مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-035-8
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٠٨

فقال : اصنعوا المنارة على هذا المثال ، فصنعوها. ولمّا تمّ بناء الجامع رأى أحمد بن طولون في منامه كأنّ الله تعالى قد تجلّى للمقصورة التي حول الجامع ولم يتجلّ للجامع ، فسأل المعبّرين فقالوا : يخرب ما حوله ويبقى قائما وحده. فقال : من أين لكم هذا؟ قالوا : من قوله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا)(١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا تجلّى الله لشيء خضع له» وكان كما قالوا.

وجاء في كتاب الآثار العراقيّة (٢) : إنّ أضخم وأبرز العمارات الباقية من مدينة سامرّاء القديمة هو الجامع الكبير المذكور في الكتب القديمة باسم المسجد الجامع ، ومأذنته المعروفة بين الناس باسم الملوية. والملوية مأذنة مخروطيّة الشكل تستند إلى قاعدة مربّعة يصعد إلى قمّتها من سطح مائل عريض يدور حولها من خارجها دوران الحلزون ، يبلغ طول ضلع القاعدة اثنين وثلاثين مترا غير أنّ قطر القمّة يصبح ستّة أمتار ، أمّا مجموع ارتفاع المأذنة عن سطح الأرض فيبلغ اثنين وخمسين مترا. تبدأ المرقاة الحلزونيّة التي تضمن الصعود إلى القمّة من وسط الضلع الجنوبي المقابل لجدار الجامع نفسه وتدور حول محور المأذنة باتجاه معاكس لا تجاه دوران عقرب الساعة خمس مرّات إلى أن تصل إلى باب القمّة الذي ينفتح هو أيضا في وسط القسم الجنوبي ، والقمّة تكون أسطوانة يبلغ ارتفاعها ستّة أمتار وهي مزدانة بروازين عمياء مدبّبة العقد ومتقعّرة السطح ، عدد هذه الروازين العمياء ثمان غير أنّ إحداها تقوم مقام باب ينفذ إلى داخل الأسطوانة ، ويوصل إلى ذروييها بواسطة درج حلزوني يدور داخلها حول محورها وتدلّ المعالم الموجودة على أنّ هذه القمّة

__________________

(١) الأعراف : ١٤٣.

(٢) هو كتاب صغير مصوّر في سبع وسبعين صفحة ، نشرته مديريّة الآثار العراقيّة وطبع سنة ١٩٤٠ م في بغداد يبحث فيه عن تاريخ سامرّاء بشكل وجيز نافع ، وننقل عنه هنا حرفيّا تارة وتلخيصا في بعض الأحيان.

٦١

كانت متوّجة بسقيفة خشبيّة. تقع هذه المأذنة خارج الجامع على بعد خمسة وعشرين مترا من ضلعه الشمالي ، كانت الملوك تعرّضت إلى تخريبات كثيرة ولا سيّما في قاعدتها وفي لوالبها الأولى حتّى أنّ معالم قاعدتها كادت تزول تماما فقامت مديريّة الآثار العراقيّة بإعمال الصيانة اللازمة لها خلال سنة ١٩٣٧ ميلادي فأظهرت أسس القاعدة وأعادت بناءها وعمّرت اللوالب كما أعادت المرقاة (١).

__________________

(١) الآثار العراقيّة : ٤٣.

٦٢

ولنذكر نقاط رئيسيّة من ريّ سامرّاء (١) مضافا على ما ذكرنا ، قال : إنّ المتوكّل بنى مسجدا جامعا كبيرا وأعظم النفقة عليه ، ويمتاز هذا الجامع مع مأذنته من بقيّة الجوامع بفسحه وضخامته وبمأذنته الغريبة. أمّا بناء الجامع فلم يبق منه غير جدرانه الخارجيّة التي تحيط بساحته مستطيلة طولها ٢٤٠ متر وعرضها ١٥٨ متر ، ويبلغ ارتفاع الجدران زهاء عشرة أمتار ، وثخنها حوالي المترين ، وهي مبنيّة بالآجر. ويستدلّ من استكشاف هرزفلد على أنّه كان في حرم المسجد ٢٥ رواقا ، والأوسط منها أكثر اتساعا من البقيّة ، وجملة عدد الأعمدة ٤٨٨ عمود ، وكانت السقوف ترتكز على العمد مباشرة دون طبقات من البناء ، وكان في وسط المسجد فوّارة عظيمة وهي التي ذكرها ووصفها المستوفي بأنّها كانت من قطعة واحدة من الحجر محيطها ٢٣ ذراع وارتفاعها سبعة أذرع ، وثخنها نصف ذراع ، وكانت تعرف ب «كأس فرعون». وروى المستوفي أيضا أنّ مأذنة المسجد كان ارتفاعها ١٧٠ ذراعا يرقى إليها من الخارج وهي منفردة في طرزها ، ولم يبن نظيرها من قبل.

وقد اثبتت حفريّات هرزفلد أنّ الأساس الأسطواني لقاعدة الفوّارة كان مبنيّا بالطوب ومؤنة الجير والرماد. أمّا كأسها فكانت مرتكزة على قاعدة مكسوّة بالرخام وقد عثر بجوار الفوّارة خارج الأساس الأسطوانيّ على قطع من أعمدة الرخام والتيجان ، وعلى زخارف جصيّة منقوشة ومذهّبة ومحلّات بالفسيفساء الزجاجيّة ولذلك يظنّ أن قد كانت سقيفة من الخشب محمولة على دائرة من الأعمدة مرفوعة فوق هذه الناقورة المسماّة «كأس فرعون».

وقد ثبت لنا من تدقيقاتنا أنّ الفوّارة هذه كانت تستمدّ مياهها من القناة التي أنشأها المتوكّل لإيصال المياه إلى مدينة سرّ من رأى وهي القناة التي كانت تبدأ من

__________________

(١) ريّ سامرّاء ١ : ١٠٨.

٦٣

شمال الدور فتسير إلى مسافة حوالي أربعين كيلومترا حتّى تصل إلى العاصمة.

إلى أن قال : وقد بلغت النفقة على المسجد خسمة عشر ألف ألف درهم ـ كما روى ياقوت الحموي ـ أو يساوي ستّمأة ألف دينار. أمّا تاريخ إنشائه فقد ذكر سبط ابن الجوزي أنّ بدء بنائه سنة ٢٣٤ هجري وسنة ٨٤٩ ميلادي وكان الانتهاء منه في سنة ٢٣٧. إلى حالتها السابقة سنة ١٣٥٥ هجريّة.

وأمّا الجامع نفسه فلم يبق منه شيء قائم غير جدرانه الخارجة التي تحيط بساحة مستطيلة طولها نحو مائتين وأربعين مترا ، وعرضها مائة وستّين مترا ، وثخن الجدران لا يقلّ عن مترين ، وارتفاعها يناهز عشرة أمتار ، ومع هذا فهي مدعومة عن خارجها بأبراج نصف أسطوانيّة يبلغ عددها أربعين برجا ؛ أربعة منها في الأركان ، وثمانية في كلّ ضلع من الضلعين الجنوبي والشمالي ، وعشرة في كلّ ضلع من الضلعين الشرقي والغربي ، وإنّ قطع الجدار الواقعة بين الأبراج مزدانة في قسمها الأعلى بستّ خسفات مربّعة ، يظهر في وسط كلّ واحدة منها خسفة مستديرة مقعّرة ، اكتسب الجدار رونقا وجمالا ، ويظهر على كلّ قطعة من قطع الجدار هذه شقّ شاقوليّ منتظم لا شكّ في أنّه كان يحتوي على المواسير المخصصة لتصريف مياه الأمطار التي تهتدّ على سطح الجامع ، وليس للجدران نوافذ إلّا في القسم الأعلى من الضلع الجنوبي حيث توجد سلسلة نوافذ تظهر هذه النوافذ من الخارج كفتحات ضيقة مستطيلة غير أنّها تأخذ من الداخل هيئة شبابيك جميلة ، يتألّف كلّ واحد منها من دخلة مستطيلة الشكل ، يظهر داخلها عمودان من الآجر يحملان طاقا مكوّنا من خمس حنايا ، ويقع المحراب في منتصف هذا الضلع وينفتح في طرفيه بابان يؤدّيان إلى بناية صغيرة كانت قائمة خلف المحراب ، وإنّ المحراب كان قد تهدّم فأخذ شكل باب غير أنّ مديريّة الآثار القديمة أبرزت معالمه من تحت الإنقاض وأعادت بناء القسم الأسفل منه لإعطاء فكرة عامّة عن سابق وضعه.

٦٤

ويلاحظ في ساحة الجامع بين جدرانه الأربعة سلسلة آكام تدلّ على مواقع الأعمدة وتساعد على تصوّر منظر الجامع الداخلي في حالته الأصليّة ، وكان في وسط الجامع صحن مكشوف يتوسّط نافورة كبيرة مدوّرة ، وكان بين هذا الصحن والجدران سلسلة أعمدة تكون أروقة وبلاطات عددها عشرة في الجنوب ، وأربعة في الشمال ، وخمسة في كلّ من الشرق والغرب ، وإنّ كلّ صفّ من صفوف الأعمدة التي تمتدّ موازية للضلعين الجنوبي والشمالي يتألّف من أربعة وعشرين عمودا ، وأمّا كلّ صفّ من صفوف الأعمدة التي تمتدّ موازية للضلعين الشرقيّ والغربي فكان يتألّف من أربعة وثلاثين عمودا. وأمّا عدد الأعمدة التي تحدّد الصحن فكان عشرين عمودا في كلّ من الضلعين الشرقي والغربي ، وأربعة عشر في كلّ من الضلعين الشمالي والجنوبي ما عدا الكائنة في الزوايا الأربع من الصحن ، فكان عدد الأروقة التي تفضي إلى الصحن خمسة عشر في الشمال والجنوب ، واثنين وعشرين في الشرق والغرب. وأمّا عدد الأروقة الموازية للضلع الجنوبي فكان عشرة ، والموازية لكلّ من الضلعين الشرقي والغربي خمسة ، والموازية للضلع الشمالي أربعة ، وإنّ جميع الأعمدة كانت مبنيّة بالآجر وقائمة على قواعد مربّعة غير أنّها كانت تأخذ شكلا مثمّنا فوق القاعدة ، تاركة بذلك محلّا لركز عمود رخامي في كلّ زاوية من زواياها الأربع ، وهذه الأعمدة كانت تحمل السقف الخشبي مباشرة دون أن ترتبط بطوق وعقود.

فيظهر من التفاصيل الآنفة الذكر أنّ الجامع المذكور كان شبيه من حيث الترتيبات الداخليّة والتخطيط العام للمساجد التي شيّدت في العصور الأولى للهجرة في الكوفة وواسط والقاهرة والقيروان وسائر البلدان ، والفرق بين جامع سامرّا وتلك الجوامع ينحصر من حيث التخطيط العام في الأبعاد وفي عدد الأعمدة

٦٥

والبلاطات وفي كيفيّة التسقيف ، غير أنّ هذا الجامع يمتاز عن جميعها بفسحته وضخامته أوّلا ، وبمأذنته ثانيا.

وكان الجامع محاطا من جميع جهاته بساحة فسيحة مسوّرة بجدار تظهر معالمه للأنظار من بعض المحلّات المرتفعة ، وكان طول هذا السور أربعمائة وأربعة وأربعين مترا ، وعرضه ثلاثمائة وستّة وسبعين مترا.

أمّا تاريخ بنائه كما يذكر سبط ابن الجوزي : إنّ المتوكّل بدأ ببنائه في سنة مائتين وأربع وثلاثين ، والانتهاء منه في سنة مأتين وسبع وثلاثين.

ويذكر ياقوت الحموي بأنّ البناء بلغة قيمته خمسة عشر ألف ألف درهم.

٦٦

كثرة قصور سامرّاء والأبنية الجليلة فيها

قال المسعودي في مروج الذهب في تاريخ المتوكّل : لم يبن أحد من الخلفاء بسرّ من رأى من الأبنية الجليلة مثل ما بناه المتوكّل ، ثمّ عدّ خمسة عشر قصرا ونحن نذكر ما عثرنا عليه منه ومن غيره على ترتيب الحروف :

الأحمدي

قال الحموي في المعجم : الأحمدي اسم قصر كان بسامرّاء ، عمّره أبو العبّاس أحمد بن المعتمد على الله بن المتوكّل فسمّي به.

وقال بعض أهل الأدب : اجتزت بسامرّاء فرأيت على جدار من جدران القصر المعروف بأحمدي مكتوب عليه هذه الأبيات :

في الأحمديّ لمن يأتيه معتبر

لم يبق من حسنه عين ولا أثر

غارت كواكبه وانهدّ جانبه

ومات صاحبه واستفظع الخبر

وقال في المراصد والمنجّم : إنّ الأحمدي ـ بياء النسبة ـ اسم لقصر كان بسامرّاء ، عمّره أبو العبّاس أحمد بن المعتمد على الله ابن المتوكّل.

قصر الأشناس

في شمال سامرة الحالية وغرب سامرة القديمة في موضع يقال له الكرخ ، يعرف

٦٧

اليوم عند أهالي سامرة بشناس ، وهبه المعتصم لأشناس كما تقدّم ، وكان أشناس من أتراك العجم ، وكان مملوكا للفضل بن سهل ذي الرياستين اشتراه المعتصم. وقال اليعقوبي : كان مملوكا لنعيم بن حازم أبي هارون بن نعيم. فعلا قدره وعظم شأنه حتّى صار من أمراء عسكر المعتصم وكان شجاعا باسلا ، وكان في مقدّمة الجيش الذي وجّهه المعتصم لأخذ بابك الخرّمي الآتي ذكره بصورة تفصيليّة ، وأشرنا إليه فيما تقدّم إجمالا ، وكذا وجّهه المعتصم لفتح العموريّة الروم.

قصر البديع

قال في المعجم : بديع ـ بالفتح ثمّ الكسر وياء ساكنة وعين مهملة ـ اسم بناء عظيم للمتوكّل بسرّ من رأى ، ومثله في القاموس ، وكان قصر البديع من الأبنية الجليلة في سامرّاء.

قصر البرج

قال المسعودي في مروج الذهب : قصر البرج أنفق عليه المتوكّل عشرة آلاف ألف درهم.

وفي البلدان لليعقوبي (١) : أنفق على البرج ألف ألف وسبعمائة ألف دينار.

قصر بزگوار

وفي بعض النسخ بلكوار. قال في المعجم في حرب الباء : اسم بيت بناه المتوكّل في قصر له بسرّ من رأى. فقال بعضهم يذكره بعد خرابه ، وكتب على حائطه هذه الأبيات :

__________________

(١) البلدان : ٢١٥.

٦٨

هذي ديار ملوك دّبروا زمنا

أمر البلاد وكانوا سادة العرب

عصى الزمان عليهم بعد طاعته

فانظر إلى فعله بالجوسق الخرب

وبزكوار وبالمختار قد خليا

من ذلك العزّ والسلطان والرتب

وجاء في كتاب الآثار العراقيّة (١) : يقع المنقور في أقصى جنوب سامرّاء وهو القصر المذكور في التواريخ باسم بزكوار وبلكوار ، بناه المتوكّل لابنه المعتزّ. قام هرتسفيلد بتنقيبات كبيرة في هذا القصر قبل الحرب العالميّة ، ورسمه المومى إليه حسب مشاهداته برسمين يريان منظر الجدارين القائمين إلى الآن ، والزخارف الجصيّة التي كانت تكسو الجدران المذكورة عند ما اكتشفها هرتسفيلد ، ويظهر من

__________________

(١) الآثار العراقيّة : ٦٨.

٦٩

رسمه الصورة أنّ هذا القصر كان من أفسح وأضخم القصور ، طول سوره الخارجي ألف ومائتا متر ، ومساحته تزيد على ثلاثة أضعاف مساحة مدينة سامرّاء الحالية. يرتفع القصر على جرف صخري يبلغ علوّه خمسة عشر مترا ، ويمتدّ تحت هذا القصر المرتفع حديقة فسيحة تظهر فيها آثار مبان متفرّقة.

قال اليعقوبي : وأنزل المتوكّل ابنه المعتزّ خلف المطيرة مشرقا بموضع يقال له بلكوار إلى آخر الموضع المعروف بالدور.

لقد اختلف المؤرّخون في تسمية هذا القصر ؛ فسماّه ياقوت والطبري باسم بزكوار ، والشابشتي وابن سرابيون باسم بركوارا ، واليعقوبي باسم بلكوار.

ذكر في ريّ سامرّاء وقال : وكان للبناء ثلاثة أبواب تقع في منتصف الجدران الثلاثة غير المطلّة على النهر أي الشماليّة والشرقيّة والغربيّة ، يخترق البناء شارعان رئيسيّان متقاطعان ، وكان البناء يشتمل على مجموعة من المنازل للمشاة والحرس ، وكان من ضمن القصر حديقة يحيط بها سور ذو دعامات أو قصور وينتهي عند الشاطي نفسه سقيفات غنيّة بالزخارف ، وإلى جانب الحديقة مرقاة للسفن ، وفي وسطها حوض للماء.

وقال الشابشتي في كتابه الديارات : وبنى المتوكّل قصره المعروف ببركوارا ، ولمّا فرغ من بنائه وهبه لابنه المعتزّ وكان من أحسن أبنية المتوكّل وأجلّها ، وبلغت النفقة عليه عشرين ألف ألف درهم.

أمّا موضع قصر بزكوار وتاريخ إنشائه فقد ذكر اليعقوبي أنّ المتوكّل أنزل ابنه المعتزّ خلف المطيرة مشرقا بموضع يقال له بلكوار ، فاتصل البناء من بلكوار إلى آخر الموضع ، وإنّ المتوكّل بنى مدينة جديدة سمّاها الجعفريّة واتصل البناء من الجعفريّة إلى الموضع المعروف بالدور ثمّ بالكرخ وسرّ من رأى مارّا إلى الموضع الذي كان ينزله ابنه أبو عبد الله المعتزّ ، ليس بين شيء من ذلك فضاء فارغ ولا موضع إلّا عمارة فيه ، فكان مقدار ذلك سبعة فراسخ.

٧٠

٧١

قصر البهو

قال المسعودي في مروج الذهب : أنفق عليه المتوكّل خمسة وعشرين ألف ألف درهم.

قصر التل

قال في مروج الذهب : أنفق عليه المتوكّل خمسة آلاف ألف درهم ؛ علوّه وسفله.

والذي يظهر من التواريخ أنّ قصر التل اثنان. قال محمّد خداوند شاه في خاتمة روضة الصفا : إنّ المعتصم أمر عساكره أن يملأوا مخالبهم من التراب الأحمر ونبذوه في فضاء واسع حتّى صار جبلا عظيما ، ثمّ بنى عليه قصرا عاليا وأعظم النفقة عليه.

وأمّا تلّ العليق الذي يعرف باسم تلّ العليج عند أهالي سامرّاء ، فقد ادّعى هرتسفيلد الألماني أنّه موضع قصر كما جاء في كتاب الآثار القديمة العراقيّة (١) : إنّ تلّ العليق يقع في الجبهة الشماليّة من الجامع ، والشماليّة الشرقيّة من بيت الخليفة. وقال : إنّ صورة الرسم المأخوذة ترى منظر التلّ من جهة الشمال حيث تظهر في الأفق خرائب بيت الخليفة من جهة ، والمسجد والجامع والملوية من جهة أخرى. وذلك التلّ محاط بخندق عريض دائري ، والضفة الخارجيّة من الخندق المذكور محدودة بسور منتظم ، ارتفاع التلّ عن السهل المجاور نحو خمسة وعشرين مترا. وأمّا عمق الخندق فنحو ثلاثة أمتار ، وقطر التلّ نحو مائتي متر. وأمّا قطر السور المحيط به وبالخندق فنحو أربعمائة وخمسين مترا.

ويعلّل الناس تسمية هذا التلّ برواية يتناقلونها أبا عن جدّ ، وهي أنّ التلّ

__________________

(١) الآثار القديمة العراقيّة : ٦٠.

٧٢

تكون من التراب الذي نقله الجنود الخيّالة بعليق خيولهم ويروون أنّ الخليفة المتوكّل أراد أن يظهر كثرة جنوده بدليل عيانيّ محسوس ، فأمر بأن يملأ كلّ واحد من جنوده الخيّالة عليقه بالتراب ثمّ يرميه هناك والتلّ قد تكون من التراب الذي تجمع هذا الوجه. ومن المؤكّد أنّ التلّ اصطناعيّ وقد تكون على طريقة حفر خندق عريض مستدير ، وتكويم التراب الذي يرفع منه فوق الدائرة الباقية داخله.

ولقد درس هرتسفيلد الألماني هذا التل خلال تنقيباته في سامرّاء قبل الحرب العالميّة وعلم أنّه كان على قمّته قصر صغير مربّع الشكل مقسّم إلى تسع غرف متلاصقة واحدة في الوسط وأربعة متصلة بأضلاع هذه الغرفة على شكل اواوين مفتوحة ، والأربعة الأخرى بين أضلاع الأواوين المذكورة.

قال : ولا شكّ في أنّ القصد من تكوين هذا التلّ في وسط السهل ، وتشييد هذا القصر الصغير فوق التل كان للتفرّج على السهل من محلّ مرتفع يمتدّ فيه النظر وتكثر فيه الرياح. ويظهر أنّ الحير الذي يقول فيه اليعقوبي في البلدان (١) «وخلف الحائط الوحش من الظباء والحمير والأيايل والأرانب والنعام» كان يقع حول هذا التل كما أنّ إحدى حلبات السباق كانت تبدأ من جهته الجنوبيّة.

ولكن الراوندي وغيره من المحدّثين يذكرون وجها آخر لتسميته بتلّ العليق. قال الراوندي في الخرايج (٢) في عداد معجزات أبي الحسن الهادي عليه‌السلام ما هذا لفظه : ومنها حديث تلّ المخالي ، وذلك أنّ المتوكّل أمر العسكر وهم تسعون ألف فارس من الأتراك الساكنين بسرّ من رأى أن يملأ كلّ واحد منهم مخلاة فرسه من الطين

__________________

(١) البلدان : ٢٦٣ طبع ليدن.

(٢) الخرايج والجرايح : ٢١٢ طبع ايران.

٧٣

الأحمر ويجعلوا بعضه على بعض وسط برية واسعة هناك ، فلمّا فعلوا ذلك صار مثل جبل عظيم ثمّ صعد فوقه واستدعى أبا الحسن الهادي عليه‌السلام وقال : استحضرتك لنظارة خيولي وقد كان أمرهم أن يلبسوا التجافيف ويحملوا الأسلحة وقد عرضوا بأحسن زينة وأتمّ عدّة وأعظم هيئة وكان غرضه أن يكسر قلب كلّ من يخرج عليه ، وكان خوفه من أبي الحسن عليه‌السلام أن يأمر أحدا من أهل بيته أن يخرج على الخليفة. فقال له أبو الحسن : وهل تريد أن أعرض عليك عسكري؟ قال : نعم. قال : فدعا الله سبحانه وتعالى فإذا بين السماء والأرض من المشرق إلى المغرب ملائكة مدججون ، فغشي على الخليفة ، فقال له أبو الحسن عليه‌السلام لمّا أفاق من غشوته : نحن لا ننافسكم في الدنيا ، نحن مشتغلون بأمر الآخرة ، فلا عليك منّي ممّا تظنّ بأس ؛ فلأجل ذلك سمّي الإمام أبو الحسن عليّ الهادي عليه‌السلام بالعسكري.

قصر الدكّة

وكان في الحدود الشماليّة الغربيّة لساحة الحير قصر سمّي بالدكّة على ما ذكر في ريّ سامرّاء ، وقال : كان هذا القصر يقع على ضفة نهر القاطول الكسروي اليمنى في شرقي تلّ العليق وكان أمامه بركة مدوّرة تستمدّ مياهها من فرع ينشعب من قنات سامرّاء وهي القناة التي حفرها المتوكّل لإيصال مياه دجلة إلى مدينة سامرّاء كما كانت أمامه ساحة واسعة تبلغ مساحتها حوالي ١٥٠٠ دونم (مشارة) وكانت الساحة مدوّرة بجدار على شكل مستطيل قائم الزوايا يمتدّ الضلع الشمالي مسافة حوالي كيلومترين ونصف بين ضفة القاطول الكسروي وتلّ العليق.

إلى أن قال : وقد ذكر الطبري موقع الدكّة فيما رواه عن حادثة صالح بن وصيف سنة ٢٥٦ ، وجاء ذكر موقع قصر الدكّة أيضا بمناسبة أخرى في الطبري ويرجّح أن يكون قصر الدكّة المذكورة القصر الذي كان يعرف باسم قصر الساج بدليل أنّ

٧٤

البحتري لمّا وصف هذا القصر لم أجد أثر آخر ينطبق عليه وصف البحتري وإنّ هذا القصر يقع خارج سامرّاء في ساحة خضراء مليئة الأشجار المورقة والمزهرة والمثمرة ، وهذا نصّ أبيات البحتري في وصف القصر :

شجر على خضر ترفّ غصونه

من مزهر أو مثمر أو مورق

وكأنّ قصر الساج حلّة عاشق

برزت لوامقها بوجه مونق

قصر تكامل حسنه في قلّة

بيضاء واسطة لبحر محدق

دانى المحل فلا المزار بشاسع

عمّن يزور ولا الفناء بضيّق

قدّرته تقدير غير مفرّط

وبنيته بنيان غير مشفّق

ووصلت بين الجعفريّ وبينه

بالنهر يحمل من جنوب الخندق

نهر كأنّ الماء في حجراته

إفرند متن الصارم المتأنّق

فإذا الرياح لعبن فيه بسطن من

موج عليه مدرّج مترقرق

ألحقه يا خير الورى بمسيره

وامدد فضول عبابه المتدفّق

قصر الجعفري

قال الحموي في المعجم في حرف الجيم : بناه جعفر المتوكّل على الله ابن المعتصم قرب سامرّاء قصرا بموضع يسمّى الماحوزة فاستحدث عنده مدينة وانتقل إليها وأقطع القوّاد منها قطايع فصارت أكبر من سامرّاء ، شقّ إليها نهرا فوهته على عشرة فراسخ من الجعفري يعرف بجبّة دجلة ، وفي هذا القصر قتل المتوكّل في شوّال سنة ٢٤٧ فعاد الناس إلى سامرّاء.

وفي كتاب أبي عبد الله بن عبدوس قال : وفي سنة خمس وأربعين ومائتين بنى المتوكّل الجعفري وأنفق عليه ألفي ألف دينار ، وكان المتولّي لذلك دليل بن يعقوب النصراني كاتب بغا الشرابي ، وكان كلّ دينار في أيّام المتوكّل خمسة وعشرين درهما.

٧٥

قال : ولمّا عزم المتوكّل على بناء الجعفري تقدّم إلى أحمد بن إسرائيل بأن يختار رجلا يتقلّد المستغلّات بالجعفري من قبل أن يبنى وإخراج فضول ما بناه الناس من المنازل فسمّى له أبا الخطّاب الحسن بن محمّد الكاتب فكتب أبو الخطّاب الحسن بن محمّد إلى أبي عون لمّا دعا إلى هذا العمل :

إنّي خرجت إليك من أعجوبة

ممّا سمعت به ولمّا تسمع

سمّيت للأسواق قبل بنائها

ووليت فضل قطائع لم تقطع

فلمّا انتقل المتوكّل من سامرّاء إلى الجعفري انتقل معه عامّة أهل سامرّاء حتّى كادت تخلو فقال في ذلك أبو علي البصري الحسين بن الضحّاك (١) هذه الأبيات :

إنّ الحقيقة غير ما يتوهّم

فاختر لنفسك أيّ أمر تعزم

أتكون في القوم الذين تأخّروا

عن حظّهم أم في الذين تقدّموا

لا تقعدنّ تلوم نفسك حين لا

يجدي عليك تلوّم وتندّم

أضحت قفارا سرّ من راما بها

إن لم تكن تبكي بعين تسجم

كانت تظلّم كلّ أرض مرّة

منهم فصارت بعدهنّ تظلّم

رحل الإمام فأصبحت وكأنّها

عرصات مكّة حين يمضي الموسم

__________________

(١) أبو علي الحسين بن الضحّاك بن ياسر ، الشاعر البصري الخراساني ، أقام في سامرّاء دهرا طويلا ، كان من الشعراء المتصلين بمجالسة الخلفاء ، اتصل بالأمين في سنة ١٧٨ ولم يزل مع الخلفاء بعده إلى أيّام المستعين ، وتوفّي سنة ٢٥٠ وقد قارب عمره مائة سنة ، ويلقّب بالخليع لكثرة مجونه وخلاعته ، وله في مدح سامرّاء قصيدة أوّلها :

سرّ من رأى أسر من بغداد

فله عن بعض ذكرها المعتاد

وله قصيدة في مدح الحجّة عجّل الله فرجه سيأتي في الأجزاء الآتية. ومن شعره :

سل بخدّي خدّيك تلق عجيبا

من معان يحار فيها الضمير

فبخدّيك للربيع رياض

وبخدّي للدموع غدير

ولا يخفى أنّ الخليع هذا غير الخليع الموصلي الحلّي الشيعي الذي هو من شعراء أهل البيت عليهم‌السلام وقد ترجمه العلّامة الأميني في الجزء السادس من الغدير الصفحة ٩.

٧٦

وكأنّما تلك الشوارع بعد ما

أخلت أياد من البلاد وجرهم

كانت معادا للعيون فأصبحت

عظة ومعتبرا لمن يتوسّم

وكأنّ مسجدها المشيد بناؤه

ربع أحال ومنزل مترسّم

وإذا مررت بسوقها لم تثن عن

سنن الطريق ولم تجد من يرحم

وترى الذراري والنساء كأنّهم

خلف أقام وغاب عنه القيّم

فارحل إلى الأرض التي ينحلّها

خير البريّة إنّ ذاك لأحزم

وانزل مجاورة بأكرم منزل

وتيمّم الجهة التي يتيمّم

أرض تسالم صيفها وشتاؤها

فالجسم بينهما يصحّ ويسلم

وصفت مشاربها ورقّ هواؤها

والتذّ برد نسيمها المتنسّم

سهليّة جبليّة لا تحتوي

حرّا ولا قرّا ولا تستوخم

وللشعراء في ذكر الجعفري أشعار كثيرة ، ومن أحسن ما قيل فيه قول البحتري (١) :

قد تمّ حسن (الجعفري) ولم يكن

ليتمّ إلّا بالخليفة جعفر

في رأس مشرفة حصاها جوهر

وترابها مسك يشاب بعنبر

مخضرّة والغيث ليس بساكب

ومضيئة والليل ليس بمقمر

__________________

(١) البحتري ـ بضمّ الباء الموحّدة وسكون الحاء المهملة وضمّ التاء المثنّاة من فوقها وبعدها راء ـ هذه النسبة إلى بحتر وهو أحد أجداده في عمود نسبه أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى الطائي الشاعر المعروف ، كانت ولادته سنة ستّ ومأتين وتوفّي سنة ٢٨٥ عن ثمانين سنة بمنبج ـ بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء الموحّدة بعدها جيم ـ وهي بلدة بالشام بين حلب والفرات ، عذبة الماء ، باردة الهواء ، صلبة الموطأ ، قليلة الأدواء. والبحتري هذا أورده الشيخ عبد الجليل الرازي في شعراء الشيعة وله كتاب حماسة أبي تمام وكتاب معاني الشعر. وكان البحتري لم يزل شعره غير مرتّب حتّى جمعه أبو بكر الصولي ورتّبه على الحروف وجمعه أيضا عليّ بن حمزة الأصبهاني ولم يرتّبه على الحروف بل على الأنواع : ذكره ابن خلّكان في وفيات الأعيان.

٧٧

ملأت جوانبها السماء وعانقت

شرفاتها قطع السحاب الممطر

أزرى على همم الملوك وغضّ عن

بنيان كسرى في الزمان وقيصر

عال على لحظ العيون كأنّما

ينظرن منه إلى بياض المشتري

وشير دجلة تحته وفضاؤه

من لجّة غمر وروض أخضر

شجر تلاعبه الرياح فتنثني

أعطافه في سائح متفجّر

أعطيته محض الهوى وخصصته

بصفاء ودّ منك غير مكدّر

قال ابن خلّكان في وفيات الأعيان في ترجمة أبي العيناء محمّد بن القاسم بن الخلّاد الأهوازي البصري (١) : إنّه دخل على المتوكّل في قصره المعروف بالجعفري

__________________

(١) أبو العيناء هو محمّد بن خلّاد الأهوازي البصري من تلامذة أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري ، كان من أوحد عصره في الشعر ، ولد سنة تسعين ومائة وتوفّي بالبصرة سنة ٢٨٣ لعشر ليال خلون من جمادى الأولى. دخل سامرّاء وتشرّف بخدمة مولانا أبي محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام كما رواه الكليني في باب مولد أبي محمّد عن إسحاق بن محمّد النخعي قال : قال أبو العيناء : كنت أدخل على أبي محمّد فأعطش وأنا عنده فأجلّه أن أدعو بالماء ، فيقول عليه‌السلام : يا غلام ، اسقه ، وربّما حدّثت نفسي بالنهوض فأفكّر في ذلك فيقول عليه‌السلام : يا غلام ، دابّته.

قال في الكنى والألقاب : وفيه دلالة على كونه إماميّا حسن الاعتقاد.

وقال المسعودي في مروج الذهب : في سنة ٢٨٠ انحدر أبو العيناء من مدينة السلام إلى البصرة في زورق فيه ثمانون نفسا فغرق الزورق ولم يخلص ممّن كان فيه إلّا أبو العيناء ، وكان ضريرا ، فتعلّق بطلال الزورق فأخرج سالما ، فتلف كلّ من كان فيه ، فبعد أن سلم ودخل البصرة مات.

وذكره ابن خلّكان وقال : كان أبو العيناء من الظرفاء والأذكياء ، وكان حاضر الجواب ، يجيب أكثر المطالب بالقرآن المجيد ، ويسستشهد به كثيرا ، وإنّه عمي في حدود أربعين من عمره ، فسئل عنه : ما ضرّك العمى؟ فقال : شيئان : أحدهما إنّه فات منّي السبق بالسلام ، والثاني : إنّه ربّما ناظرت الرجل وهو يعبس ويظهر الكراهيّة وأنا لا أراه حتّى أقطع الكلام.

قال ابن خلّكان : دخل يوما على المتوكّل فقال له : كيف شربك للخمر؟ فقال : أعجز عن قليله وأفتضح عند كثيره. فقال له : دع هذا عنك ونادمنا. فقال : أنا رجل مكفوف وكلّ من في مجلسك يخدمك وأنا محتاج أن أخدم ولست آمن من أن تنظر إليّ بعين راض وقلبك عليّ غضبان أو بعين غضبان وقلبك ـ

٧٨

سنة ٢٤٦ ، فقال له : ما تقول في دارنا هذه؟ فقال : إنّ الناس بنوا الدور في الدنيا وأنت بنيت الدنيا في دارك ؛ فاستحسن المتوكّل كلامه.

وقال ابن الأثير في الكامل في حوادث سنة ٢٤٥ : وفي هذه السنة أمر المتوكّل ببناء الماحوزة وسماّه الجعفري ، وأقطع القوّاد وأصحابه فيها ، وجدّ في بنائها ، وأنفق عليها فيما قيل أكثر من ألفي ألف درهم ، وكان يسمّيها هو وأصحابه المتوكّليّة ، وبنى فيها قصر أسماه لؤلؤ لم ير مثله في علوّه ، وحفر لها نهرا يسقي ما حولها ، فقتل المتوكّل فبطل حفر النهر وأخربت الجعفريّة.

ولا يخفى أنّ المتوكّليّة غير قصر الجعفري كما سنتلو عليك. والماحوزة اسم للمكان الذي بنا به الجعفري فعبارة الجزري لا تخلو عن مسامحة.

قال أبو الفداء في تاريخ المختصر : وفي سنة ست وأربعين ومائتين تحوّل المتوكّل

__________________

ـ راض منّي ، ومتى لم أميّز بين هذين هلكت فأختار العافية على التعرّض للبلاء. فقال المتوكّل : بلغني عنك بذأ في لسانك. فقال : يا أمير المؤمنين ، قد مدح الله تعالى وذمّ ، فقال : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ، *) وقال : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ* عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ،) وقال الشاعر :

إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقا

ولم أشتم الشكس اللئيم المذمّما

ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه

وشقّ لي الله المسامع والفما

قال المتوكّل : فمن أين أنت؟ قال : من البصرة. قال : فما تقول فيها؟ قال : مائها أجاج وحرّها عذاب ، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنّم.

قال : ولمّا أسلم نجّاة ابن سلمة إلى موسى بن عبد الله الأصبهاني ليؤدّي ما عليه من الأموال فتلف في مطالبة فاجتمع بعض الرؤساء بأبي العيناء فقال له : ما عندك من خبر نجاة بن سلمة فقال أبو العيناء : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) فبلغت كلمته موسى فلقي أبا العيناء في الطريق فهدّده ، فقال له أبو العيناء : (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ.)

وفي ريحانة الأدب : قال المتوكّل لأبي العيناء : إنّ سعيد بن عبد الملك يضحك عليك ، فقرأ هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ.)

وقيل له : إنّ إبراهيم بن نوح النصراني يقع فيك ولم يرض منك ، فقرأ أبو العيناء : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ،) وله نوادر ولطائف كثيرة.

٧٩

إلى الجعفري وكان قد ابتدأ في عمارته سنة ٢٤٥ وأنفق عليه أموالا تجلّ عن الحصر ، ويقال لمكانه ما حوزة.

وقال الحموي في المعجم عند ذكر سامرّاء : وكان المعتصم والواثق والمتوكّل إذا بنى أحدهم قصرا أو غيره أمروا الشعراء أن يعملوا فيه شعرا ، فمن ذلك قول علي ابن الجهم (١) في الجعفري الذي للمتوكّل :

وما زلت أسمع أنّ الملو

ك تبني على قدر أقدارها

وأعلم أنّ عقول الرجا

ل تقضي عليها بآثارها

__________________

(١) علي بن الجهم بن بدر بن الجهم بن الشامي من بني شامة ابن لؤي ، وضبطه ابن خلّكان السامي بالسين المهملة ، وهذه النسبة إلى سامة بن لؤي. سكن سامرّاء وكان من مشاهير الشعراء ، ونبغ في القرن الثالث وطار صيته في الآفاق ، وله اختصاص بجعفر المتوكّل ، فقرّبه وأكرمه ولكنّه كرهه لما ينقل عنه أنّه كان كثير السعاية بالناس ، فأمر المتوكّل بحبسه ثمّ نفاه بعد سنة ، وكان مع انحرافه عن عليّ بن أبي طالب وإظهار التسنّن مطبوعا مقتدرا على الشعر ، عذب الألفاظ ، فلمّا نفاه المتوكّل إلى خراسان كتب إلى طاهر ابن عبد الله بن الطاهر بن الحسين أنّه إذا ورد عليه صلبه يوما ، فوصل إلى نيسابور فحبسه طاهر ثمّ أخرجه فصلبه مجرّدا نهارا كاملا ، ثمّ رجع إلى العراق ثمّ خرج إلى الشام وبعد ذلك ورد على المستعين كتاب من صاحب البريد بحلب أنّ عليّ بن الجهم خرج من حلب متوجّها إلى العراق فخرج عليه وعلى جماعة معه خيل من بني كلب فقاتلهم قتالا شديدا ولحقه الناس وهو جريح بآخر رمق ، فتوفّي في وقته في شعبان سنة ٢٤٩ ، ومن شعره بعد خلاصه من السجن :

قالوا حبست فقلت ليس

بضائري

حبسي وأيّ مهنّد لا يغمد

أو ما رأيت الليث يألف غيلة

كبرا وأوباش السباع تردّد

والشمس لو لا أنّها محجوبة

عن ناظريك لما أضاء الفرقد

والبدر يدركه السرار فتنجلي

أيّامه وكأنّه متجدّد

ريحانة الأدب

فلمّا هجاه مروان بن أبي حفصة وكان بينهما عداوة شديدة قال في جوابه :

بلاء ليس يعد له بلاء

عدوة غير ذي حسب ودين

يبيحك منه عرضا لم يصنه

ويرتع منك في عرض مصون

وسيأتي في ترجمة المتوكّل هجوه.

٨٠