها في جدار القبلة مصطبة صغيرة فيها قبر كتب على لوحيه أنه قبر أحمد بن زين العابدين المتوفى سنة ٩٩٢ ، لم أقف له على ترجمة ، ولعلها توجد في تاريخ الشيخ عمر العرضي المسمى بمعادن الذهب.

وبجانب باب المسجد حجرة فيها صهريج يستقى منه أهل المحلة زمن الصيف.

ومن جملة الأماكن التي وقف المترجم على عمارتها الخانكاه القديم التي بناها الشهيد نور الدين محمود وقد ذكرناها في جملة آثاره بحلب في الجزء الثاني (ص ٦٨) ثم وقف على تفصيل حالها في كنوز الذهب لأبي ذر فذكرتها هنا قال :

٢٢٧

الخانكاه القديم

هذه الخانكاه (١) تحت القلعة إلى جانب الخندق ملاصقة لدار العدل ، أنشأها نور الدين وتولى النظر على عمارتها شمس الدين أبو القاسم بن الطرسوسي. قلت : وهي وقف على الصوفية المتجردين. وأنشأها في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ، وهي نيرة كبيرة متسعة الأرجاء بها قاعة للشيخ وقبة للفقراء وإيوان كبير وقبلية ، وبشرقها في صحن الخانكاه باب تنزل منه إلى بركة ماء من قناة حيلان ، وبوابتها عظيمة وهي من زمن الواقف. وأما بابها الذي على الشارع وله دكتان فهو من إنشاء حسام الدين البرغالي لما كان شيخا بها قبل فتنة تمر. وهذه الخانكاه كان لها مطبخ يطبخ فيه للفقراء فسد الآن وخرب. وكان بها سجادة الشيخ شهاب الدين عمر ابن محمود السهروردي صاحب «عوارف المعارف» المتوفى سنة ٦٣٢ (٢) وقد آلت هذه الخانكاه مشيخة ونظرا بعد حسام الدين البرغالي إلى العلامة عز الدين الحاضري ، ثم من بعده إلى أولاده ، وشاركهم تاج الدين الكركي وقاضي المسلمين أبو بكر بن إسحق الحنفي ، ثم استقل بها ولد ولد الشيخ عز الدين علاء الدين الحاضري فرمم ما استهدم منها وشرى لها رخاما ملونا ليرخمها به ، فإن رخامها القديم تكسر غالبه ، وسد باب الماء الذي كان في صحنها وفتح بابا في دهليزها وانتقل إليها وسكن فيها ومات كما سيأتي في الحوادث. ولها أوقاف مبرورة منها قرية بديثا من جبل السمّاق بالقرب من أريحا ، ولها حمام خلف دار العدل. ولما دثرت عمرها المؤيد بالنصف ودثرت الآن أيضا ، ولها حوانيت على بابها وغير ذلك ا ه.

(أقول) : وفي هامش أبي ذر بخط بعضهم : هذه الآن تعرف بالمقشاتية ا ه.

ويظهر أنها تخربت في الزلزلة التي حصلت سنة ١٢٣٧ ، وقد دخلت الآن في عمارة المستشفى الوطني ، وقد كانت في جنوبه آخذة إلى الشرق إلى قرب الخندق ، وسيأتيك في ترجمة الأمير مسعود بن أيبك المتوفى سنة ٦٤٩ ما كان هنا من المدارس.

__________________

(١) في الهامش بخط بعضهم هذه الآن تعرف بالمقشاتية.

(٢) هذا يفيد أن الشيخ شهاب الدين السهروري أقام بحلب مدة ثم رحل عنها ، وقد ساق أبو ذر هنا ترجمته وهي مذكورة في تاريخ ابن خلكان. وفي مكتبة المدرسة العثمانية نسخة من عوارف المعارف محررة في زمنه وعليها خطه رضي‌الله‌عنه.

٢٢٨

١٠٣ ـ أحمد أبو المكارم الأسكافي المتوفى في عقد الخمسين تقديرا

أحمد أبو المكارم الأسكافي باني المسجد الملاصق للمارستان الأرغوني في محلة باب قنسرين ، لم أقف له على ترجمة ولا على تاريخ وفاته ، وهذا المسجد يعرف الآن بمسجد الشيخ حمود ومكتوب على الحجر المدور الموضوع فوق باب المسجد بالخط الكوفي ما نصه : (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عمر ابتغاء ثواب الله تعالى أبو المكارم الأسكافي عفا الله عنه سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة) (١) اه.

الكلام على درب البنات في محلة باب قنسرين وما فيه من الآثار

قال أبو ذر : هو شمالي البيمارستان تجاه الخان ، وبه مسجد إنشاء بني شنقس (٢) ، قاله ابن شداد.

قال ابن العديم : وأظن أن درب البنات تعرف بأم ولد كانت لعبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح اسمها بنات ، وهي أم ولده داود ، وبهذا الدرب قبلي المارستان مسجد منتخب الدين أحمد ابن الأسكافي وعليه دائرة بها كتابة كوفية.

وقال في الكلام على الخوانك : خانكاه بدرب البنات ، ودرب البنات شمالي البيمارستان الكاملي أنشأتها زمرد خاتون وأختها بنتا حسام الدين لاجين. قاله ابن شداد. قال أبو ذر : وبهذا الدرب مكان مكتوب عليه : هذا ما وقفه ست العراق ابنة نجم الدين أيوب بن شادي عن ولدها سيف الدين في سنة أربع وسبعين وخمسمائة. فلينظر في هذا وفي كلام ابن شداد (٣). وبالدرب المذكور بيت كمال الدين المعري قاضي حلب ، وكان مدفونا به فنقل ودفن عند الفردوس. والخان الذي تجاه هذا الدرب أسسه كمال الدين

__________________

(١) إن ما ذهب إليه الشيخ في قراءة النص لا يتفق والنص المكتوب على الحجر الدائري كما أوضح الأستاذ محمد كامل فارس في بحث له أطلعني عليه ـ لم ينشر ـ عن هذا المسجد ، إذ نقل الكتابة بطريقة النسخ ، وهي. بسم الله الرحمن / الرحيم هذا ما عمره ابتغاء / ثواب الله تعالى أبي الرضا عيسى / بن الفضل بن الإسكافي رضي / الله عنه في سنة إحدى / وأربعين وخمسمائة.

(٢) هو داخل الزقاق الذي لا ينفذ تجاه هذا الخان المعروف الآن بخان القاضي.

(٣) أقول : يظهر أنه كان بهذا الدرب خانكاهان فلا تناقض ، ولا أثر لهما الآن ولا يعرف مكانهما. والموجود هو مسجد بني شنقس.

٢٢٩

المذكور مدرسة فجاءت رسالة من النائب لشخص أن يقرره إماما فيها فقال : إنما أسسته خانا. ورجع عن نيته وانقرضوا ا ه.

١٠٤ ـ أبو الرضا بن النحاس المتوفى في عقد الخمسين وخمسمائة

أبو الرضا بن النحاس الحلبي ، شاعر قدم دمشق. حدثنا أبو عبد الله محمد بن المحسن ابن أحمد السلمي بلفظه ، وكتب لي بخطه قال أبو الرضا : ابن النحاس شيخ حلبي هو ابن أخت أبي نصر الوزير العالم المفيد الكاتب الشاعر المجيد ، وكان أبو الرضا وصل إلى دمشق عند القبض على خاله لأخذ خاله فاجتمعت به وتحدثت معه ، وأنشدني أبو الرضا لخاله :

يا قلب أنت أذنت لي في هجره

وزعمت أني قاصر عن ذكره

وضمنت أعدائي عليه بسلوة

لا أتقي فيها عواقب غدره

ورجعت تطلبه وأنت أضعته

هيهات فات الحزم فارط أمره

فاستحسنت هذه الأبيات حتى غنى بها الفتيان وهام بها الشيوخ والشبان.

قال ابن الملجي : وكتب إلى يوما :

يا من إذا ما البليغ الحبر جاذبه

على الفصاحة منشورا إلى النوك

وابن الألى غمر الإخوان فضلهم

حتى لقد أصبحوا مثل المماليك

الواهبي كل مصقول ومسمعة

وكل أجرد كالسرحان محبوك

قوم إذا ترك الأجواد مكرمة

فمجدهم لسواهم غير متروك

ما زلت تدأب في العلياء تعمرها

مجاهدا في طريق غير مسلوك

دعوتنا دعوة بالأمس معجزة

فثنّ لا تجعلنها سيمة الديك

ا ه (ابن عساكر) هكذا هذه الأبيات.

١٠٥ ـ محمد بن علي بن حميدة المتوفى سنة ٥٥٠

محمد بن علي بن أحمد أبو عبد الله النحوي الحلّي يعرف بابن حميدة ، نحوي بارع

٢٣٠

حاذق في الفن بصير به عارف باللغة ، له شعر ، شرح أبيات الجمل وشرح اللمع وكتاب التصريف لابن جني ، وشرح المقامات.

قال الشيخ شمس الدين : هو شاب فيما أظن (هكذا ، والصواب : شيعي ، لأن بني حميدة شيعة ، وسيأتي منهم ابن أبي طي بن حميدة المؤرخ). توفي سنة خمسين وخمسمائة : قال ابن النجار : وله كتاب في الفرق بين الظاء والضاد وكتاب الأدوات.

أورد ابن النجار في تاريخه قول ابن حميدة الحلبي :

سلام على تلك المعالم والربى

وأهلا بأرباب القباب ومرحبا

وسقيا لربات الحجال بضارج

ورعيا لأرباب الخدور بيثربا

أحن لذيّاك الجمال وإن غدا

ربيبته عن روضتيّ مجنبا

وأصبو لربع العامرية كلما

تذكرت من جرعائها لي ملعبا

فلا همّ إلا دون همي غدوة

إذا جرت النكباء أو هبت الصبا

قلت : شعر متوسط. وقال ياقوت : له كتاب «الروضة» فيها مسائل نحو منثورة رحمه‌الله ا ه (الوافي بالوفيات للصفدي).

١٠٦ ـ الحسن بن علي بن العديم المتوفى سنة ٥٥١

الحسن بن علي بن عبد الله بن محمد بن عبد الباقي بن محمد بن عبد الله بن موسى ابن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عامر بن أبي جرادة الحلبي أبو عبد الله ، من بيت قضاة وفقهاء. ولد بحلب سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة ، وقيل غير ذلك ، وسمع وأفاد ومات في أيام الظاهر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. وله من العمر تسع وخمسون سنة ا ه (ط ح للقرشي).

وذكره ياقوت في معجم الأدباء في ترجمة والده وقال : سافر إلى مصر في أيام ابن رزيك ومدحه وحظي عنده ، ثم مات بمصر سنة ٥٥١ ، وهو القائل :

يا صاحبيّ أطيلا في مؤانستي

وذكراني بخلّان وعشاق

وحدثاني حديث الخيف إن به

روحا لقلبي وتسهيلا لأخلاقي

٢٣١

ما ضر ريح الصبا لو ناسمت حرقي

واستنقذت مهجتي من أسر أشواقي

داء تقادم عندي من يعالجه

ونفثة بلغت مني من الراقي

يفنى الزمان وآمالي مصرّمة

ممن أحب على مطل وإملاق

واضيعة العمر لا الماضي انتفعت به

ولا حصلت على أمر من الباقي

انتهى. وسيأتي له ترجمة أخرى مع أسرته في ترجمة الكمال ابن العديم المتوفى سنة ٦٦٠.

١٠٧ ـ عبد القاهر أبو الفرج الشيباني المعروف بالوأواء

الشاعر المتوفى سنة ٥٥١

عبد القاهر بن عبد الله بن الحسن أبو الفرج الشيباني الحلبي النحوي الشاعر المعروف بالوأواء ، أصله من بزاعا ، ونشأ بحلب وتأدب بها ، وكانت بينه وبين أبي عبد الله الطليطلي النحوي نزيل شيزر مكاتبات ، وتردد إلى دمشق غير مرة ، وكان يقرىء بها النحو ويشرح شعر المتنبي ويعربه ، وامتدح بها جماعة ، رأيته وجالسته ولكن لم أسمع منه شيئا فأنشدني له ابنه أبو محمد عبد الصمد قال : أنشدني أبي لنفسه :

أظنوا أنهم بانوا

وهم في القلب سكان

تولى النوم إذا ولّوا

وكان العيش إذ كانوا

أناديهم وقد حثوا

ودمع العين هتّان

أحب البعد أحباب

وخان العهد إخوان

وقالوا شفّك الدهر

وهم للدهر أعوان

ويحيا المرء إذا راعت

ه أسياف وخرصان

ولا يحيا إذا راعت

ه أحداق وأجفان

وأغيد فاتك الألحا

ظ صاح وهو نشوان

وريان من الحسن

إلى الأنفس ظمآن

إذا لاح فما البدر

وإن ماس فما البان

قال : وأنشدني لنفسه :

٢٣٢

خلوت بمن أهواه بعد تفرّق

بأرض أبي صوب الندى أن يصوبها

فكان عويلي رعدها وابتسامه

وميضا وأهواء القلوب جنوبها

وجاد غمام من دموعي لروضها

فضوّع أنفاس الخزامى وطيبها

وقرّب مني الدهر حبا رجوته

وأبعدت الأيام عني رقيبها

تواصله كالبدر أبدى صيانة

وإعراضه كالشمس أبدت غروبها

غدوت أمنّي بعد وصل لقاءه

إذا نفس محزون تمنت حبيبها

وكنا نرى الأيام قدما تعيبنا

فما بالنا صرنا الغداة نعيبها

قال : وأنشدني أبي لنفسه :

هلال بدا نقصي لفرط تمامه

وحتفي دنا من لحظه لا حسامه

إذا ما ادلهمّ الليل من لام صدغه

أبى الصبح حثا من بروق ابتسامه

تكاد تقوم النائحات بشجوها

عليّ إذا عاينت حسن قوامه

فأضعف عن ردّ الكلام لسائل

إذا صدّعني مانعا لكلامه

سقاني وقال الخمر أودت بلبه

وسكري من عينيه لا من مدامه

وطال عذابي إذ فنيت لشقوتي

بمن ليس يرضاني غلام غلامه

ظلوم رشفت الظّلم من فيه لاهجا

به ولقيت البدر تحت لثامه

قال : وأنشدني أبي لنفسه :

أبى زمني أن تستقر بي الدار

وأقسم لا تقضى لنفسي أوطار

أخلّاي كيف العذل والدهر حاكم

وكيف دنوّي والمقدّر أقدار

فما غبتم عن ناظري فيراكم

ولم ينسكم قلبي فيحدث تذكار

لئن عفتم نصري إذا حلّ حادث

فلي من دموعي في الحوادث أنصار

وإن غربت شمس النهار فمنكم

شموس بقلبي لا تغيب وأقمار

ولي فرق باد ذا ما تفرّقوا

ولي مدمع جار ما هم جاروا

وتوجد نفسي حين تلقي عصا النوى

وتفقد إن شدّت على العيس أكوار

وإن يك إقلالا تواصل كتبكم

ففي حسراتي نحوكم لي إكثار

٢٣٣

وماء شؤوني طار عن نار مهجتي

فمن مخبري (١) هل يجمع الماء والنار

نحولي شهيد عن حنيني إليكم

وإن حضر الأشهاد لم يغن إنكار

لحدّ حسام الدهر فيّ مضارب

بدت ولذاك الإثر في القلب آثار

تفاني عن الأوطان ما لم أبح به

فصرت كفعل ظاهر فيه إضمار

وكنت كغصن بات يمنع ريّه

وقد رويت حولي من الماء أشجار

فقلت ألا إن الممات بغربة

لأفضل عند الضيم والناس أطوار

وعرضت من صحبي أناسا بهم غدا

يبعّد ذو فضل ويعبد دينار

فعندهم ذو الفضل من فاق طمره

ترى عند حسن القول تنطق أطيار

وأعسر داء للفتى في حياته

قتير بدا في العارضين وإقتار

وكم نالت الخسران عند طلابها

بصائر في كسب الحظوظ وأبصار

فإن يغلط الدهر استعدت وصالكم

وإلا فكيف الوصل والدهر غدّار

وإن ... دار شكوت إليكم

صروفا وإلا فالقبور لنا دار

وأنشدني أبو محمد قال : أنشدني أبي يرثي صبيا :

أضرمت نيرانا بغير زناد

فبدا تأججها على الأكباد

وأتى الطبيب فما شفى لك غلة

ولطالما قد كنت تشفي الصادي

قد كان لي عين وكنت سوادها

فاليوم لي عين بغير سواد

قال عبد الصمد بن أبي الفرج : توفي والدي أبو الفرج في آخر شوال سنة إحدى وخمسين وخمسمائة بحلب ا ه (ابن عساكر).

وذكره السيوطي في «بغية الوعاة» وقال : إنه تردد إلى دمشق وأقرأ بها النحو ، وكان حاذقا فيه ، شرح ديوان المتنبي. ومن شعره :

طال فكري في جهول

وضميري فيه حائر

يستفيد القول مني

وهو في زيّ مناظر

__________________

(١) في الأصل : مجيري ، ولعل الصواب ما أثبتناه.

٢٣٤

١٠٨ ـ أبو الفضل بن أبي الوقار الطبيب المتوفى سنة ٥٥٤

أبو الفضل بن أبي الوقار هو الشيخ الأجل العالم أبو الفضل إسماعيل بن أبي الوقار ، أصله من المعرة ، وأقام بدمشق وسافر إلى بغداد ، وقرأ على أفاضل الأطباء من أهلها ، واجتمع بجماعة من العلماء بها وأخذ عنهم ، ثم عاد إلى دمشق. وكان متميزا في صناعة الطب علمها وعملها ، كثير الخير محمود الطريقة حسن السيرة وافر الذكاء. وكان في مة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي ويعتمد عليه في صناعة الطب ، وكان لا يفارقه في السفر والحضر ، وله الحظ الوافر والإنعام الكثير. وتوفي مع الملك العادل نور الدين وهو في حلب في العشر الأول من شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وخمسمائة ا ه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء).

١٠٩ ـ محمد بن علي بن محمد العظيمي المؤرخ المتوفى بعد الخمسين ظنا

محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن نزار أبو عبد الله التنوخي الحلبي المعروف بابن العظيمي ، كان له عناية بالتاريخ وتأليفه ، وألف عدة تآليف. قال ياقوت : لكنها مختلة كثيرة الخطأ. وكان معلم صبيان بحلب ، وسافر إلى دمشق وامتدح بها واجتدى بشعره.

قال أبو سعد السمعاني : سألت ابن العظيمي عن ولادته فقال : سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة بحلب.

ومن شعره :

يلقى العدى بجنان ليس يرعبه

خوض الحمام ومتن ليس ينفصم

فالبيض تبسم والأوداج دامية

والخيل ترقص والأبطال تلتطم

والنقع غيم ووقع المرهفات به

لمع البوارق والغيث الملثّ دم

ومنه :

أيا بانة الوادي الذي بان عرفه

ألا حبذا واد وأنت قرين

هواك قديم ليس يبلى جديده

إذا مر حين منه أقبل حين

وحبك حيّ في دوارس أعظمي

وسرّك ميت في الفؤاد دفين

٢٣٥

ووجدي بكم عفّ بغير خيانة

ومؤتمن في الحب كيف يخون

حمتني أسود عن حماك ضراغم

لها من وشيج السمهريّ عرين

قلت : شعر جيد ا ه (الوافي بالوفيات).

أقول : لم يذكر في الواقي تاريخ وفاته ، ويغلب على الظن أنها كانت في أواسط هذا القرن فأثبتناه مع من توفي ما بين الخمسين والستين. وبعد كتابة ما تقدم وجدت الحافظ ابن عساكر ترجمة في تاريخه فقال : قدم دمشق وامتدح بها جماعة بشعر لا بأس به ، وسمع معنا شيئا من الحديث على الفقيه نصر ، ثم عاد إلى حلب وتردد إلى دمشق دفعات. أنشدني شيئا من شعره وكتبها لي بخطه ، أنشدني أبو عبد الله لنفسه من قصيدة (يلقى العدى ...

إلخ) الأبيات المتقدمة. ثم قال : وأنشدني لنفسه :

صبابة من حلال المال تكفيني

وبلغة من قوام العيش تكفيني

وأنشدني لنفسه أيضا :

جفون لأسياف اللحاظ جفون

لها فتن بين الورى وفتون

أعانت على قتلي فكيف تعينني

وديّنتها قلبي فكيف أدين

ألين لها ... فتبدي قساوة

وتزداد عزا بالهوى وأهون

من اللآء منهن البدور تعلمت

كمالا وتعديل القدود غصون

حظون لقلبي لا لبستان خله (هكذا)

فاغوت عيابات وجن جنون

وأومض عن وضح الثغور بوارقا

بحيث توارى خيفة وتبين

غرامي بكم والدار مني قريبة

فكيف إذا مجّت وشطّ قرين

ويزداد تهيامي بكم وتثور بي

وساوس وجدي والجنون فنون

ولا أنا كالحرباء عندي تقلّب

رياء ولا من في اليمين يمين

وأنشدني لنفسه (أيا بانة الوادي ... إلخ ما تقدم).

وله كما وجدته في بعض المجاميع الحلبية :

أيا قاتلي من غير جرم جنيته

سوى أنه يدري بأني أهواه

أراك لعيني قرة ولمهجتي

شفاء وعند القلب غاية شكواه

٢٣٦

فإن لم تكن عيني فأنت سوادها

وإن لم تكن قلبي فأنت سويداه

١١٠ ـ فتيان أبو السخاء الحائك النحوي المتوفى سنة ٥٦٠

فتيان أبو السخاء الحلبي النحوي الحائك ، ذكره القفطي وقال : من عوام حلب. قرأ شيئا من النحو على مشايخ بلده وفهم أوائله وعدم في زمنه من يعرف هذا الشان بسبب خراب حلب بنزول الفرنج عليها في سنة ثمان عشرة وخمسمائة ، وأقامت بعد ذلك برهة لا عالم بها ، فأخذ عنه الناس النحو بمقدار ما عنده. ومن تلامذته الشيخ موفق الدين ابن يعيش. مات في حدود سنة ستين وخمسمائة ا ه (بغية الوعاة).

١١١ ـ شرف الدين عبد الرحمن العجمي المتوفى سنة ٥٦١

أبو طالب شرف الدين عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن الحلبي ، ويعرف أيضا بابن العجمي. رحل إلى بغداد فتفقه بها على أبي بكر الشاشي وأسعد الميهني وسمع من جماعة ، ثم عاد إلى بلده وساد بها وبنى للشافعية مدرسة. وكان فيه همة وعصبية ومحبة للعلماء. سمع منه أبو سعد السمعاني وغيره. ولد بحلب سنة ثمانين وأربعمائة وتوفي بها في شعبان سنة إحدى وستين وخمسمائة ، قاله في العبر ا ه (ط ش أسنوي).

وترجمة الإمام السبكي في طبقاته وزاد على ما قاله في العبر أنه سمع من أبي القاسم بن بيان ، وقدم إلى دمشق رسولا من صاحب حلب.

وترجمه الملافي مختصره لتاريخ الذهبي وزاد على ما هنا أنه تولى عمارة المسجد الذي ببعلبك في أيام أتابك زنكي بن آقسنقر ، وتولى عمارة المسجد الحرام من قبل صاحب الموصل ا ه.

آثاره في حلب

قدمنا في الجزء الأول في صحيفة (٣٩٢) أن أول مدرسة بنيت في حلب هي المدرسة الزجاجية ، بنيت سنة ٥١٧ وأن بانيها سليمان بن عبد الجبار صاحب حلب ، ثم لما وصل إليّ كنوز الذهب لأبي ذر وجدت فيه فصلا مسهبا في الكلام على هذه المدرسة وأنها من

٢٣٧

بناء المترجم ، والذي يغلب على الظن أنهما اشتركا في بنائها ، ولذا كان ينسب بناؤها لسليمان تارة ولابن العجمي تارة. وإليك ما ذكره أبو ذر عنها قال :

المدرسة الزجاجية الشافعية (١)

سميت باسم السوق الذي هي فيه ، وكان هناك معمل للزجاج ، ولما حفر أساس الفرن الموجود الآن تجاه الحمّام وجدوا آثار المعمل المذكور. وهذه المدرسة أول مدرسة بنيت بحلب ، وكانت قديما تدعى بالشرفية باسم بانيها شرف الدين عبد الرحمن ابن العجمي وترجمته مذكورة مع أقاربه ، وكذا أخبرني شيخنا ابن الضياء بذلك ، ورأيت في تاريخ ابن خلكان أنها من بناء أبي الربيع سليمان بن عبد الجبار صاحب حلب. ورأيت في كلام الصاحب في زبدة الحلب : وجدد بدر الدولة المدرسة التي بالزجاجين بحلب المعروفة ببني العجمي بإشارة ابن العجمي ، وذكر لي أنه عزم أن يقفها على الفرق الأربع ونقل آلتها من كنيسة داثرة كانت بالطحانين بحلب انتهى.

وبدر الدولة هو سليمان المذكور. ووجدت في تاريخ الإسلام ما يشهد أنها من بناء عبد الرحمن بن العجمي المتقدّم ذكره ، لأنه قال في ترجمته : وبنى بحلب مدرسة مليحة ووقف عليها. وفي كلام ابن السبكي في ترجمته أيضا : وبنى بحلب مدرسة تعرف به (٢).

ورأيت في الروضتين قال في سنة ثلاث وستين وخمسمائة : إن الشهيد شتا بقلعة حلب ومعه أسد الدين شيركوه وصلاح الدين ، ونزل العماد بمدرسة ابن العجمي. وإذا نظرت إلى تاريخ صاحب الشرفية التي بالقرب من باب الجامع الشرقي علمت أنها لم تكن موجودة إذ ذاك. وقال ابن عساكر : إن المرادي قدم حلب ودرس بمدرسة ابن العجمي. والمرادي لما قدم لم تكن الشرفية موجودة.

قال بعض المؤرخين : ولما بنى سليمان الزجاجية كان كلما بنى شيئا أخربته الشيعة

__________________

(١) وانظر الصحيفة (٢٩٤) من هذا الجزء أيضا.

(٢) قال أبو ذر في آخر الكلام على هذه المدرسة : ووقع في تاريخ ابن منقذ أن زنكي عمر هذه المدرسة ووقف عليها ضيعتين وليس كذلك ا ه. قال في الدر المنتخب : ولما ملك الأتابك زنكي حلب في سنة ٥٢٢ نقل والده آق سنقر من قرنبيا وكان مدفونا بها فدفنه في شمالي هذه المدرسة. وزاد في وقفها لأجل القراء المرتبين في التربة ا ه. أقول : الذي يغلب على الظن أن هذا هو الصواب.

٢٣٨

ليلا ، فأحضر الشريف زهرة بن علي وأمره أن يباشر البناء بنفسه ، فباشر ذلك ، فلما كملت فوض أمرها تدريسا ونظرا إلى عبد الرحمن بن العجمي.

ولم يزل شرف الدين المذكور مدرسا بها إلى أن توفي (أي في التاريخ المتقدم) وتولى بعده التدريس حفيداه مجد الدين طاهر بن نصر بن جهبل وأخوه زين الدين أبو الحسين عبد الكريم ، وقيل عبد الملك ، وكانا من العلماء المتميزين والفضلاء المبرزين ، ولم يزالا مدرسين بها إلى أن أخرجهما منها الملك الناصر صلاح الدين (سيأتي ذلك) وولي فيها الشيخ كمال الدين عمر بن أبي صالح عبد الرحيم ابن الشيخ شرف الدين أبي طالب ، وكان حافظا لكتاب المهذب ، ولم يزل بها مدرسا إلى أن توفي يوم الأربعاء حادي عشر شهر رجب سنة اثنتين وأربعين وستمائة. ثم ولي عماد الدين محمد ولم يزل مدرسا بها إلى أن توفي يوم الاثنين ثالث عشر شعبان سنة تسع وأربعين وستمائة ، وكان مولده ليلة الخميس ثالث عشر رمضان سنة إحدى عشرة وستمائة. ثم ولي بعده أخوه محيي الدين عبد الله ولم يزل مدرسا بها إلى أن توفي في أواخر ذي القعدة سنة خمس وخمسين وستمائة ، وكان مولده رابع المحرم سنة تسع وستماية. ثم وليها بعده ولده بهاء الدين أحمد ولم يزل بها مدرسا إلى أن كانت فتنة التتر بحلب سنة ثمان وخمسين وستمائة فخرج عنها ا ه.

ثم آل التدريس إلى الشيخ كمال الدين بن العجمي شيخ والدي ، وكان قد زوج ابنته من ابن عمه الشيخ شهاب الدين وهو من أولاد كمال الدين المذكور أولا ، وكان شهاب الدين قد اشتغل وبرع كما في ترجمته مع أقاربه ، فقال الشيخ كمال الدين لابنته : زوجك لا يدع التدريس لي ولا تدريس الشرفية فادخلي بيني وبينه ولك عليّ شقة ، فدخلت بينهما فنزل عن التدريسين المذكورين لابن عمه وهو صهره ، ثم قتل شهاب الدين المذكور كما في ترجمته ، ثم صارتا من بعده لأخيه شمس الدين محمد إذ ولده أبو جعفر إذ ذاك كان صغيرا ، فتوفي شمس الدين المذكور في محنة تيمر فاستقل أبو جعفر المذكور بالتدريسين المذكورين ، وسيأتي متى مات ا ه.

وهذه المدرسة عظيمة كبيرة ولها إيوان من أعاجيب الدنيا ، ولها قبلية عجيبة وشمالية ، وأرضها مفروشة بالرخام الأبيض والأسود ، ولها أعمدة أخذ تغري برمش كافل حلب من أعمدتها بدلالة ابن الحصوني مباشرة فجعلها أحجارا للمكحلة التي عملها ليرمي بها على القلعة ، فلم ينجح بسبب ذلك ، وفي طرازها مكتوب بالكوفي : كملت عمارتها في

٢٣٩

سنة سبع عشرة وخمسمائة. قال ابن شداد : وابتدىء بعمارتها سنة ست عشرة. وحائطها الشمالي اندثر غالبه وجدد بعد ذلك ، والبقية التي فيه من الكتابة هي من العمارة القديمة ، ولها باب صغير إلى جانب الباب الكبير يدخل منه المدرس ، وبها كانت القسيمية وقد تقدم الكلام عليها وعلى وقفها (أي في الجزء الأول وهو لم يصل إلىّ) ووقف صاحب الزجاجية عليها قرية كارس وكانت الجمعة تقام بهذه القرية ، ولم تزل هذه المدرسة قائمة الشعار عامرة إلى محنة تمر ، فانهدم غالبها وبقي إيوانها ، وسيأتي في الحوادث متي خرب ، وقد غير أساسها الأمير علاء الدين علي بن الشيباني وزعم أنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام وأمره بعمارتها ، وأحضر كافل حلب ووقفه عليها ، ثم إنه شرع في حفر الأساس ثم أمسك عن عمارتها. ولما قدم ابن الضياء إلى حلب بعد فتنة تمر أشار عليه والدي بعمارتها شيئا فشيئا فلم يقبل ، ثم ندم عند الموت. ولقد حصل من رائع وقفها شيء فدفعه إلى دوادار كافل حلب قرقماش ولم يلتمس منه شيئا ، والآن المدرسة خراب والضيعة عامرة ا ه. قال في الدر المنتخب : وهي الآن خراب وقد عمر بها دور للسكنى ا ه.

موقع هذه المدرسة

قال أبو ذر في الكلام على درب الزجاجين : وبهذا الدرب حمّام يعرف الآن بالزجاجين ، وبه مسجد غربي المدرسة أمر بعمارته العادل أبو بكر محمد بن أيوب بتولي أحمد بن عبد الله الشافعي في سنة إحدى وخمسين ا ه.

وهذا المسجد لم يزل موجودا ، وقد تقدم ذكره وصورة ما كتب عليه في ترجمة عبد الله القصري المتوفى سنة ٥٤٢ ، فعلى هذا يكون مكان المدرسة هو نفس الخان المعروف الآن بخان الطاف لا ما ذكرناه في حوادث سنة ٥١٨ من أنه في أوائل زقاق أبي درجين الذي هو غربي هذا المسجد. والذي يغلب على الظن أن بقية الأحجار الكبيرة التي هي في الخان وفي مدخله وفي قناطر بعض مخازنه هي من بقايا آثار تلك المدرسة ولله الأمر.

سبب بناء شرف الدين ابن العجمي لهذه المدرسة

الذي ظهر لي في سبب بناء شرف الدين ابن العجمي رحمه‌الله لهذه المدرسة أنه كان كما علمت ممن رحل إلى بغداد وتفقه بها على أبي بكر الشاشي ، واسمه محمد بن أحمد المعروف بالمستظهري الملقب فخر الإسلام ، وعلى أبي الفتح أسعد بن أبي نصر الميهني الملقب مجد

٢٤٠