إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء - ج ٤

المؤلف:

محمد راغب بن محمود بن هاشم الطبّاخ الحلبي


المحقق: محمّد كمال
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٤

يشرحها ويستشهد عليها ، حتى انتهت الكلمات. ثم أطرق ساعة مفكرا ورفع رأسه وقال : كأني بكم وقد وضعتم هذه الكلمات لتمتحنوا بها معرفتي وثقتي في روايتي ، وو الله لئن لم تكشفوا لي الحال وتدعوا المحال وإلا فهذا فراق ما بيني وبينكم. فقالوا له : والله الأمر كما قلت ، وما عدوت ما قصدناه. فقال : سبحان الله : والله ما أقول إلا ما قالته العرب ، وما أظن أنها نطقت (١). والرايد لا يكذب أهله. وأما العبد إذا كذب سيده فبعد ولا سعد والجاهل من لا يعرف نفسه ، والذاهل من لا يذكر أمسه. ولنفسي الجانية أقول : أعييتني بأشر وكيف بدردر ، أعيت رياضة الهرم وعصر الماء من الجمر المضطرم ، إن كذبت فعن الخير أعذبت ، ما اعتزلت حتى جددت وهزلت ، فوجدتني لا أصلح لجدّ ولا هزل ، فعندما قنعت بالأزل.

وما حمامة ذات طوق يضرب بها المثل في الشوق ، كانت في وكر مصون بين الشجر والغصون ، تألف من أبناء جنسها ريدا فيتراسلان تغريدا ، أسكنها نعمان الأراك ، تأمن به غوايل الأشراك ، تمرّ في بكرتها بالبيت الحرام ، لا تفرق لطريق صايد ولا رام ، فغرّها القدر فخرجت من الأرض المحرّمة ، فأصبحت وهي جدّ مغرمة ، صادها وليد في الحلّ ما حفظ لها من إلّ ، فأودعها سجنا للطير ، ومنعها من كل مير ، فإذا رأت من خصاص القفص بواكر الحمام ظلت تمارس من جرع الحمام ، تسأل بطرفها أخاها : ما فعل بعدها فرخاها ، فيقول : أصبحا ضائعين قد سترهما الورق عن كل عين.

فريخان ينضاعان في الفجر كلما

أحسّا دويّ الريح أو صوت ناعب

بأشوق إلى العيشة النضرة مني إلى تلك الحضرة ، لكن صنع الزمان ما هو صانع ، واعترض دون الخير مانع ، حال الغصص دون القصص والجريض دون القريض. المورد نمير أزرق ولكن المدنف بالشراب يشرق.

__________________

(١) نبهت الطبعة المصرية إلى أن ههنا نقصا.

١٤١

لما رأى لبد النسور تطايرت

رفع القوادم كالفقير الأعزل (١)

انهض لبد ، هيهات صدّك الأبد ولما ورد الكتاب المشتمل اوليه (هكذا) على ما لا يستوجبه من حسن الظن (٢) ، عكفت به عليّ الغربان مبشّرات ، مثلّثات بالنعيب ومعشّرات ، لو أنس إليّ ابن دأية لم أخله إن رغب في الحلي من حجل في الرجل ، أو تقليد يقع بالجيد ، ولضمّخت جناحه مسكا وعنبرا ، وكسوته وشيا وحبرا ، على أنه يختال من لون الشبيبة في أحسن سبيبة ، يا غراب لغيرك بعدها التراب ، إن قضى الله نبذت لك ما تؤثره من الطعام ، إتاوة في كل يوم لا في كل عام ، كأن كتابه الكريم قسيمة من الطيب تضوّع بالأناب القطيب ، وكأنما طرقتني منه روضة نجدية ، سقتها الأنواء الأسدية ، فعمد ثراها وأرجت رباها ، وأبدى بهارها للأبصار ، كدنانير ضربت قصار ، وازدانت من الشقيق ، بمشبه العقيق ، ولعب فيها الماء ، وهي أرض وكأنها سماء ، ولها من النجم نجوم ، ومن طل الشجر دمع مسجوم ، ولقد سألت الوارد أن يؤنسني بتركه (لدي) لكي أستمع في ناجر ، بمشابه خبيئة الحاجر ، ولأن أكون جليس الروضة بينا يرى لها منظرا مبهجا ، ساف منها عرفا متأرّجا ، وإن العامة عهدتني في صدر الأمور أستصحب شيئا من أساطير الأولين ، فقالت : عالم ، والناطق بذلك الظالم. ورأتني مضطرا إلى القناعة ، فقالت : هذا زاهد ، وأنا في طلب الدنيا جاهد. وزاد تقوّل القوم عليّ حتى خشيت أن أكون كأحد الجهال الذين ورد فيهم الخبر المأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من صدور الناس ، ولكن يقبض العلم بموت العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلّوا وأضلّوا» فغدوت حلس ربع كالميت بعد ثلاث أو سبع. ثم حدثت علّة كنّي عنها في المستمع ، وعاقت عن الحضور في الجمع. وفي الكتاب العزيز (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ).

وإنما ذكرت لك ذلك لينتهي إلى الموقف الأشرف أن تخلفي لمرض ، عاق عن أداء

__________________

(١) البيت للبيد.

(٢) في الطبعة المصرية : ولما كان اليوم الذي ورد فيه الكتاب المشتمل من حسن الظن بوليه على ما لا يستوجبه.

١٤٢

المفترض. والارتغاء (١) لا توجبه للشيء الأسمآء. وإن الذكر ليطير للرجل وغيره الخطير. رب شجرة شايكة ظلها غير رحب ، وماؤها غير عذب ، اسمها السمرة وكنيتها أم غيلان ، تذكر في آفاق البلاد ، وغيرها من أشجار الثمر ، إن ذكر نكر. رب أسود كريه الرائحة يدعى كافورا وعنبرا ، وقبيح الصورة يدعى هلالا وقمرا. وكيف يتأدّى العلم إليّ وأنا رجل ضرير نشأت في بلد لا علم فيه ، وإنما نشبت الرامية بالجوارح السامية. وكيف الهداية بغير دوس ، والإنباض مع قصر القوس. فإن بلغ سيرنا الورى لينزلن ساري الليل (٢) قبض على سهيل ، وأن الأرض أنبتت وشيا وحريرا ، والسحاب أمطر مداما وعصيرا ، فهو أعرف بردّه على المبطلين. حسب الأرض أن تخلو بخلة وحمض. وعادة السحاب المرتفع في الهواء أن يأتي بري الظماء. والدلجة بلغت إلى البلجة ، ومن للورقاء بمنازل الخرقاء ، وللغرقد أن يضحي مجاورا للفرقد : لهفي على فوات هذه المنزلة ، ولمثلها سهر من أهل العلم الساهرون. أعرض النوفل وغاب العايم وأومض ، البارق فأين الشايم (٣)(يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) هل آمل من الله ثوابا وأنا كقتلى بدر أسمع ولا أملك جوابا.

لقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

وعزيز الدولة يعين الكسير بالجبر ، فكيف يأمر بإخراج ميت من قبر ، لو كنت بارئا من العلة لشرفت نفسي بزيارة تلك الحضرة ، غير أني عنها راض ، وما أقربني إلى انقراض ، وأنا حليف التمراض وقد غدوت في قوم قيل فيهم : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) فإن سعدت أو شقيت فإن دعائي متصل بها ما بقيت. وتمثل بقوله : (٤)

ماذا أؤمل بعد آل محرّق

تركوا منازلهم وبعد إياد

أهل الخورنق والسدير وبارق

والقصر ذي الشرفات من سنداد

جرت الرياح على محلّ ديارهم

فكأنما كانوا على ميعاد

__________________

(١) في الطبعة المصرية : والإرماء.

(٢) في الطبعة المصرية : فإن بلغ سيدي الشيخ أن ساري الليل.

(٣) في الأصل : أعرض نوفل وغاب العايم ورقد الشايم.

(٤) الأبيات للأسود بن يعفر ، وهي من «المفضليات».

١٤٣

والوزير الفلاحي هو علي بن جعفر بن فلاح وزير الحاكم المستولي على مصر ، وليس بأبي نصر صدقة بن يوسف الفلاحي ، فإنه أيضا تولى الوزارة ، والأول منسوب إلى جده والثاني منسوب إلى الأول.

فصل

في ذكر كرم أبي العلاء وجوده على قلة ماله ونزارة موجوده

قد ذكرنا في الفصل المتقدم أنه لما بلغ أبا نصر هبة الله بن موسى داعي الدعاة أن (الذي) لأبي العلاء في السنة نيف وعشرون دينارا كتب إلى ثمال بن صالح بأن يجزي عليه ما يزيح به علته ، وأنه امتنع من قبول ذلك ، وهذا كان مقدار ما يدخل له من ملكه في معرة النعمان. وقد كان مع هذا يجري منه على جماعة من الكتاب يكتبون عنه ما يمليه وما ينظمه وينشيه ، وكان يعطي منه لخادم يخدمه ، ولا يقنع بالدفع إلى هؤلاء ، حتى إنه كان يدفع منه شيئا لأولي الحاجة ممن يتردد إليه. فقد أخبرنا عمر بن محمد بن معمر المؤدب في كتابه ، وقد سمعت منه بحلب عن أبي الفضل محمد بن ناصر الحافظ قال : حدثنا أبو زكريا التبريزي قال : كان المعري يجري رزقا على جماعة ممن كان يقرأ عليه ويتردد لأجل الأدب إليه.

وقرأت بخط أبي الفرج محمد بن أحمد بن الحسن الكاتب الوزير زورنامج أنشأه لولده الحسن يذكر فيه رحلته في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة إلى الحج من آذربيجان وعبوره بمعرة النعمان ، ويذكر اجتماعه بأبي العلاء ، وذكر فصلا في تقريظه والثناء ، وسنورده بكماله في بعض الفصول التي ترد في هذا الكتاب. ومن جملة ذلك قوله : وقصر همّه على أدب يفيده وتصنيف يجيده ومتعلم يفضل عليه ومسترفد صعلوك يحسن إليه.

قال : وله دار حسنة يأويها ، ومعاش يكفيه ويمونه ، وأولاد أخ باق يخدمونه ويقرؤون بين يديه ويدرسون عليه ويكتبون له ، وورّاق برسمه مستأجر. ثم ينفق على نفسه من دخل معاشه نفقة طفيفة ، وما يفضل عنه يفرقه على أخيه وأولاده واللائذين به وللفقراء والقاصدين له من الغرباء.

١٤٤

وأخبرني القاضي شهاب الدين أبو المعالي أحمد بن مدرك بن سليمان يأثره عن المعريين أن الخطيب أبا زكريا التبريزي قدم على الشيخ أبي العلاء وأقام عنده مدة يقرأ عليه ، وأعطاه الخطيب صرة فيها ذهب وقال له : أوثر من الشيخ أن يدفعها إلى بعض من يراه ليشتري لي بها خبزا ولحما وما تدعو حاجتي إليه ، ويجري ذلك علي في كل يوم لأتناوله مدة مقامي عنده للقراءة ، وأتوفر بذلك على الاشتغال ، ويتفرغ بالي للاستفادة ، ويترفه خاطري ، ولا يكون لي شغل غير ما أنا بصدده. فأخذ الشيخ أبو العلاء الصرة منه ووضعها عنده ، وتقدم إلى وكيله وأجرى للخطيب ما تدعو إليه حاجته ، فتناول ذلك مدة مقامه بمعرة النعمان وهو يظن أنه من ذهبه الذي دفعه إلى الشيخ ، فلما أراد الانصراف ودّع الشيخ أبا العلاء فدفع إليه صرته بعينها ، فقال الخطيب للشيخ : ما ظننت أنك تفعل هذا ولا أردت التثقيل عليك بغير الاستفادة من علمك. وعرّض له بأخذه ، فقال الشيخ : قد كان ذلك ولا سبيل إلى ردّ هذه الصرة عليّ ، وهذا ذهبك بعينه. فأخذه الخطيب وانصرف رحمهما‌الله تعالى. وكان الخطيب فقيرا محتاجا.

فصل

في ذكر قناعة نفسه وشرفها وعفّتها عن أخذ صلات الناس وظلفها

قد ذكر أبو العلاء في مقدمة سقط الزند أنه لم يكن من طلاب الرفد والصلة ، ولم يمدح أبو العلاء إلا اليسير من الناس في صدر عمره قبل انقطاعه عن الناس ، وكان ذلك في مقارضة تقع بينه وبين رجل كبير فاضل مثل الشريف أبي إبراهيم ، أو أن يكون ذلك الرجل من أهله من تنوخ مثل أبي الرضا الفصيصي التنوخي ، أو الملك مطاع أو وزير معظم. ولم يمدحهم لعطاء ولا نايل ، ولم يقبل هدية ولا صلة من شريف ولا وضيع.

وقد ذكر في رسالته التي ذكرناها فيما قبل وكتبها إلى أهل معرة النعمان حين عزم على الانقطاع في منزله والاحتجاب عن الناس : «وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب ولا أتكثر بلقاء الرجال» ثم قال بعد ذلك فيها : «ويحسن جزاء البغداديين ، فلقد وصفوني بما لا أستحق وشهدوا لي بالفضيلة على غير علم ، وعرضوا عليّ أموالهم عرض الجد ، فصادفوني غير جذل بالصفات ولا هشّ إلى معروف الأقوام» ا ه.

١٤٥

وقد ذكرنا في الفصل المتقدم أن الوزير الفلاحي كتب إلى عزيز الدولة أبي شجاع فاتك متولي حلب وأعمالها بحمل هذا العالم إلى مصر ليبنى له دار غلم يكون متقدما فيها ، وسمح بخراج معرة النعمان له في حياته وبعده ، وأن عزيز الدولة نهض للوقت وسار إلى معرة النعمان واجتمع بأبي العلاء وقرأ السجل وكتب إلى الوزير الفلاحي يستعفيه من ذلك ، فأعفاه وسومح بترك ذلك كله.

وقرأت بخط أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي في ذكر أبي العلاء بن سليمان رحمه‌الله قال : ولم يكن من شأنه أن يلتمس من أحد من خلق الله شيئا. وكان كثير الأمراض فقال :

لا أطلب السيب من الناس بل

أطلبه من خالق السيب

ويشهد الأول أني امرؤ

لي جسد يفرق في عيبي

تضرب أضراسي وظني بها التعطيس بالكندس في جيبي

ويلي مما أنا فيه وجلّ الأمر عن ويح وعن ويب

لو أن أعمالي محمودة

لقلت حوطي بي واعني بي (١)

ونقلت أيضا من خط أبي اليسر في ذكره قال : وذكر أن المستنصر بالله صاحب مصر بذل له ما لبيت المال بمعرة النعمان من الحلال فلم يقبل منه شيئا ، وقال :

كأنما غانة لي من غنى

فعدّ عن معدن أسوان

سرت برغمي عن زمان الصبا

يعجلني وقتي وأكواني

انتهى ما وجدناه من الكتاب ولم يخل من أغلاط إذ ليس لدينا سوى نسخة واحدة.

العثور على جزء من كتاب الفصول والغايات :

قبيل انتهائنا من طبع كتاب الإنصاف اطلعنا على العدد الثاني والعشرين من جريدة الميزان التي تصدر في دمشق ، فإذا فيها : في سنة ١٩١٩ عثر محب الدين الخطيب صاحب مجلة الزهراء على الجزء الأول من كتاب الفصول والغايات. فابتاعه من كتبي في مكة.

__________________

(١) الأبيات مما لم يرد في ديوانيه.

١٤٦

ثم ذكرت انتقال ذلك الكنز الثمين إلى الخزانة التيمورية في مصر. ثم وصفته وذكرت نماذج منه فقالت :

قطع وسط وخط جميل مقروء مضبوط بالحركات ضبطا تاما محكما ، وقد فقد من أوله ورقة أو اثنتان وكتب في آخره أنه القسم الأول من كتاب الفصول والغايات في تمجيد الله ، تأليف أبي العلاء أحمد بن عبد الله الخ. وهو مرتب على حروف الهجاء ، وكل فصوله تحتوي على غايات تنتهي بالحرف الذي سمي به ذلك الفصل. فيقول مثلا فصل (غاياته همزة) و (فصل غاياته الألف) و (فصل غاياته الباء) وهلم جرّا ، ويورد غايات كل فصل منتهية بالحرف الذي سمي به الفصل. وقد جرى على أن يذكر وراء كل فصل غاية تفسيرا لما فيها من الغريب. ولا يبعد أن يكون ذلك التفسير هو الشرح الذي ذكر المؤرخون أن المعري نفسه شرح به كتاب الفصول.

والكتاب غير مقصور على موضوع واحد ، بل هو بستان فيه من كل شجر أثر ومن كل فاكهة ثمر ، تعرض فيه مؤلفه لكثير من المسائل الاجتماعية والدينية ، سالكا في أسلوبه مسالكه المعروفة بين الجد والهزل ، مع الإغراب في بعض الأحايين والجنوح إلى استعمال الاصطلاحات العلمية لفنون اللغة والأدب التي كان المعري من أبرع العالمين بها.

نماذج من الكتاب (١)

(١) أحلف بسيف هبّار ، وفرس ضبّار ، (تقع يداه مجتمعتين إذا وثب) يدأب في طاعة الجبّار ، وبركة غيث المدرار ، تترك البسيطة حسنة الحبار (الهيئة) ، لقد خاب مضيع الليل والنهار ، في استماع القينة وشرب العقار. أصلح قلبك بالأذكار ، صلاح النخلة بالإبار. لو كشف ما تحت الأحجار ، فنظرت إلى الصديق المختار ، أكبرت ما نزل به كل الإكبار. نحن من الزمن في خبار (أرض يصعب السير فيها). كم في نفسك من اعتبار. ألا تسمع قديمة الأخبار ، أين ولد يعرب ونزار ، ما بقي لهم من إصار (وتد أو طنب) لا وخالق النار. ما يرد الموت بالآباء. غاية.

(٢) الجسد بعد فراق الروح كما قصّ من يدك ، وقصّر من فودك إذا ألقي فسيط (قلامة

__________________

(١) استعنت على تصحيح هذه النماذج بالطبعة المصرية للفصول والغايات التي نشرها محمود حسن زناتي سنة ١٩٣٨.

١٤٧

الظفر) في النار ، لم تباله ، وإذا غرق قليل في اللجج فكذلك. هكذا يقول المعقول. ولله نظر في العالم دقيق. لا يمتنع أن يكون جسد الصالح إذا قبر في نعيم ، وجسد الكافر في عذاب أليم ، لا يعلم به الزائرون ، وعابد الله ليس بغبين. ليت أنفاسي أعطين تمثّلا فتمثل كل نفس رجلا قائما يدعو الله تبتلا. يمنع جفنه لذيذ الإغفاء. غاية.

(٣) أأسألك رب أم أمسك ، فأنت العالم بضمائر الصدور. أما الدنيا فحظوظ ضاع فيها تعب الحريص ، فإن كانت الآخرة كذلك ، فياويح المجتهدين. والخير عند ربنا لا يضيع. ليس قضاء الحاجة باللجاجة. ولا الغلب بكثرة الجلب. إن مدلجا (المسافر في الليل) نبح ، حتى أصبح ليجيبه كلب ، فأجابه أحصّ (ذئب) لا يردّه الألب. (الطرد) والله مخلف الظنون. نزلت رحمة من الرقيع (السماء) إلى أهل البقيع ، (مقبرة في المدينة) فأضاءت السدف (الظلمة) ، في الجدف (القبر). وذلك من نور الله يسير. فارحمني رب إذا أدرجت ، ثم أخرجت ، من الوطن ، إلى أضيق عطن. وخفت الأليل (أنين المريض) واستراح المعلّل من التعليل. فالحرب الحرب. لقد أكرمت ووقيت. ثم أسلمت فألقيت ، في زوراء بعيدة المزار ، مورد من يعرب ونزار ، وسكنى التربة ، أغرب من الغربة. انقضبت الآراب ، من أهل التراب ، وغدر بهم أهل الوفاء. غاية.

(٤) كفرت البرية وربها حليم. صوم الآبد (ذرق ذكر النعام) أفضل من صوم المفطر على حرام. فإذا صمت عن المآثم فعند ذلك صم عن الطعام ، واحجج (الحجج هو أن يختلط الدم بالدماغ فيجمع الدم بقطنة) كلوم جرائمك ، فإذا برئت فاحجج (زر) عند ذلك مشاهد الصالحين ، واعلم أن صلاة المنافق صلاء النار ، وطهارة الخلد أبلغ من طهارة الجسد بالماء. غاية.

(٥) قل للملك الأرضي : ما فعلت بمرضي. أريت العبر ، وأوقدت العنبر ، وكان الليل بفنائك يشبه من المصابيح الصباح. وكل نور ليس من عند الله فهو سريع الانطفاء.

غاية.

(٦) يا بغاة الآثام ، وولاة أمور الأنام ، مرتع الجور وخيم. وغبه ليس بحميد. والتواضع أحسن رداء. والكبر ذريعة المقت. والمفاخرة شر الكلام. كلنا عبيد الله ، فما بال الرجل يقول : عبدي فلان. والعبودية له ألزم من طوق الحمامة؟ ومؤتي الملك

١٤٨

ملكه قاصر الصعلوك على عدمه ، وكاسي الجميل حلة الجمال هو سالبها القبيح. فاحمد أيها البهج خاصك ، ولا تغمط سواك ، فبيد الله العطية والحرمان. يتيه الأنسي ، والسّرفة (دويبة) أصنع من الآدمي ، تتخذ لنفسها بيتا من حطام الشجر ورفات النبات ، يعجب له الراؤون ويعجز عنه العاملون. والجارسة (النحلة) تبني من الشمع أحسن مسكن ، وتودعه طيّب الأري. وزمازمها تسبيح لملهم الخير من أراد. فما فضيلة الصنع إذا اتخذ قميصا للحرب كبارد الحبب (الفقاقيع التي تعلو وجه الماء) أو برد الحباب (الحية). غاية.

(٧) خافوا الله وتجنبوا المسكرات ، حمراء مثل النار. وصفراء كالدينار. وبيضاء تشبه الآل (السراب). وكميتا وصهباء ، وكلّ ما أدرك من الألوان. ولو كانت أقسام اللب (العقل) كرهاق (كمقدار) الحصى ، والسكرة من الجرع بمثل ذاك ، لقلت إن النغبة الواحدة حرام. ولو هجر أب لجناية ولد لحرم العنب لجريرة المدام. وهل لها من ذنب. إنما الذنب لعاصر الجون ، ومستخرجها وردية اللون ، وحابسها في الدن ، ومنتظرها برهة من الدهر ، وشاربها ورد العطشان ، وتفوّق الرضيع. فاجتنبوا ما يذهب العقول ، فبها عرف الصواب. غاية.

(٨) أصدق فأغضب. ويعجبني الكذب حين أكذب. إن عذّبت فبحق أعذّب. لو أنصفت لما غضبت من شتم السواب. غاية.

(٩) اتق الله ، فإنه جعلك عبد واحد ، فلا تكن عبد جميع ، تنصب وتجهد ولا يرضى منهم أحد. فاز بالخريص (التمر) غير الحريص. ما لم تنله بجدك لم تنله بطعان ولا ضراب. غاية.

(١٠) أملك من شداد بن عاد. ساعة تفتقر الأملاك. رجل اشترى كرّا وقصد منابت الشجر محتطبا ، فرجع بالعضد (ما قطع من الشجر) مكتسبا ، فأحل في المكسب وأطاب. غاية.

(١١) أمر لا يضرك الجهل به ، ولا يسألك عنه مولاك ، قولك : أخوك والزيدان ، أين منهما حرف الإعراب. غاية.

(١٢) لا يسخط الله عليك والملكان ، إذا لم تدر لم ضمّت تاء المتكلم أو فتحت تاء

١٤٩

الخطاب. غاية.

(١٣) أبصر آدم القمر وطلعت عليه الشمس ففني المسكين وبنوه وبقيا على ممر الأحقاب. غاية.

(١٤) ألا أدلك على أخلاق إذا فعلتها أطعت الله ، وأحبك الناس ، وبربنا اهتدى كل دليل. اسكت ما استطعت إلا عن ذكر الله. فإذا نطقت فلا تصدق الكاذب ، ولا تكذب الصادقين. واعلم أن الفقراء بطعامك أحق من الأغنياء. ولا تلم على شيء كان بقضاء الله. ولا تهزأن بأحد ولا تر مع الهازلين. ولا توافد الظالم ولا تجالس المغتاب. غاية.

انتهى ما ذكرته جريدة الميزان.

جاه أبي العلاء عند الملوك

وممن أطال في ترجمته ياقوت في معجم الأدباء ، فإنه ترجمه في نحو ٤٠ صحيفة. وقد ذكر فيه أسرته ومؤلفاته التي ذكرناها. ثم نقل من شعره في لزوم ما لا يلزم ما يدل على سوء عقيدته ، ثم نقل رسائل دارت بين أبي العلاء وبين أبي نصر بن أبي عمران داعي الدعاة بمصر ، ثم قال بعدها : وكنا بحضرة القاضي الأكرم الوزير جمال الدين أبي الحسن علي ابن يوسف بن إبراهيم الشيباني حرس الله مجده وفيه جماعة من أهل الفضل والأدب ، فقال أبو الحسن علي بن عدلان النحوي الموصلي : حضرت بدمشق عند محمد بن نصر ابن عنين الشاعر وزير المعظم ، فجاءته رقعة طويلة عريضة خالية من معنى فارغة من فائدة ، فألقاها إليّ قائلا : هل رأيت قط رقعة أسقط أو أدبر من هذه مع طول وعرض؟ فتناولتها فوجدتها كما قال ، وشرعت أخاطبه ، فأومأ إلي بالسكوت وهو مفكر ، ثم أنشدني لنفسه :

وردت منك رقعة أسأمتني

وثنت صدري الحمول ملولا

كنهار المصيف ثقلا وكربا

وليالي الشتاء بردا وطولا

فاستحسن أهل المجلس هذه البديهة وعجبوا من حسن المعنى ، فقال القاضي الأكرم : ما زلت أستحسن كلاما وجدته على ظهر كتاب ديوان الأعشى في مدينة قفط في سنة ٨٥ يتضمن لأبي العلاء المعري (١) يشبه ما في هذين البيتين من المقابلة ضدا بضد في

__________________

(١) لعله سقط شعرا.

١٥٠

موضعين ، ولعل هذين البيتين يفضلان على ذلك ، فقلنا له : وما ذلك الكلام؟ فقال : حكي أن صالح بن مرداس صاحب حلب نزل على معرة النعمان محاصرا ونصب عليها المناجيق ، واشتد في الحصار لأهلها ، فجاء أهل المدينة إلى الشيخ أبي العلاء لعجزهم عن مقاومته ، لأنه جاءهم بما لا قبل لهم به ، وسألوا أبا العلاء تلافي الأمر بالخروج إليه بنفسه وتدبير الأمر برأيه ، إما بأموال يبذلونها أو طاعة يعطونها ، فخرج ويده في يد قائده ، وفتح الناس له بابا من أبواب معرة النعمان ، وخرج منه شيخ قصير يقوده رجل ، فقال صالح : هو أبو العلاء فجيئوني به ، فلما مثل بين يديه سلم عليه ثم قال : الأمير أطال الله بقاءه كالنهار الماتع قاظ وسطه وطاب أبرداه ، أو كالسيف القاطع لان متنه وخشن حداه (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فقال صالح : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) قد وهبت لك المعرة وأهلها ، وأمر بتقويض الخيام والمناجيق فنقضت ، ورحل ، ورجع أبو العلاء وهو يقول :

نجّى المعرة من براثن صالح

رب يعافي كلّ داء معضل

ما كان لي فيها جناح بعوضة

الله ألحفهم جناح تفضّل

ذكاء أبي العلاء :

ومما يذكر من شدة ذكائه ما ذكره في ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي نقلا عن الحافظ اليعمري قال : إن أبا نصر المنازي ، واسمه أحمد بن يوسف ، دخل على أبي العلاء المعري في جماعة من أهل الأدب ، فأنشد كل واحد منهم من شعره ما تيسر ، فأنشد أبو نصر في وادي بطنان (في الباب) :

وقانا لفحة الرمضاء واد

سقاه مضاعف الغيث العميم

نزلنا دوحة فحنا علينا

حنوّ الوالدات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأ زلالا

ألذّ من المدامة للنديم

يصد الشمس أنّى واجهتنا

فيحجبها ويأذن للنسيم

تروع حصاه حالية العذارى

فتلمس جانب العقد النظيم

فقال أبو العلاء : أنت أشعر من بالشام ، ثم رحل أبو العلاء إلى بغداد فدخل المنازي عليه في جماعة من أهل الأدب ببغداد ، وأبو العلاء لا يعرف منهم أحدا ، فأنشد كل واحد

١٥١

ما حضر من شعره ، حتى جاءت نوبة المنازي فأنشد :

لقد عرض الحمام لنا بسجع

إذا أصغى له ركب تلاحى

شجى قلب الخليّ فقيل غنّى

وبرّح بالشجيّ فقيل ناحا

وكم للشوق في أحشاء صب

إذا اندملت أجدّ لها جراحا

ضعيف الصبر عنك وإن تقاوى

وسكران الفؤاد وإن تصاحى

بذاك بنو الهوى سكرى صحاة

كأحداق المها مرضى صحاحا

فقال أبو العلاء : ومن بالعراق ، عطفا على قوله ومن بالشام. انتهى.

قصة أبي العلاء مع صاحب حلب :

قال الصلاح الصفدي في كتابه نكت الهيمان : قال سبط بن الجوزي في المرآة : قال الغزالي : حدثني يوسف بن علي بأرض الهركار قال : دخلت معرة النعمان وقد وشى وزير محمود بن صالح صاحب حلب إليه بأن المعري زنديق لا يرى إفساد الصور ، ويزعم أن الرسالة تحصل بصفاء العقل ، فأمر محمود بحمله إليه وبعث خمسين فارسا ليحملوه ، فأنزلهم أبو العلاء دار الضيافة ، فدخل عليه عمه مسلم بن سليمان وقال : يا بن أخي ، قد نزلت بنا هذه الحادثة ، الملك محمود يطلبك ، فإن منعناك عجزنا ، وإن أسلمناك كان عارا علينا عند ذوي الذمام ويركب تنوخا الذل والعار ، فقال له : هوّن عليك يا عم ، فلا بأس علينا ، فلي سلطان يذب عني. ثم قام فاغتسل وصلى إلى نصف الليل ، ثم قال لغلامه : انظر إلى المريخ أين هو ، قال : في منزلة كذا وكذا ، قال : زنه واضرب تحته وتدا وشد في رجلي خيطا واربطه إلى الوتد ، ففعل غلامه ذلك ، فسمعناه وهو يقول : يا قديم الأزل ، يا علة العلل ، يا صانع المخلوقات وموجد الموجودات ، أنا في عزك الذي لا يرام ، وكنفك الذي لا يضام ، الضيوف الضيوف ، الوزير الوزير ، ثم ذكر كلمات لا تفهم ، وإذا بهدة عظيمة ، فسئل عنها فقيل : وقعت الدار على الضيوف الذين كانوا بها فقتلت الخمسين.

وعند طلوع الشمس وقعت بطاقة من حلب على جناح طائر : لا تزعجوا الشيخ فقد وقع الحمّام على الوزير.

قال يوسف بن علي : فلما شاهدت ذلك دخلت على المعري فقال : من أنت؟ قلت : أنا من أرض الهركار ، فقال : زعموا أني زنديق. ثم قال : اكتب ، وأملي علي وذكر أبياتا من قصيدة ذكرتها أنا ، وأولها :

١٥٢

أستغفر الله في أمني وأوجالي

من غفلتي وتوالي سوء أعمالي

قالوا هرمت ولم تطرق تهامة في

مشاة وفد ولا ركبان أجمال

فقلت إني ضرير والذين لهم

رأي رأوا غير فرض الحج أمثالي

ما حج جدي ولم يحجج أبي وأخي

ولا ابن عمي ولم يعرف منى خالي

وحج عنهم قضاء بعدما ارتحلوا

قوم سيقضون عني بعد ترحالي

فإن يفوزوا بغفران أفز معهم

أو لا فإني بنار مثلهم صالي

ولا أروم نعيما لا يكون لهم

فيه نصيب وهم رهطي وأشكالي

فهل أسرّ إذا حمّت محاسبتي

أم يقتضي الحكم تعتابي وتسآلي

من لي برضوان أدعوه فيرحمني

ولا أنادى مع الكفار أمثالي

باتوا وحتفي أمانيهم مصورة

وبت لم يخطروا مني على بال

وفوّقوا لي سهاما من سهامهم

فأصبحت وقّعا عني بأميال

فما ظنونك إذ جندي ملائكة

وجندهم بين طوّاف وبقّال

لقيتهم بعصا موسى التي منعت

فرعون ملكا ونجّت آل إسرال

أقيم خمسي وصوم الدهر آلفه

وأدمن الذكر أبكارا بآصال

عيدين أفطر في عامي إذا حضرا

عيد الأضاحيّ يقفو عيد شوال

إذا تنافست الجهال في حلل

رأيتني وخسيس القطن سربالي

لا آكل الحيوان الدهر مأثرة

أخاف من سوء أعمالي وآمالي

وأعبد الله لا أرجو مثوبته

لكن تعبد إكرام وإجلال

أصون ديني عن جعل أؤمله

إذا تعبّد أقوام بأجعال

قال الدكتور طه حسين المصري في كتابه الذي وضعه في ترجمة أبي العلاء وسماه ذكرى أبي العلاء في صحيفة (٢٠٧) : إن هذه القصة تكذب نفسها ، فإن عم أبي العلاء مات قبل أبيه ، ولم يكن أبو العلاء ينتحل السحر ولا يعرف الطلسمات.

أقول : لم أجد بين أقارب أبي العلاء الذين ذكرهم ابن العديم وياقوت أن له عما تسمى بمسلم بن سليمان ، ولم أقف على ترجمة لهذا الرجل ، وكان على صاحب الذكرى أن يذكر لنا ذلك ولو ملخصا ويذكر تاريخ وفاته.

وهذه الحكاية نقلها صاحب «سكردان السلطان» عن طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة

١٥٣

وقال : إنه دخل عليه مسلم بن سليمان فقال : يا بن أخي إلخ ، ولم يذكر كلمة العم ، فيظهر منها أن مسلم ليس عمه ، ومناداته له يا بن أخي إنما كانت جريا على العادة المعروفة من مناداة الكبير لمن كان أصغر منه بيا بن أخي.

وإني أكذب هذه القصة من جهة أخرى ، وذلك أنه قال هو وصاحب السكردان : إنها وقعت في زمن محمود بن صالح بن مرداس صاحب حلب ، ومحمود تولى حلب سنة ٤٥٢ كما تقدم ، وأبو العلاء كان قد توفي قبل ذلك بنحو أربع سنوات ، لأن وفاته سنة ٤٤٩.

ذكر من قال إنه فاسد العقيدة :

قال ياقوت في المعجم : كان أبو العلاء متهما في دينه ، يرى رأي البراهمة ، لا يرى إفساد الصورة ولا يأكل لحما ولا يؤمن بالرسل والبعث والنشور. وعاش شيئا (١) وثمانين سنة ، لم يأكل اللحم منها خمسة وأربعين سنة.

وحدثت أنه مرض مرة ، فوصف له الطبيب الفرّوج ، فلما جيء به لمسه بيده وقال : استضعفوك فوصفوك ، هلا وصفوا شبل الأسد. (ثم قال) : وكان يحرم إيلام الحيوان ويقتصر على ما تنبت الأرض ، ويلبس خشن الثياب ، ويظهر دوام الصوم. قال : ولقيه رجل فقال له : لم لا تأكل اللحم؟ قال : أرحم الحيوان ، قال : فما تقول في السباع التي لا طعام لها إلا لحوم الحيوان ، فإن كان لذلك خالق فما أنت بأرأف منه ، وإن كانت الطبائع المحدثة لذلك فما أنت بأحذق منها ولا أتقن عملا ، فسكت.

قال ابن الجوزي : وقد كان يمكنه أن لا يذبح رحمة ، وأما ما قد ذبحه غيره فأي رحمة بقيت.

قال : وحدّثنا عن أبي زكريا (التبريزي تلميذه) أنه قال : قال لي المعري : ما الذي تعتقد؟ فقلت في نفسي : اليوم أقف على اعتقاده ، فقلت له : ما أنا إلا شاكّ ، فقال : وهكذا شيخك.

__________________

(١) هكذا في الأصل. والصواب : ستا.

١٥٤

قال القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني : قال لي المعري : لم أهج أحدا قط ، فقلت له : صدقت ، إلا الأنبياء عليهم‌السلام ، فتغير وجهه.

(ثم قال) : والناس في أبي العلاء مختلفون ، فمنهم من يقول إنه كان زنديقا وينسبون إليه أشياء مما ذكرناها ، ومنهم من يقول كان زاهدا عابدا متقللا يأخذ نفسه بالرياضة والخشونة والقناعة باليسير والإعراض عن أعراض الدنيا.

وذكر ابن خلكان في ترجمة أحمد بن يوسف بن نصر المنازي الكاتب : اجتمع المنازي بأبي العلاء بمعرة النعمان ، فشكا أبو العلاء إليه حاله وأنه منقطع عن الناس وهم يؤذونه ، فقال : ما لهم ولك ، وقد تركت لهم الدنيا والآخرة (١) ، فقال أبو العلاء : والآخرة أيضا ، وجعل يكررها ويتألم لذلك ، وأطرق فلم يكلمه إلى أن قام.

وقال الجلال السيوطي في «بغية الوعاة» في ترجمة أبي حيان التوحيدي : قال ابن الجوزي : زنادقة الإسلام ثلاثة : ابن الراوندي والتوحيدي وأبو العلاء المعري.

وقال الصلاح الصفدي في «نكت الهميان» : وأما الشيخ شمس الدين الذهبي فحكم بزندقته في ترجمة له طولها في «تاريخ الإسلام» وذكر فيها عنه قبائح ، وأظن الحافظ السلفي قال : إنه تاب وأناب. (ثم قال) :

قال ابن العديم : وقرأت بخط أبي اليسر المعري في ذكره : وكان رضي‌الله‌عنه يرمي من أحل الحسد له بالتعطيل ، ويعمل تلامذته وغيرهم على لسانه الأشعار يضمنونها أقاويل الملحدة قصدا لهلاكه وإيثارا لإتلاف نفسه ، فقال رضي‌الله‌عنه :

حاول إهواني قوم فما

واجهتهم إلا بإهواني

يحرّبوني بسعاياتهم

فغيروا نيّة إخواني

لو استطاعوا لوشوا بي إلى

المريخ في الشهب وكيوان

وقال أيضا :

غريت بذمي أمة

وبحمد خالقها غريت

__________________

(١) لعل هذه الكلمة زائدة ، انظر الوافي بالوفيات للصفدي.

١٥٥

وعبدت ربي ما استطعت

ومن بريته بريت

وفرتني الجهال حاشدة علي وما فريت

سعروا عليّ فلم أحس وعندهم أني هريت

وجميع ما فاهوا به كذب لعمري حنبريت

قال الصلاح : أما الموضوع على لسانه فلعله لا يخفى على من له لب ، وأما الأشياء التي دوّنها وقالها في «لزوم ما لا يلزم» وفي «استغفر واستغفري» فما فيه حيلة ، وهو كثير ، فيه ما فيه من القول بالتعطيل والاستخفاف بالنبوات ، ويحتمل أنه أرعوى وتاب بعد ذلك.

وسألت الحافظ فتح الدين محمد بن سيد الناس (فقلت له) (١) : ما كان رأي الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في أبي العلاء؟ فقال : كان يقول : هو في حيرة. (قلت : وهذا أحسن ما يقال في أمره) (١) ، لأنه قال في داليته التي في سقط الزند :

خلق الناس للبقاء فضلّت

أمة يحسبونهم للنفاد

إنما ينقلون من دار أعما

ل إلى دار شقوة أو رشاد

ثم قال في لزوم مالا يلزم :

ضحكنا وكان الضّحك منا سفاهة

وحقّ لسكان البسيطة أن يبكوا

تحطّمنا الأيام حتى كأننا

زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك

فالأول اعتراف بالمعاد ، والثاني إنكار له. وهذه الأشياء في كلامه كثيرة ، وهي تناقض منه ، وإلى الله ترجع الأمور.

وقال قبل ذلك : والناس مختلفون في أمره ، والأكثرون على إكفاره وإلحاده.

أورد له الإمام فخر الدين الرازي في كتاب «الأربعين» قوله :

قلتم لنا صانع قديم

قلنا صدقتم كذا نقول

ثم زعمتم بلا زمان

ولا مكان ألا فقولوا

__________________

(١) ما بين قوسين إضافة من «نكت الهميان» ليست في الأصل.

(١) ما بين قوسين إضافة من «نكت الهميان» ليست في الأصل.

١٥٦

هذا كلام له خبيء

معناه ليست لنا عقول

قال الإمام بعد ذلك : وقد هذى هذا في شعره.

ذكر من أثنى عليه وقال إنه صحيح العقيدة :

قال الصلاح : وحكي عن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني رحمه‌الله تعالى أنه قال في حقه : هو جوهرة جاءت إلى الوجود وذهبت.

وقال ابن خلكان في ترجمة أبي الحسن علي الهكاري : إن الهكاري لقي الشيخ أبا العلاء المعري وسمع منه ، فلما انفصل عنه سأله بعض أصحابه عما رآه منه وعن عقيدته فقال : هو رجل من المسلمين.

ووجدت في مجموعة للشيخ محمد المواهبي الحلبي فيها ترجمة أبي العلاء قال : قال السلفي (محدث الإسكندرية) : ومما يدل على صحة عقيدته ما سمعت الخطيب حامد بن بختيار النميري يحدث بالشمسانية : مدينة بالخابور قال : سمعت القاضي أبا المهذب عبد المنعم ابن أحمد السروجي يقول : سمعت أخي القاضي أبا الفتح يقول : دخلت على أبي العلاء المعري التنوخي بالمعرة ذات يوم في وقت صلاة (١) بغير علم منه ، وكنت أتردد عليه وأقرأ عليه ، فسمعته ينشد من قوله :

كم غودرت غادة كعاب

وعمّرت أمها العجوز

أحرزها الوالدان خوفا

والقبر حرز لها حريز

يجوز أن تبطىء المنايا

والخلد في الدهر لا يجوز

ثم تأوه مرات وتلا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ثم صاح وبكى بكاء شديدا وطرح وجهه على الأرض زمانا ، ثم رفع رأسه ومسح وجهه وقال : سبحان من تكلم بهذا في القدم ، سبحان من هذا كلامه. فصبرت ساعة ، ثم سلمت عليه فرد وقال : متى أتيت؟ فقلت : الساعة ، ثم قلت : يا سيدي ، أرى في وجهك أثر غيظ ، فقال : لا يا أبا الفتح ، بل أنشدت شيئا من كلام

__________________

(١) في تاريخ الإسلام للذهبي : خلوة.

١٥٧

المخلوق ، وتلوت شيئا من كلام الخالق ، فلحقني ما ترى. فتحققت صحة دينه وصحة يقينه.

شعر أبي العلاء في نظر العلماء والأدباء :

قال الإسكندري (١) : وكان أبو العلاء أحكم من رأى الناس بعد المتنبي ، ويزيد عليه في الغريب والأخيلة الدقيقة والتكلم في الطبائع ووسائل الاجتماع وعادات الناس وأخلاقهم ومكرهم وظلمهم ، ونظام الحكومات والقوانين والشرائع والأديان ، ولذلك يفضله الإفرنج ومستعربوهم عليه ، وهو في هذه الأمور معدوم النظير ، ولم ينظم في الملة أحد غيره فيها.

وشعره في المدائح والمراثي والوصف وبقية أغراض الشعر الأدبية أرق من شعره في النقد والفلسفة. إلا أن أكثر شعره من هذا القبيل ضمنه لزوم ما لا يلزم ، فتقيد فيه بقيود حبست أفكاره ونهكت معانيه ، فجاءت ألفاظه فيه غريبة وأساليبه معقدة ، وعندنا أن هذا أمقت شذوذ له ، وإلا فما للفيلسوف والقيود اللفظية ، وقد كان له في نظم الأفكار التي لم تخطر على قلب أحد سواه غنية وشهادة على براعته وسبقه. ولله في خلقه شؤون ا ه.

ذكر وفاته وبعض ما رثي به :

قال ابن خلكان : توفي ثاني شهر ربيع الأول ، وقيل ثالث عشرة سنة تسع وأربعين وأربعمائة بالمعرة. وبلغني أنه أوصى أن يكتب على قبره هذا البيت :

هذا جناه أبي علي

وما جنيت على أحد

وكان مرضه ثلاثة أيام ، ومات في اليوم الرابع ، ولم يكن عنده غير بني عمه ، فقال لهم في اليوم الثالث : اكتبوا عني ، فتناولوا الدويّ والأقلام ، فأملى عليهم غير الصواب. فقال القاضي أبو محمد عبد الله التنوخي : أحسن الله عزاءكم في الشيخ ، فإنه ميت. فمات ثاني يوم. ولما توفي رثاه تلميذه أبو الحسن علي بن همام بقوله :

إن كنت لم ترق الدماء زهادة

فلقد أرقت اليوم من جفني دما

__________________

(١) في كتابه آداب اللغة العربية «ص ٢٧٩».

١٥٨

سيّرت ذكرك في البلاد كأنه

مسك فسامعة يضمّخ أو فما (١)

وأرى الحجيج إذا أرادوا ليلة

ذكراك أوجب فدية من أحرما

قال الصلاح في «نكت الهميان» : قال أبو الرضا عبد الواحد (٢) بن نوت المعري يرثيه :

سمر الرماح وبيض الهند تشتور

في أخذ ثأرك والأقدار تعتذر

والدهر ناقد أهل العلم قاطبة

كأنهم بك في ذا القبر قد قبروا

فهل ترى بك دار العلم عالمة

أن قد تزعزع منها الركن والحجر

والعلم بعدك غمد فات منصله

والفهم بعدك قوس ماله وتر

وممن رثاه (كما في ذكرى أبي العلاء) أبو الفتح الحسن بن عبد الله بن حصينة المعري الذي رثاه بقصيدة طويلة يقول فيها :

العلم بعد أبي العلاء مضيّع

والأرض خالية الجوانب بلقع

أودى وقد ملأ البلاد غرائبا

تسري كما تسري النجوم الطلّع

ما كنت أعلم وهو يودع في الثرى

أن الثرى فيه الكواكب تودع

جبل ظننت وقد تزعزع ركنه

أن الجبال الراسيات تزعزع

وعجبت أن تسع المعرة قبره

ويضيق بطن الأرض عنه الأوسع

لو فاضت المهجات يوم وفاته

ما استكثرت فيه فكيف الأدمع

تتصرم الدنيا وتأتي بعده

أمم وأنت بمثله لا تسمع

لا تجمع المال العتيد وجد به

من قبل تركك كلّ شيء تجمع

فإن استطعت فسر بسيرة أحمد

تأمن خديعة من يغر ويخدع

رفض الحياة ومات قبل مماته

متطوعا بأبرّ ما يتطوع

عين تسهّد للعفاف وللتقى

أبدا وقلب للمهيمن يخشع

شيم تجمّله فهن لمجده

تاج ولكن بالثناء يرصّع

جادت ثراك أبا العلاء غمامة

كندى يديك ومزنة لا تقلع

ما ضيّع الباكي عليك دموعه

إن الدموع على سواك تضيّع

__________________

(١) قال في هامش نكت الهميان كذا في الأصول في ترجمته المطبوعة بالهند. مسك يضمخ منه سمعا أو فما.

(٢) في الأصل : عبد الوهاب ، والصواب ما أثبتناه.

١٥٩

قصدتك طلّاب العلوم ولا أرى

للعلم بابا بعد بابك يقرع

مات النهى وتعطلت أسبابه

وقضى التأدّب والمكارم أجمع

قال الشيخ المواهبي الحلبي في مجموعته : قال السلفي : سمعت أبا المكارم بأبهر ، وكان من أفراد الزمان ثقة مالكي المذهب ، قال : لما توفي أبو العلاء اجتمع على قبره ثمانون شاعرا وختموا في أسبوع واحد على القبر مائتي ختمة.

كلمتنا في أبي العلاء رحمه‌الله :

إن ما قيل إنه له مما يدل على التعطيل وإنكار المعاد إما أن يكون مدسوسا عليه بقصد إيذائه ، كما ذكر ذلك الكمال بن العديم ، وقد وقع ذلك لغيره من العلماء كالشيخ محيي الدين بن عربي والشيخ عبد الوهاب الشعراني ، ولما علم أن الناس قد افتروا عليه أنشد :

وقد نطقوا مينا على الله وافتروا

فما لهم لا يفترون عليكا

وإما أن يكون مما قاله لكنه يكون قابلا للتأويل ، ويمكن حمله على معنى صحيح إذا تأمله المتأمل ذو البصيرة ودقق في المعنى الذي قصده.

وإما أن يكون مما قاله في أول نشأته وفي عنفوان شبابه ، وقد استولت في ذلك الحين عليه الحيرة وداخلته الشكوك والظنون ، كما قاله ابن دقيق العيد ، ولذا كان يناقض نفسه في شعره ، يسلم تارة وينفي أخرى.

ومنشأ ذلك أن الكثير من الطلاب الأذكياء يفتح عليهم في مبدأ أمرهم باب الغرور والإعجاب بالنفس ، وذلك حينما يرون أنفسهم أنهم قد حصلوا في مدة قليلة ما لم يحصله غيرهم في سنين كثيرة ، فتثور في نفوسهم ثائرة الدعوى والتطاول على الأقران ، ويؤديهم الإعجاب بالرأي إلى التكلم بمقتضى أهوائهم وعلى حسب ما توحيه إليهم ضمائرهم ، وإن كان ذلك من الحقيقة في مكان بعيد.

تبقى هذه حالتهم يتخبطون في دياجي الشكوك وتتقاذفهم أمواج الحيرة والأوهام ، إلى أن تتوسع فيهم دائرة المعرفة وينضج علمهم ويبعد بواسطة كثرة الاطلاع وإعمال الفكر نظرهم ، فهناك ينتبهون بعد غفلتهم ، ويستيقظون بعد رقدتهم ، ويعودون إلى الطريقة المثلى والمنهاج القويم.

١٦٠