مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-035-8
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٠٨

وإنّ مضامين زيارتها المرويّة ممّا يبرهن على علوّ شأنها ، وناهيك بشرفها أنّها «المودعة الملك العلّامة ، والحاملة أشرف الأنام ، وأنّها الصدّيقة المرضيّة ، شبيهة أمّ موسى ، وابنة حواري عيسى ، وأنّها الرضيّة الزكيّة ، وأنّها المنعوتة في الإنجيل ، المخطوبة من روح الله الأمين ، ومن رغب في وصلتها محمّد سيّد المرسلين ، والمستودعة أسرار ربّ العالمين».

وجاء في المأثور من زيارتها ما نصّه :

«أشهد أنّك أحسنت الكفالة وأدّيت الأمانة واجتهدت في مرضاة الله وصبرت في ذات الله وحفظت سرّ الله وحملت وليّ الله وبالغت في حفظ حجّة الله ورغبت في وصلة أبناء رسول الله عارفة بحقّهم مؤمنة بصدقهم معترفة بمنزلتهم مستبصرة بأمرهم مشفقة عليهم مؤثرة هواهم وأشهد أنّك مضيت على بصيرة من أمرك مقتدية بالصّالحين راضية مرضيّة تقيّة نقيّة زكيّة فرضي الله عنك وأرضاك وجعل الجنّة منزلك ومأواك فلقد أولاك من الخيرات ما أولاك وأعطاك من الشّرف ما به أغناك فهنّأك الله بما منحك من الكرامة وأمراك».

أخبار المليكة نرجس وبدأ أمرها

روى الصدوق في إكمال الدين والكليني في الكافي والشيخ في كتاب الغيبة بألفاظ متقاربة عن بشر بن سليمان النخاس واللفظ للأوّل بإسناده عن أبي الحسين محمّد بن يحيى الشيباني قال : وردت كربلاء سنة ستّ وثمانين ومأتين وزرت قبر غريب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ انكفأت إلى مدينة السلام متوجّها إلى مقابر قريش في وقت تضرّم الهواجر وتوقّد السماء ، فلمّا وصلت إلى مشهد الكاظم عليه‌السلام استنشقت نسيم تربته المغمورة من الرحمة المحفوفة بحدائق الغفران ، بكيت عليها بعبرات متقاطرات وزفرات متتابعات وقد حجب الدمع طرفي عن النظر ، فلمّا رقأت

٣٠١

العبرة وانقطع النحيب فتحت بصري فإذا أنا بشيخ قد انحنى صلبه وتقوّس منكباه وثفنت جبهته وراحتاه وهو يقول لآخر معه عند القبر : يابن أخي ، قد نال عمّك شرفا بما حمله السيّدان من غوامض الغيوب وشرايف العلوم الذي لا يحمل مثلها إلّا سلمان الفارسي ، وقد أشرف عمّك إلى استكمال المدّة وانقطاع العمر وليس يجد من أهل الولاية رجلا يفضي إليه بسرّه.

قلت : يا نفس ، ولا يزال العناء والمشقّة ينالان منك بأتعابي الخفّ والحافر في طلب العلم وقد قرعت سمعي من هذا الشيخ لفظة تدلّ على أمر جسيم وعلم عظيم ، فقلت : يا شيخ ، من السيّدان؟ قال : النجمان المغيّبان في الثرى بسرّ من رأى. فقلت : إنّي أقسم بالموالاة وشرف محلّ هذين السيّدين من الإمامة والوراثة إنّي خاطب علمهما وطالب آثارهما وباذل من نفسي الأيمان المؤكّدة على حفظ أسرارهما. قال : إن كنت صادقا فيما تقول فأحضر ما صحبك من الآثار عن نقلة أخبارهم.

فلمّا فتّش الكتب وتصفّح الروايات منهما قال : صدقت ، اعلم أنا بشر بن سليمان النخّاس من ولد أبي أيّوب الأنصاري أحد موالي أبي الحسن وأبي محمّد وجارهما بسرّ من رأى.

قلت : فأكرم أخاك ببعض ما شاهدت من آثارهما.

قال : كان مولانا أبو الحسن عليّ بن محمّد العسكري عليه‌السلام فقّهني في أمر الرقيق فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلّا بإذنه ، فأجتنب بذلك موارد الشبهات حتّى كملت معرفتي فيه فأصبت الفرق بين الحلال والحرام ، فبينما أنا ذات ليلة في منزلي بسرّ من رأى إذ قرع الباب قارع ، فعدوت مسرعا فإذا بكافور الخادم رسول مولانا أبي الحسن عليّ ابن محمّد عليه‌السلام يدعوني إليه ، فلبست ثيابي فدخلت عليه فرأيت يحدّث ابنه أبا محمّد عليه‌السلام وأخته حكيمة من وراء الستر ، فلمّا جلست قال : يا بشر ، إنّك من

٣٠٢

ولد الأنصار وهذه الولاية لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف ، وأنتم ثقتنا أهل البيت ، وإنّي مزكّيك ومشرّفك بفضيلة تسبق بها سائر الشيعة في الموالاة بها ، بسرّ أطّلعك عليه وأنفّذك في شراء جارية ، فكتب كتابا لطيفا بخطّ روميّ ولغة روميّة وطبع عليه خاتمه وأخرج شقّة صفراء فيها مائتان وعشرون دينارا فقال : خذها وتوجّه بها إلى بغداد وأحضر معبر الفرات ضحوة كذا ، فإذا وصلت ترى إلى جانبك زواريق السبايا وبرزن الجواري فستحدق بهنّ طوائف المبتاعين من وكلاء قوّاد بني العبّاس وشراذم من فتيان العراق ، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمّى بعمر بن يزيد النخّاس عامّة نهارك إلى أن يبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا ، لا بسة حريرين صفيقين تمتنع من السفور ولمس المتعرّض والانقياد لمن يحاول لمسها أو يشغل نظره بتأمّل مكاشفها من وراء الستر الرقيق ، فيضربها النخّاس فتصرخ صرخة روميّة ، فاعلم إنّها تقول : واهتك ستراه! فيقول بعض المبتاعين بثلاثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبة ، فتقول بالعربيّة : لو برزت في زيّ سليمان بن داود على مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة فاشفق على مالك. فيقول النخّاس : فما الحيلة ولا بدّ من بيعك؟ فتقول الجارية : وما العجلة ولا بدّ من اختيار مبتاع يسكن قلبي إلى أمانته وديانته ، فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخّاس وقل له : إنّ معي كتابا مختوما لبعض الأشراف كتبه بلغة روميّة وخطا روميّ ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه فناولها لتأمّل منه أخلاق صاحبه فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.

قال بشر بن سليمان : فامتثلت جميع ما حدّه لي مولاي أبو الحسن عليه‌السلام في أمر الجارية ، فلمّا نظرت في الكتاب بكت بكاء شديدا فقالت لعمر بن يزيد : بعني من صاحب هذا الكتاب وحلفت بأيمان المغلّظة أنّه متى امتنع من بيعها منه أهلكت نفسها ، فمازلت أشاحّه في ثمنها حتّى استقرّ الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه

٣٠٣

مولاي من الدنانير في الشقّة الصفراء ، فاستوفاه منّي وتسلّمت منه الجارية ضاحكة مستبشرة وانصرفت بها إلى حجرتي التي كنت آوي إليها ببغداد ، فما أخذها القرار حتّى أخرجت كتاب مولانا عليه‌السلام من جيبها وهي تلثمه وتضعه على خدّها وتطبّقه على جفونها وتمسحه على بدنها ، فقلت تعجّبا منها : أتلثمين كتابا لا تعرفين صاحبه؟ فقالت : أيّها العاجز الضعيف المعرفة بمحلّ أولاد الأنبياء! أعرني سمعك وفرّغ لي قلبك ، أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم ، وأمّي من ولد الحواريّين ، تنسب إلى وصيّ المسيح شمعون ، أنبّئك بالعجيب ، إنّ جدّي قيصر ملك الروم أراد أن يزوّجني من ابن أخيه وأنا بنت ثلاث عشرة سنة فجمع في قصره من نسل الحواريّين من القسّيسين والرهبان ثلاثمائة رجل ومن ذوي الأخطار منهم سبعمائة رجل ، وجمع من أمراء الأجناد وقوّاد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف رجل ، وأبرز هو من بهيّ ملكه عرشا مصنوعا من أصناف الجواهر إلى صحن القصر فرفعه فوق أربعين مرقاة ، فلمّا صعد ابن أخيه وأحدقت به الصلبان وقامت الأساقفة عكّفا ونشرت أسفار الإنجيل تساقطت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض وتقوّضت الأعمدة وانهارت إلى القرار وخرّ الصاعد من العرش مغشيّا عليه.

فتغيّرت ألوان الأساقفة وارتعدت فرائصهم ، فقال كبيرهم لجدّي ، أيّها الملك ، أعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالّة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكائي فتطيّر جدّي من ذلك تطيّرا شديدا وقال للأساقفة : أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا هذه الصلبان وأحضروا أخا هذا المدبّر العاهر المنكوس حظّه لأزوّج منه هذه الصبيّه فيدفع نحوسته عنكم بسعوده. فلمّا فعلوا ذلك حدث على الثاني مثل ما حدث على الأوّل ، وتفرّق الناس وقام جدّي قيصر مغتمّا ودخل قصره وأرخت الستور ، فأريت في تلك الليلة كأنّ المسيح وشمعون وعدّة من الحواريّين قد

٣٠٤

اجتمعوا في قصر جدّي ونصبوا فيه منبرا من نور يباري السماء علوّا وارتفاعا في الموضع الذي كان جدّي نصب فيه عرشه ، فدخل عليهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله مع فتية وعدّة من بنيه فيقوم إليه المسيح فيعتنقه فيقول : يا روح الله ، إنّي جئتك خاطبا من وصيّك شمعون فتاته مليكة لا بني هذا ـ وأومأ بيده إلى أبي محمّد عليه‌السلام ابن صاحب هذا الكتاب ـ. فنظر المسيح إلى شمعون فقال له : قد أتاك الشرف ، فصل رحمك برحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : قد فعلت ، فصعد ذلك المنبر فخطب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وزوّجني من ابنه وشهد المسيح عليه‌السلام وشهد بنو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والحواريّون ، فلمّا استيقظت من نومي أشفقت أن أقصّ هذه الرؤيا على أبي وجدّي مخافة القتل فكنت أسرّها في نفسي ولا أبديها لهم ، وضرب صدري بمحبّة أبي محمّد عليه‌السلام حتّى امتنعت من الطعام والشراب ، فضعفت نفسي ودقّ شخصي ومرضت مرضا شديدا فما بقي من مداين الروم طبيب إلّا أحضره جدّي وسأله عن دوائي ، فلمّا برح به اليأس قال : يا قرّة عيني ، فهل يخطر ببالك شهوة فأوردكها في هذه الدنيا؟ فقلت : يا جدّي ، أرى أبواب الفرج عليّ مغلّقة فلو كشفت العذاب عمّن في سجنك من أسارى المسلمين وفككت عنهم الأغلال وتصدّقت عليهم ومنّيتهم الخلاص رجوت أن يهب المسيحى وأمّه لي العافية والشفاء ، فلمّا فعل ذلك جدّي تجلّدت في إظهار الصحّة في بدني وتناولت يسيرا من الطعام ، فسرّ بذلك جدّي وأقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم.

فأريت أيضا بعد أربع ليال كأنّ سيّدة النساء عليها‌السلام قد زارتني ومعها مريم بنت عمران وألف من وصائف الجنان ، فتقول لي مريم : هذه سيّدة النساء أمّ زوجك أبي محمّد عليه‌السلام ، فتعلّقت بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمّد من زيارتي ، فقالت لي سيّدة النساء : إنّ ابني أبا محمّد لا يزورك وأنت مشركة بالله جلّ ذكره وعلى دين النصارى وهذه أختي مريم تبرأ إلى الله عزوجل من دينك ، فإن ملت إلى رضى الله

٣٠٥

عزوجل وإلى رضى المسيح ومريم عنك وزيارة أبي محمّد إيّاك فقولي : «أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله» ، فلمّا تكلّمت بهذه الكلمة ضمّتني سيّدة النساء إلى صدرها فطيّبت نفسي وقالت : الآن توقّعي زيارة أبي محمّد إيّاك فإنّي منفذته إليك. فانتبهت وأنا أقول : واشوقاه إلى لقاء أبي محمّد.

فلمّا كانت الليلة القابلة جاءني أبو محمّد في منامي فرأيته كأنّي أقول له : لم جفوتني يا حبيبي بعد أن شغلت قلبي بجوامع حبّك؟ فقال : ما كان تأخيري عنك إلّا لشركك وإذ قد أسلمت فأنا زائرك كلّ ليلة إلى أن يجمع الله شملنا في العيان ، فما قطع زيارته عنّي بعد ذلك إلى هذه الغاية.

قال بشر : فقلت لها : وكيف صرت في الأسارى؟

فقالت : أخبرني أبو محمّد ليلة من الليالي أنّ جدّك سيسير جيوشا إلى قتال المسلمين يوم كذا وكذا ثمّ يتبعهم فعليك باللحاق متنكّرة في زيّ الخدم مع عدّة من الوصائف من طريق كذا ، ففعلت فوقعت علينا طلايع المسلمين حتّى كان من أمري ما رأيت وما شاهدت وما شعر أحد بأنّني ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية سواك ، وذلك باطّلاعي إيّاك عليه. ولقد سألني الشيخ الذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته وقلت : نرجس. فقال : اسم الجواري.

فقلت : العجب إنّك روميّة ولسانك عربيّ؟!

فقالت : بلغ من ولوع جدّي وحمله إيّاي على تعليم الآداب أن أوعز إلى امرأة ترجمان له في اختلاف إليّ فكانت تقصدني صباحا ومساء وتفيدني العربيّة حتّى استمرّ عليها لساني واستقام.

قال بشر : فلمّا انكفأت بها إلى سرّ من رأى دخلت على مولانا أبي الحسن ، فقال لها : كيف أراك الله عزّ الإسلام وذلّ النصرانيّة وشرف أهل بيت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قالت : كيف أصف لك يابن رسول الله ما أنت أعلم به منّي.

٣٠٦

قال : أحبّ أن أكرمك فأيّما أحبّ إليك عشرة آلاف دينار أو بشرى لك فيها شرف الأبد؟ قالت : بل الشرف. قال عليه‌السلام : فابشري بولد يملك الدنيا شرقا وغربا ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

قالت : ممّن؟ قال عليه‌السلام : ممّن خطبك رسول الله له من ليلة كذا من شهر كذا من سنة كذا بالروميّة.

قالت : من المسيح ووصيّه؟ قال : فممّن زوّجك المسيح ووصيّه؟ قالت : من ابنك أبي محمّد عليه‌السلام. قال : فهل تعرفينه؟ قالت : وهل خلوت ليلة من زيارته إيّاي منذ الليلة أسلمت فيها على يد سيّدة النساء أمّه عليها‌السلام؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام : يا كافور ، أدع لي أختي حكيمة رضي‌الله‌عنها ، فلمّا دخلت عليه قال لها : ها هي فاعتنقتها طويلا وسرّت بها كثيرا. فقال مولانا : يا بنت رسول الله ، أخرجيها إلى منزلك وعلّميها الفرائض والسنن فإنّها زوجة أبي محمّد عليه‌السلام وأمّ القائم.

كيفيّة ولادة الحجّة برواية الحضيني

أورد الحسين بن همذان الحضيني في الهداية بإسناده عن حكيمة بنت الإمام الجواد عليه‌السلام ـ على ما في مدينة المعاجز ـ قال : حدّثني من أثق به من المشايخ عن حكيمة بنت الإمام الجواد عليه‌السلام قال : كانت حكيمة تدخل على أبي محمّد وتدعو له أن يرزقه الله ولدا ، وإنّها قالت : دخلت عليه وقلت له كما أقول ودعوت له كما كنت أدعو ، فقال : أما كنت تدعين أن يرزقني الله ولدا ، فاستجاب الله دعائك فكوني عندنا الليلة. فقلت : يا سيّدي ، ممّن يكون هذا الولد العظيم؟ فقال : من نرجس يا عمّة. قال : فقالت : يا سيّدي ، ما في جواريك أحبّ إليّ منها وقمت ودخلت عليها وكنت إذا دخلت فعلت بي ما كانت تفعل ، فانكببت على قدميها فقبّلتها ممّا كانت

٣٠٧

تفعله فخاطبتني بالسيادة فخاطبتها بمثلها ، فقالت : فديتك ، فقلت لها : أنا أفديك وجميع العالمين ، فأنكرت ذلك ، فقلت : لم تنكرين مما فعلت؟ فإنّ الله سيهب لك في هذه الليلة غلاما سيّدا في الدنيا والآخرة وهو فرج المؤمنين فاستحيت فتأمّلتها فلم أر بها أثر حمل ، فقلت لسيّدي أبي محمّد عليه‌السلام : ما أرى بها حملا؟ فتبسّم ، فقال : إنّا معاشر الأوصياء ليس نحمل في البطون وإنّما نحمل في الجنوب ولا نخرج من الأرحام وإنّما نخرج من الفخذ الأيمن من أمّهاتنا لأنّنا نور الله الذي لا تناله الدنسات. فقلت له : يا سيّدي ، لقد أخبرتني أنّه يولد في هذه الليلة فأيّ وقت منها؟ فقال : في طلوع الفجر يولد المولود الكريم على الله إن شاء الله.

قالت حكيمة : فقمت فأفطرت ونمت بالقرب من نرجس وبات أبو محمّد عليه‌السلام في صفّة تلك الدار التي نحن فيها ، فلمّا صار وقت صلاة الليل ونرجس نائمة ما بها أثر ولادة فأخذت في صلاتي ثمّ أو ترت فوقع في نفسي أنّ الفجر قد طلع ودخل في قلبي شيء ، فصاح أبو محمّد عليه‌السلام من الصفة لم يطلع الفجر يا عمّة ، فأسرعت الصلاة وتحرّكت نرجس فدنوت منها وضممتها إلى صدري وسمّيت عليها ثمّ قلت لها : هل تحسّين بشيء؟ فقالت : نعم ، فوقع عليّ سبات لم أتمالك معه حتّى نمت ووقع على نرجس مثل ذلك فنامت فلم أنتبه إلّا وسيّدي المهدي مولود ساجدا بمساجده مكتوب على ذراعه : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(١) فضممته إليّ فوجدته مفروغا منه ولففته في ثوب فصاح بي أبو محمّد يقول : يا عمّة ، هاتي إليّ ابني ، فحملته إلى أبي محمّد عليه‌السلام فأخذه وأقعده على راحته اليمنى وأمره على ظهره وبطنه ومفاصله ثمّ أدخل لسانه عليه‌السلام في فيه ثمّ قال له : تكلّم يا بنيّ. فقال : «أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله وأنّ عليّا وليّ الله أمير المؤمنين» ثمّ لم يزل يعدّد السادة عليهم‌السلام إلى أن بلغ إلى نفسه ودعا لأوليائه بالفرج على يديه.

__________________

(١) الإسراء : ٨١.

٣٠٨

ثمّ قال أبو محمّد : يا عمّة ، اذهبي به إلى أمّه ليسلّم عليها وائتني به ، فمضيت به فسلّم عليها ورددته إليه ثمّ وقع بيني وبين أبي محمّد كالحجاب فلم أر سيّدي ، فقلت له : يا سيّدي ، أين مولانا؟ فقال : أخذه منّي من هو أحقّ به منك ، فإذا كان اليوم السابع فأتينا. قالت : جئت يوم السابع فسلّمت ثمّ جلست فقال عليه‌السلام : هلمّي بابني ، فجئته لسيّدي وهو في ثياب صفر ، ففعل له كفعاله الأوّل وجعل لسانه عليه‌السلام في فيه ثمّ قال له : تكلّم يا بني. فقال : «أشهد أن لا إله إلّا الله» وثنّى بالصلاة على محمّد وأمير المؤمنين والأئمّة حتّى وقف على أبيه ثمّ قرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)(١) ثمّ قال : اقرأ يا بني ممّا أنزل الله على أنبيائه ورسله ، فابتدأ بصحف آدم عليه‌السلام فقرأها بالسريانيّة ، وكتاب إدريس عليه‌السلام وكتاب نوح عليه‌السلام وكتاب هود عليه‌السلام وكتاب صالح عليه‌السلام وصحف إبراهيم عليه‌السلام وتوراة موسى عليه‌السلام وزبور داود عليه‌السلام وإنجيل عيسى عليه‌السلام وقرآن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قصّ قصص النبيّين والمرسلين إلى عهده.

فلمّا كان أربعون يوما دخلت دار أبي محمّد عليه‌السلام فإذا مولاي الصاحب يمشي في الدار فلم أر وجها أحسن من وجهه ولا لغة أفصح من لغته. فقال لي أبو محمّد عليه‌السلام : هذا المولود الكريم على الله عزوجل. فقلت له : أربعون يوما وأنا أدري من أمره ما أدري. فقال : يا عمّة ، إنّا معاشر الأوصياء ننشؤ في اليوم ممّا ينشؤ غيرنا في الأسبوع ما ينشؤ غيرنا في السنة ، فقمت وقبّلت رأسه وانصرفت وعدت وتفقّدته فلم أره ، فقلت لسيّدي أبي محمّد عليه‌السلام ما فعل مولانا فقال : يا عمّتاه ، استودعناه الذي استودع موسى عليه‌السلام.

قالت : قال أبو محمّد عليه‌السلام : لمّا وهب لي ربّي مهدي هذه الأمّة أرسل ملكين

__________________

(١) القصص : ٥ و ٦.

٣٠٩

فحملاه إلى سرادق العرش حتّى وقف بين يدي الله عزوجل فقال له مرحبا بك عبدي لنصرة ديني وإظهار أمري ومهديّ عبادي ، آليت إنّي بك آخذ وبك أعطي وبك أغفر وبك أعذّب ، اردداه أيّها الملكان إلى أبيه ردّا رفيقا وأبلغاه أنّه في ضمني وفي كنفي وبعيني إلى أن أحقّ به الحقّ وأبطل به الباطل وتكون الدين لي واصبا.

ثمّ قال : لمّا سقط من بطن أمّه إلى الأرض عطس وقال : الحمد لله ربّ العالمين صلى‌الله‌عليه‌وآله زعمت الظلمة أنّ حجّة الله داحضة.

ثمّ اعلم أنّ لأمّ القائم عجّل الله فرجه خمسة أسماء أشهرها نرجس ، ويقال لها مليكة وصقيل وريحانة وسوسن ، سمّيت بجميع ذلك على التعاقب كما هي العادة في الجواري.

[مقبرة الجدّة أمّ أبي محمّد العسكري عليه‌السلام]

ومنها : مقبرة الجدّة أمّ أبي محمّد العسكري عليه‌السلام كما رواه الصدوق في الإكمال بإسناده عن محمّد بن قنبر الكبير مولى الرضا عليه‌السلام قال : خرج صاحب الزمان على جعفر الكذّاب من موضع لم يعلم به عند ما نازع في الميراث عند مضي أبي محمّد عليه‌السلام فقال له : يا جعفر ، مالك تتعرّض في حقوقي؟ فتحيّر جعفر وبهت ثمّ غاب عنه ، فطلب جعفر بعد ذلك في الناس فلم يره ، فلمّا ماتت الجدّة أمّ أبي محمّد عليه‌السلام أمرت أن تدفن في الدار ، فنازعهم وقال : هي داري لا تدفن فيها ، فخرج عليه‌السلام فقال له : يا جعفر ، دارك هي أم داري؟ ثمّ غاب فلم يره بعد ذلك.

واسمها حديث أو حديثة وقيل سوسن وقيل سليل ولعلّها سمّيت بجميع ذلك على التعاقب كما عرفت آنفا.

وروى المسعودي في اثبات الوصيّة أنّها لمّا دخلت على أبي الحسن الهادي عليه‌السلام قال : سليل مسلولة من الآفات والعاهات والأرجاس والأنجاس.

٣١٠

وقال المجلسي في الجلاء : إنّها في نهاية الورع والتقوى والعفاف والصلاح.

وفي اثبات الوصيّة عن الحميري بسنده عن أمّ أبي محمّد عليه‌السلام إنّه قال لها : يصيبني في سنة ستّين حزازة أخاف أن أنكب منها نكبة ، فأظهرت الجزع وأخذت في البكاء فقال : لا بدّ من وقوع أمر الله ، لا تجزعي .. إلى آخر ما يقال.

وفي الإكمال : إنّ أمّ أبي محمّد عليه‌السلام قدمت من المدينة إلى سرّ من رأى حين اتصل بها إنّ ابنها توفّي وكانت لها أقاصيص يطول شرحها مع أخيه جعفر من مطالبته إيّاها بميارثه وسعايته بها إلى السلطان وكشف ما أمر الله عزوجل بسرته وادّعت أمّ أبي محمّد عليه‌السلام وصيّته وأثبت ذلك عند القاضي والسلطان.

وسيأتي في أحوال جعفر الكذّاب أنّه بعد وفاة أبي محمّد عليه‌السلام بقي يأكل ما كان له حتّى لم يتبقّ له قوت يوم فأمرت الجدّة أمّ أبي محمّد أن يجري عليه من مالها الدقيق واللحم والشعير والتبن لدوابّة والكسوة لأولاده وأمّهاتهم وحشمه وغلمانه ونفقاتهم.

وتقدّم آنفا عن الإكمال أنّ أحمد بن إبراهيم سئل عن السيّدة حكيمة بنت الإمام الجواد عليه‌السلام وقال : اليوم إلى من تفزع الشيعة؟ فقالت : إلى الجدّة أمّ أبي محمّد. وهذا غاية الشرف والجلالة ونهاية الفضل والنبالة حيث أنّها كانت واسطة بين الإمام والأمّة وقابلة لحمل أسرار الإمامة والوصاية.

[مقبرة جعفر الكذّاب]

ومنها : مقبرة جعفر الذي يعرف باسم الكذّاب : توفّي في سامرّاء ودفن في الدار ، وستأتي أخباره وما روي في حقّه بصورة تفصيليّة ، وقد خرج فيه توقيع عن الحجّة عجّل الله تعالى فرجه كما في الاحتجاج للطبرسي ، ونصّه : «وأمّا سبيل عمّي جعفر وولده فسبيل إخوة يوسف» يعني لا تثريب له وإنّ الله عزوجل يتجاوز عن سيّئاته ويغفر له.

٣١١

[مقبرة الحسين بن عليّ الهادي عليه‌السلام]

ومنها : مقبرة الحسين بن عليّ الهادي عليه‌السلام : توفّي في سامرّاء ودفن في الدار بعد وفاة أبيه وأخيه ، غير أنّي لم أظفر على تاريخ وفاته ولا تفصيل حياته إلّا أنّ في بعض الأخبار يعبّر عنه وعن أخيه أبي محمّد الحسن عليه‌السلام بالسبطين تشبيها بالحسن والحسين عليهما‌السلام.

وعن شجرة الأولياء الذي ألّفه السيّد الفقيه المحدّث الحكيم السيّد أحمد الأردكاني قال عند ذكر أولاد عليّ الهادي عليه‌السلام : إنّ الحسين كان زاهدا عابدا معترفا بإمامة أخيه أبي محمّد الحسن.

وذكر المحدّث القمّي في المفاتيح : والمعروف أنّ عدّة من السادة العظام مدفونون عند ضريح العسكريّين عليهما‌السلام منهم الحسين بن عليّ الهادي عليه‌السلام وإنّي لم أطّلع على حاله ولكن الذي يخطر بالبال إنّه كان سيّدا جليلا عظيم القدر والشأن حيث أنّي استفدت من بعض الأخبار أنّه يعبّر عنهما بالسبطين تشبيها بالحسن والحسين عليهما‌السلام.

وفي بحر الأنساب لملك الكتّاب : أمّا حسين بن عليّ الهادي عليه‌السلام له أربعة أولاد وهم : جعفر ومحمود وباقر وزين العابدين ، رحلوا بعد وفاة أبيهم من سامرّاء إلى بلدة الأرمن بلاد الري فقتلوا بعد وصولهم بها.

وعن أمالي الشيخ عن الفحّام قال : حدّثني أبو الطيب أحمد بن محمّد بن بوطير ـ وكان لا يدخل المشهد ويزور من وراء الشبّاك ـ فقال لي : جئت يوم عاشوراء نصف نهار ظهير والشمس تغلي والطريق خال من أحد وأنا فزع من الدعاة ومن أهل البلد الجفاة إلى أن بلغت الحائط الذي أمضي منه إلى الشبّاك ، فمددت عيني وإذا برجل على الباب ظهره إليّ كأنّه ينظر في دفتر ، فقال لي : إلى أين يا أبا الطيب ـ بصوت يشبه صوت الحسين بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر عليهم‌السلام ـ؟ فقلت : هذا حسين قد جاء يزور أخاه. قلت : يا سيّدي ، أمضي أزور من الشبّاك

٣١٢

وأجيئك وأقضي حقّك. قال : ولم لا تدخل يا أبا الطيب؟ فقلت له : الدار لها مالك لا أدخلها من غير إذنه. فقال : يا أبا الطيب ، تكون مولانا وابن رقّنا توالينا حقّا ونمنعك تدخل الدار؟! ادخل يا أبا الطيب. فجئت إلى الباب وليس أحد فتعسّر بي فبادرت إلى البصرى خادم الموضع فتح لي الباب فدخلت فقال : أليس كنت لا تدخل الدار؟ فقلت : أمّا أنا فقد أذن لي وبقيتم أنتم.

وسيأتي في الشعراء أنّ أبا الطيب كان جدّه بوطير غلام الإمام أبي الحسن الهادي عليه‌السلام وهو سمّاه بهذا الاسم ، وكان متأدّبا يحضر الديوان.

[مقبرة الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام]

ومنها : مقبرة الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام : ولد بالمدينة يوم الجمعة أو الاثنين في العاشر أو الرابع أو الثامن من ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين أو إحدى وثلاثين ومأتين ، وشخص إلى العراق بشخوص والده إليها وله أربع سنين وشهور ، وتوفّي بسرّ من رأى يوم الجمعة مع صلاة الغداة أو الأحد أو الأربعاء لثمان ليال خلون من ربيع الأوّل سنة ستّين ومأتين وله يومئذ ثمان وعشرون سنة ودفن بجانب أبيه في دارهما ، وستأتي أخباره ومعجزاته ودلائل إمامته وسائر سيره وما روي عنه في معان شتّى بصورة تفصيليّة إن شاء الله.

[مقبرة الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام]

ومنها : مقبرة الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام ، وقد أفردت كتابا كبيرا في سيرته وأخباره ومعجزاته ودلائل إمامته وأولاده وأصحابه وما روي عنه في معان شتّى وجعلناه الجزء الثالث لكتابنا هذا مطبوع ، وإنّا نذكر الآن صفة بناء الدار التي هي اليوم الروضة البهيّة وما طرأ عليها من الإصلاحات في مرور الزمان منذ بنيت إلى يومنا هذا حسب ما ظفرنا عليه بعد التتبّع التامّ.

٣١٣

[صفة بناء الدار (الروضة البهيّة للعسكريّين عليهما‌السلام)]

كانت الدار صحراء لا عمارة بها ، فلمّا أخذ المعتصم بتمصيرها في سنة ٢٢١ وتلاحقت العمارات بنى هذا المكان دارا لدليل بن يعقوب النصراني وله ذكر في القوّاد والكتّاب كما تقدّم في محلّه ، ثمّ احتاج إلى بيعها فابتاع منه الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام كما صرّح بذلك الخطيب البغدادي في تاريخه ، قال في ترجمة الإمام عليّ

٣١٤

الهادي عليه‌السلام : «إنّه اشترى دارا من دليل بن يعقوب النصراني وتوفّي بها». فلمّا توفّي عليه‌السلام دفن في وسط داره ثمّ دفن بجنبه الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ثمّ نرجس ثمّ حكيمة رضي‌الله‌عنهما ، ثمّ الجدّة أمّ الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ثمّ الحسين بن عليّ الهادي عليه‌السلام ومعهم أبو هاشم الجعفري وجعفر الكذّاب ؛ وهذه القبور كانت مشهدا لأهل الدار ولمن ورد عليهم من المحبّين.

صفة الدار

وكانت الدار في غاية العمارة والسعة كما يظهر من خبر إسحاق الجلّاب المروي في الكافي ، قال : اشتريت لأبي الحسن الهادي عليه‌السلام غنما كثيرا فدعاني وأدخلني من اصطبل داره إلى موضع لا أعرفه .. الخ.

وفي خبر آخر : فرأيتها كأنّها الجنّة.

سيأتي في معاجز الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام أنّ محمّد بن يحيى الخرقي قال : انتهي بي إلى باب عظيم ودخل بي من دهليز إلى دهليز ومن دار إلى دار يمرّ بي كأنّها الجنّة .. الخ.

وفي الخبر المروي في الإرشاد إنّهم حضروا دار أبي الحسن الهادي عليه‌السلام يوم توفّي ابنه محمّد وقد بسط له في صحن داره والناس جلوس حوله ، فقالوا : قدّرنا أن يكون حوله من الطالبيّين والعبّاسيّين أو قريش مائة وخمسون رجلا سوى مواليه وسائر الناس .. الخ.

وحدّثني العلّامة الخبير الميرزا محمّد الطهراني نزيل سامرّاء سلّمه الله قال : حدّثني السيّد العلّامة الورع الزاهد العابد السيّد المرتضى الكشميري رحمه‌الله إنّه قال : وكان في الدار أربع مائة كرسيّ للجالسين الواردين حين توفّي أبو جعفر محمّد بن عليّ الهادي عليه‌السلام.

٣١٥

وكانت الدار على هيئتها إلى خلافة المعتضد لأنّ أهل محلّة العسكر كانوا على حالهم لعدم المداخلة في أمر الخلفاء والأمراء حين اختلّت أمور سامرّاء ، وسار المعتمد منها إلى حرب يعقوب بن الليث الصفّار وسمع الناس أيضا بخروج صاحب الزنج في البصرة وغلب الأتراك في سامرّاء بعضهم على بعض ، وتوفّي عبيد الله بن خاقان فجأة ، وعوقب الناس بالظنّ والتهمة ، وهاجر الناس منها إلى بغداد حتّى أخليت سامرّاء غير محلّة العسكر إلى حدود سنة ثمانين ومأتين ، وفي تلك السنة أرسل المعتضد (١) رشيق المازراني ـ كما رواه الشيخ في كتابه الغيبة وغيره ، قال رشيق :

بعث إلينا المعتضد ونحن ثلاثة نفر فأمرنا أن يركب كلّ واحد منّا فرسا نجيبا ونخرج مختفيا لا يكون معنا قليل ولا كثير ، وقال لنا : الحقوا بسامرّاء ووصف لنا دارا ومحلّة وقال : إذا أتيتموها تجدون على الباب خادما أسود ، فاكبسوا الدار ، فمن رأيتموه فيها فأتوني برأسه.

فوافينا سامرّاء فوجدنا الأمر كما وصفه ، وفي الدهليز خادم أسود ، وفي يده تكّة ينسجها ، فسألناه عن الدار ومن فيها ، فقال : صاحبها ، فو الله ما التفت إلينا وقلّ اكتراثه بنا ، فكبسنا الدار كما أمرنا فوجدنا دارا سرية ومقابل الدار ستر ، ما نظرت قطّ إلى أنبل منه ، كأنّ الأيدي رفعت عنه في ذلك الوقت ، ولم نر في الدار أحدا ، فرفعنا الستر فإذا به بيت كبير وفي آخر البيت بحر ، وفي أقصى الماء حصير قد علمنا أنّه على الماء وفوقه رجل من أحسن الناس هيئة قائم يصلّي ، فلم يلتفت إلينا

__________________

(١) هو السادس عشر من الخلفاء العبّاسيّين ومدّة خلافته تسع سنين وقيل عشر سنين. توفّي وهو ابن ستّ وأربعين سنة ، وكان ملكا شجاعا مهيبا ظاهر الجبروت ، وافر العقل ، وكان يقابل الأسد وحده لشجاعته ، وكان قليل الرحمة إذا غضب ، ذا سياسة عظيمة ، وهابه الناس ورهبوه أعظم رهبة ، وسكنت الفتن في أيّامه لفرط هيبته ، فسيأتي أخباره في محلّه بصورة تفصيليّة.

٣١٦

ولا إلى شيء من أسبابنا ، فسبق أحمد بن عبد الله ليتخطّى البيت فغرق في الماء وما زال يضطرب حتّى مددت يدي إليه فخلّصته ، فلمّا أخرجته غشي عليه وبقي ساعة وعاد صاحبه الثاني إلى فعل صاحبه فناله مثل ذلك ، فبقيت مبهوتا ، فقلت لصاحب البيت : المعذرة لله وإليك ، فو الله ما علمت الخبر وإلى من أجيء وأنا تائب إلى الله ، فما التفت إلى شيء ممّا قلنا وما انتقل عمّا كان فيه ، فها لنا ذلك وانصرفنا عنه ، وقد كان المعتضد ينتظرنا ، وقد تقدّم إلى الحجّاب إذا وافيناه أن ندخل عليه في أيّ وقت كان ، فوافيناه في بعض الليل فأدخلنا عليه فسألنا عن الخبر ، فحكينا له ما رأينا ، فقال : ويحكم ، لقيتم أحدا قبل اجتماعي معكم؟ قلنا : لا. فقال : أنا نفي من جدّي ، وحلف بأشدّ أيمان له ، أيّ رجل منّا بلغه هذا الخبر ليضربنّ أعناقنا ، فما جسرنا أن نحدّث به إلّا بعد موته.

وكانت الدار على هذه الحالة وكانت التولية والسدانة بيدهم وإذا بدت الدار ثلمة يسدّونها ويعمرونها.

وتقدّم آنفا أنّ أبا الطيب قال : بادرت إلى البصري خادم الموضع .. الخ.

ونصبوا على الحائط شباكا مشرفا على الشارع وبعض الناس يزور الإمامين عليهما‌السلام من وراء الشبّاك ولا يدخل البيت. وكانت الحالة على ذلك إلى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ، فلمّا أخليت محلّة عسكر أيضا حتّى لم يبق فيها إلّا خان وبقال للمارّة تعيّن من بغداد في السنة المذكورة نفر للسدانة فكانوا يجيئون مع الزوّار ويرجعون كما صرّح بذلك العلّامة الخبير الشيخ محمّد السماوي أدام الله وجوده في وشايح السرّاء (١) بقوله :

وكانت القبور وسط الدار

وقيّم منهم لها يداري

__________________

(١) وشايح السرّاء : ٢٧.

٣١٧

حتّى إذا ما انتقضت سامرّا

وارتحل الأهلون منها قسرا

تخلّفت محلّة لا تنكر

فيها قبور الدار وهي العسكر

فإنّ جلّ أهل ذلك المحل

لم يدخلوا مع الملوك في عمل

ولم تزل تزداد يوما يوما

تضمّ فيها بعد قوم قوما

وكانت النوّاب في بغداد

توزع للزوّار بالترداد

حتّى مضى آخرهم تعيينا

في سنة الثمان والعشرينا

بعد ثلاث من مئات تدرى

وكانت الغيبة وهي الكبرى

فصار ترميم البنا إذا انهدم

لمن بتلك الدار من باقي الخدم

وقد رأى الرضي شيخا قد أسن

وكان خادما لموانا الحسن

العمارة الثانية

عمارة ناصر الدولة من آل حمدان. هو أوّل من بنى قبّة على القبر الشريف ، وجعل لسامرّاء سورا ، وجلّل ضريحيهما بستور ، وبنى حول الدار الشريفة دورا إلى أن صارت سامرّاء مسكونة. قال العلّامة السماوي عطفا على ما سبق في وشايح السرّاء :

ثمّ ابتدت في ضخم البنيان

لناصر الدولة من حمدان

غداة حلّ سامراء وانبرى

يحارب المعز عند عكبرا

فشيّد الدار وشيّد الجدث

خوفا عليها في الهياج من حدث

وكلّل الضريح بالستور

وحاط سرّ من رأى بسور

في ثلث ألف الهجرة المختارة

فأرّخوا (أبهجها عمارة) (١)

__________________

(١) مطابقة لسنة ٣٣٣.

٣١٨

نبذة من آثار آل حمدان

ناصر الدولة هذا هو أبو محمّد الحسن بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبي ، كان صاحب الموصل وما والاها ، وتنقّلت به الأحوال تارات إلى أن ملك الموصل بعد أن كان نائبا بها عن أبيه ، ثمّ لقّبه الخليفة المتقي بالله ب «ناصر الدولة» في مستهلّ شعبان سنة ثلاثين وثلائماة ، ولقّب أخاه أبا الحسن عليّ بن عبد الله بسيف الدولة في ذلك اليوم أيضا ، وعظم شأنهما. وكان المكتفي بالله قد ولّى أبا هما عبد الله الموصل وأعمالها في سنة اثنتين وتسعين ومأتين. وكان ناصر الدولة أكبر سنّا من أخيه سيف الدولة ، وأقدم منزلة عند الخلفاء ، وكان كثير التأدّب معه ، شديد المحبّة له ، توفّي أبو الحسن سيف الدولة سنة ست وخمسين وثلاثمائة بحلب ، ونقل إلى ميافارقين ودفن في تربة أمّه.

وقال ابن خلّكان في وفيات الأعيان : كان مرضه عسر البول ، وكان قد جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئا وعمله لبنة بقدر الكفّ وأوصى أن يوضع خدّه عليها في لحده فنفّذت وصيّته في ذلك.

وقد أطنب الكلام في آثار هم الفاضل الأديب أبو منصور الثعالبي في كتاب يتيمة الدهر المطبوع ، وقال في بعض كلماته : «كان بنو حمدان ملوكا أوجههم للصباحة ، وألسنتهم للفصاحة ، وأيديهم للسماحة ، وعقولهم للرجاحة ، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم وواسطة قلادتهم ، وحضرته مقصد الوفود ، ومطلع الوجود ، وقبلة الآمال ، ومحطّ الرحال ، وموسم الأدباء ، وحلية الشعراء ، ويقال : إنّه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر» وإنّما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها ، كان أديبا شاعرا محبّا لجيد الشعر ، شديد الاهتزاز له ، وكان كلّ واحد من أبي محمّد عبد الله بن محمّد

٣١٩

الفيّاض الكاتب وأبي الحسن عليّ بن محمّد الشمشاطي قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت ، وكانت لسيف الدولة جارية من بنات الملوك في غاية الجمال ، فحسدها بقيّة الحظايا لقربها منه ومحلّها من قلبه وعز من على ايقاع مكروه بها من سمّ أو غيره فبلّغه الخبر وخاف عليها ، فنقلها إلى بعض الحصون احتياطا وقال :

راقبتني العيون فيك فأشفقت

ولم أخل قطّ من إشفاق

ورأيت العدوّ يحسدني

فيك مجدّا بأنفس الأعلاق

فتمنّيت أن تكوني بعيدا

والذي بيننا من الودّ باق

ربّ هجر يكون من خوف هجر

وفراق يكون خوف فراق

ومن شعره أيضا :

أقبّله على جزع

كشرب الطائر الفزع

رأى ماء فأطمعه

وخاف عواقب الطمع

وصادف خلسة فدنا

ولم يلتذّ بالجرع

وآل حمدان أكثرهم شعراء فضلاء أدباء سيّما أبو فراس وسيف الدولة ، وسنتلو عليك نبذة من أخبارهم في الشعراء الذين دخلوا سامرّاء. ولمّا توفّي سيف الدولة تغيّرت أحوال ناصر الدولة لكثرة محبّته له. وتوفّي ناصر الدولة في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة ، ودفن بتلّ توبة شرقي الموصل ، وتقدّم ذكر تلّ توبة عند ذكر تلّ المخالي.

وكانت مدّة ملك آل حمدان من سنة ٣٢٣ إلى سنة ٣٦٨ تقريبا وقيل إلى سنة ٣٩١. قال السيّد قاضي نور الله في مجالس المؤمنين : إنّه لا شبهة في تشيّع آل حمدان واشتهارهم به وكان بنو حمدان يأخذون أصولهم عن المفيد قدس‌سره ، وكان للمفيد رسالة في الإمامة كتبها باسم ناصر الدولة.

٣٢٠