مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-035-8
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٠٨

من بساتين وحدائق وقصور على الجانب الأيمن من نهر دجلة وهي المشتملات التي تقع بين نهر دجلة ونهر الإسحاقي والتي تمتدّ على طول ضفة دجلة الغربيّه مقابل سرّ من رأى ، ولا شكّ أنّ هذه المساحة الهائلة تجعل مدينة سرّ من رأى في عداد أكبر مدن العالمين القديم والحديث.

إلى أن قال : غير أنّ هذا الازدهار العجيب لم يستمرّ مدّة طويلة لأنّ المدينة تفقد صفة العاصمة التي كانت علّة وجودها وعامل كيانها قبل أن يمضي نصف قرن على نشأتها فأخذ في الاقفرار والاندراس بسرعة هائلة لا تضاهيها سرعة ، وبعد أن كان الناس يسمّونها باسم سرّ من رأى أضحوا يسمّونها ساء من رأى ، وبعد أن كان الشعراء يتسابقون في مدح قصورها أخذوا يسترسلون في رثاء أطلالها. وفي الواقع ماتت سامرّاء ميتة فجائيّة بعد عمر قصير لم يبلغ نصف القرن ، وأمست رموسا وأطلالا.

واعلم أنّ الموصل استوت عليه سفينة نوح عليه‌السلام ، ولمّا نضب الماء وكان طريق سام من بازبدى إلى جوخى أرض سامرّاء فحيث رأى طيب هوائها وسعة فضائها وعذوبة مائها ابتنى بها مدينة سامرّاء فصارت آهلة عظيمة عامرة ثمّ كثر فيها عبدة الأوثان.

ويقول حمد الله المستوفي المتوفّى ١٧٤٠ أو خمسين : إنّ مدينة سامرّاء أنشأها في الأصل سابور الثاني ذو الأكتاف ولمّا كان إقليمها طيّبا عرفت بسرّ من رأى. ويقال : إنّ الناس خفّفوا هذه النسبة فقالوا سامراء. وقد ذكرها البحتري شاعر المتوكّل بهذه الصفة في قصيدته المتعلّقة بإعدام بابك الحزمي :

أخليت منه البذّ وهي قراره

ونصبته علما بسامراء

ويؤيّد ذلك الحفريّات التي شاهدناها في زماننا هذا من صنوف الأصنام. وكان الأمر كذلك إلى أن استولى عليها الإكاسرة فمدّنوا فيها المدائن والقصور الشاهقة

٢١

وكرّوا فيها الأنهار وغرسوا الأشجار حتّى كان يقال لها من كثرة الأشجار والأنهار أرض السواد ، فأصبحت سامرّاء من أحسن مدن العراق لطيب هوائها وعذوبة مائها وقلّة دائها واعتدال فصولها وكثرة أورادها ورياحينها ، ثمّ استولى عليها القياصرة في أيّام خسرو پرويز وغلبت الروم على الفرس فطردوا المجوس والوثنيّين من سامرّاء وزادوا فى قصورها وعماراتها كما ستعرف عند ذكر ديارات سامرّاء ، واكثروا فيها الصوامع والكنايس إلى أن ظهر الإسلام.

فلمّا أرسل سعد بن أبي وقّاص جيشا عليه عبد الله بن المعتم لفتح تكريت في سنة ست عشرة من الهجرة وافتتحها المسلمون ، افتتحوا سامرّاء أيضا لأنّ بينهما تسعة فراسخ فخاف النصارى على أنفسهم من المسلمين فجعلوا يتفرّقون فبقيت سامرّاء تتناقص على مرّ الزمان وكان آخر خرابها في أيّام فتنة الأمين والمأمون كما عرفت آنفا من كتاب التنبيه والأشراف للمسعودي ، فبقيت صحراء لا عمارة فيها سوى عدّة ديارات للنصارى.

قال الحموي في المعجم : فأراد السفّاح تمصير سامرّاء فبنى مدينة الأنبار بحذائها وأراد المنصور بعد ما أسّس بغداد بناءها وسمع في الرواية ببركة هذه المدينة فابتدأ بالبناء في البردان ثمّ بدا له وبنى بغداد. وأراد الرشيد أيضا بناءها فبنى بحذائها قصرا وهو بحذاء أثر عظيم للأكاسرة كان قديما ثمّ بناها المعتصم ونزلها في سنة إحدى وعشرين.

٢٢

تعيين درجة سامرّاء

قال الحموي في المعجم : سرّ من رأى مدينة كانت بين بغداد وتكريت على شرقي دجلة وقد خربت.

وقال أبو سعيد : سامراء بلد على دجلة فوق بغداد بثلاثين فرسخا يقال لها سرّ من رأى فخفّفها الناس وقالوا سامرّاء ؛ وهي في الإقليم الرابع طولها تسع وستّون درجة وثلثا درجة ، وعرضها سبع وثلاثون درجة وسدس تعديل نهارها أربع عشرة ساعة ، غاية ارتفاع الشمس بها تسع وسبعون درجة وثلث ، ظلّ الظهر درجتان وربع ، ظلّ العصر أربع وعشرة درجة ، بين الطولين ثلاثون درجة ، سمت القبلة إحدى عشرة درجة وثلاث عشرة ، وبها السرداب المعروف في جامعها الذي تزعم الشيعة أنّ مهديّهم يخرج منه.

أقول : الشيعة لا يزعمون أنّ مهديّهم يخرج من السرداب وإنّما نسب إليهم ذلك من أراد نبزهم بهذه الخرافات التي هم بريئون منها براءة الذئب من دم يوسف ، وحاشاهم عن مثل هذه التلفيقات التي لفّقها من أراد الحطّ من كرامتهم ، بل اتفقت أحاديثهم على أنّ المهدي عجّل الله تعالى فرجه يكون بدء ظهوره في مكة المعظّمة في دار هجرته الكوفة ولا ينكر الشيعة أنّ بعض الأولياء تشرّفوا بخدمته عجّل الله تعالى فرجه في السرداب كما سنتلو عليك فيما بعد.

وقد تبع صاحب المعجم في هذه النسبة الكاذبة صاحب كتاب مراصد الاطلاع

٢٣

في معرفة الأمكنة والبقاع حيث قال : سامرّاء على دجلة من شرقيّها تحت تكريت وحين انتقل المعتضد عنها وسكن بغداد خربت ولم يبق منها الآن إلّا يسير ، ولها أخبار طويلة والباقي منها الآن موضع كان يسمّى بالعكسر كان عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر وابنه الحسن بن عليّ يسكنان بها وهما العسكريّان فنسبا إليه وبها دفنا وعليهما مشهد يزار فيه ، وفي هذا المشهد سرداب فيه سرب (١) تزعم الرافضة أنّه كان للحسن بن عليّ الذي ذكرناه ابن اسمه محمّد صغير غاب في ذلك السرداب وهم إلى الآن ينتظرونه.

أقول : الشيعة متفقون على أنّ إمامهم الثاني عشر اسمه محمّد وهو ابن الحسن العسكري عليه‌السلام وهو غائب غيبة كبرى عن الأنظار بشخصه خوفا من كيد الأعداء وهم ينتظرون خروجه فيملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا وهم يروون روايات متواترة في ذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله الأطهار عليهم‌السلام ولا يحفلون بتنبّز نابز أو بقدح قادح. وأمّا ما رماهم به المخالفون من أنّهم ينتظرون خروجه من السرداب المذكور فلا ظلّ له من الحقيقة ، والحقايق لا تثبت بالأكاذيب. ومن الغريب أنّ صاحب المراصد استنكف من الاعتراف بوجود ولد للعسكري عليه‌السلام حيث عبّر بقوله «تزعم الرافضة» وذهب مذهب من قال في شعره اللاذع :

ما آن للسرداب أن يلد الذي

سمّيتموه بزعمكم إنسانا

فعلى عقولكم العفاء فإنّكم

ثلثتم العنقاء والغيلانا

مع أنّ أكابر علماء السنّة قد شحنوا كتبهم بذلك وإليك أنموذجا من أسمائها :

كتاب مناقب المهدي للحافظ أبي نعيم الأصبهاني ذكر فيه صفة المهدي باسمه وكنيته.

__________________

(١) السرب ـ بفتحتين ـ الحفير تحت الأرض.

٢٤

كتاب صفة المهدي أيضا له ذكر فيه شمائله عجّل الله تعالى فرجه.

كتاب البيان في أخبار صاحب الزمان لأبي عبد الله محمّد بن يوسف الكنجي الشافعي ـ مطبوع ـ.

كتاب عقد الدرر في أخبار الإمام المنتظر لأبي بدر يوسف بن يحيى السلمي.

كتاب أخبار المهدي للسيّد علي الهمداني الشافعي صاحب مودّة القربى.

كتاب كشف المخفي في أخبار المهدي جمع فيه مائة وعشرة أحاديث من أخبار إخواننا من أبناء السنّة في وجود المهدي ومناقبه وشأنه عجّل الله فرجه.

كتاب الملاحم لأبي الحسن أحمد بن جعفر بن محمّد بن عبد الله المناوي.

كتاب سعد الدين الحمويني ذكر فيه مناقب المهدي عجّل الله تعالى فرجه.

كتاب البرهان في أخبار صاحب الزمان لعلي المتقي صاحب كنز العمّال وقد أكثر في كنز العمّال في الجزء السادس أيضا الروايات في شأن المهدي عجّل الله تعالى فرجه.

كتاب أخبار المهدي لعباد بن يعقوب الرواجني.

كتاب العرف الوردي في أخبار المهدي لعبد الرحمان السيوطي.

كتاب مطالب السئول لمحمّد بن طلحة الشافعي.

كتاب الفصول المهمّة لابن صبّاغ المالكي.

كتاب تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي.

كتاب الفتوحات لمحي الدين العربي.

كتاب اليواقيت للشعراني.

كتاب شواهد النبوّة لعبد الرحمان الجامي الحنفي.

كتاب روضة الأحباب للسيّد عطاء الله الشافعي.

كتاب فصل الخطاب لخواجه پارسا.

٢٥

كتاب مرآة الأسرار للعارف عبد الرحمان من مشايخ الطريقة.

كتاب لواقح الأنوار للشعراني ينقل فيه عن الشيخ حسن العراقي.

كتاب الحديث المسلسل لإبراهيم البلاذري.

كتاب مواليد الأئمّة ووفياتهم لابن الخشّاب.

كتاب الخصائص لأحمد بن شعيب النسائي.

كتاب مودّة القربى للسيّد علي الهمداني الشافعي.

كتاب مناقب السادات لشهاب الدين الدولت آبادي.

كتاب فرائد السمطين للعلّامة محمّد بن إبراهيم الحموي الخراساني.

كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي المكّي.

كتاب نور الأبصار للشيخ الشبلنجي.

كتاب ينابيع المودّة للشيخ سليمان القندوزي البلخي ؛ كلّها مطبوع منتشر ، وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

فإذا اعترف أكثر من مأتين من الأساتذة الأعلام من إخواننا السنّة بصفة المهدي وحياته وظهوره في آخر الزمان فلا يضرّنا خلاف من خالفنا بتأنيفاته ، ويأتي تفصيل المقام في الجزء الآخر. وهذه الكتب إمّا مختصّة بذكر صاحب الزمان أو مشتمل بذكر حياته الطيّبة.

ثمّ تقدّم أنّ هذه المساحة الهائلة تمتدّ اليوم أمام أنظار الزائر وتتوالى تحت أقدام المسافر إلى أبعاد شاسعة لا يقلّ امتدادها عن الخمسة وثلاثين من الكيلومترات وعند ما يتجوّل المرأ بين هذه الأطلال المترامية الأطراف ويتأمّل في السرعة العظيمة التي امتاز بها تأسيس مدينة سامرّاء وتوسّعها من جهة وإقفرارها من جهة أخرى لا يتمالك نفسه من السائل عن العوامل التي سيطرت على مقدّرات هذه المدينة العظيمة وصيّرت قصّة حياتها بهذا الشكل الغريب.

٢٦

أقول : سيمرّ عليك أسباب إقفرارها واندراسها بصورة تفصيليّة بعونه تعالى.

قال الحموي في المعجم : كان سام بن نوح له جمال ورواء ومنظر ، وكان يصيف بالقرية التي ابتناها نوح عليه‌السلام عند خروجه من السفينة ببازبدى وسمّاها ثمانين ، ويشتو بأرض جوخى وكان ممرّه من أرض جوخى إلى بازبدى على شاطي دجلة من الجانب الشرقي ، ويسمّى ذلك المكان الآن سام راه يعني طريق سام. وقيل : نزل فيها قوم من اليهود يقال لهم السامري فسمّيت سامرا باسمهم ، ولا منافاة بينهما.

وقيل في وجه التسمية أنّها كانت موضع أخذ الخراج قالوا بالفارسية ساء مرّه أي هو موضع أخذ الخراج.

وقال حمزة (١) : ساء اسم الأتاوة (ككتابة الخراج والرشوة).

ومرّة اسم العدد والمعنى أنّه مكان قبض العدد أي عدد جزية الرؤوس. وإليه أشار العلّامة الخبير السماوي عليه الرحمة في وشايح السرّاء في شأن سامرّاء :

أو إنّ ذاك مقبض الأتاوة

من الرعايا لذوي العلاوة

فلفظ سا أتاوة إلى الملك

ولفظ مرّا عدد لم يرتبك

وكان كسرى يأخذ الخراجا

في ذلك الموضع حيث راجا

وصحّفت على كلا القولين

بالهمز والتشديد في حرفين

ثمّ أتى لنحوها المعتصم

إذا اشتكت بغداد ممّا يصم

لأنّ جنده إذا ما بانا

حطّم من على الطريق كانا

حتّى اشتكوا إليه أهل الخيل

وحذّروه من سهام الليل

__________________

(١) كانت سامراء مدينة عتيقة من مدن الفرس تحمل إليها الإتاوة التي كانت موظفة لملك الفرس على ملك الروم ، ودليل ذلك قائم في اسم المدينة لأنّ سا اسم الإتاوة ، ومرّة اسم العدد والمعنى أنّه مكان قبض عدد جزية الروم. (معجم البلدان)

٢٧

فارتاد سامرّاء للأجناد

واختارها من سائر البلاد

فسمّيت سرّ وسرّ من رأى

وسامرا كأصلها الذي نأى

ثمّ بنى ما شاء من دساكر

فسرّ من رأى من العساكر

وسرّ من رآه وسرى فإذن

لغاتها سبع لمن بها سكن

وسمّيت عسكر إذ معناها

مجتمع الجنود في مغناها

فهي محلّ الجمع المنصوص

أو العموم تابع الخصوص

وسمّيت سا من رأى من بعد ما

أمسى البنا بعقرها منهدما

٢٨

بدء بناء سامرّاء

قال الحموي في المعجم أنّ إبراهيم الجنيدي قال : سمعتهم يقولون : إنّ سامرّاء بناها سام بن نوح عليه‌السلام ودعا أن لا يصيب أهلها سوء.

قال في المجمع : سام أحد بني نوح عليه‌السلام وهو أبو العرب.

وفي السير : سام وحام ويافث أولاد نوح عليه‌السلام والذي خصّ به نوح بالاسم الأكبر وميراث العلم وآثار النبوّة سام دون أخويه.

وفي البحار : كانت أمّ سام عمورة بنت ضمران بن أخنوخ وهو إدريس عليه‌السلام وهي أوّل من آمنت بنوح عليه‌السلام فلمّا استقرّت السفينة على جبل الجودي وهو بقرب الموصل نزل نوح عليه‌السلام وأصحابه وأولاده وهم ثمانون فبنى بلدة سمّاها أبو الثمانين.

وفي قصص الأنبياء : فذهب حام بن نوح إلى الهند وذهب يافث إلى بلاد الترك ، وذهب سام إلى الكوفة موضع السفينة ، وكان في أيّام الشتاء بأرض جوخى ، وفي أيّام الصيف بأرض بازبدى.

وفي مراصد الاطلاع : جوخاء ـ بالخاء المعجمة والمدّ ـ موضع بالبادية ، وجوخى ـ بالقصر ـ نهر عليه كورة واسعة في سواد بغداد بالجانب الشرقي منه. قالوا : ولم يكن ببغداد مثل كورة جوخى ، كان خراجها ثمانين ألف ألف درهم ، فلمّا صرفت دجلة عنها خربت وأصابهم بعد ذلك طاعون ، ولم يزل السواد في إدبار من ذلك الطاعون.

٢٩

قال في المراصد : بازبدى ـ بفتح الزاء المعجمة وسكون الباء الموحدّة مقصورة ـ كورة من ناحية جزيرة ابن عمر في غربي دجلة تقابل بافردى وهي كورة في شرقيّها ، وبازبدى قرية منها تقابل جزيرة ابن عمر ، وبالقرب منها جبل الجودي وقرية أبي الثمانين التي ابتناها نوح عليه‌السلام حين خرج من السفينة. والجودي ـ بالياء المشدّدة ـ : جبل مطل على جزيرة ابن عمر في شرقيّ دجلة.

عمارة سامرّا ، في عصر هارون الرشيد

قال الحموي في المعجم : كان هارون الرشيد حفر نهرا عند سامرّاء سمّاه القاطول وأتى الجند ، وبنى عنده قصرا ، ثمّ بنى المعتصم أيضا هناك قصرا ووهبه لمولاه أشناس (١) فلمّا ضاقت بغداد من عساكره وأراد استحداث مدينة كان هذا الموضع على خاطره فجاءه وبنى عنده سرّ من رأى.

ذكر الدكتور أحمد سوسه في كتابه «ري سامرّاء» (٢) وقال : وكانت منطقة القاطول والقادسية من أحبّ المتنزّهات وساحات الصيد لدى خلفاء بني العبّاس فكانوا يقصدونها لقضاء أوقات طربهم وأمنهم فيها كما كانوا يقصدونها للقنص والصيد حيث كانت أطيار البرّ والماء موفورة في المنطقة نفسها.

وقد جاء في الأغاني ما يشير إلى أنّ المعتصم كان يقضي بعض أوقاته في منطقة القاطول وهذا بعض ما ذكره صاحب الكتاب في هذا الصدد قال : أخبرني عمّي قال : حدّثنا أبو عبد الله المرزباني قال : حدّثني إبراهيم بن دلف العجلي قال : كنّا مع المعتصم بالقاطول وكان إبراهيم بن المهدي في حراقة ـ أي سفينة ـ بالجانب الغربي

__________________

(١) أشناس من فراعنة الأتراك وكان مملوكا لنعيم بن حازم اشتراه المعتصم.

(٢) ري سامرّاء ١ : ٢٤٣.

٣٠

وأبي وإسحاق الموصلي في حراقتيهما في الجانب الشرقي ، فدعاهما يوم الجمعة فصرنا إليه وأنا معهما وأنا صغير وعلى أقبية ومنطقة ، فلمّا دنونا من حراقة إبراهيم نهض ونهضنا ونهضت بنهوضه صبية يقال لها غضة ، وإذا في يديه كأسان فلمّا صعدنا إليه اندفع فغنّى :

حيّا كما الله خليليّا

إن ميتا كنت وإن حيّا

إن قلتما خيرا فأهل له

أو قلتما غيّا فلا غيّا

ثمّ ناول لكلّ واحد منهم كأسا وأخذ هو الكأس الذي كانت في يد الجارية وقال : اشربا على ريقكما ثمّ دعا بالطعام فأكلوا وشربوا ثمّ أخذوا العيدان فغنّاهما ساعة وغنّاه وضرب وضربا معه وغنّت الجارية بعدهم فقال لها أبي «أحسنت» مرارا ، فقال له : إن كانت أحسنت فخذها إليك ، فما أخرجتها إلّا إليك.

وإليك ما ذكره إبراهيم بن الحسن بن سهل عن الواثق وهو يتصيّد على القاطول ، قال : كنّا مع الواثق بالقاطول وهو يتصيّد فصاد صيدا حسنا وهو في الزو (١) من الإوز والدراج وطير الماء وغير ذلك ، ثمّ رجع نتغدى ودعا بالجلساء والمغنّين وطرب وقال : من ينشدنا؟ فقام الحسين بن الضحّاك فأنشده :

سقى الله بالقاطول مسرح طرفكا

وخصّ بسقياه مناكب قصركا

الخ. بالجملة وقد بلغت منطقة القاطول والقادسيّة ذروتها في الجمال والتنسيق على عهد المتوكل فقد أنشأ المتوكّل الساحة الواسعة الواقعة بين القاطول الأعلى الكسروي وقاطول الرشيد الأسفل (نهر القائم) وأنشأ فيها حديقة فسيحة للحيوانات ، ثمّ أقام على الطرف الجنوبي من هذه الحديقة قصرا واسعا في مكان قصر الرشيد القديم وساحته كبيرة خلف القصر تتصل بضفة القاطول الأسفل اليسرى.

__________________

(١) الزو : نوع من السفاين.

٣١

إلى أن قال : وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه البساتين كانت تروى من القاطول الأعلى الكسروي بالطريقة السيحيّة. وتدلّ الروايات المحليّة المتواترة على أنّه عثر على بعض جذور نخيل قديمة في جوف الأراضي المذكورة أثناء حرثها أو حفر الآبار فيها ممّا يؤيّد أنّها كانت بساتين نخيل.

وقال في حرف القاف : القاطول ، فاعول من القطل وهو القطع وقد قطلته أي قطعته. والقطل والمقطول أي المقطوع اسم نهر كأنّه مقطول من دجلة وهو نهر كان في موضع سامرّاء قبل أن تعمر ، وكان الرشيد أوّل من حفر هذا النهر وبنى على فوهته (١) قصرا وسمّى ذلك النهر أتى الجند لكثرة ما كان يسقى من الأرضين وجعله لأرزاق جنده.

وفوق هذا القاطول الكسروي حفرة كسرى أنوشيروان العادل يأخذ من جانب دجلة في الجانب الشرقي أيضا وعليه شاذروان فوقه يسقى رستاقا بين النهرين من طسوج بزرجسابور (٢) وحفر بعده الرشيد هذا القاطول الذي قدمنا ذكره تحته وهو أيضا يصبّ في نهروان تحت الشاذروان.

وقال جحظة البرمكي يذكر القاطول والقادسيّة المجاورة لها :

ألا هل إلى الغدران والشمس طالعة

سبيل ونور الخير مجتمع الشمل

ومسترشف للعين تغدو ظباؤه

صوائد ألباب الرجال بلا نبل

إلى شاطئ القاطول بالجانب الذي

به القصر بين القادسيّة والنخل

إلى مجمع للطير فيه رطانة

يطيف به القنّاص بالخيل والرجل

فحانة من عيد اليهوديّ إنّها

مشهّرة بالراح معشوقة الأهل

__________________

(١) فوهه جمعه أفواه المراد هنا فم النهر.

(٢) الطسوج كسفود الناحية معرب ، وبزرجسابور يأتي في محلّه.

٣٢

وكم راكب ظهر الظلام مفلّس

إلى قهوة صفراء معدومة المثل

إذا نفذ الخمّار دنّا بمنزل

تبيّنت وجه السكر في ذلك النزل

وكم من صريع لا يدير لسانه

ومن ناطق بالجهل ليس بذي جهل

ترى شرس الأخلاق من بعد شربها

جديرا ببذل المال والخلق السهل

جمعت بها شمل الخلاعة برهة

وفرّقت ما لا غير مصغ إلى العذل

لقد غنيت دهرا بقربى نفيسة

فكيف تراها حين فارقها مثلي

جحظة البرمكي النديم أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد البرمكي دخل سامرّاء وأقام بها مدّة ثمّ رحل إلى واسط وتوفي فيها سنة ٣٢٤ وحمل إلى بغداد وكان فاضلا صاحب فنون ونجوم ونوادر ومنادمة ، حسن الأدب ، كثير الرواية والأخبار ، مقبول الألفاظ ، حاضر النادرة ، وأمّا صنعته في الغناء فلم يلحقه فيها أحد وله الأشعار الرائقة. ومن شعره قوله :

أنا ابن أناس موئل الناس جودهم

فأضحوا حديثا للنوال المشهّر

فلم يخل من أحسابهم لفظ مخبر

ولم يخل من تقريظهم بطن دفتر

وله أيضا :

قد نادت الدنيا على نفسها

لو كان في العالم من يسمع

كم واثق بالعمر وارينه

وجامع بدّدت ما يجمع

ومن شعره في رثاء ابن دريد :

فقدت يابن دريد كلّ فائدة

لمّا غدا ثالث الأحجار والترب

ما كنت أبكي لفقد الجور مجتهدا

فصرت أبكي لفقد الجود والأدب

وله مؤلّفات منها : الترنّم ، وديوان الشعر ، وكتاب الطبخ ، وكتاب الطنبوريون ، وكتاب فضائل السكباج ، وكتاب مجرّبات المنجّمين ، وكتاب المشاهدات.

وجحظة ـ بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة وفتح الظاء المعجمة ـ لقّبه بذلك

٣٣

عبد الله بن معتز أي الجاحظ الصغير ؛ لأنّه كان مشوّه الخلق. وله ذكر في تاريخ بغداد والأغاني ولابن الرومي فيه :

نبثت جحظته يستعير جحوظته

من فيل شطرنج ومن سرطان

وا رحمة لمنادميه تحمّلوا

ألم العيون للذّة الآذان

وقال ابن بسّام :

لجحظة المحسن عندي يد

أشكرها منه إلى المحشر

لمّا أراني وجه برزونه

وصانني من وجهه المنكر

وكانت وفاته سنة ٣٢٤ وولادته سنة ٢٢٤ فعلى هذا عاش مائة سنة.

[ترجمة هارون الرشيد]

أمّا هارون الرشيد ابن محمّد مهدي بن المنصور عبد الله بن محمّد بن علي بن عبد الله ابن العبّاس بن عبد المطّلب خامس خلفاء بني العبّاس وكان مولده بالري في سنة ثمان وأربعين ومائة ، وأمّه أمّ ولد تسمّى خيزران ، وكان أبيضا طويلا جميلا مليحا فصيحا ، له نظر في العلم والأدب ، ولي الخلافة وهو ابن إحدى وعشرين سنة ، ومات بطوس وهو ابن أربع وأربعين سنة وأربعة أشهر ، وكان وفاته يوم السبت لأربع ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ١٩٣ وكانت ولايته ثلاث وعشرين سنة وستّة أشهر.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام حين أخبر عن الخلفاء من بني العبّاس : «خامسهم كبشهم».

وكان هارون من أمراء الخلفاء وأجلّ ملوك الدنيا ، وكان يحبّ المديح ويجزل عليه الأموال الجزيلة ، مولعا في اللهو واللذّات المحظورة ، والغناء ، وإهراق الدماء ،

٣٤

وغصب الحقوق ، وما أوقع على آل الرسول من الحبس والقتل والسمّ والإجلاء سيّما موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، وقتله ستّين علويّا في ليلة واحدة وعذره على يحيى بن عبد الله العلوي صاحب الديلم ، وقتله في الحبس ، وقتله إدريس بن عبد الله الحسن المثنّى وعبّاس بن محمّد بن عبد الله بن عليّ بن الحسين عليهم‌السلام ، وايقاعه بالبرامكة. وهو أوّل خليفة لعب بالشطرنج من بني العبّاس ، وأوّل خليفة يلعب بالصولجة والكرة ، ورمى النشّاب في البرجاس ، واوّل من جعل للمغنّين مراتب وطبقات. وقال الجاحظ : اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره : وزرائه البرامكة ، وقاضيه أبو يوسف ، وشاعره مروان بن أبي حفصة ، ونديمه العبّاس بن محمّد عمّ أبيه ، وحاجبه الفضل بن الربيع ؛ أنبه الناس وأعظمهم ، ومغنّيه إبراهيم الموصلي ، وزوجته زبيدة ، وله أخبار ونوادر كثيرة سيأتي في محلّها.

[ترجمة المعتصم]

أمّا المعتصم هو أبو إسحاق محمّد بن الرشيد ، ثامن الخلفاء العبّاسيّين ، ولد سنة ثمانين ومائة ، وأمّه أمّ ولد واسمها مارده ، عاش ثمانيا وأربعين سنة ، ومات لثمان بقين من ربيع الأوّل بسامرّاء ودفن فيها سنة سبع وعشرين ومأتين ، وبويع له بالخلافة بعد المأمون في شهر رجب سنة ثمان عشر ومأتين ، ومدّة ملكه ثمان سنين وثمانية أشهر وثمانية أيّام. ويقال له : المثمّن ؛ لأنّه ثامن الخلفاء ، والثامن من ولد العبّاس ، وثامن أولاد الرشيد ، وخلافته ثمان سنين وثمانية أشهر وثمانية أيّام ، وعاش ثمانيا وأربعين سنة ، وطالعه العقرب وهو ثامن البروج ، وفتح ثمانية فتوحات ، وقتل ثمانية ملوك ، ووقع في خدمته ثمانية ملوك من العجم ، وخلّف ثمانية بنين وثماني بنات ، وخلّف من الذهب ثمانية آلاف دينار ، ومن الدراهم ثمانية

٣٥

عشر ألف ألف درهم ، ومن الخيل ثمانين ألف فرس ، ومن الجمال والبغال مثل ذلك ، ومن المماليك ثمانية آلاف مملوك ، وثمانية آلاف جارية ، وبنى ثمانية قصور ؛ هكذا في مرآة الجنان لعبد الله بن أسعد اليافعي في حوادث سنة ٢٢٧ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي.

قالوا : وكانت له نفس سبعيّة ، وإذا غضب لم يبال بمن قتل ولا بما فعل ، وكان عريا من العلم ، وكان ذا شجاعة وقوّة وهمّة.

قال ابن أبي دؤاد : كان المعتصم يخرج ساعده إليّ ويقول : يا أبا عبد الله ، عضّ ساعدي بأكثر قوّتك ، فأمتنع فيقول : إنّه لا يضرّني ، فأروم ذلك فإذا هو لا تعمل فيه الأسنّة فضلا عن الأسنان ، وكان من أشدّ الناس بطشا ، كان يجعل زند الرجل بين إصبعيه فيكسره.

وهو أوّل خليفة أدخل الأتراك في الديوان ، وكان يتشبّه بملوك الأعاجم ويمشي مشيهم ، وبلغت غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفا ، ولم يجتمع بباب أحد من الملوك قطّ مثل اجتماعهم بباب المعتصم ، ولا ظفر ملك قطّ كظفره ؛ أخذ ملك آذربايجان أسيرا ، وكذلك ملك طبرستان وملك سيستان وملك أشباصح وملك فرغانة وملك طخارستان وملك صفّة وملك كابل ، وظفر على بابك الخرّمي الذي ظهر في سنة ١٠١ ، وكان مسكنه في البذّ وهي كورة بين آذربيجان وأران ، وقتلوا من أصحابه ستّين ألف وهرب باقيهم إلى بلاد الروم ، فلمّا أخذ بابك ساروا به إلى سامرّاء فأركبوه على فيل فأدخل دار العامّة إلى المعتصم ، فأحضر الجزّار ليقطع يديه ورجليه فقطعهما فشقّ بطنه فوجّه برأسه إلى خراسان وصلب بدنه بسامرّاء عند العقبة ، وكان جميع من قتل بابك في مدّة عشرين سنة مأتي ألف وخمسة وخمسين ألفا وخمسمائة إنسان ، واستنقذ ممّن كان في يد بابك من المسلمات وأولادهم سبعة آلاف وستّة مأة إنسان ، وأخربوا وأحرقوا دورهم وقصورهم

٣٦

حتّى لا يبقى لهم قصر ولا دار.

والمعتصم هو الذي فتح العموريّة وهي عاصمة ملكهم ، وأمنع وأحصن بلادهم ، وكان أشرف عندهم من القسطنطنيّة ، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام ، فدخل فيها عنوة فأحرقوا كنايسهم وأسروا منهم ستّة آلاف ، ثمّ قتلوهم عن آخرهم.

وهو الذي أسّس بناء سامرّاء في سنة ٢٢١.

وكان المعتصم يقتل كلّ من يخاف من قبله ؛ فقتل الأفشين ومازيار بن قارن ، وابن أخيه العبّاس بن المأمون ، وأخيه سندس وعجيب ، وأحمد بن خليل ، وهؤلاء من قوّاد عساكره ، وقتل محمّد بن القاسم بن عمر بن عليّ بن الحسين عليهم‌السلام ، وقيل فرّ من الحبس.

ومن أعظم جرائمه إنّه سمّ الإمام أبو جعفر الجواد عليه‌السلام فقتله.

وكان من وزرائه محمّد بن عبد الملك الزيّات والفضل بن مروان.

وفي خطبة لمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث يصف الخلفاء من بني العبّاس ، قال عليه‌السلام : «وثامنهم كلبهم».

وفي المجلّد التاسع من البحار (١) قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصف المعتصم : «يدعى له على المنابر بالميم والعين والصاد فذلك رجل صاحب فتوح ونصر وظفر ، وهو الذي تخفق راياته بعرض الروم ، ويستفتح الحصينة من مدنها ، ويعلو الخشن من أعقابها هارون وجعفر ، ويتّخذ المؤتفكة بيتا ودارا ، ويبطل العرب ويتّخذ العجم الترك أولياء ووزراء». وإنّ هارون هو الواثق ، وجعفر هو المتوكّل ، والمؤتفكة سامرّاء.

__________________

(١) بحار الأنوار ٩ : ١٦٢ طبع كمپاني.

٣٧

وكان معتصم أوّل من ثرد الطعام وكثّره حتّى بلغ ألف دينار في اليوم.

وكان المعتصم غلام يقال له عجيب ، لم ير الناس مثله قط ، وكان مشغوفا به ، فعمل فيه أبياتا ثمّ دعا محمّد بن عم الرومي وقال له : قد علمت أنّي دون أبي وأخي في الأدب لحبّ أمير المؤمنين بي وميلي إلى اللعب ، وأنا حدث فلم أنل ما نالوا ، وقد عملت في عجيب أبياتا فإن كانت حسنة وإلّا أكتمها ، فأنشد :

لقد رأيت عجيبا

يحكي الغزال الربيبا

الوجه منه كبدر

والقدّ يحكي القضيبا

وإن تناول سيفا

رأيت ليثا حريبا

وإن رمى بسهام

كان المجيد المصيبا

طبيب ما بي من الحبّ

فلا عدمت الطبيبا

إنّي هويت عجيبا

هوى أراه عجيبا

قال : فحلفت له بأيمان البيعة أنّه شعر مليح من أشعار الخلفاء الذين ليسوا بشعراء ، فطابت نفسه فأمر لي بخمسين ألف درهم.

وإنّ دعبل بن علي الخزاعي هجى المعتصم فهرب منه حتّى قدم مصر ثمّ إلى المغرب ، وهي ما يلي :

ملوك بني العبّاس في الكتب سبعة

ولم يأتنا في ثامن منهم الكلب

كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة

غداة ثووا فيها وثامنهم كلب

وإنّي لازهي كلبهم عنك رغبة

لأنّك ذو ذنب وليس له ذنب

لقد ضاع أمر الناس حيث يسوسهم

وصيف وأشناس وقد عظم الخطب

وإنّي لأرجو أن ترى من مغيبها

مطالع شمس قد يغصّ بها الشرب

٣٨

عمارة سامرّاء في عصر المعتصم

قال الحموي في المعجم : قد حكي في سبب استحداث المعتصم سرّ من رأى أنّه قال ابن عبدوس في سنة مأتين وتسع عشرة : أمر المعتصم أبا الوزير أحمد بن خالد ابن الكاتب بأن يأخذ مائة ألف دينار ويشتري بها بناحية سرّ من رأى موضعا يبني فيه مدينة ، وقال له : إنّي أتخوّف أن يصيح هؤلاء الحربيّة صيحة فيقتلون غلماني فإذا ابتعت لي ذلك الموضع كنت فوقهم فإن رابني رائب أتيتهم في البرّ والبحر حتّى آتي عليهم.

فقال له أبو الوزير : آخذ خمسة آلاف دينار وإن احتجت إلى زيادة استزدت.

قال : فأخذت خمسة آلاف دينار وقصدت الموضع فابتعت ديرا كان في الموضع من النصارى بخمسة آلاف درهم وابتعت بستانا كان في جانبه بخمسة آلاف درهم ثمّ أحكمت الأمر فيما احتجت إلى ابتياعه بشيء يسير فانحدرت فأتيته بالصكاك ، فخرج إلى الموضع في آخر سنة ٢٢٠ ونزل القاطول في المضارب ثمّ جعل يتقدّم قليلا قليلا وينتقل من موضع إلى موضع حتّى نزل بسرّ من رأى وبدأ بالبناء في سنة إحدى وعشرين ومأتين.

سبب خروج المعتصم من بغداد إلى سامرّاء

قال الحموي في المعجم : لمّا ضاقت بغداد عن عسكر المعتصم ، وكان إذا ركب يموت جماعة من الصبيان والعميان والضعفاء لازدحام الخيل وضغطها ، فاجتمع أهل الخير على باب المعتصم وقالوا : إمّا أن تخرج من بغداد فإنّ الناس قد تأذّوا بعسكرك أو نحاربك. فقال : كيف تحاربوني؟ قالوا : نحاربك بسهام السحر. قال : وما سهام السحر؟ قالوا : ندعوا عليك. فقال المعتصم : لا طاقة لي بذلك ، فخرج

٣٩

من بغداد ونزل سامرّاء وسكنها.

وقال أهل السير : إنّ جيوش المعتصم كثروا حتّى بلغ عدد مماليكه من الأتراك سبعين ألفا ، فمدّوا أيديهم إلى حرم الناس وسعوا فيها بالفساد فاجتمع العامّة ووقفوا للمعتصم وقالوا : يا أمير المؤمنين ، ما شيء أحبّ إلينا من مجاورتك لأنّك الإمام والحامي للدين وقد أفرط علينا أمر غلمانك وعمّنا أذاهم ؛ فإمّا منعتهم عنّا أو نقلتهم عنّا. فقال : أمّا نقلهم فلا يكون إلّا بنقلي ولكنّي أفتقدهم وأنهاهم وأزيل ما شكوتم منه ، فنظروا فإذا الأمر قد زاد فعظم ، فخاف منهم الفتنة ووقوع الحرب وعاودوه بالشكوى وقالوا : إن قدرت على نصفتنا وإلّا فتحوّل عنّا وإلّا حاربناك بالدعاء وندعو عليك بالأسحار. فقال : هذه جيوش لا قدرة لي بها ، نعم أتحوّل وكرامة ، وساق من فوره حتّى نزل سامرّاء وبنى بها دارا وأمر عسكره بمثل ذلك ، فعمر الناس حول قصره حتّى صارت أعظم بلاد الله.

وقال الطبري وابن الأثير الجزري في تاريخيهما ـ واللفظ للثاني ـ : وفي هذه السنة ـ يعني سنة عشرين ومأتين ـ خرج المعتصم إلى سامرّاء لبنائها ، وكان سبب ذلك إنّه قال : إنّي أتخوّف من هؤلاء الحربية أن يصيّحوا صيّحة فيقتلون غلماني فأريد أن أكون فوقهم ، فإن رابني منهم شيء أتيتهم في البرّ والبحر حتى آتي عليهم ، فخرج إليها فأعجبه مكانها.

وقيل : كان سبب ذلك أنّ المعتصم كان قد أكثر من الغلمان الأتراك فكانوا لا يزالون يرون الواحد بعد الواحد قتيلا وذلك أنّهم كانوا جفاة يركبون الدوابّ فيركضون إلى الشوارع فيصدمون الرجل والمرأة والصبي فيأخذهم الإباء عن دوابّهم ويضربونهم ، وربّما هلك أحدهم فتأذّى بهم الناس ، ثمّ إنّ المعتصم ركب يوم عيد فقام إليه شيخ فقال له : يا أبا إسحاق ، فأراد الجند ضربه فمنعهم ، فقال : يا شيخ ، مالك؟ مالك؟ قال : لا جزاك الله عن الجوار خيرا ؛ جاورتنا وجئت بهؤلاء

٤٠