إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٤

وما أسفوا عشية بنت عنهم

فتأسف أن يشطوا أو يبينوا

تسلّ عن الحسان وكيف تسلو

وبين ضلوعك الداء الدفين

وفي الأظعان من جشم بن بكر

ظباء حشو أعينها فتون

عليهن الهوادج مطبقات

كما انطبقت على الحدق الجفون

كأن قد ودهنّ قدود سمر

مثقفة بهن جفا ولين

تهفهفت الصدور فهن لدن

وأفعمت الروادف والبطون (١)

حلين لنا برامة كلّ حين

ألا إن الحوائن قد تحين

عشية مسن غير مصنعات

كما ماست من الأيك الغصون

وعنّ لهن سرب مهى بواد

مريع فالتقى عين وعين

كلا السربين ليس له وفاء

ولا حبل يشد به متين

ضنينات عليك وكيف يرجى

نوال يد وصاحبها ضنين

جننا بالحسان البيض دهرا

وإن هوى الحسان هو الجنون

تناسين العهود فلا عهود

وألوين الديون فلا ديون

كأن أمامة حلفت يمينا

لنا أن لا يصحّ لها يمين

أغي بعدما ذهب التصابي

وشابت بعد حنكتها القرون

وعندك لابن وثّاب جميل

فإن نشكر فمحقوق قمين

فتى أولاك مكرمة وفضلا

وعزّ به حماك فلا يهون

أبا الزمّام صنت عليّ وجهي

ومثلك من يذبّ ومن يصون

وراعيت الذي راعى شبيب

سقت مثواه سارية هتون

ولو لا أنت لاتسعت خروق

على ما في يدي وجرت شؤون

ولكن أنت لي وزر منيع

وحصن أستجير به حصين

وقرأت بخط أبي الفرج أيضا مما علقه عن أبي الحسن يحيى بن علي بن عبد اللطيف ابن زريق المعري أن أبا الفتح كانت وفاته سنة ست وخمسين وأربعمائة ، أو في سنة سبع بحلب ، ويقتضي أن يكون مولده قبل التسعين وثلاثمائة ا ه. (ابن عساكر).

__________________

(١) في الأصل : تقهقهت الصدور فهن لدن وأفعمت الروادف والخئون

١٨١

أقول : ومن نظمه البديع ما ذكره العلامة ابن خلكان في تاريخه في ترجمة أبي البقاء يعيش النحوي من قوله :

ولما التقينا للوداع وقلبها

وقلبي يفيضان الصبابة والوجدا

بكت لؤلؤا رطبا ففاضت مدامعي

عقيقا فصار الكل في نحرها عقدا

ثم ظفرت في تتمة المختصر لابن الوردي بأبيات من القصيدة المتقدمة التي مطلعها (لو أن دارا) .. إلخ ، فألحقتها هنا لنفاستها وندرة وجودها. قال بعد قوله (وزمان لهو بالمعرة مونق) :

أيام قلت لذي المودة أسقني

من خندريس حناكها أو حاسها

حمراء تغنينا بساطع لونها

في الليلة الظلماء عن نبراسها

وكأنما حبب المزاج إذا طفا

در ترصع في جوانب طاسها

رقت فما أدرى أكاس زجاجها

في جسمها أم جسمها في كاسها

وكأنما زرحونة جاءت بها

سقيت مذاب التبر عند غراسها

فأتت مشعشعة كجذوة قابس

راعت أكف القوم عند مساسها

لله أيام الصبا ونعيمها

وزمان جدّتها ولين مراسها

مالي تعيب البيض بيض مفارقي

وسبيلها تصبو إلى أجناسها

نور الصباح إذا الدجنة أظلمت

أبهى وأحسن من دجى أغلاسها

إن الهوى دنس النفوس فليتني

طهّرت هذي النفس من أدناسها

ومطامع الدنيا تذل ولا أرى

شيئا أعز لمهجة من باسها

من عفّ لم يذمم ومن تبع الخنا

لم تخله التبعات من أو كاسها

زيّن خصالك بالسماح ولا ترد

دنيا تراك وأنت بعض خساسها

وإذا بنيت من الأمور بنيّة

فاجعل فعال الخير بدو أساسها

ومتى رأيت يد امرىء ممدودة

تبغي مواساة الجميل فواسها

خير الأكف الفاخرات بجودها

كفّ تجود ولو على إفلاسها

تلقى المذمة مثلما تلقى العدى

فيكون بذل المال خير تراثها

١٨٢

ومنها :

أما نزار كلها فكريمة

لكنّ أكرمها بنو مرداسها

٦٨ ـ المختار بن الحسن بن عبدون الطبيب النصراني المتوفى سنة ٤٥٨

قال القاضي الأكرم يوسف القفطي في تاريخه أخبار العلماء : المختار بن الحسن بن عبدون الحكيم أبو الحسن الطبيب البغدادي المعروف بابن بطلان ، طبيب منطقي نصراني من أهل بغداد ، قرأ على علماء زمانه من نصارى الكرخ. وكان مشوه الخلقة غير صبيحها كما شاء الله فيه ، وفضل في علم الأوائل يرتزق بصناعة الطب. وخرج عن بغداد إلى الجزيرة والموصل وديار بكر ، ودخل حلب وأقام بها مدة وما حمدها ، وخرج عنها إلى مصر وأقام بها مدة قريبة ، واجتمع فيها بابن رضوان المصري الفيلسوف في وقته ، وجرت بينهما منافرة أحدثتها المغالبة في المناظرة ، وخرج ابن بطلان عن مصر مغضبا على ابن رضوان ، وورد أنطاكية راجعا عن مصر ، فأقام بها وقد سئم كثرة الأسفار وضاق عطنه عن معاشرة الأغمار ، فغلب على خاطره الانقطاع فنزل بعض ديرة أنطاكية ، وترهب وانقطع إلى العبادة إلى أن توفي بها في شهور سنة أربع وأربعين وأربعمائة (الصواب ما يأتي). وهنا ذكر رسالته التي أرسلها للرئيس هلال بن المحسن بن إبراهيم التي يصف فيها البلاد التي مر بها إلى أن وصل إلى أنطاكية ، وقد قدمنا في الجزء الأول وصفه لحلب ، وهناك قال :

وصف ابن بطلان لأنطاكية

خرجنا من حلب طالبين أنطاكية ، وبين حلب وبينها يوم وليلة ، فبتنا في بلدة للروم تعرف بعمّ فيها عين جارية يصاد منها السمك ويدور عليها رحا ، وفيها من الخنازير والنساء العواهر والزنا والخمور أمر عظيم. وفيها أربع كنائس وجامع يؤذن فيه سرا. والمسافة التي بين حلب وأنطاكية أرض ما فيها خراب أصلا إلا أرض زرع للحنطة والشعير بجنب شجر الزيتون. وقراها متصلة ورياضها مزهرة ومياهها متفجرة.

وأنطاكية بلد عظيم ذو سور وفصل. ولسوره ثلاثمائة وستون برجا يطوف عليها أربعة آلاف حارس ينفذون من القسطنطينية من حضرة الملك ، فيضمنون حراسة البلد سنة

١٨٣

ويستبدل بهم في الثانية. وشكل البلد كنصف دائرة قطرها يتصل بجبل ، والسور يصعد من الجبل إلى قلعة ويستتم دائرة.

وفي رأس الجبل داخل السور قلعة تبين لبعدها من البلد صغيرة وهذا الجبل يستر عنها الشمس فلا تطلع عليها إلا في الساعة الثانية. وللسور المحيط بها دون الجبل خمسة أبواب ، وفي وسطها بيعة القسيان ، وكانت دار قسيان الملك الذي أحيا ولده بطرس رئيس الحواريين ، وهو هيكل طوله مائة خطوة وعرضه ثمانون ، وعليه كنيسة على أساطين ، ودائر الهيكل أروقة يجلس فيها القضاة للحكومة ومعلمو النحو واللغة. وعلى أحد أبواب هذه الكنيسة فنجان الساعات يعمل ليلا ونهارا دائما اثنتي عشرة ساعة ، وهو من عجائب الدنيا. وفي أعلاه خمس طبقات في الخامسة منها حمامات وبساتين ومقاصير حسنة ، وتخر منها المياه ، وهناك من الكنائس مالا يحد كثرة ، كلها معمولة بالفص المذهب والزجاج الملون والبلاط المجزع.

وفي البلد بيمارستان يراعي البطريق المرضى فيه بنفسه. وفي المدينة من الحمّامات مالا يوجد مثله في مدينة من اللذاذة والطيبة ، فإن وقودها من الآس. وماؤها سيح ، وفي ظاهر البلد نهر يعرف بالمقلوب يأخذ من الجنوب إلى الشمال. وخارج البلد دير سمعان وهو مثل نصف دار الخليفة ، يضاف فيها المجتازون ، ويقال إن دخله في السنة أربعمائة ألف دينار ، ومنه يصعد إلى جبل الكام (١) ، وفي هذا الجبل من الديارات والصوامع والبساتين والمياه المتفجرة والأنهار الجارية والزهاد والسياح وضرب النواقيس في الأسحار وألحان الصلوات ما يتصور معه الإنسان أنه في الجنة. وفي أنطاكية شيخ يعرف بأبي نصر ابن العطار قاضي القضاة فيها له يد في العلوم مليح الحديث والإفهام (٢).

وصفه لمدينة اللاذقية

وخرجت من أنطاكية إلى اللاذقية ، وهي مدينة يونانية ولها ميناء وملعب وميدان خيل مدور ، وبها بيت كان للأصنام وهو اليوم كنيسة ، وكان في أول الإسلام مسجدا. وهي

__________________

(١) اللكلام بالضم وتشديد الكاف ويروى بتخفيفها وهو في شعر المتنبي مخفف ا ه معجم.

(٢) ذكر صاحب معجم البلدان هذه الرسالة في كلامه على أنطاكية وفيها زيادات كثيرة على ما هنا ، وكذا أوسع المقال عليها في الدر المنتخب المنسوب لابن الشحنة فارجع إليهما إن شئت.

١٨٤

راكبة البحر. وفيها قاض للمسلمين وجامع يصلون فيه وأذان في أوقات الصلوات الخمس. وعادة الروم إذا سمعوا الأذان أن يضربوا الناقوس. وقاضي المسلمين الذي بها من قبل الروم. ومن عجائب هذا أن المحتسب يجمع القحاب والغرباء المؤثرين للفساد من الروم في حلقة وينادي كل واحدة منهن ، ويتزايد الفسقة فيهن لليلتها تلك ، ويؤخذن إلى الفنادق التي هي الخانات لسكنى الغرباء بعد أن تأخذ كل واحدة منهن خاتما هو خاتم المطران حجة بيدها من تعقب الوالي لها ، فإنه متى وجد خاطيا مع خاطية بغير ختم المطران ألزمه جناية.

وفي البلد من الحبساء والزهاد في الصوامع والجبال كل فاضل يضيق الوقت عن ذكر أحوالهم والألفاظ الصادرة عن صفاء عقولهم.

ومن مشاهير تصانيف ابن بطلان كتاب تقويم الصحة في قوى الأغذية ودفع مضارها مجدول. كتاب دعوة الأطباء مقامة ظريفة. رسالة اشتراء الرقيق.

وهنا ذكر القفطي فصولا من رسالة أرسلها ابن بطلان لابن رضوان بمصر وهي طويلة الذيل وليست من غرضنا.

ثم قال : ولما دخل ابن بطلان إلى حلب وتقدم عند المستولي عليها سأله رد أمر النصارى في عبادتهم إليه ، فولاه ذلك وأخذ في إقامة القوانين الدينية على أحوالهم وشروطهم فكرهوه. وكان بحلب رجل كاتب طبيب نصراني يعرف بالحكيم أبي الخير بن شرارة ، وكان إذا اجتمع به وناظره في أمر الطب يستطيل عليه ابن بطلان بما عنده من التقاسيم المنطقية فينقطع في يده ، وإذا خرج عنه حمله الغيظ على الوقيعة فيه ، ويحمل عليه نصارى حلب ، فلم يمكن ابن بطلان المقام بين أظهرهم ، وخرج عنهم ، وكان ابن شراراة بعد ذلك يقول : لم يكن اعتقاده مرضيا. ويذكر عن راهب أنطاكي أنه حكى له أن الموضع الذي فيه قبر ابن بطلان من الكنيسة التي قد استوطنها وجعلها معبدا لنفسه متى ما أوقد فيه سراج انطفأ. ويقول عنه أمثال هذه الأقوال. وللحلبيين النصارى هجو قالوه عندما تولى أمرهم في كنائسهم وتقرير صلواتهم وعباداتهم على أصولهم ا ه.

عناية ابن بطلان ببناء البيمارستانات بأنطاكية وحلب

قال أبو ذر في كنوز الذهب : اعلم أن المختار بن الحسن المتطبب دخل حلب سنة

١٨٥

أربعين وأربعمائة. قال : وبها بيمارستان صغير ، كذا نقلته من خط الصاحب ، ثم رأيت في تاريخ الصاحب من خطه أيضا ما لفظه : المختار بن الحسن بن عبدون بن سعدون بن بطلان الطبيب أبو الحسن البغدادي ، طبيب حاذق نصراني ، له مصنفات حسنة في الطب ، وعدّدها ، وله شعر ، وهو الذي بنى البيمارستان بأنطاكية ، وقيل هو وضع البيمارستان بحلب وجدد نور الدين عمارته ، وإنه اختار له هذه البقعة التي هو الآن فيها بحلب دون سائر بقاعها وإنه اختبر صحتها بلحم علقه في أماكن حلب بأسرها فلم يجد أصلح من هذا المكان لبناء البيمارستان ، فإن اللحم لم يتغير.

وقفت له على مقالة وضعها في علة نقل الأطباء تدبير أكثر الأمراض التي كانت تعالج قديما بالأدوية الحارة إلى التدبير المبرد كالفالج واللقوة ومخالفتهم في ذلك لمسطور القدماء ، صنفها في سنة خمس وخمسين وأربعمائة بأنطاكية ، وقال في آخرها وأظنه بخطه : قال المختار ابن الحسن : صنفت هذه المقالة لصديق لي في سنة ٤٥٥ وأنا يومئذ مكدود الجسم منقسم الفكر في جميع الآلات لبناء بيمارستان بأنطاكية. وقال في أثناء هذه المقالة : ومما يدل أيضا على اختلاف أحوال البلاد بتنقل القرانات ما حكاه لنا مشايخ أهل حلب أن شجرة النارنج ما كانت تنبت بحلب لشدة بردها ، وأن الدور القديمة كلها لم تكن تستطاع السكنى في الطبقة السفلى منها ، وأن البادهنجات حدثت منذ زمن قريب ، حتى إن لادار إلا وفيها عدة بادهنجات بعد أن لم يكن بحلب ولا واحد.

ووجدت في تعليق لي : خرج ابن بطلان من بغداد سنة تسع وثلاثين وأربعمائة وسافر إلى الشام ودخل مصر في سنة أربعين وأربعمائة وأقام بها ثلاث سنين ، ثم عاد إلى القسطنطينية وأقام بها سنة ، ثم خرج منها إلى حلب وأقام بها مدة وبأنطاكية ، وكان يتردد من إحداهما إلى الأخرى إلى أن ترهب بأنطاكية ومات بها بعد خمس وخمسين.

وكان القاضي كسرى قاضي حلب قد أسن وانحدر إلى ركبته مرض أزمنه ومنعه المشي ، فجاء أبو غانم وهو ابن بنت القاضي كسرى بابن بطلان الطبيب ، فنظر إلى موضع الألم وقال : أدخلوه إلى حمّام حارة واتركوه بها حتى يغشاه الكرب ويضيق نفسه ، ولا تمكنوه من الخروج ، فإذا غلبكم على رأيكم وقام خارجا بنفسه فخذوا ماء باردا واضربوا به فخذه إلى ركبته ، فإنه يبرأ ، فأدخلوه إلى حمّام الكنيسة عند باب الجامع ، وهي حمام النطّاعين وقد دثرت الآن. وفعلوا به ما قال ، فأراد أن يستريح وطلب ذلك منهم ، فقالوا

١٨٦

له : ها هنا جماعة وعوراتهم مكشوفة ، فاصبر إلى أن نزيلهم من طريقك ، ودافعوه عن الخروج إلى أن زاد كربه ولم يطق الصبر ، فنهض قائما فرموه بماء بارد كما أمرهم ، فاستمر ماشيا على عادته الأولى. فسئل ابن بطلان عن ذلك فقال : رأيت هذا شيخا مسنا ولا يحمل مزاجه أن يسقى أدوية ويعمل له ضمادات وربما يؤذيه ، فلم أر له دواء ألطف من هذا.

قال لي بهاء الدين أبو محمد الحسن بن الخشاب : إنه وجد بخط بعض بني شرارة النصارى الحلبيين أن ابن بطلان توفي بأنطاكية يوم الجمعة الثامن من شوال سنة ثمان وخمسين وأربعمائة انتهى.

وعلى بابه (أي على باب البيمارستان) مكتوب : عمره السلطان نور الدين بتولي ابن أبي الصعاليك.

وفي هذا البيمارستان قاعة للنساء مكتوب عليها : عمر هذا المكان في دولة صلاح الدين بن يوسف بن العزيز محمد بتولي أبي المعالي محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن العجمي الشافعي في شهر رمضان سنة ٦٥٥.

وعلى إيوانه أنه عمر في أيام الأشرف شعبان وأن هذا الإيوان وقاعة النساء الصيفية أنشأهما صالح سبط ابن السفاح. وعلى الشباك الذي على بابه أنه أحدث في سنة أربعين وثمانمائة على يد الحاج محمد البيمارستاني.

وقاعة المتسهلين كانت سماوية فأسقفها القاضي شهاب الدين بن الزهري.

ومن جملة أوقافه قرية معراتا وأرض خارج حلب (١) وهو بيمارستان مبارك يستشفي به ، وهو نير شرح ومفروش من الرخام ، وبه بركتا ماء يأتي إليهما الماء الحلو من قناة حيلان انتهى.

ثم قال في آخر الكلام على البيمارستان : (خاتمة) نقلت من كلام ابن حجة (الحموي صاحب البديعة) في توقيع لعلاء الدين بن أبي الحسن علي الحنبلي بنظر البيمارستان النوري

__________________

(١) هنا على الهامش ما نصه : ومن جملة أوقافه حصة بوادي العسل وحصة بالحميراء وحصة بطاحون عريبة جعلها المتكلم عليه الآن ملكا له باليد العادية قاله العز ... ابن العديم ا ه.

١٨٧

بحلب : وصفت مشارب الضعفاء بعد الكدر (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) وتلا لمن سعى لهم في ذلك وجزي بالخيرات (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) ودار شراب العافية على أهل تلك الحضرة بالطاس والكاس. وحصل لهم البرء من تلك البراني التي يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ، ونمت الصحة في مفاصل ضعفائه ، وقيل لهم جوزيتم بما صبرتم ، وامتدت مقاصيرهم (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها ، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ) ا ه. وقدمنا الكلام عليه في الجزء الثاني (ص ٦٨).

كلامه على بقية البيمارستانات التي كانت بحلب

قال : وكان بحلب بيمارستان آخر قديم معروف ببني الدقاق ، وقد دخل الآن في دار سودون الدوادار التي غربي الحلاوية التي يسكنها أركان الدولة انتهى.

وعلى باب الجامع الكبير الشمالي بيمارستان وله بوابة عظيمة ينسب لابن خرخاز ، والآن قد أغلق بابه ، ورأيته وهو يجلس فيه الكحّالون وقد صار مسكنا ا ه.

تتمة الكلام على البيمارستان الأرغوني

قال أبو ذر في كنوز الذهب بعد أن ذكر نحو ما قدمناه في الجزء الثاني في الكلام على هذا البيمارستان في صحيفة (٣٥٣). ومحل هذا البيمارستان كان بيتا لأمير ، فتوصل إليه بطريق شرعي ، ولم يغير بوابة تلك الدار عن حالها ، إنما كتب عليها وهي معمورة ، وهذا البيمارستان له أوقاف مبرورة ، منها قرية بنّش من عمل سرمين وغيرها ، وكتاب وقفه موجود ، وقد رتب فيه قراء يقرؤون القرآن طرفي النهار وخبزا يتصدق به ، ورتب له جميع ما يحتاج إليه من أشربة وكحل ومراهم ودجاج وجميع الملطفات ، ووقفه وافر بذلك. وكان هذا البيمارستان في كفالة تغري برمش على أتم الوجوه ، وشرط واقفه أن يكون النظر فيه لمن يكون كافل حلب.

ولما تولى جانم الأشرفي كفالة حلب جعل أمامه متكلما على هذا البيمارستان فصنع له سحابة على إيوانه القبلي على قاعدة بيمارستان القاهرة إذ في هذه السحابة منفعة للضعفاء تقيهم الحر والبرد انتهى.

١٨٨

٦٩ ـ ثابت بن أسلم الشيعي المتوفى سنة ٤٦٠

ثابت بن أسلم بن عبد الوهاب أبو الحسن الحلبي ، أحد علماء الشيعة ، وكان من كبار النحاة. صنفت كتابا في تعليل قراءة عاصم وأنها قراءة قريش. وكان من كبار تلامذة أبي الصلاح. تصدر للإفادة بعده ، وتولى خزانة الكتب بحلب ، فقال من بحلب من الإسماعيلية : إن هذا يفسد الدعوة. وكان قد صنف كتابا في كشف عوارهم وابتداء دعوتهم ، فحمل إلى صاحب مصر فأمر بصلبه فصلب وأحرقت خزانة الكتب التي بحلب وكان فيها عشرة آلاف مجلدة من وقف سيف الدولة بن حمدان ا ه. (ذهبي من وفيات حدود ستين وأربعمائة).

أقول : ويجدر أن أذكر هنا ما ذكره ابن خلكان في تاريخه في ترجمة تاج الدين الخراساني المسعودي قال : حكى أبو البركات الهاشمي الحلبي قال : لما دخل صلاح الدين إلى حلب سنة تسع وسبعين وخمسمائة نزل المسعودي المذكور إلى جامع حلب وقعد في خزانة كتبها للوقف ، واختار منها جملة أخذها لم يمنعه منها مانع ، ولقد رأيته يحشوها في عدل ا ه.

٧٠ ـ علي بن منصور بن طالب الملقب بدوخلة. كان حيا في سنة ٤٦١

علي بن منصور بن طالب الحلبي الملقب بدوخلة ، يعرف بابن القارح ، وهو الذي كتب إلى أبي العلاء المعري رسالة مشهورة تعرف برسالة ابن القارح ، وأجابه عنها أبو العلاء برسالة الغفران. يكنى أبا الحسن.

قال ابن عبد الرحيم : هو شيخ من أهل الأدب شاهدناه ببغداد ، راوية للأخبار وحافظا لقطعة كبيرة من اللغة والشعر ، قؤوما بالنحو. وكان ممن خدم أبا علي الفارسي في داره وهو صبي ، ثم لازمه وقرأ عليه على زعمه جميع كتبه وسماعاته. وكانت معيشته التعليم بالشام ومصر. وكان يحكى أنه كان مؤدبا لأبي القاسم المغربي الذي وزر ببغداد ، لقّاه الله سيىء أفعاله ، كذا قال. وله فيه هجو كثير ، وكان يذمه ويعدد معايبه ، وشعره يجري مجرى المعلمين قليل الحلاوة خاليا من الطلاوة. وكان آخر عهدي به بتكريت في سنة ٤٦١ ، فإنا كنا مقيمين بها ، واجتاز بنا وأقام عندنا مدة ، ثم توجه إلى الموصل ، وبلغني وفاته من بعد. وكان يذكر أن مولده بحلب سنة ٣٥١ ، ولم يتزوج ولا أعقب. وجمع

١٨٩

ما أورده من شعره مما أنشدنيه لنفسه ، فمنه في الشمعة :

لقد اشبهتني شمعة في صبابتي

وفي طول ما ألقى وما أتوقّع

نحول وحرق في فناء ووحدة

وتسهيد عين وإصفرار وأدمع

ومنه في هجو المغربي :

لقّبت بالكامل سترا على

نقصك كالباني على الخصّ

فصرت كالكنف إذا شيدت

بيّض أعلاهن بالجصّ

يا عرّة الدنيا بلا غرّة

ويا طويس الشؤم والحرص

قتلت أهليك وأنهبت بي

ت الله بالموصل تستعصي

وله :

يا رمحها العسّال بل يا سيفها ال

فصّال نارك ليس تخبو

يا عاقد المنن الرغا

ب على الرقاب لهن سحب

كفروك ما أوليتهم

والرب يشكر ما تربّ

وسئل أن يجيز قول الشاعر :

لعل الذي تخشاه يوما به تنجو

ويأتيك ما ترجوه من حيث لا ترجو

فقال :

فثق بحكيم لا مردّ لحكمه

فمالك في المقدور دخل ولا خرج

وله :

الصيمري دقيق الفكر في اللقم

يقول كم عندكم لون وكم وكم

يسعى إلى من يرى إكثاره وكذا

يراه ذاك وما هذاك من عدم

يلقي الوعيد بما يلقي الحشوش به

وذاك والله بخل ليس بالأمم

قال : وحدثني قال : كنت أؤدب ولدي الحسين بن جوهر القائد بمصر ، وكانا مختصين بالحاكم وآنسين به ، فعملت قصيدة وسألت المسمى منهما جعفرا ، وكان من أحسن الناس وجها ، ويقال إن الحاكم كان يميل إليه ، أن يوصلها ، ففعل وعرضها عليه فقال :

١٩٠

من هذا؟ قال : مؤدبي ، قال : يعطى ألف دينار. واتفق أن المعروف بابن مقشر الطبيب كان حاضرا فقال : لا تثقلوا على خزائن أمير المؤمنين ، يكفيه النصف ، فأعطيت خمسمائة دينار ، فحدثني ابن جوهر بالحديث وكانت القصيدة على وزن منهوكة أبي نواس أقول فيها :

إن الزمان قد نصر

بالحاكم الملك الأغر

في كفّه عضب ذكر

فقد غدا على القصر

من غرّة على الغرر

يمضي كما يمضي القدر

في سرعة الطرف نظر

أو السحاب المنهمر

بادر إنفاق البدر

بدر إذا لاح بهر

وهي طويلة. واتفق أن الطبيب المذكور لحقته بعد هذا بأيام شقفة وهي التي تسمى التراقي ويقال لها قملة النسر ، فمات منها ، وكان نصرانيا ، فقلت :

لما غدا يستخفّ رضوى

تيها وكبرا لجحد ربّه

أصماه صرف الردى بسهم

عاجله قبل وقت نحبه

بشقفة بين منكبيه

رشاؤها في قليب قلبه

ا ه معجم الأدباء.

٧١ ـ الأمير عبد الله بن محمد بن سنان الخفاجي الشاعر المتوفى سنة ٤٦٦

الأمير عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان أبو محمد الخفاجي ، الشاعر الأديب ، كان يرى رأي الشيعة الإمامية ، وكان قد عصى بقلعة عزاز من أعمال حلب ، وكان بينه وبين أبي نصر محمد بن الحسن بن النحاس الوزير لمحمود بن صالح مودة مؤكدة ، فأمر محمود أبا نصر ابن النحاس أن يكتب إلى الخفاجي كتابا يستعطفه ويؤنسه ، وقال : إنه لا يؤمن إلا إليك ولا يثق إلا بك ، فكتب إليه كتابا ، فلما فرغ منه وكتب : «إن شاء الله تعالى» شدد النون من إن ، فلما قرأه الخفاجي خرج من عزاز قاصدا حلب ، فلما كان في الطريق أعاد النظر في الكتاب ، فلما رأى التشديد على النون أمسك رأس فرسه وفكر في نفسه وأن ابن النحاس لم يكتب هذا عبثا ، فلاح أنه أراد (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) فعاد إلى عزاز وكتب الجواب : أنا الخادم المعترف بإنعام ، وكسر الألف

١٩١

من أنا وشدد النون وفتحها ، فلما وقف أبو نصر على ذلك سرّ وعلم أنه قصد به (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) وكتب الجواب يستصوب رأيه ، فكتب إليه الخفاجي :

خف من أمنت ولا تركن إلى أحد

فما نصحتك إلا بعد تجريب

إن كانت الترك فيهم غير وافية

فما تزيد على غدر الأعاريب

تمسكوا بوصايا اللؤم بينهم

وكاد أن يدرسوها بالمحاريب

واستدعي محمود بأبي نصر بن النحاس وقال : أنت أشرت عليّ بتولية الخفاجي ، وما أعرفه إلا منك ، ومتى لم يفرغ بالي منه قتلتك وألحقت بك جميع من بينك وبينه صلة وحرمة. فقال : مرني بأمر أمتثله ، قال : تمضي إليه وفي صحبتك ثلاثون فارسا ، فإذا قاربته عرّفه بحضورك فإنه يلتقيك ، فإذا حضر وسألك النزول عنده والأكل معه ، فامتنع وقل له : إني حلّفتك ألا تأكل زاده ولا تحضر مجلسه حتى يطيعك في الحضور عندي ، وطاوله في الحديث حتى يقارب الظهر ، ثم ادّع أنك جعت وأخرج هذه الخشكنانجتين ، فكل أنت هذه وأطعمه هذه ، فإذا استوفى أكلها عجّل الحضور إلي ، فإن منيته فيها. ففعل ما أمره به. ولما أكلها الخفاجي رجع أبو نصر إلى حلب ورجع الخفاجي إلى عزاز ، فلما استقر بها وجد مغصا شديدا ورعدة شديدة فقال : قتلني والله أخي أبو نصر. ثم أمر بالركوب خلفه ورده ، ففاتهم إلى حلب ، فصبح من الغد محمود فجاءه من عزاز من أخبره أن الخفاجي في السياق ومات. وكانت وفاته في سنة ست وستين وأربعمائة ، وحمل إلى حلب.

ومن شعره :

وقالوا قد تغيّرت الليالي

وضيّعت المنازل والحقوق

فأقسم ما استجد الدهر خلقا

ولا عدوانه إلا عتيق

أليس يردّ عن فدك عليّ

ويملك أكثر الدنيا عتيق

وقال أيضا :

بقيت وقد شطّت بكم غربة النوى

وما كنت أخشى أنني بعدكم أبقى

وعلمتموني كيف أصبر عنكم

وأطلب من رقّ الغرام بكم عتقا

فما قلت يوما للبكاء عليكم

رويدا ولا للشوق بعدكم رفقا

١٩٢

وما الحب إلا أن أعدّ قبيحكم

إليّ جميلا والقلى منكم عشقا

وقال أيضا :

هل تسمعون شكاية من عاتب

أو تقبلون إنابة من تائب

أوكل ما يتلو الصديق عليكم

في جانب وقلوبكم في جانب

أما الوشاة فقد أصابوا عنكم

شوقا ينفّق كلّ قول كاذب

فمللتم من صابر ورقدتم

عن ساهر وزهدتم في راغب

وأقلّ ما حكم الملال عليكم

سوء القلى وسماع قول العائب

وقال أيضا :

ما على محسنكم لو أحسنا

إنما نطلب شيئا هيّنا

قد شجانا اليأس من بعدكم

فادركونا بأحاديث المنى

وعدوا بالوصل من طيفكم

مقلة تنكر فيكم وسنا

لا وسحر بين أجفانكم

فتن الحب به من فتنا

وحديث من مواعيدكم

تحسد العين عليه الأذنا

ما رحلت العبس من أرضكم

فرأت عيناي شيئا حسنا

وقال أيضا :

سلا ظبية الوعساء هل فقدت خشفا

فإنا لمحنا من مرابعها ظلفا

وقولا لخوط البان فلتمسك الصبا

علينا فإنّا قد عرفنا بها عرفا

سرت من هضاب الشام وهي مريضة

فما ظهرت إلا وقد كاد أن تخفى

عليلة أنفاس تداوي بها الجوى

وضعفا ولكنّا نرجي بها ضعفا

وهاتفة في البان تملي غرامها

وتتلو علينا من صبابتها صحفا

عجبت لها تشكو الفراق جهالة

وقد جاوبت من كل ناحية إلفا

ويشجي قلوب العاشقين حنينها

وما فهموا مما تغنّت به حرفا

ولو صدقت فيما تقول من الأسى

لما لبست طوقا ولا خضبت كفّا

أجارتنا أذكرت من كان ناسيا

وأضرمت نارا للصبابة لا تطفا

وفي جانب الماء الذي تردينه

مواعيد لا ينكرن ليّا ولا خلفا

١٩٣

ومهزوزة للبان فيها تمايل

جعلن لها في كل قافية وصفا

لعمري لئن طالت علينا فإننا

بحكم الثريّا قد قطعنا لها كفّا

ونسلبها في العرف وهي ضعيفة

ولم نبق للجوزاء عقدا ولا شنفا

كأن الدجى لما تولت نجومه

مدبّر حرب قد هزمنا له صفّا

كأن عليه للمجرة روضة

مفتحة الأنوار أو نثرة زغفا

كأن السها إنسان عين غريقة

من الدمع تبدو كلما ذرفت ذرفا

كأن سهيلا فارس عاين الوغى

ففر ولم يشهد طرادا ولا زحفا

كأن سنا المرّيخ شعلة قابس

تخطّفها عجلان يقذفها قذفا

كأن أفول النسر طرف تعلّقت

به سنة ما هبّ منها ولا أغفى

ا ه فوات الوفيات لابن شاكر الدمشقي.

وديوانه طبع في بيروت سنة ١٣١٦.

وذكر محمود باشا البارودي في مختاراته المطبوعة في مصر ٧٨٥ بيتا من شعره : في الأدب ١٠ ، في المديح ٥٨٧ ، في الرثاء ٥٦ ، في الصفات ١١ ، في النسيب ١١٦ ، في الهجاء ٢ ، في الزهد ٣.

وكتابه «سرّ الفصاحة» منه نسخة في برلين ، ونسخة في الخزانة البارودية في بيروت في ٢٦٨ ص بقطع الربع ، نسخت في القرن السادس للهجرة ، لكنها مخرومة من الأول والآخر. وكانت مجلة المقتبس كتبت أن أحمد زكي باشا سكرتير مجلس النظار في مصر عزم على طبعه ، وهذا يفيد أنه وجد منه نسخ في الديار المصرية ، فتوجهت الآمال لظهوره لعالم الطبع.

٧٢ ـ مشرق العابد المتوفى في هذا العقد

مشرق بن عبد الله الحلبي الفقيه الزاهد أبو الحسن. روي الأصل. تفقه على أبي جعفر السمناني ، وسمع بحلب ودمشق ، وحدث في سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. روى عنه أبو بكر الخطيب وأبو الغنايم محمد بن علي بن ميمون الزينبي وأبو الوليد سليمان بن خلف ابن سعيد التاجي في آخرين. مات سنة نيف وستين وأربعمائة ودفن خارج باب قنسرين.

١٩٤

وكان له مال وغلمان يتجرون ، ويصوم ويفطر على ثردة بماء الباقلا لا يأكل غيرها. ورؤي رجل مسرف على نفسه من أصحابه بعد موته فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : غفر لي ربي بمشرق لما دفن إلى جانبي ، وكذلك غفر لجميع من في جواره ، وأنبت الله علينا شجرة من لوز تظل جميع الموتى حوله ويأكلون من ثمارها.

قال ابن العديم : سمعت عبد الله بن العجمي يقول : كان للشيخ مشرق العابد عنز مع راع يأتيه كل يوم بلبنها ، فماتت ، فقال الراعي : هذا الشيخ رأيت منه البركة ، فما ضرني أن آتيه باللبن من عندي ، فأتاه بلبن فدق عليه الباب فخرج الشيخ مشرق وقال : من هذا العنز ماتت ا ه (ط ح ق).

٧٣ ـ أبو الفتيان محمد بن حيّوس الشاعر المشهور المتوفى سنة ٤٧٣

أبو الفتيان محمد بن سلطان بن محمد بن حيّوس بن محمد بن المرتضى بن محمد بن الهيثم بن عدي بن عثمان الغنوي الملقب بصفي الدولة الشاعر المشهور. كان يدعى بالأمير لأن أباه كان من أمراء العرب. وهو أحد الشعراء الشاميين المحسنين ومن فحولهم المجيدين ، له ديوان شعر كبير. لقي جماعة من الملوك والأكابر ومدحهم وأخذ جوائزهم. وكان منقطعا إلى بني مرداس أصحاب حلب. ذكر الجوهري في الصحاح في فصل ردس : المرداس : حجر يرمي به في البئر ليعلم أفيها ماء أم لا ، وبه سمي الرجل. وله فيهم القصائد الأنيقة. وقصته مشهورة مع الأمير جلال الدولة وصمصامها أبي المظفر نصر بن محمود ابن شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب ، فإنه كان قد مدح أباه محمود بن نصر فأجازه بألف دينار ، فلما مات وقام مقامه ولده نصر المذكور قصده ابن حيّوس المذكور بقصيدته الرائية يمدحه بها ويعزيه عن أبيه ، وهي :

كفى الدين عزا ما قضاه لك الدهر

فمن كان ذا نذر فقد وجب النذر

ومنها :

ثمانية لم تفترق مذ جمعتها

فلا افترقت ماذبّ عن ناظر شفر

يقينك والتقوى وجودك والغنى

ولفظك والمعنى وعزمك والنصر

١٩٥

ويذكر فيها وفاة أبيه وتوليته الأمر بعده بقوله :

صبرنا على حكم الزمان الذي سطا

على أنه لولاك لم يكن الصبر

غزانا ببؤسى لا يماثلها الأسى

تقارن نعمى لا يقوم بها الشكر

ومنها :

تباعدت عنكم حرقة لا زهادة

وسرت إليكم حين مسّني الضر

فلاقيت ظل الأمن ما عنه حاجز

يصد وباب العرف ما دونه ستر

وطال مقامي في إسار جميلكم

فدامت معاليكم ودام لي الأسر

وانجز لي رب السموات وعده الكريم بأن العسر يتبعه اليسر

فجاد ابن نصر لي بألف تصرّمت

وإني عليم أن سيخلفها نصر

لقد كنت مأمولا ترجى لمثلها

فكيف وطوعا أمرك النهي والأمر

ومالي إلى الالحاح والحرص حاجة (١)

وقد عرف المبتاع وانفصل السعر

وإني بآمالي لديك مخيم

وكم في الوري ثاو وآماله سفر

وعندك ما أبغي بقولي تصنعا

بأيسر ما توليه يستعبد الحر

فلما فرغ من إنشادها قال الأمير نصر : والله لو قال عوض قوله سيخلفها نصر سيضعفها نصر لأضعفتها له ، وأعطاه ألف دينار في طبق فضة.

وكان قد اجتمع على باب الأمير نصر المذكور جماعة من الشعراء وامتدحوه وتأخرت صلته عنهم ، ونزل بعد ذلك الأمير نصر إلى دار بولص النصراني ، وكانت له عادة بغشيان منزله ، وعقد مجلس الأنس عنده ، فجاءت الشعراء الذين تأخرت جوائزهم إلى باب بولص وفيهم أبو الحسن أحمد بن محمد بن الدويدة المعري الشاعر المعروف ، فكتبوا ورقة فيها أبيات اتفقوا على نظمها ، وقيل بل نظمها ابن الدويدة المذكور ، وسيروا الورقة إليه ، والأبيات المذكورة هي :

على بابك المحروس منا عصابة

مفاليس فانظر في أمور المفاليس

وقد قنعت منك الجماعة كلها

بعشر الذي أعطيته لابن حيّوس

وما بيننا هذا التفاوت كله

ولكن سعيد لا يقاس بمنحوس

__________________

(١) في مختارات البارودي هكذا (وما بي إلى الإشطاط في السوم حاجة).

١٩٦

فلما وقف عليها الأمير نصر أطلق لهم مائة دينار ، فقال : والله لو قالوا : بمثل الذي أعطيته لأبن حيّوس لأعطيتهم مثله.

وذكر العماد الكاتب في الخريدة أن هذه الأبيات لأبي سالم عبد الله بن أبي الحسن أحمد ابن محمد بن الدويدة ، وأنه كان يعرف بالواقي ، والله أعلم.

وكان الأمير نصر سخيا واسع العطاء ، ملك حلب بعد وفاة أبيه محمود في سنة سبع وستين وأربعمائة.

وقدم ابن حيّوس حلب في شوال سنة أربع وستين وأربعمائة ، وداره بها هي الدار المعروفة الآن بالأمير علم الدين سليمان بن جندر.

ومن محاسن شعر ابن حيّوس القصيدة اللامية التي مدح بها أبا الفضائل سابق بن محمود وهو أخو الأمير نصر المذكور ، ومن مديحها قوله :

طالما قلت للمسائل عنكم

واعتمادي هداية الضلّال

إن ترد علم حالهم عن يقين

فالقهم في مكارم أو نزال

تلق بيض الوجوه سود مثار النقع خضر الأكناف حمر النصال (١)

وما أحسن هذا التقسيم الذي اتفق له ، وقد ألم فيه بقول أبي سعيد محمد بن محمد ابن الحسين الرستمي الشاعر المشهور من جملة قصيدة يمدح بها الصاحب بن عباد ، وهي من فاخر الشعر ، وذلك قوله :

من النفر العالين في السلم والوغى

وأهل المعالي والعوالي وآلها

إذا نزلوا اخضرّ الثرى من نزولهم

وإن نازلوا أحمر القنا من نزالها

هذا والله الشعر الخالص الذي لا يشوبه شيء من الحشو.

ومن غرر قصائد ابن حيّوس السائرة قوله :

هو ذاك ربع المالكية فاربع

واسأل مصيفا عافيا عن مربع

__________________

(١) هذا النوع يسمى عند علماء البديع التدبيج. ومثله للمترجم قوله كما في الخزانة لابن حجة :

ببياض عزم واحمرار صوارم

وسواد نقع واخضرار رحاب

١٩٧

واستسق للدمن الخوالي بالحمى

غرّ السحائب واعتذر عن أدمعي

فلقد فنين أمام دان هاجر

في قربه ووراء ناء مزمع

لو يخبر الركبان عني حدّثوا

عن مقلة عبرى وقلب موجع

ردّي لنا زمن الكثيب فإنه

زمن متى يرجع وصالك يرجع

لو كنت عالمة بأدنى لوعتي

لرددت أقصى نيلك المسترجع

بل لو قنعت من الغرام بمطهر

عن مضمر بين الحشا والأضلع

أعتبت إثر تعتّب ووصلت

غبّ تجنّب وبذلت بعد تمنّع

ولو أنني أنصفت نفسي صنتها

عن أن أكون كطالب لم ينجع

ومنها :

إني دعوت ندى الكرام فلم يجب

فلأشكرن ندى أجاب وما دعي

ومن العجائب والعجائب جمة

شكر بطيء عن ندى متسرّع

ومن شعره أيضا :

قفوا في الفلا حيث انتهيتم تذمّما

ولا تقتفوا من جار لما تحكّما

أرى كل معوجّ المودة يصطفى

لديكم ويلقى حتفه من تقوّما

فإن كنتم لم تعدلوا إذا حكمتم

فلا تعدلوا عن مذهب قد تقدّما

حتى الناس من قبل القسيّ لتقتنى

وثقّف منآد القنا ليقوّما

وما ظلم الشيب الملمّ بلمتي

وإن بزّني حظي من الظّلم واللمى

ومحبوبة عزت وعز نصيرها

وإن أشبهت في الحسن والعفة الدمى

أعنف فيها صبوة قطّ ما ارعوت

واسأل عنها معلما ما تكلّما

سلي عنه تخبر عن يقين دموعه

ولا تسألي عن قلبه أين يمما

فقد كان لي عونا على الصبر برهة

وفارقني أيام فارقتم الحمى

فراق قضى أن لا تأسي بعد أن

مضى منجدا صبري وأوغلت متهما

وفجعة بين مثل صرعة مالك

ويقبح بي أن لا أكون متمّما

خليليّ إن لم تسعداني على الأسى

فما أنتما مني ولا أنا منكما

وحسّنتما لي سلوة وتناسيا

ولم تذكرا كيف السبيل إليهما

سقى الله أيام الصبا كلّ هاطل

ملثّ إذا ما الغيث أنجم أنجما

١٩٨

وعيشا سرقناه برغم رقيبنا

وقد ملّ من طول السهاد فهوّما

وهي طويلة. (أقول وهي القصيدة التي مدح بها الأمير عز الدولة محمود بن نصر. انظر حوادث سنة ٤٦٥).

وذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق قال : أنشدنا أبو القاسم علي بن إبراهيم العلوي من حفظة سنة سبع وخمسمائة قال : أخذ الأمير أبو الفتيان ابن حيّوس بيدي ونحن بحلب وقال : اروعني هذا البيت وهو في شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب حلب :

أنت الذي نفق الثناء بسوقه

وجرى الندى بعروقه قبل الدم

وهذا البيت في غاية المدح.

وكانت ولادة ابن حيّوس سنة أربع وتسعين وثلثمائة بدمشق ، وتوفي في شعبان سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة. و (حيّوس) بفتح الحاء المهملة والياء المشددة من تحتها المضمومة والواو الساكنة وبعدها سين مهملة ا ه (ابن خلكان).

أقول : وقول ابن حيّوس : (وفجعة بين مثل صرعة مالك) ... إلخ ، البيت يعني به مالك بن نويرة الذي قتله خالد بن الوليد رضي‌الله‌عنه ورثاه أخوه متمم المذكور في آخر البيت عدة مراث ، وقد أكثر الشعراء في شعرهم من الإشارة إلى هذه القصة ومنهم ابن حيّوس.

يوجد نسخة من ديوان شعره في المكتبة السلطانية بمصر مرتب على الأبجدية (١) في ٣٥٠ صحيفة. وذكر محمود بك البارودي في مختاراته المطبوعة ١١٢٨ بيتا من شعره : في الأدب ٢ ، في المديح ١٠٤٨ ، في الرثاء ٢٣ ، في الصفات ٢١ ، في النسب ٣٤.

٧٤ ـ الأمير علي بن منقذ صاحب شيزر المتوفى سنة ٤٧٥

أبو الحسن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الملقب سديد الملك صاحب قلعة شيزر ، كان شجاعا مقداما قوي النفس كريما ، وهو أول من ملك قلعة شيزر من بني

__________________

(١) آخر الموجود منه إلى حرف النون والنسخة بقلم عادي ن خ ٥٩١ ن ع ١٨٧٢٦.

١٩٩

منقذ ، لأنه كان نازلا مجاور القلعة بقرب الجسر المعروف اليوم بجسر بني منقذ ، وكانت القلعة بيد الروم ، فحدثته نفسه بأخذها ، فنازلها وتسلمها بالأمان في رجب سنة أربع وسبعين وأربعمائة ، ولم تزل في يده ويد أولاده إلى أن جاءت الزلزلة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة فهدمتها وقتلت كل من فيها من بني منقذ وغيرهم تحت الهدم وشغرت ، فجاء نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام في بقية السنة وأخذها. وكان سديد الملك المذكور مقصودا وخرج من بيته جماعة نجباء أمراء فضلاء كرماء. ومدحه جماعة من الشعراء كابن الخياط والخفاجي وغيرهما ، وكان له شعر جيد أيضا ، فمنه قوله وقد غضب على مملوك له وضربه :

أسطو عليه وقلبي لو تمكن من

كفيّ غلهما غيظا إلى عنقي

وأستعير إذا عاقبته حنقا

وأين ذل الهوى من عزة الحنق

وكان موصوفا بقوة الفطنة. وينقل عنه حكاية عجيبة وهي أنه كان يتردد إلى حلب قبل تملكه شيزر ، وصاحب حلب يومئذ تاج الملوك محمود بن صالح بن مرداس ، فجرى أمر خاف سديد الملك المذكور على نفسه منه ، فخرج من حلب إلى طرابلس الشام وصاحبها يومئذ جلال الملك بن عمار ، فأقام عنده ، فتقدم محمود بن صالح إلى كاتبه أبي نصر محمد ابن الحسين بن علي بن النحاس الحلبي أن يكتب إلى سديد الملك كتابا يتشوقه ويستعطفه ويستدعيه إليه ، وفهم الكاتب أنه يقصد له شرا ، وكان صديقا لسديد الملك ، فكتب الكتاب كما أمر إلى أن بلغ إلى «إن شاء الله تعالى» فشدد النون وفتحها ، فلما وصل الكتاب إلى سديد الملك عرضه على ابن عمار صاحب طرابلس ومن في مجلسه من خواصه فاستحسنوا عبارة الكتاب واستعظوا ما فيه من رغبة محمود فيه وإيثاره لقربه ، فقال سديد الملك : إني أرى في الكتاب ما لا ترون ، ثم أجابه عن الكتاب بما اقتضاه الحال وكتب في جملة الكتاب : أنا الخادم المقر بالإنعام وكسر الهمزة من أنا وشدد النون ، فلما وصل الكتاب إلى محمود ووقف عليه الكاتب سر بما فيه وقال لأصدقائه : قد علمت أن الذي كتبته لا يخفى على سديد الملك ، وقد أجاب بما طيب نفسي. وكان الكاتب قد قصد قول الله تعالى (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) فأجاب سديد الملك بقوله تعالى : (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) فكانت هذه معدودة من تيقظه وفهمه. هكذا ساق هذه الحكاية أسامة في مجموعه إلى الرشيد بن الزبير في ترجمة ابن النحاس. وكانت وفاته في سنة خمس وسبعين

٢٠٠