مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-035-8
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٠٨

فأشار الصاحب بن عبّاد بإعادة فخر الدولة إذ هو كبير البيت ومالك تلك البلاد قبل مؤيّد الدولة ، ولما فيه من آيات الملك والإمارة ، فكتب إليه واستدعاه وهو بنيسابور ، وأقام في الوقت خسرو فيروز بن ركن الدولة ليسكن الناس إلى قدوم فخر الدولة إلى جرجان ، ولقيه العسكر بالطاعة ، واستوزر الصاحب بن عباد وعظّمه وصدر عن رأيه في جليل الأمور وصغيرها ، واتفقا فخر الدولة وصمصام الدولة فصارا يدا واحدة وفي سنة ٣٧٩ سار فخر الدولة من الري إلى همذان عازما على العراق ، فاتفق أنّ دجلة الأهواز زادت ذلك الوقت زيادة عظيمة وانفتحت البثوق فظنّ عسكر فخر الدولة أنّها مكيدة فانهزموا فقلق فخر الدولة من ذلك فأشار إليه الصاحب أن يرجع إلى الري ، فرجع ، ثمّ توفّي في قلعة طبرك في شعبان سنة ٣٨٧ وكان مولده سنة ٣٤١ ، وكان عمره ستّا وأربعين سنة ، وملك خمس عشرة سنة ، ومن سعادة فخر الدولة إنّه استوزر مثل الصاحب بن عباد رحمه‌الله ؛ الرجل الطائر الصيت.

مجد الدولة (أبو طالب رستم بن فخر الدولة)

صاحب الري وبلاد الجبل ، جلس على عرش الملك بإشارة الأمراء والقوّاد ، وجعل أخاه شمس الدولة بهمذان وقرمسين إلى حدود العراق ، وكان المرجع له والدة مجد الدولة وهي سيّدة بنت شيروين المرزبان والي مازندران ، وكانت عاقلة سياسيّة وقام بين يديها في مباشرة الأعمال أبو طالب ولد فخر الدولة وأبو العبّاس الضبي الكافي ، وفي سنة سبع وتسعين وثلاثمائة قبض عليها ولدها مجد الدولة وسجنها وسبب ذلك أنّ الحكم كان إليها في جميع الأعمال فلمّا استوزر مجد الدولة أبا علي بن القاسم استمال الأمراء ووضعهم عليها وخوّف ابنها منها ، فخرجت من الري إلى القلعة فوضع عليها من يحفظها ، فعملت الحيلة حتّى هربت إلى بدر ابن

٣٤١

حسنويه واستعانت به في ردّها إلى الري ، فجائت مع جيش فحصرها وجرى بين الفريقين قتال كثير ثمّ استظهر بدر ودخل البلد وأسر مجد الدولة فقيّدته والدته وسجنته بالقلعة وأجلست أخاه شمس الدولة في الملك نحو سنة ثمّ أطلقه وأعادت مجد الدولة إلى ملكه وسار شمس الدولة إلى همذان وصارت هي تدبّر الأمر وتسمع رسائل الملوك إلى أن توفّيت سنة ٤١٩ وكان مجد الدولة ضعيف الرأي ، اختلّ نظام ملكه وامتنع أمراؤه عن تنفيذ أوامره. وفي ثاني عشر جمادى الأولى سنة ٤٢٢ قبض عليه سلطان محمود وانقطع به أثر آل بويه ممّن ينتمي إلى مجد الدولة.

وجاء في روضة الصفا : إنّ السلطان محمود لمّا أسر مجد الدولة كتب إلى الخليفة العبّاسي بأنّه وجد في بيته خمسون امرأة ؛ ثلاثون منها أمّهات أولاد ، فسأله على أيّ مذهب تزوّجت هذه النسوة؟ فقال : على مذهب أسلافي ؛ أراد ما يجوّزه مذهب الإماميّة من نكاح المتعة.

عزّ الدولة (أبو كاليجار المرزبان)

ابن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه ، توفّي سنة ٤٤٠ بعد وفاة جلال الدولة أربع سنين وشهرين وأيّاما ، وخلّف من الأولاد الملك رحيم والأمير أبا منصور فلادستون وأبا طالب ـ كما مرّ ـ وأبا المظفّر بهرام ، وأبا علي كيخسرو وأبا سعد خسرو شاه وثلاث بنات صغيرات ، وكانت وفاته بمدينة جناب من كرمان ، وكان سبب سيره إليها أنّه ولي إمارة كرمان بهرام بن لنكرستان الديلمي فتراخى بهرام عن تنفيذ أمره فراسل بعض من بها من الأجناد إلى أبي كاليجار فعلم بهم فهرام فقتلهم فسار إليهم ملك أبو كاليجار فبلغ قصر مجاشع فوجد في حلقه خشونة فلم يبال بها وشرب وأكل من كبد غزال مشوي واشتدّت علّته ولحقته حمّى وضعف عن الركوب ولم يمكنه المقام لعدم الميرة بذلك فحمل في

٣٤٢

محفّة على أعناق الرجال إلى مدينة جناب فتوفّي بها فنهب العسكر من الأتراك الخزائن والسلاح والدوابّ ، وأرادوا نهب الوزير والأمير فمنعهم الديلم عن ذلك.

أبو منصور (فلادستون بن كاليجار)

استولى على شيراز فسار إليه أبو سعد خسرو شاه بأمر أخيه ملك رحيم وملكوا شيراز وخطبوا للملك رحيم ، وقبضوا فلادستون ووالدته وجرت بينه وبين إخوته محاربات دارت أكثرها عليه إلى أن قبض وسجن في بعض قلاعه سنة خمس وأربعين وأربعمائة.

الملك رحيم خسرو فيروز

أبن أبي كاليجار ، كان نائب أبيه في بغداد ، واستقلّ بها بعد وفاة أبيه ، وتصرّف في فارس وخوزستان والبصرة ، وجرت له عدّة حروب إلى أن قبض عليه طغرل بيك السلجوقي وسجنه في قلعة طبرك سنة ٤٤٧ وبه انقرضت دولة آل بويه ، وأطاع أخوه أبو علي كيخسرو السلاجقة ، وكانوا يكرمونه واقطعوه بيدجان من فارس ، وكان ألب أرسلان السلجوقي يوقّره ويجلسه على جانبه ، إلى أن توفّي سنة ٤٧٧ وبوفاته ختم ذكر آل بويه.

هذا ملخّص أخبارهم نقلا عن المصادر الوثيقة ، ونبغ من هذا البيت الرفيع عدّة من الأعلام ، منهم أبو جعفر قطب الدين الرازي البويهي الحكيم الإلهي المنطقي محمّد بن محمّد صاحب المحاكمات وشرح المطالع والشمسيّة وغيرها ، ذكره في روضات الجنّات ، وسنورد لك نبذة من أخبارهم في محلّه.

٣٤٣

العمارة الخامسة

للأمير أرسلان البساسيري عليه الرحمة ، كما ذكره السيّد الشهيد القاضي نور الله التستري في مجالس المؤمنين (١) نقلا عن تاريخ ابن كثير. قال : إنّ البساسيري أمر بعمارة عالية على قبر الإمامين عليّ الهادي والحسن العسكري عليهما‌السلام وإلى ذلك أشار العلّامة الخبير الشيخ محمّد السماوي دام وجوده في وشايح السرّاء (٢) :

ثمّ أتى الأمير أرسلان

إذ عاف بغداد ومن قد كانوا

وحلّ تكريت وخلّى القائما

من الخلاف قاعدا وقائما

مغاضبا من اعتداء الهمج

على مقابر الهداة الحجج

فعمّر القبّة والضريحا

وبذل النقد بها الصريحا

وعمل الصندوق من ساج الخشب

وجعل الرمّان فيه من ذهب

وذاك في خمس وأربعينا

من بعد أربع من المئينا

فطاب بالإعلاء والإعلان

وأرّخوا (علا بأرسلان) (٣)

وجاء في كتاب الحوادث الجامعة في المائة السابعة للعلّامة المؤرّخ ابن الفوطي البغدادي : إنّه في سنة أربع وستّئماة وقع حريق في مشهد سرّ من رأى ، فأتى على ضريحي عليّ الهادي والحسن العسكري ، فتقدّم الخليفة المستنصر بالله بعمارة المشهد المقدّس والضريحين الشريفين وإعادتهما إلى أجمل حالاتهما ، وكان الضريحان ممّا أمر بعملهما أرسلان البساسيري ، خرج على الخليفة القائم بأمر الله فأراد الله تعالى أن ينزّههما من منّة البساسيري فجعل النار سببا لإزالة اسمه.

__________________

(١) مجالس المؤمنين : ٣١٣.

(٢) وشايح السرّاء : ٢٩.

(٣) مطابقة لسنة ٣٤٥.

٣٤٤

ليت شعري كيف تصير النار سببا لأزالة اسم البساسيري؟ فهل يجوز أن نقول في وقوع الحريق الثاني الآتي ذكره في العمارة الثامنة أنّ الله جعل النار سببا لأزالة اسم المستنصر بالله حين احترق الضريحان اللذان أهداهما المستنصر إلى العسكريين عليهما‌السلام وكذا احترقت الروضة النبويّة صلى‌الله‌عليه‌وآله واحترقت الروضة العلويّة عليه‌السلام في النجف والروضة الكاظميّة عليه‌السلام وهذا كلام لا يليق لمثله ولعلّه من طغيان القلم ، والعصمة لمن عصمه الله تعالى.

نبذة من تاريخ البساسيري

جاء في الكنى والألقاب للعلّامة المحدّث القمّي : البساسيري أبو الحارث ارسلان ابن عبد الله التركي ، مقدّم الأتراك ببغداد ، الذي خطب له على منابر العراق وخوزستان فعظم أمره وهابته الملوك ، ثمّ خرج على القائم بأمر الله وأخرجه من بغداد وخطب للمستنصر العبيدي صاحب مصر بجامع المنصور وزيّد في الأذان «حيّ على خير العمل» فراح القائم بأمر الله إلى أمير العرب محي الدين العقيلي صاحب الحدثيّه فآواه وقام بجميع ما يحتاج إليه مدّة سنة كاملة حتّى جاء طغرل بك السلجوقي وقاتل البساسيري وقتله وعاد القائم إلى بغداد. وكان دخوله في مثل اليوم الذي خرج منها بعد حول كامل ، وكان ذلك في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة ٤٥١.

والبساسري نسبة إلى بلدة بفارس يقال لها بساو بالعربيّة فسا والنسبة فسوي ، وأهل فارس يقولون بساسيري نسبة شاذّة على خلاف الأصل.

وقال أبو الفداء في حوادث سنة إحدى وخمسين وأربعمائة من تاريخه : كان البساسيري مملوكا تركيّا من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة من بسا وهي مدينة بفارس ، كان اسمه أرسلان ، وكان سيّد هذا المملوك من بسا ، فقيل له البساسيري.

٣٤٥

وقال (١) : وخطب البساسيري بجامع المنصور للمستنصر بالله العلوي خليفة مصر ، وأمر فأذّن بحيّ على خير العمل.

وفي تاريخ الفخري الطقطقي : إنّه وقع شرّ بين وزير القائم بأمر الله وهو عليّ بن الحسين بن أحمد بن محمّد بن عمر بن المسلمة رئيس الرؤساء وبين البساسيري أبي الحارث التركي ، وكان أحد الأمراء ، فاقتضى الحال أنّ البساسيري هرب ثمّ جمع الجموع وورد بغداد واستولى عليها ثمّ ظفر بابن المسلمة رئيس الرؤساء.

وقال أبو الفداء أيضا : قد حبس البساسيري رئيس الرؤساء فأحضره من الحبس ، فقال رئيس الرؤساء : العفو. فقال له البساسيري : فما عفوت وأنت صاحب طيلسان وفعلت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي وكانوا قد ألبسوا رئيس الرؤساء استهزاء به طرطورا من لبد أحمر وفي رقبته مخنقة جلود وطافوا به ، فلمّا مرّ رئيس الرؤساء بتلك الحالة على أهل الكرخ بصقوا في وجهه لأنّه كان يتعصّب عليهم.

وفي تاريخ الفخري : نثروا عليه أهل الكرخ المداسات الخلقة وبصقوا في وجهه ، ووقف بأزاء دار الخلافة من الجانب الغربي ثمّ أعيد وقد نصبت له خشبة في باب خراسان فأنزل عن الحمار وخيط عليه جلد ثور قد سلخ في الحال وجعلت قرونه على رأسه وعلّق بكلاب في حلقه واستبقي في الخشبة حيّا إلى أن مات من يومه.

وقال القاضي في مجالسه نقلا عن حبيب السير إنّه كان من أمراء ديلم وكان بينه وبين رئيس الرؤساء وزير القائم بأمر الله منافسة لأجل مخالفتهما في المذهب ، فخرج البساسيري من بغداد واستنصر من المستنصر العلوي فأمدّه بالرجال لعلمه بأنّه موافق له في مذهبه التشيّع ، فدخل بغداد مع جيشه في ثامن ذي القعدة

__________________

(١) تاريخ أبي الفداء : ١٨٦.

٣٤٦

سنة ٤٥٠ وكان معه رايات بيض فاستقبله أهل الكرخ واستدعوا منه أن ينزل عندهم فأجابهم ونزل عندهم ، وكان أهل الكرخ كلّهم شيعة ، ثمّ أمر البساسيري بنهب دار الخلافة وسائر بيوت الكتّاب والخدم والقاضي ، وأمر المؤذّن في المساجد والجماعات بحيّ على خير العمل ، وضرب الدراهم باسم المستنصر العلوي ، وخطبوا باسمه ، وأظهر العدل والإحسان على أحبّائه ، وقتل خلقا كثيرا من المخالفين ، وأحضر الخليفة القائم بأمر الله وهو السادس والعشرون من الخلفاء العبّاسيّين مع وجوه الأمراء وأخذ منهم البيعة للمستنصر العلوي ، وألزم الخليفة حتّى كتب بخطّه : ليس لنا حقّ في الخلافة مع وجود بني فاطمة ، فلمّا فرغ من مهمّات أموره توجّه إلى زيارة أمير المؤمنين وأبي عبد الله الحسين عليهما‌السلام ، وأمر بحفر نهر من الفرات إلى كربلاء ، وأمر بعمارة عالية على قبر الإمامين العسكريّين عليهما‌السلام في سامرّاء.

قال أبو الفداء : قتل البساسيري في الثامن ذي الحجّة ، وانهزمت أصحابه ، وحمل رأسه إلى طغرل بك ، وأخذت أمواله مع نسائه وأولاده ، ثمّ أرسل طغرل بك رأس البساسيري إلى دار الخلافة فصلب قبالة الباب النوبي.

العمارة السادسة

للسلطان بركيارق بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق ، كما أشار بذلك العلّامة السماوي في وشايح السرّاء (١) :

ثمّ أتاها الركن بركياروق

ومطلع السعد من آل سلجوق

فجدّد الأبواب في أغلى الخشب

وسيّج الروض وجاد بالنشب

__________________

(١) وشايح السرّاء : ٣٠.

٣٤٧

ورمّم القبّة والرواقا

والصحن والدار بما أطاقا

ومدّ في الأعمار فيه طوله

على يد الوزير مجد الدوله

في الخمس والتسعين حيث أتبعا

من هجرة الهادي المآت الأربعا

إذ جاء بغداد ونال المكنه

فأرّخوا (المجد أقام ركنه) (١)

وكان بركيارق من أعاظم ملوك السلجوقيّة ، توفّي في سنة ثمان وتسعين وأربعمائة ، وكان عمره خمسا وعشرين سنة ، وملك اثنتي عشرة سنة وأربعة أشهر ـ على ما ذكره الجزري في الكامل.

وقال بركيارق : قاسى من الحروب واختلاف الأمور عليه ما لم يقاسه أحد ، واختلفت به الأحوال بين رخاء وشدّة وملك وزواله ، وأشرف على عدّة نوب بعد استلام النعمة على ذهاب المهجة ، ولمّا قوي أمره في هذا الوقت وأطاعه المخالفون وانقادوا له أدركته منيّته ولم يهزم في حروبه غير مرّة ، وكان أمراؤه قد طمعوا فيه للاختلاف الواقع حتّى أنّهم كانوا يطلبون نوّابه ليقتلوهم فلا يمكنه الدفع عنهم ، وكان متى خطب له ببغداد وقع الغلاء ووقفت المعايش والمكاسب ، وكان أهلها مع ذلك يحبّونه ويختارون سلطانه ، وكان حليما كريما صبورا عاقلا ، كثير المداراة ، حسن القدرة ، لا يبالغ في العقوبة ، وكان عفوه أكثر من عقوبته.

ولمّا توفّي أبوه السلطان ملكشاه ليلة الجمعة النصف من شوّال سنة ٤٨٥ سترت زوجته تركان خاتون المعروفة بخاتون الجلالة موته وكتمته وأرسلت إلى الأمراء سرّا فأرضتهم واستخلفتهم لولدها محمود وعمره أربع سنين وشهور ، وأرسلت تركان خاتون إلى أصبهان في القبض على بركيارق ابن السلطان وهو أكبر أولاد السلطان ملك شاه وخافته أن ينازع ولدها السلطنة ، فقبض عليه

__________________

(١) مطابقة لسنة ٤٩٥.

٣٤٨

وحبس ، فلمّا ظهر موت ملكشاه وثب المماليك النظاميّة على سلاح وثاروا في البلد وأخرجوا بركيارق من الحبس وخطبوا له بأصبهان وملّكوه ، وكانت والدة بركيارق زبيدة ابنة ياقوتي بن داود وهي ابنة عمّ ملكشاه خائفة على ولدها من تركان خاتون أمّ محمود ، فاتفق أنّ محمودا مات بمرض الجدري بأصبهان سنة ٤٨٧ فهذا من أحسن الفرج بعد الشدّة لبركيارق. وفي سنة ٤٨٧ خطب ببغداد للسلطان بركيارق ولقّبه المقتدي بأمر الله العبّاسي بركن الدولة.

وفي هذه السنة قتل السلطان بركيارق عمّه تتش وغرّقه وقتل ولده معه ، وكان ملكشاه قد أخذه فلمّا خرج عليه كحّله وحبسه بقلعة تكريت ، فلمّا قتله بقي بسرّ من رأى. وفي سنة تسعين وأربعمائة جهّز بركيارق العساكر مع أخيه الملك سنجر وسيّرها إلى خراسان لقتال عمّه أرسلان أرغون ، فلمّا وصلوا إلى دامغان بلغهم خبر قتله فأقاموا حتى لحقهم السلطان بركيارق وساروا إلى نيسابور وملكها بغير قتال وكذلك سائر البلاد الخراسانيّة ، وساروا إلى بلخ وأرسل بركيارق إلى ماوراء النهر فأقيمت له الخطبة بسمرقند وغيرها ، ودانت له البلاد ، وفي سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة سار بركيارق من الري إلى خوزستان ، ثمّ سار إلى واسط ودخل بغداد وأعيدت له الخطبة ، ثمّ سار من بغداد إلى شهرزور فأقام بها ثلاثة أيّام والتحق به عالم كثير من التركمان وغيرهم فسار نحو أخيه السلطان محمّد ليحاربه ووقعت بينهما حروب كثيرة ، ثمّ اتفقوا على الصلح ، في سنة أربع وتسعين وأربعمائة أمر السلطان بركيارق في شعبان بقتل الباطنيّة وهم الإسماعيليّة وهم الذين كانوا يسمّون القرامطة. وفي سنة خمس وتسعين وأربعمائة أمر وزيره مجد الدولة بعمارة مشهد سرّ من رأى.

٣٤٩

العمارة السابعة

للإمام الناصر العبّاسي

قال العلّامة السماوي في وشايح السرّاء مشيرا إلى عمارة أحمد الناصر الذي كان في سنة ٦٠٦ :

ثمّ أتاها الناصر العبّاسي

بفيض جود وضرام باس

فعمّر القبّة والمآذنا

وزاد في تشييدها المحاسنا

وزيّن الروض بما قد ابتهج

وعقّد السرداب في صنع الأزج

ومنّع الحوض بذاك الروض

أن يأخذ امرؤ تراب الحوض

وزبّر الأئمّة الإثنى عشر

على نطاق العقد فيما قد زبر

على يد الشريف بدر البعد

معد فتى محمّد بن معد

وجعل الألواح فيه منبئه

عن وقته في الستّ والستّمئه

فنظروا ما قد زها في الدائر

وأرّخوا (أصبح سعد الناصر)

صفة بناء سرداب الغيبة

ليس اشتهار هذا السرداب بسرداب الغيبة لأنّ الحجّة عجّل الله تعالى فرجه غاب فيه كما زعمه من يجهل التاريخ ، بل لأنّ بعض الأولياء تشرّف بخدمته عليه‌السلام وقد أشرنا إلى ذلك تحت عنوان «درجة سامرّاء» ، وحيث أنّ مبيت الثلاثة من الأئمّة ومعبدهم في طول المدّة وحظى فيه عدّة من الصلحاء بلقاء الحجّة عليه‌السلام صار من البقاع المتبرّكة ، فينبغي للزائر إتيانه بخضوع وخشوع وحضور قلب والوقوف على بابه ، والدعاء والاستيذان بالمأثور ، وتقديم الرجل اليمنى ثمّ الإتيان بما روي من الأدعية والزيارات والصلوات.

٣٥٠

وهو الآن واقع في غربي صحن العسكريّين عليهما‌السلام من جهة الشمال ، وقد طرأت عليه إصلاحات ، ومرّ عليه بعض العمارات والتغييرات في بعض جوانبه ، وكان هذا السرداب داخل البيت وطريقا في البناء القديم من وراء مرقد العسكريّين صلى‌الله‌عليه‌وآله عند قبر أمّ القائم الذي صار اليوم داخل الرواق ، وكان الزائر بعد زيارة العسكريّين ينزل في الدرج ويمشي في أزجّ جتّى يدخل السرداب من جهة قبلته ، وكان الأمر كذلك إلى حدود عام اثنين ومأتين بعد الألف ، فلمّا تصدّى لعمارة هذه البقعة المباركة الملك المؤيّد أحمد خان الدنبلي جعل للسرداب بابا من جهة الشمال وسدّ باب القبلة ، وكان الباب من أثمن الأخشاب إلى عصرنا هذا ، فأنفق سهم الملك القاجاري مبلغا جزيلا لجعله بابا فضّيّا فقلعوا الباب الخشبي ونصبوا مكانه بابا فضّيّا ونصبوا الخشبي على باب المسجد الذي كان على عرش السرداب وهو اليوم له عشرة درجات مفروشة بالرخام الصقيل ، فينزل الزائر منها إلى رحبة لا يقلّ طولها عن ثلاثة عشر ذراعا ، والباب المشبّك الخشبي المنصوب على الصفّة في السرداب المقدّس في يومنا هذا من الآثار الباقية للإمام المستنصر العبّاسي ، وقد عمله في سنة ستّ وستّمائة.

وذكر العلّامة النوري في كشف الأستار (١) : إنّ الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بنور الله من خلفاء العبّاسيّة ، هو الذي أمر بعمارة السرداب الشريف وجعل على الصفّة التي فيه شبّاكا من خشب ساج منقوش عليه : بسم الله الرحمن الرحيم ، (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ.) هذا ما أمر بعمله سيّدنا ومولانا الإمام المفترض الطاعة على جميع الأنام أبو العبّاس أحمد الناصر لدين الله أمير المؤمنين وخليفة ربّ العالمين

__________________

(١) كشف الأستار : ٤٣ طبع سنة ١٣١٨.

٣٥١

الذي طبّق البلاد إحسانه وعدله ، وعمّ البلاد رأفته وفضله ، قرّب الله أوامره الشريفة باستمرار النهج والنشر ، وناطها بالتأييد والنصر ، وجعل لأيّامه المخلّدة حدّا لا يكبو جواده ، ولآرائه الممجّدة سعدا لا يخبو زناده ، وفي عزّ تخضع له الأقدار فيطيعه عواليها ، وملك خشع له الملوك فيملكه نواصيها ، يتولّى المملوك معد بن الحسين بن معد الموسوي الذي يرجو لحياته في أيّامه المخلّدة ويتمنّى إنفاق عمره في الدعاء لدولته المؤيّدة ، استجاب الله أدعيته ، وبلّغه في أيّامه الشريفة أمنيّته ، من سنة ستّ وستّمائة الهلاليّة ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وصلّى الله على سيّدنا خاتم النبيّين وعلى آله الطاهرين وعترته وسلّم تسليما».

ونقش أيضا على الخشب المذكور من طرف داخل الصفّة كالنطاق : «بسم الله الرحمن الرحيم ، محمّد رسول الله ، أمير المؤمنين عليّ وليّ الله ، فاطمة ، الحسن بن علي ، الحسين بن علي ، عليّ بن الحسين ، محمّد بن علي ، جعفر بن محمّد ، موسى بن جعفر ، عليّ بن موسى ، محمّد بن علي ، عليّ بن محمّد ، الحسن بن عليّ ، القائم بالحقّ عليهم‌السلام. هذا عمل عليّ بن محمّد وليّ آل محمّد رحمه‌الله».

فالمصراع من طرف اليمين لمن يدخل في الصفّة ثمانية أشبار طولا ، وعرضه شبران ، وكذا المصراع الثاني ، وهذا الخشب من التحف والآثار الثمينة ، ولقد مضى عليه إحدى وخمسون وسبعمائة سنة ، وهو بعد جديد كأنّه من صنع اليوم مع كثرة المصادمات الواردة عليه من ازدحام الزوّار ، وكانت الصفّة طولها تسعة أشبار وعرضها أربعة أشبار وأربعة أصابع ، وكانت هذه الصفّة موضع حوض في أيّام العسكريّين عليهما‌السلام ، فلمّا صارت الدار مزارا جعلت هذه الصفّة محلّا لإلقاء العرائض إلى الحجّة عليه‌السلام وظهور التوقيعات في بعض الأحيان ، كما أشار بذلك السيّد الأجل ابن طاوس رحمه‌الله في أواخر كتاب فرج المهموم ، واختصّ ذلك المكان بمزيد شرافة واحترام ، وتقبيل واستشفاء والتبرّك به.

٣٥٢

وكان الأمر كذلك إلى أن تغيّرت هيئة السرداب وسدّ الأزج وفتح باب له من جهة الشمال وعيّنت له الخدم ، فلمّا رأت سدنته رغبة المؤمنين إلى زيارة تلك البقعة جعلوا يأخذون تراب ذلك المكان ويعطونه الزائرين بإزاء دراهم معدودة ، فأدّى ذلك أن حفرت تلك البقعة مقدار درجتين ثمّ تصدّى إلى طمّها العلّامة الكبير الشيخ عبد الحسين الطهراني رحمه‌الله ، ثمّ حفرها بعض السدنة لمقاصدهم الخاصّة وسمّوها بئر صاحب الزمان ، فكثرة شكوى الزائرين في عصر آية الله المجدّد الميرزا محمّد حسن الشيرازي طاب رمسه ، فعمل بعض العوام بابا فضّيّا على حدّ فم البئر ونصبه عليها ، فلم تنقضي الأيّام والليالي إلّا وسرق الباب وعاد الأمر كما كان ، وإنّ آية الله المجدّد رحمه‌الله مع سيطرته في سامرّاء لم يتمكّن من تغيير ذلك إلى أن زالت الدولة العثمانيّة من العراق فسعى في طم البئر المولى الحجّة الميرزا محمّد الطهراني أدام الله بقاه فطمّها بمعونة الحكومة وفرشها بالرخام الصقيل ، ومع ذلك فقد جعلوا الآن ثقبا تحت الرخام بمقدار أن يدخل الكفّ فيه لأخذ التراب ، وربّما وضعوا التراب فيها من الخارج لإعطائه الزائرين الذين لا يعلمون حقيقة التراب.

ونظير هذه المشكلة البئر التي عند الباب الذي يفتح إلى صحن الحجّة عليه‌السلام غربا حيث يزعم عوام الناس أنّ قطرة من حليب ثدي حكيمة بنت الإمام الجواد عليه‌السلام وقع فيها فيمثّل الناس مثل البدر الكامل إذا نظر في البئر ويزدحم العوام على البر كازدحام الحاجّ على بئر زمزم ويأخذون من مائها ويتبرّكون به ، وكان على رأس البئر بعض السدنة يأخذ منهم بعض دراهم زهيدة ويعطيهم شربة منه ، ولعمري إنّ هذا من حيل بعض السدنة وهو جهل مفرط سيطر على بعض الجهّال من الزائرين ، والعلماء هم المسئولون عند الله لتركهم النهي عن المنكر وردع الجهّال عن مثل هذه الخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان ، ويبرأ منها كلّ شيعيّ خبير ، وقد أشار إلى بعض ما ذكرناه العلّامة المحدّث الميرزا حسين النوري قدس‌سره في مزاره المسمّى (تحيّة

٣٥٣

الزائر) الفارسي المطبوع في ايران ، وأنا أذكر عين العبارة ، قال رحمه‌الله (١) :

«ودر ميان صفّه مذكوره وسرداب مقدّس شبّاكى است با درى از چوب ساج كه آن را به امر احمد الناصر بالله العبّاسى در سنه ششصد وشش ساخته اند چنانچه صورت آن با بعض آيات شريفه در كتيبه آنجا مرقوم است ، وآنچه از مشايخ دست بدست رسيده اين است كه اين صفّه محلّ حوض بود به جهت وضو گرفتن آن بزرگواران در آن سرداب ، پس از آنكه خانه آن بزرگواران مزار ومحلّ عبادت مردم شده اين صفّه شريفه معيّن شده بود به جهت گذاشتن وانداختن عرايض ورقاع حاجات كه شيعيان به حضرت صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه مى نوشته اند وبه آنجا مى گذاشته اند ، وهر وقت صلاح بود جواب عريضه از آنجا يا از خارج به صاحبش مى رسيد ، چنانچه بعضى از حكايات آن را سيّد جليل على ابن طاوس در اواخر كتاب فرج المهموم نقل كرده.

وبه ملاحظه اين سيره وعادت در طرف راست در وسط شبّاك سوراخى بقدر آنكه دست در ميان آن برود ورقعه را بيندازد گذاشته اند كه در طرف ديگر نظير آن را ندارد وهر كس تأمّل كند مى داند كه اين سوراخ ساخته براى همين كار بود وآن محل در همه آن سرداب امتيازى پيدا كرد در تبرّك وشرافت واحترام وبوسيدن واستشفا تا آنكه صحن وراه سرداب مقدّس از آن صحن مطهّر جدا شد واز غير جنس خدمه براى او ظاهر شد وديدند حرص ورغبت شيعيان را به آن محلّ شريف وغلبه واستيلاء خود را بر آن غربا وزوّار بى معين لهذا آن را براى كسب غير طيّب خود سرمايه كردند وبراى جلب منافع از ايشان آن را دكّانى قرار داده اند وبه اقسام حيل از آنها فائده مى بردند وكم كم به دادن

__________________

(١) تحيّة الزائر : ٢٤٤.

٣٥٤

ريگ وخاك آن را به آن بيچارگان وگرفتن چيزى مقدارى از آنجا گود شد ودر چهل وهفت سال قبل تقريبا كه اوّل مشرّف شدن حقير بوده به آن آستانه مباركه گودى آنجا تا دو پله رسيده بود وباز زياد شد تا آنكه زمانى كه شيخ عالم جليل علّامه عصر خود شيخ عبد الحسين طهرانى طاب ثراه به جهت تذهيب قبّه مطهّره واصلاح صحن منوّر به آنجا مشرّف شدند پس از مشاهده آن خرابى وزياد شدن در هر روز وخوف وصدمه رسيدن به اساس عمارت مقرّر فرمودند آنجا را پر كردند تا مقدار دو پله به بالا مانده آن را به آجر گچ محكم نمودند.

پس از وفات آن مرحوم چون در سرمايه آن جماعت اوباش به جهت بنائى خللى پيدا شد دوباره آن بنا را خراب كردند وبه دادن ريگ وسنگ آنجا به جهّال زوّار وبردن عوام بى لجام كالانعام را در آنجا به اسم تبرك بازار كسب خود را رونقى دادند وكم كم بمنزله چاهى شد واسم آن را چاه صاحب الزمان گذاشته اند وجزء مناسك زوّار شد كه بايد به آنجا روند از چاه صاحب الزمان سؤال كنند وبه انواع بى ادبى وجسارت خود را در ميان چاه افكنند ومقدارى ريگ بردارند تمام اين حركات بى اصل وبى پا وخلاف ادب واحترام بلكه در بعضى از مواضع شبهه حرمت دارد ولكن درد جهل را دوائى جز پرسش از عالم يا تنبيه ونهى عالم نيست واين هر دو از ميان رفته وبالله المستعان ، انتهى بألفاظه.

اعتقاد الإماميّة في صاحب السرداب

تقدّم تحت عنوان «درجة سامرّاء» ما ينفعك هنا أنّ الإماميّة جميعا تعتقد أنّ الحجّة بن الحسن عجّل الله فرجه اسمه اسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكنيته كنيته وشمائله شمائله ، ولد في سرّ من رأى في شهر شعبان سنة ٢٥٦ من صلب الإمام الحسن العسكريّ عليه‌السلام ورحم الطاهرة المليكة نرجس خاتون ، وكان حمله وولادته نحو

٣٥٥

ولادة موسى بن عمران عليه‌السلام مستورا لم يطّلع عليه إلّا الخواصّ قبل ولادته وبعد ولادته ، فلمّا توفّي أبوه غاب عن الأنظار لا أنّه دخل في السرداب وأمّه تنظر إليه كما توجد هذه العبارة في بعض كتب العامّة ، وإنّ الشيعة الإماميّة تبرأ من هذه المعتقدات التي يلصقها بهم من أراد الحطّ من كرامة مذهبهم بما لم تجوّز له الشريعة الإسلاميّة كابن التيميّة الحرّاني في الجزء الثاني من كتابه منهاج السنّة (١) وقد أطنب في تلفيقاته الكاذبة وجاء بسبّ وشتم وتكفير ويكثر من البذاء على الشيعة ولا يراعي أدب الدين ، أدب العلم ، أدب التأليف ، أدب الأمانة في النقل ، أدب النزاهة في الكتابة ، أدب العفّة في البيان ، وقد أكثر من المخاريق والمفتريات بما لا مزيد عليه إلّا أنّ الشيعة معتقداتهم بفضل المطابع انتشرت في شرق الدنيا وغربها ولا يوجد فيها ممّا لفّقه ابن تيميّة في منهاجه.

ثمّ إنّ الشيعة تعتقد أيضا أنّه عليه‌السلام يظهر من مكّة المعظّمة ويهاجر إلى الكوفة ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا متى شاء الله تبارك وتعالى ، وبهذا تواترت الأخبار من الفريقين فمن أراد تفصيل ذلك فليرجع إلى كشف الأستار للعلّامة النوري ، أو غاية المرام للسيّد هاشم البحراني ، أو الثالث عشر من البحار للعلّامة المجلسي ، أو غيرهما ممّا لا تحصى كثرة. وذكر في غاية المرام مائة وخمسة وستّين حديثا من طرق العامّة المستخرجة عن كتب مشاهير علمائهم بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يخرج من ولدي رجل اسمه اسمي وكنيته كنيتي ، أشبه الناس بي ، وهو مهديّ هذه الأمّة ، يظهر في آخر الزمان ويملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا ، فإذا اعترف أكثر من مأتين من الأساتذة الأعلام من العامّة بصفة المهدي وحياته وظهوره في آخر الزمان فما ذنب الإماميّة في ذلك حتّى شنّع عليهم بعض أعلامهم بقوله اللاذع؟!

__________________

(١) منهاج السنّة ٢ : ١٤٥.

٣٥٦

فنسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين بحقّ محمّد وآله الطاهرين ، ولعمري لو لا هذه المشاجرات وإعمال التعصّبات لما آل أمر الإسلام إلى حضيض الانحطاط ، فصار ما صار ممّا لست أذكره.

نبذة من أخبار أحمد الناصر وتاريخه

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء : الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بأمر الله حسن بن المستنجد يوسف ، كنيته أبو العبّاس ، ولد يوم الاثنين عاشر رجب سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ، وأمّه تركيّة اسمها زمرّد ، وبويع له عند موت أبيه في مستهلّ ذي القعدة سنة ٥٧٥ ولم يل الخلافة أحد أطول مدّة منه من خلفاء بني العبّاس فإنّه أقام فيها سبعا وأربعين سنة ، ولم يزل مدّة حياته في عزوجلال وتولّى الخلافة وهو ابن ثلاث وعشرين سنة ، ومات يوم الأحد سلخ رمضان سنة ٥٣٣ وكان عمره سبعين سنة ، وحمل على أعناق الرجال إلى البدريّة بالرصافة ودفن بها رحمه‌الله.

وقال القرماني في أخبار الدول : كان الناصر لدين الله أبيض تركي الوجه ، أقنى الأنف ، مليحا ، خفيف العارضين ، أشقر اللحية ، رقيق المحاسن ، وكان يتشيّع ويميل إلى مذهب الإماميّة بخلاف آبائه حتّى أنّ ابن الجوزي سئل بحضرته من أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أفضلهم بعده من كانت بنته في بيته ولم يقدر أن يصرّح بتفضيل أبي بكر.

أقول : ولتشيّعه أعدّ لنفسه مقبرة عند قبر الإمامين الكاظميّين عليهما‌السلام غير أنّ ولده لم يكن على مذهبه ولم يكترث بهذا ودفنه في البدريّة بالرصافة فبقيت المقبرة مطموسة الأثر إلى أن توفّي المولى المحقّق الطوسي رحمه‌الله فدفن في ذلك السرداب كما ذكره السيّد في روضات الجنّات ص ٦١١ في حرف الميم في ترجمة الخواجة نصير

٣٥٧

الملّة والدين محمّد ابن محمّد بن الحسن الطوسي رحمه‌الله قال : ودفن بالمشهد الكاظمي على مشرّفه السلام في سرداب وجدوه هناك مرتّبا معيّنا وبالغضارات الملبنة المنقّشة بالألوان مزيّنا مكتوبا عليه هذا قبر قد ادّخره الناصر بالله العبّاسي لنفسه .. الخ.

وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء : وأجاز له جماعة منهم أبو الحسين عبد الحق اليوسفي ، وأبو الحسن علي بن عساكر البطايحي ، وشهده وأجاز هو لجماعة ، فكانوا يحدّثون عنه في حياته ، ويتنافسون في ذلك رغبة في الفخر لا بالإسناد.

أقول : هذا تخرّص بالغيب لأنّ الرغبة من أفعال القلب لا يعلمها إلّا الله ، والطعن على العلماء من غير ذكر بيّنة وبرهان لا ينبغي لمثل جلال الدين السيوطي.

قال : إنّ أحمد الناصر اشتغل برواية الحديث في وسط ولايته ، واستناب نوّابا في الإجازة عنه والتسميع وأجرى عليهم جرايات وكتب للملوك والعلماء إجازات ، وجمع كتابا يحوي سبعين حديثا ووصل إلى حلب وسمعه الناس ، وأجاز لجماعة من العلماء والأعيان فحدّثوا عنه ، منهم ابن سكينة وابن الأخضر ، وابن النجّار ، وابن الدامغاني وآخرون.

وقال شيخنا العلّامة الخبير الشيخ آقا بزرك الطهراني دام وجوده في كتابه «الأنوار الساطعة» الذي ألّفه في تراجم علماء المائة السابعة ما نصّه : «الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء يروي عنه إجازة السيّد النسّابة فخار بن معد الموسوي المتوفّى سنة ٦٣٠ وله كتاب فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام رواه السيّد ابن طاوس في كتاب اليقين عن السيّد فخار عن الناصر. قال : ومن آثاره الباقية الباب المشبّك الخشبي المنصوب على الصفّة بالسرداب المقدّس في سامرّاء وقد عمل الباب في سنة ٦٠٦ كما كتب عليه بمباشرة السيّد الجليل الشريف معد بن الحسين بن معد الموسوي ، وهو يروي في كتابه المذكور عن أبي الحسين عبد الحق بن أبي الفرج

٣٥٨

الأمين إجازة ، وعن أبي جعفر أحمد القاضي إجازة ، وعن أبي لا حق بن علي بن منصور بن إبراهيم إجازة».

وقال محمّد بن شحنة الحنفي في روضة المناظر : إنّ الناصر بالله كان يتشيّع .. الخ. وقال الطقطقي في تاريخه : كان الناصر لدين الله من أفاضل الخلفاء وأعيانهم ، بصيرا بالأمور ، مجرّبا سائسا مهيبا مقداما عارفا شجاعا متأيّدا ، حاد الخاطر والنادرة ، متوقّد الذكاء والفطنة ، بليغا غير مدافع عن فضيلة علم ولا نادرة فيهم ، يفاوض العلماء مفاوضة خبير ، ويمارس أمور السلطانيّة ممارستي بصير ، وكان يرى رأي الإماميّة ، طالت مدّته وصفا له الملك ، وأحبّ مباشرة أحوال الرعيّة بنفسه حتّى كان يتمشّى في الليل في دروب بغداد ليعرف أخبار الرعيّة وما يدور بينهم ، وكان كلّ أحد من أرباب المناصب والرعايا يخافه ويحاذره بحيث كأنّه يطّلع عليه في داره ، وكثرت جواسيسه وأصحاب أخباره عند السلاطين وفي أطراف البلاد ، وله في مثل هذا قصص غريبة وصنّف كتبا وسمع الحديث النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأسمعه ولبس لباس الفتوّة وألبسه ، وتفتّى له خلق كثيرون من شرق الأرض وغربها ، وكان نادرة زمانه ورجل عصره ، في أيّامه انقرضت دولة آل سلجوق في عصره بالكلّيّة.

وقال اليافعي في مرآة الجنان في حوادث سنة ٦٢٢ : كان أحمد الناصر فيه شهامة وإقدام ، وعقل ودهاء ، وهو أطول بني العبّاس خلافة كما أنّ الناصر لدين الله الأموي صاحب الأندلس أطول بني أميّة دولة.

أقول : كما أنّ ناصر الدين شاه قاجار أطول بني قاجار ملكا ، ملك خمسين سنة.

قال : وكان الناصر مستقلّا بالأمور متمكّنا من الخلافة ، يتولّي الأمور بنفسه ، حتّى كان يشقّ الدروب والأسواق أكثر الليل والناس يتهيّبون لقاءه ، وما زال في عزوجلالة وسعادة عاجلة.

٣٥٩

وقال : إنّ الملك الأفضل نور الدين علي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب كتب إلى الإمام الناصر يشكو عمّه العادل وأخاه العزيز لمّا أخذوا منه دمشق بهذه الأبيات :

مولاي إنّ أبا بكر وصاحبه

قد غصبا بالسيف حقّ عليّ

وهو الذي كان قد ولّاه والده

عليهما فاستقام الأمر حين ولي

فخالفاه وحلّا عقد بيعته

والأمر بينهما والنصّ فيه جلي

فانظر إلى حظّ هذا الاسم كيف لقي

من الأواخر ما لا قى من الأوّل

فأجابه الناصر :

وافى كتابك يابن يوسف معلنا

بالودّ يخبر أنّ أصلك طاهر

غصبوا عليّا حقّه إذ لم يكن

بعد النبيّ له بيثرب ناصر

فابشر فإنّ غدا عليه حسابهم

واصبر فناصرك الإمام الناصر

وقال السيّد الشهيد القاضي في مجالس المؤمنين : كان الناصر لدين الله من أفاضل الخلفاء ، وأعاظم النبلاء ، وكان متبحّرا في العلوم ، عارفا بالآداب والرسوم ، وكان من ملوك الشيعة ويحامي عن الشريعة ، وطعن عليه بعض معاصريه لأجل التشيّع فأجابهم بهذه الأبيات:

زعموا أنّني أحبّ عليّا

صدقوا كلّهم لدى علي

كلّ من صاحب النبيّ ولو

طرفة عين فحقّة مرعي

فلقد قلّ عقل كلّ غبي

هو من شيعة النبي بري

قال كتب ابن عبيد الله نقيب الطالبيّة بالموصل إلى أحمد الناصر وقال : إنّا أخبرنا بأنّك عدلت عن مذهب التشيّع واخترت مذهب التسنّن فإن كان صدقا فأخبرنا عن سببه؟ فأجابه الناصر بهذه الأبيات :

يمينا بقوم أوضحوا منهج الهدى

وصاموا وصلّوا والأنام نيام

٣٦٠