مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-035-8
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٠٨

العلوج من غلمانك الأتراك فأسكنتهم بيننا فأيتمت صبياننا وأرملت بهم نسواننا وقتلت رجالنا ، والمعتصم يسمع ذلك ، فدخل منزله ولم ير راكبا مثل ذلك اليوم ، فخرج فصلّى بالناس العيد ولم يدخل بغداد بل سار إلى ناحية القاطول ولم يرجع إلى بغداد.

صفة غلمان المعتصم وذهابهم إلى سامرّاء

قال الحموي في المعجم : قال مسرور الكبير : سألني المعتصم وقال لي : أين كان الرشيد يتنزّه إذا ضجر من بغداد؟ قلت : بالقاطول ، وكان قد بنى هناك مدينة آثارها وسورها قائم ، وكان قد خاف من الجند ما خفت ، فلمّا وثب أهل الشام بالشام وعصوا خرج إلى الرقّه فأقام بها وبقيت مدينة القاطول لم تستتم ، ولمّا خرج المعتصم إلى القاطول استخلف ببغداد ابنه الواثق وكان المعتصم قد اصطنع قوما من أهل الحرف بمصر واستخدمهم وسمّاهم المغاربة ، وجمع خلقا من سمرقند وأشروسنة وفرغانة وسمّاهم الفراغنة وكانوا من أصحابه وبقوا بعده.

وفي المراصد : أشر وسنة ـ بالضمّ ثمّ السكون وضمّ الراء وواو ساكنة وسين مهملة مفتوحة ونون وهاء ـ بلدة كبيرة بما وراء النهر من بلاد الهياطلة بين سيحون وسمرقند ، بينها وبين سمرقند ستّة وعشرون فرسخا.

والهياطلة جمع ، واحدها هيطل ، وهو اسم لبلاد ماوراء النهر وهي بخارى وسمرقند وخجند ، وبين ذلك ، هيطل بالفتح ثمّ السكون وفتح الطاء المهملة.

وفرغانة ـ بالفتح ثمّ السكون وغين معجمة وبعد الألف نون ـ مدينة وكورة واسعة بماوراء النهر متاخمة لبلاد تركستان. وفي رواية من ناحية هيطل من جهة مطلع الشمس على يمين القاصد لبلاد الترك واسعة الرستاق يقال كان بها أببعون

٤١

منبرا وبينها وبين سمرقند خمسون فرسخا ، ومن ولايتها خجند.

وقال المسعودي في مروج الذهب : كان المعتصم يحبّ جمع الأتراك وشراءهم من أيدي مواليهم ، فاجتمع له منهم أربعة آلاف فالبسهم أنواع الديباج والمناطق المذهّبة والحلّة المذهّبة ، وأبانهم بالزي عن سائر جنوده ، وقد كان اصطنع قوما من حوف (١) مصر ومن حوف اليمن وحوف قيس فسمّاهم المغاربة ، واستنفذ من رجال خراسان من الفراغنة والأشر وسنة وغيرهم فكثر جيشه فكانت الأتراك تؤذي العوام بمدينة السلام حين يجري خيولهم في الأسواق وينال منها الضعفاء والصبيان ، فكان أهل بغداد ربّما صاروا ببعضهم فقتلوه عند صدمة المرأة أو شيخ كبير أو صبيّ أو ضرير ، فعزم المعتصم على النقلة منهم وأن ينزل في فضاء من الأرض فنزل الرازان (٢) على أربعة فراسخ من بغداد فلم يستطب هواءها ولا اتسع له فضاؤها ، فلم يزل ينتقل إلى الموضع والأماكن من دجلة وغيرها حتّى انتهى إلى الموضع المعروف بالقاطول ؛ فاستطاب الموضع وكان هناك قرية يسكنها خلق من الجرامقة وناس من النبط (٣) على النهر المعروف ب «القاطول» أخذا من دجلة ، فبنى هناك قصرا ، وبنى الناس وانتقلوا من مدينة السلام وخلت من السكّان إلّا اليسير ، وكان فيما قاله بعض العيّارين في ذلك معيّرا للمعتصم بانتقاله عنهم :

أيا ساكن القاطول بين الجرامقه

تركت ببغداد الكباش البطارقه

ثمّ لحق به الأتراك وغلمانه ، وكان من جملتهم أشناس وأيتاخ ووصيف وسيما الدمشقي.

__________________

(١) حوف ـ بالفتح وسكون الواو والفاء ـ الوادي والناحية.

(٢) رازان الأعلى ورازان الأسفل كورتان ببغداد تشمل على قرى كثيرة. (المراصد)

(٣) قوم ينزلون أباطيح بين العراقين ، والجمع أنباط كسبب وأسباب ، والنبطية منسوبة إليهم. قيل : إنّهم عرب استعجموا ، أو عجم استعربوا. (مجمع)

٤٢

بناء المعتصم القاطول قرب سامرّاء

قال أحمد بن أبي يعقوب إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح الكاتب الأصبهاني ـ الشهير ب «اليعقوبي» وب «ابن واضح» من نوابغ القرن الثالث المتوفّى بعد سنة ٢٧٨ ـ في تاريخ البلدان (١) : فلمّا قدم المعتصم بغداد في منصرفه من طرطوس في السنة التي بويع له بالخلافة وهي سنة ثمان عشرة ومأتين ، نزل دار المأمون ثمّ بنى دارا في الجانب الشرقي من بغداد وانتقل إليها وأقام بها في سنة ٢١٨ و ٢١٩ و ٢٢٠ و ٢٢١ وكان معه خلق من الأتراك وهم يومئذ عجم.

أعلمني جعفر الخشكي قال : كان المعتصم يوجّه بي في أيّام المأمون إلى سمرقند إلى نوح بن أسد في شراء الأتراك فكنت أقدم عليه في كلّ سنة منهم بجماعة ، فاجتمع له في أيّام المأمون منهم زهاء ثلاثة آلاف غلام ، فلمّا أفضت الخلافة إليه ألحّ في طلبهم واشترى ببغداد جماعة جملة منهم أشناس وكان مملوكا لنعيم بن حازم ، وأيتاخ كان مملوكا لسلام بن الأبرش ، ووصيف كان زرادا مملوكا لآل النعمان ، وسيما الدمشقي كان مملوكا لذي الرياستين الفضل بن سهل ؛ كان أولئك الأتراك العجم إذا ركبوا الدوابّ ركضوا فيصدمون الناس يمينا وشمالا فيبثّ عليهم الغوغاء فيقتلون بعضا ويضربون بعضا وتذهب دماؤهم هدرا لا يعتنون على من فعل ذلك.

فثقل ذلك على المعتصم وعزم على الخروج من بغداد فخرج على الشماسيّة وهو الموضع الذي كان المأمون يخرج إليه فيقيم به الأيّام والشهور ، فعزم أن يبني بالشماسيّة خارج بغداد مدينة فضاقت عليه أرض ذلك الموضع وكره أيضا قربها من بغداد فمشى إلى البردان بمشورة الفضل ابن مروان وهو يومئذ وزير ، وذلك في

__________________

(١) تاريخ البلدان : ٢٣ طبع النجف.

٤٣

سنة إحدى وعشرين ومأتين ، وأقام بالبردان أيّاما ، وأحضر المهندسين ثمّ لم يرض الموضع فصار إلى موضع يقال له باحمشا (١) من الجانب الشرقي من دجلة وعلى القاطول ، فابتدأ البناء وأقطع القوّاد والكتّاب والناس فبنوا حتّى ارتفع البناء واختطّت الأسواق على القاطول وعلى دجلة ، وسكن هو في بعض ما بني له ، وسكن بعض الناس أيضا ، ثمّ قال : أرض القاطول غير طائلة وإنّما هي حصا وأفهار والبناء بها صعب جدّا وليس لأرضها سعة ، ثمّ ركب متصيّدا فمرّ في مسيره حتّى صار إلى موضع سرّ من رأى صحراء من أرض الطيرهان لا عمارة بها ولا أنيس فيها إلّا دير النصارى.

سبب اختيار المعتصم سرّ من رأى دون غيرها

قال المسعودي في مروج الذهب : إنّ المعتصم لمّا تأذّى بالقاطول ونالته شدّة عظيمة لبرد الموضع وصلابة أرضه وتعذّر البناء فيه حىّ في ذلك يقول بعض من كان في الجيش :

قالوا لنا أنّ بالقاطول مشتانا

فنحن نأمل صنع الله مولانا

الناس يأتمرون الرأي بينهم

والله في كلّ يوم محدث شانا

فخرج المعتصم يتقرّى المواضع حتّى انتهى إلى موضع سامرّاء وكان هناك دير عادى النصارى فسأل بعض أهل الدير عن اسم الموضع فقال : يعرف بسامرّاء ، قال له المعتصم : وما معنى سامرّاء؟ قال : نجدها في الكتب السالفة والأمم الماضية أنّها مدينة سام بن نوح. قال له المعتصم : ومن أيّ بلاد هي؟ وإلى م تضاف؟ قال : من بلاد طبرهات وإليها تضاف. فنظر المعتصم إلى فضاء واسع تسافر فيه الأبصار

__________________

(١) باحمشا ـ بسكون الميم والشين المعجمة ـ قرية بين أوانا والخطيرة على دجلة القديمة. (المراصد)

٤٤

وهواء طيّب وأرض صحيحة فاستطاب هواءها وأقام هناك ثلاثا يتصيّد في كلّ يوم يجد نفسه تتوّق إلى الغذاء وتطلب الزيادة على العادة الجارية فعلم أنّ ذلك لتأثير الهواء والتربة ، فلمّا استطاب الموضع دعا بأهل الدير فاشترى منهم أرضهم بأربعة آلاف دينار وارتاد لبناء قصره موضعا فيها فأسّس بنيانه وهو الموضع المعروف ب «الوزيريّة» بسرّ من رأى ، وإليها يضاف التين الوزيري وهو أعذب أتيان وأرقّها قشرا وأصغرها حبّا ، لا يبلغه تين الشام ولا تين أهان وحلوان (١).

اشتياق المعتصم تمصير سامرّاء

فمرّ في مسيره حتّى صار إلى موضع سرّ من رأى وكان بها دير النصارى ، فوقف بالدير وكلّم من فيه من الرهبان وقال : ما اسم هذا الموضع؟ قيل له : يسمّى سرّ من رأى وإنّه كان مدينة سام بن نوح ، وإنّه سيعمر بعد الدهور على يد ملك جليل مظفّر منصور له أصحاب كأنّ وجوههم وجوه طيور الفلاة ، ينزلها وينزل ولده بها. فقال : أنا والله أبنيها وأنزلها وينزلها ولدي ، أفلا أخبركم بما سمعت من أبي هارون الرشيد؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين.

قال : إنّ أبي هارون الرشيد أمر يوما أن يخرج ولده إلى الصيد ، فخرجت مع

__________________

(١) حلوان ـ بالضمّ ثمّ السكون ـ هي أحد حدود العراق وهي التي تسمّى اليوم «پل زهاب» سمّيت باسم حلوان بن عمران بن قضاعة ، كان أقطعه إيّاها بعض الملوك فسمّيت به ، وكانت مدينة عامرة لم يكن بالعراق بعد البصرة والكوفة وواسط وبغداد أكبر منها ، وأكثر ثمارها التين ، وهي بقرب الجبل وليس للعراق بقرب الجبل غيرها ، وكان بها رمّان ليس في الدنيا مثله ، وتينها يسمّى «ماء أنجير» لجودته ، وحواليها عيون كبريتيّة ينتفع بها من عدّة الأدواء.

وأمّا أهان الذي ذكره فلم يعلم المراد منه ولم تذكر في المعاجم التي بأيدينا بلدة أو قرية بهذا الاسم ، ولعلّه تصحيف ألهان ـ باللام بعد اللألف على وزن عطشان ـ وهو مخلاف باليمن بينه وبين العرف عشرة فراسخ ، والله العالم.

٤٥

محمّد الأمين والمأمون وأكابر ولد الرشيد ، فاصطاد كلّ واحد منّا صيدا واصطدت بومة ثمّ انصرفنا وعرضنا صيدنا عليه ، فجعل من كان معنا من الخدم يقول : هذا صيد فلان ، وهذا صيد فلان حتّى عرض عليه صيدي ، فلمّا رأى البومة وقد كان الخدم أشفقوا من عرضها لئلّا يتطيّر بها أو ينالني منه غلظة ، فقال : من صاد هذه؟ قالوا : أبو إسحاق ، فاستبشر وضحك وأظهر السرور ثمّ قال : أمّا إنّه يلي الخلافة ويكون جنده وأصحابه الغالبون عليه قوما وجوههم مثل وجه هذه البومة فيبني مدينة قديمة وينزلها هؤلاء القوم ثمّ ينزلها ولده من بعده ، وما سرّ الرشيد يومئذ بشيء من الصيد كما سرّ بصيدي لتلك البومة.

ثمّ عزم المعتصم على أن ينزل بذلك الموضع ، فأحضر محمّد بن عبد الملك الزيّات وابن أبي دؤاد وعمر بن فرج وأحمد بن خالد المعروف ب «أبي الوزير» وقال لهم : اشتروا من أصحاب هذا الدير هذه الأراضي فادفعوا إليهم ثمنها أربعة آلاف دينار ، ففعلوا ذلك ، ثمّ أحضر المهندسين فقال : اختاروا أصلح هذه المواضع فاختاروا عدّة مواضع للقصور وصيّر إلى كلّ رجل من أصحابه بناء قصر.

صفة بناء سامرّاء وتمصيرها بأمر المعتصم

قال اليعقوبي : فصيّر إلى خاقان عرطوج أبي الفتح بن خاقان بناء الجوسق الخاقاني ، وإلى عمر بن فرج بناء القصر المعروف بالعمري ، وإلى أبي الوزير بناء القصر المعروف بالوزيري ، ثمّ خطّ القطائع للقوّاد والكتّاب والناس ، وخطّ المسجد الجامع ، واختطّ الأسواق حول المسجد الجامع ، ووسّعت صفوف الأسواق ، وجعلت كلّ تجارة منفردة ، وكلّ قوم على حدّتهم مثل ما رسمت عليه أسواق بغداد ، وكتب في أشخاص الفعلة والبنّائين وأهل المهن من الحدّادين

٤٦

والنجّارين وسائر الصناعات وفي حمل الساج وسائر الخشب والجذوع من البصرة وما والاها من بغداد وسائر السواد من أنطاكيّة وسائر سواحل الشام ، وفي حمل عملة الرخام وفرش الرخام فأقيمت باللاذقيّة وغيرها دور صناعة الرخام ، وأفرد قطايع الأتراك عن قطايع الناس جميعا وجعلهم معتزلين عنهم لا يختلطون بقوم من المولّدين ولا يجاورهم إلّا الفراغنة.

صفة قطايع سامرّاء وشوارعها

وأقطع أشناس وأصحابه الموضع المعروف بالكرخ ، وضمّ إليه عدّة من قوّاد الأتراك والرجال ، وأمره أن يبني المساجد والأسواق.

وأقطع خاقان عرطوج وأصحابه ممّا يلي الجوسق الخاقاني ، وأمر بضمّ أصحابه ومنعهم من الاختلاط بالناس.

وأقطع وصيفا وأصحابه ممّا يلي الحير ، وبنى حائطا سماّه حائر الحير ممتدّا ، وصيّرت قطايع الأتراك جميعا والفراغنة العجم بعيدة من الأسواق والزحام في شوارع واسعة ودروب طوال ليس معهم في قطائعهم ودروبهم أحد من الناس يختلط بهم من تاجر ولا غيره ، ثمّ اشترى لهم الجواري فزوّجهم منهنّ ومنعهم أن يتزوّجوا ويصاهروا إلى أحد من المولّدين إلى أن ينشأ لهم الولد فيتزوّج بعضهم إلى بعض ، وأجرى لجواري الأتراك أرزاقا قائمة ، وأثبت أسماءهنّ في الدواوين فلم يكن يقدر أحد منهم يطلّق امرأة ولا يفارقها.

ولمّا أقطع أشناس التركي في آخر البناء مغربا وأقطع أصحابه معه وسمّى الموضع الكرخ ، أمره أن لا يطلق الغريب من تاجر ولا غيره مجاورتهم ، ولا يطلق معاشرة المولّدين ، فوقع قوما آخرين فوق الكرخ وسمّاه الدور ، وبنى لهم في خلال الدور

٤٧

والقطايع المساجد والحمّامات ، وجعل في كلّ موضع سويقة فيها عدّة حوانيت للفاميين والقصّابين ومن أشبههم ممّن لا بدّ لهم منه ولا غنى عنه ، وواقع الأفشين حيدر ابن كاوس الأشر سوني في آخر البناء شرقا على قدر فرسخين ، وسمّى الموضع المطيرة ، فأقطع أصحاب الأشر وسنيّة وغيرهم من المضمومين إليه حول داره ، وأمره أن يبني فيما هناك سويقة فيها حوانيت للتجّار فيما لا بدّ منه ومساجد وحمّامات.

واستقطع الحسن بن سهل بناء آخر الأسواق ، وكان آخرها الجبل الذي صار فيه خشبة بابك الخرّمي ، وبين المطيرة موضع قطيعة أفشين ، وليس في ذلك الموضع يومئذ شيء من العمارات ، ثمّ أحدقت العمارة به حتّى صار قطيعة الحسن بن سهل وسط سرّ من رأى ، وامتدّ بناء الناس من كلّ ناحية واتصل البناء بالمطيرة.

وجعلت الشوارع لقطايع قوّاد خراسان وأصحابهم من الجند والشاكريّة ، وعن يمين الشوارع ويسارها الدروب فيها منازل الناس كافّة.

الشارع الأعظم

وكان الشارع المعروف بالسريجة وهو الشارع الأعظم ممتدّا من المطيرة إلى الوادي المعروف في هذا الوقت بوادي إسحاق بن إبراهيم ؛ لأنّ إسحاق بن إبراهيم انتقل من قطيعته في أيّام المتوكّل فبنى على رأس الوادي واتسع في البناء ثمّ قطيعة إسحاق بن يحيى بن معاذ ، ثمّ اتصل قطايع الناس يمنة ويسرة في هذا الشارع الأعظم وفي دروب من جانبي الشارع الأعظم تنفذ إلى شارع يعرف بشارع أبي أحمد وهو أبو أحمد بن الرشيد من أحد الجانبين ، وتنفذ إلى دجلة وما قرب منها

٤٨

من الجانب الآخر ، وتمرّ القطايع إلى ديوان الخراج الأعظم وهو في هذا الشارع الكبير.

وفي هذا الشارع قطايع قوّاد خراسان منها قطيعة هاشم بن بانيجور ، وقطيعة عجيف بن عنبسة ، وقطيعة الحسن بن علي المأموني ، وقطيعة هارون بن نعيم ، وقطيعة حزام بن غالب ، وظهر قطيعة حزام الاصطبلات لدوابّ الخليفة الخاصّة والعامّة يتولّاها حزام ويعقوب أخوه ، ثمّ مواضع الرطابيين وسوق الرقيق في مربعة فيها طرق متشعّبة فيها الحجر والغرف والحوانيت للرقيق ، ثمّ مجلس الشرطة والحبس الكبير ومنازل الناس والأسواق في هذا الشارع يمنة ويسرة مثل سائر البيّاعات ، ويتّصل ذلك إلى خشبة بابك ثمّ السوق العظمى ، لا تختلط بها المنازل ، كلّ تجارة منفردة ، وكلّ أهل مهنة لا يختلطون بغيرهم ، ثمّ الجامع القديم الذي لم يزل يجمع فيه إلى أيّام المتوكّل ، فضاق على الناس فهدّمت وبنى مسجدا جامعا واسعا.

وفي طريق الحير المسجد الجامع والأسواق من أحد الجانبين ، ومن الجانب الآخر القطايع والمنازل والأسواق من أصحاب البيّاعات الدنيّة مثل أصحاب الفقاع والهرائس والشراب. وقطيعة مبارك المغربي وسويقة مبارك وجبل جعفر الخيّاط ، وفيه كانت قطيعة جعفر ، ثمّ قطيعة العبّاس بن علي ابن المهدي ، ثمّ قطيعة عبد الوهّاب ابن علي بن المهدي ، ويمتدّ الشارع وفيه قطايع عامّة إلى دار هارون بن المعتصم وهو الواثق عند دار العامّة وهي الدار التي نزلها يحيى بن أكثم في أيّام المتوكّل لمّا ولّاه قضاء القضاة ، ثمّ باب العامّة ودار الخليفة وهي دار العامّة التي يجلس فيها يوم الإثنين ، ثمّ الخزائن الخاصّة وخزائن العامّة ، ثمّ قطيعة مسرور وسمانة الخادم وإليه الخزائن ، ثمّ قطيعة قرقاش الخادم وهو خراساني ، ثمّ قطيعة ثابت الخادم ، ثمّ قطيعة أبي الجعفاء وسائر الخدم الكبار.

٤٩

الشارع الثاني

ويعرف بشارع أبي أحمد ؛ وهو أبو أحمد بن الرشيد. أوّل هذا الشارع من المشرق دار بختيشوع المتطبّب التي بناها في أيّام المتوكّل ، ثمّ قطايع قوّاد خراسان ومن العرب ومن أهل قم وأصبهان وقزوين والجبل وآذربايجان يمنة في الجنوب ممّا يلي القبلة فهو نافذ إلى شارع السريجة الأعظم. وما كان ممّا يلي الشمال ظهر القبلة فهو نافذ إلى شارع أبي أحمد ديوان الخراج الأعظم ، وقطيعة عمر ، وقطيعة للكتّاب وسائر الناس ، وقطيعة أبي أحمد بن الرشيد في وسط الشارع ، وفي آخره ممّا يلي الوادي الغربي الذي يقال له وادي إبراهيم بن رياح قطيعة ابن أبي داود وقطيعة الفضل بن مروان ، وقطيعة محمّد بن عبد الملك الزيّات ، وقطيعة إبراهيم بن رياح في الشارع الأعظم ، ثمّ تتّصل الاقطاعات في هذا الشارع وفي الدروب إلى يمنة ويسرة إلى قطيعة بغا الكبير ، ثمّ قطيعة سيما الدمشقي ، ثمّ قطيعة وصيف القديمة ، ثمّ قطيعة أيتاخ ، ويتّصل ذلك إلى باب البستان وقصور الخليفة.

٥٠

الشارع الثالث

هو شارع الحير الأوّل الذي صارت فيه دار أحمد بن الخطيب في أيّام المتوكّل ، فأصل هذا الشارع من المشرق ومن الوادي المتّصل بوادي إسحاق بن إبراهيم ، وفيه قطايع الجند والشاكريّة وأخلاط الناس ، ويمتدّ إلى وادي إبراهيم بن رياح.

الشارع الرابع

ويعرف بشارع برغامش التركي ، فيه قطايع الأتراك والفراغنة ودروب الأتراك منفردة ودروب الفراغنة منفردة ، والأتراك في الدروب التي في القبلة والفراغنة بإزائهم بالدروب التي في ظهر القبلة كلّ درب بإزاء درب لا يخالطهم أحد من الناس ، وآخر منازل الأتراك وقطائعهم قطايع الخزر ممّا يلي المشرق ، أوّل هذا الشارع من المطيرة عند قطايع الأفشين التي صارت لوصيف وأصحاب وصيف ، ثمّ يمتدّ الشارع إلى الوادي الذي يتّصل بوادي إبراهيم بن رياح.

الشارع الخامس

ويعرف بصالح العبّاسي وهو شارع الأسكر ، فيه قطايع الأتراك والفراغنة ، والأتراك أيضا في دروب منفردة ، والفراغنة في دروب منفردة ، ممتدّ من المطيرة إلى دار صالح العبّاسي التي على رأس الوادي ، ويتّصل ذاك بقطايع القوّاد والكتّاب والوجوه والناس كافّة.

الشارع السادس

هو شارع الحير الجديد ، فيه أخلاط من الناس من قوّاد الفراغنة والأسر وشنيّة

٥١

والأشناسيّة والخجنديّة وغيرهم من سائر كور خراسان ، وهذه الشوارع التي من الحير كلّما اجتمعت إلى إقطاعات القوم هدم الحائط ، وبني خلفه حائط غيره ، وخلف الحائط الوحش من الظباء والحمير والأيايل والأرانب والنعام ، وعليها حائط يدور في صحراء حسنة واسعة.

الشارع السابع

ويعرف بشارع الخليج وهو الذي كان على دجلة وهناك السفن والتجارات التي ترد من بغداد وواسط وكسكر وسائر السواد من البصرة والأبلة والأهواز وما اتصل بذلك ومن الموصل والجزيرة وديار ربيعة وغيرها. وفي هذا الشارع قطايع المغاربة كلّهم أو أكثرهم ، والموضع المعروف بالأزلاخ الذي عمّر بالرجالة المغاربة في أوّل ما اختطّت سرّ من رأى ، واتسع الناس في البناء بسرّ من رأى أكثر من اتساعهم ببغداد ، وبنوا المنازل الواسعة إلّا أنّ شربهم جميعا من دجلة ممّا يحمل في الروايا على البغال وعلى الإبل ؛ لأنّ آبارهم بعيدة الرشا ثم هي مالحة غير سائغة ، لها اتساع في الماء ولكن دجلة قريبة والروايا كثيرة.

وبلغت غلّات ومستغلّات سرّ من رأى وأسواقها عشرة آلاف ألف درهم في السنة ، وقرب مجمل ما يؤتى به من الميرة وللوصل وعربات وسائر ديار ربيعة في السفن في دجلة فصلحت أسعارهم.

إنشاء المعتصم العمارات والبساتين في الجانب الغربي من دجلة

قال اليعقوبي في البلدان (١) : لمّا فرغ المعتصم من الخطط ووضع الأساس للبناء في

__________________

(١) البلدان : ٣٠.

٥٢

الجانب الشرقي من دجلة وهو جانب سرّ من رأى ، عقد جسرا إلى الجانب الغربي من دجلة فأنشأ هناك العمارات والبساتين والأجنّة وحفر الأنهار ومن دجلة وصيّر إلى كلّ قائد عمارة ناحية من النواحي ، وحمل النخل من بغداد والبصرة وسائر السواد ، وحملت الغروس من الجزيرة والشام والجبل والري وخراسان وسائر البلدان ، فكثرت المياه في هذه العمارة في الجانب الشرقي بسرّ من رأى ، وصلح النخل ، وثبتت الأشجار ، وزكت الثمار ، وحسنت الفواكه ، وحسن الريحان والبقل ، وزرع الناس أصناف الزرع والرياحين والبقول والرطاب ، وكانت الأرض مستريحة ألوف سنين فزكا كلّ ما غرس فيها وزرع بها حتّى بلغت غلّة العمارات بالنهر المعروف بالإسحاقي وما عليه والأيتاخي والعمري والعبد الملكي ودالية بن حماد والمسروري وسيف والعربات المحدثة وهي خمس قرى ، والقرى السفلى وهي سبع قرى ، والأجنّة والبساتين وخراج الزرع أربعمائة ألف دينار في السنة.

وأقدم المعتصم من كلّ بلد من يعمل عملا من الأعمال أو يعالج مهنة من مهن العمارة والزرع والنخل والغرس وهندسة الماء ووزنه واستنباطه والعلم بمواضعه من الأرض ، وحمل من مصر من يعمل القراطيس وغيرها ، وحمل من البصرة من يعمل الزجاج والخزف والحصر ، وحمل من الكوفة من يعمل الأدهان ، ومن سائر البلدان من أهل كلّ مهنة وصناعة ، وأنزلوا بعيالهم بهذه المواضع وأقطعوا فيها ، وجعل هناك أسواقا لأهل المهن بالمدينة.

وبنى المعتصم العمارات قصورا ، وصيّر في كلّ بستان قصرا فيه مجالس وبرك وميادين ، فحسنت العمارات ورغب وجوه الناس في أن يكون بها لهم أدنى أرض ، وتنافسوا في ذلك ، وبلغ الجريب من الأرض مالا كبيرا. ثمّ مات المعتصم سنة ٢٢٧.

قال المسعودي في مروج الذهب : لمّا ارتفع البنيان وأحضر له الفعلة والصنّاع

٥٣

وأهل المهن من سائر الأمصار ، ونقل إليها من سائر البقاع أنواع الغروس والأشجار ، فجعل للأتراك أقطاعا متحيّزة وجاورهم بالفراغنة والأشر وسنيّة وغيرهم من مدن خراسان على قدر قربهم منهم في بلادهم ، وأقطع أشناس التركي وأصحابه من الأتراك الموضع المعروف بكرخ سامرّاء ، ومن الفراغنة من أنزلهم الموضع بالعمري والحير ، واختطّت الخططت واقتطعت القطايع والشوارع والدروب ، وأفرد أهل كلّ صنعة بسوق وكذلك التجّار ، فبنى الناس وارتفع البنيان وشيّدت الدور والقصور وكثرت العمارة واستنبطت المياه وجرت من دجلة وغيرها ، وتسامع الناس أنّ دار الملك قد اتخذت فقصدوها وجهّزوا إليها من أنواع الأمتعة وسائر ما ينتفع به الناس من الحيوان وغيرها ، وكثر العيش واتسع الرزق ، وشملهم الإحسان ، وعمّهم العدل ، وكان بدء ما وصفناه سنة ٢٢١.

عمارة سامرّاء في عصر الواثق بالله ابن المعتصم

قال اليعقوبي : لمّا توفّي المعتصم في سنة سبع وعشرين ومأتين ولي الخلافة ابنه هارون الواثق فبنى القصر المعروف بالهاروني على دجلة وجعل فيه مجالس في دكّة شرقيّة ودكّة غربيّة وانتقل إليه وزادت الإقطاعات وقرّب قوما وباعد ديار قوم على الأخطاء لا على الأبعاد ، فأقطع وصيفا دار أفشين التي بالمطيرة ، وانتقل وصيف عن داره القديمة إلى دار أفشين ولم يزل يسكنها ، وكان أصحابه ورجاله حوله ، وزاد في الأسواق وعظمت الفرض التي تردها السفن من بغداد وواسط والبصرة والموصل ، وجدّد الناس البناء وأحكموه وأتقنوه لما علموا أنّها قد صارت مدينة عامرة ، وكانوا قبل ذلك يسمّونها العسكر ، ثمّ توفّي الواثق في سنة ٢٣٢.

٥٤

[ترجمة الواثق بالله]

الواثق بالله هو هارون بن المعتصم ، ولد لعشر بقين من شعبان سنة ستّ وتسعين ومأة ، ومات بسرّ من رأى يوم الأربعاء لستّ بقين من ذي الحجّة سنة مأتين واثنتين وثلاثين. وقيل : ستّا وثلاثين ، بعلّة الاستسقاء ، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيّام ، وكان عمره اثنين أو ستّا وثلاثين سنة ، وكان أبيضا تعلوه صفرة ، حسن اللحية ، في عينيه نكتة ، أمّه أمّ ولد اسمها قراطيس.

وكان الواثق تبع أباه وجدّه في القول بخلق القرآن ، وقتل أحمد بن نضر الخزاعي بعد أن أحضره من بغداد إلى سامرّاء مقيّدا ، وحمل رأسه إلى بغداد ، وصلبت جثّته في سرّ من رأى لأنّه يقول أنّ القرآن ليس بمخلوق ، وكتب الواثق ورقة وعلّقها في أذن أحمد بن نضر : هذا رأس أحمد بن نضر بن مالك ، دعاه عبد الله الإمام الهارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيبه فأبى إلّا المعاندة فعجّل الله بروحه إلى النار ، ووكّل بالرأس من يحفظه ويصرفه عن القبلة برمح.

وكان الواثق وافر الأدب ، مليح الشعر ، أعلم الخلفاء بالغناء والأصوات وألحان عملها نحو مأة صوت ، وكان حاذقا يضرب العود ، راويا للأشعار والأخبار.

قال السيوطي : ولم يكن في خلفاء بني العبّاس أكثر رواية للشعر من الواثق.

وقيل : كان أروى من المأمون ، وكان المأمون قد مزج بعلم العرب وعلم الأوائل من النجوم والطبّ والمنطق ، وكان الواثق لا يخلط بعلم القرب شيئا ، وكان كثير الأكل جدّا.

قال ابن فهم : كان للواثق خان من ذهب مؤلّف من أربع قطع ، يحمل كلّ قطعة

٥٥

عشرون رجلا ، وكلّ ما عليه من ذهب من سكرجة (١) وغضارة وصحفة ، فسأله ابن أبي دؤاد أن لا يأكل عليه للنهي عنه ، فأمر أن يكسر ذلك ويضرب ويحمل إلى بيت المال.

وفي العقد الفريد (٢) : إنّ الواثق إذا شرب وسكر رقد في موضعه الذي سكر فيه ، وكان الواثق أكولا ، وكان مفتونا بحبّ البازنجان ، وكان يأكل في أكلة واحدة أربعين بازنجان.

وقال القرماني في أخبار الدول : إنّ الواثق كان مؤثر الكثرة الجماع ، فقال للطبيب : اصنع لي دواءا للباه. فقال له الطبيب : يا أمير المؤمنين ، لا تهدم بذلك حياتك واتّق الله في نفسك. فقال : لا بدّ من ذلك ، فأمره الطبيب أن يأخذ له لحم سبع فيغلى عليه سبع غليات على جمر ويتناول منه إذا شرب ثلاثة دراهم ولا يتجاوز هذا القدر. فأمر بذبح سبع فذبح وطبخ كما وصفه الطبيب وصار يتنقّل منه على شرابه فلم يكن إلّا قليلا حتّى استقى فأجمع رأي الأطبّاء على أن لا دواء له إلّا أن يكشف بطنه وينزل في تنّور قد سجر بحطب زيتون حتّى يصير جمرا ، ثمّ يجلس فيه ويمنع عن الماء ثلاث ساعات ، ففعلوا ذلك به فجعل يستغيث ويطلب الماء فلم يسقوه ، فصار في جسده نقاط مثل البطّيخ ثمّ أخرجوه فجعل يقول : ردّوني إلى التنّور وإلّا أموت ، فردّوه فسكن صياحه ، وانفجرت تلك النقاط وقطر منها ماء ، فاخرج من التنّور وقد اسودّ جسده ، فمات بعد ساعة وهو ابن ستّ وثلاثين سنة وأشهر.

__________________

(١) السكرجة ـ بضمّ السين وسكون الكاف وضمّ الراء وفتح الجيم ـ الصحفة التي يوضع فيها الأكل.

(٢) العقد الفريد ٣ : ٢٥٦.

٥٦

عمارة سامرّاء في عصر المتوكّل ؛ جعفر بن المعتصم

قال : لمّا توفّي الواثق ولي جعفر المتوكّل فنزل قصر الهاروني وآثره على جميع قصور المعتصم ، وأنزل ابنه محمّد المنتصر قصر المعتصم المعروف بالجوسق ، وأنزل ابنه إبراهيم المؤيّد بالمطيرة ، وأنزل ابنه المعتزّ خلف المطيرة شرقا بموضع يقال له بلكوار ، فاتصل البناء من بلكوار إلى آخر الموضع المعروف بالدور مقدار أربعة فراسخ ، وزاد في شوارع الحير شارع الأسكر والشارع الجديد.

بناء المسجد الجامع والملوية

وبنى المسجد الجامع في أوّل الحير في موضع واسع خارج المنازل ، لا يتّصل به شيء من القطائع والأسواق ، وأتقنه ووسّعه وأحكم بناءه وجعل فيه فوّارة ماء لا ينقطع ماؤها ، وجعل الطرق إليه من ثلاثة صفوف واسعة عظيمة من الشارع الذي يأخذ من وادي إبراهيم بن رياح ، في كلّ صفّ حوانيت فيها أصناف التجارات والصناعات والبيّاعات ، عرض كلّ صفّ مائة ذراع بالذراع المتعارف لئلّا يضيق عليه الدخول إلى المسجد إذا حضر المسجد في الجمع في جيوشه وجموعه وبخيله ورجله.

ومن كلّ صفّ الذي يليه دروب وسكك فيها قطايع جماعة من عامّة الناس فاتسعت على الناس المنازل والدور واتسع أهل الأسواق والمهن والصناعات في تلك الحوانيت والأسواق التي في صفوف المسجد الجامع. وأقطع نجاح بن سلمة الكاتب في آخر الصفوف ممّا يلي قبلة المسجد ، وأقطع أحمد بن إسرائيل الكاتب أيضا بالقرب من ذلك ، وأقطع محمّد بن موسى المنجّم وإخوته وجماعة من الكتّاب والقوّاد والهاشميّين وغيرهم.

٥٧

وقال المسعودي في مروج الذهب : إنّ المتوكّل بنى مسجدا جامعا فأعظم النفقة عليه وأمر برفع منارة لتعلوا أصوات المؤذّنين فيها وينظر إليها من فراسخ ، فجمع الناس فيه فتركوا المسجد الأوّل واشتقّ من دجلة قناتين شتويّة وصيفيّة تدخلان الجامع وتتخلّلان شوارع سامرّاء ، واشتقّ نهرا آخر وقدّر للدخول الحير ، فمات قبل أن يتمّ ، وحاول المنتصر تتميمه فلقصر أيّامه لم يتمّ ، ثمّ اختلف الأمر بعده فبطل النهر وكان المتوكّل أنفق عليه سبعمائة ألف دينار.

وقال البلاذري في فتوح البلدان (١) : وبنى المتوكّل مسجدا جامعا كبيرا ، وأعظم النفقة عليه ، وأمر برفع منارة لتعلو أصوات المؤذّنين فيها حتّى نظر إليها من فراسخ فجمع الناس فيه فتركوا المسجد الأوّل ـ يعني الذي بناه المعتصم ـ.

__________________

(١) فتوح البلدان : ٢٩٥.

٥٨

وقال ابن العماد الحنبلي (١) نقلا عن الشذور : قد تمّ جامع سرّ من رأى فبلغت النفقة عليه ثلاثمائة آلاف وثمانية آلاف ومأتين واثنى عشر دينارا.

وقال محمّد خداوند شاه الشافعي في خاتمة كتابه روضة الصفا : إنّ سامرّاء كانت من قديم الزمان موصوفة بالعمارات العالية وتعدّ من الأمصار المعتبرة العظيمة ، وإنّها كانت أطيب بلاد العراق هواء وأعذبها ماء ، ولأجل ذلك سمّيت سرّ من رأى ، ثمّ إنّها خربت وخرابها بلغ الغاية إلى أوان الدولة العبّاسيّة ، فلمّا ولي المعتصم وهو ثامنهم أخذ في عمارتها وتمصيرها وانتقل إليها فصارت أكبر أمّهات البلاد من كثرة القصور الشاهقة والأبنية الجليلة ، فبلغ طولها سبعة فراسخ.

وإنّ المعتصم أمر عسكره أن يملئوا مخاليهم من التراب ونبذوه في فضاء واسع حتّى صار جبلا عظيما ثمّ بنى عليه قصرا عاليا وأعظم النفقة عليه وأسّس بنيان المسجد الجامع واتسع فضاؤها وارتفع بنيانها وأكثر النفقة عليها ، وجعل في وسط المسجد آنية كبيرة من صخرة ملساء قطرها نصف الذراع وأطرافها ثلاثة وعشرون ذراعا وارتفاعها سبعة أذرع ، وفي جنب المسجد بنى منارة طولها مائة وسبعون ذراعا وكانوا يصعدون عليها من الخارج وهي من عجائب الأبنية حتّى قيل : لم يخلق مثلها قبل ذلك ، انتهى.

وهي الآن موجودة في شمالي سامرّاء الحاليّة ويقال لها «الملوية» لالتواء بنائها الهندسي على شكل مخروطي ، يقصدها الزائرون للبلدة ، وهي واقعة في شمال جامع المتوكّل.

__________________

(١) شذرات الذهب ٢ : ٨٧.

٥٩

وسبب بنائها على هذه الصورة هو ما ذكره اليعقوبي في البلدان (١) قال : أنفق عليه ـ يعني أحمد بن طولون على الجامع ـ مائة وعشرين ألف دينار ، وقال له الصنّاع : على أيّ مثال نعمل المنارة ـ وما كان يعبث قطّ في مجلس ـ؟ فأخذ درجا من الكاغذ وجعل يعبث به فخرج بعضه وبقي بعضه في يده فعجب الحاضرون

__________________

(١) البلدان : ١٣٠ طبع النجف.

٦٠