مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-035-8
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٠٨

فسيّج الروض بخير ساج

وستّر الضريح بالديباج

وعمّر الأروقة المعظّمه

ووسّع الصحن لها ونظّمه

وشيّد السور من الحذّار

على الذين جاوروا للدار

وذاك في الثمان والستّينا

بعد ثلاثمائة سنينا

ويحتمل أنّ هذا سور الدار أي الصحن الشريف لا سور البلدة أو إنّه أسّسه ولم يتمّه وتوفّي في خلال العمل. ويظهر من حكاية إسماعيل بن الحسن الهرقلي الآتي ذكره في محلّه الذي كان في حدود الستّمائة والستّين أنّ سامرّاء كانت مسوّرة حيث قال : «فرأيت أربعة فرسان خارجين من باب السور» فبقي السور إمّا ناقصا أو غلب عليه الخراب إلى حدود سنة أربعين ومائتين بعد الألف ، فقام بعمارته الملك المفخّم النوّاب المعظّم أمجد علي شاه الهندي ابن واجد علي شاه فأنفق مالا جزيلا حتّى أتمّه وأكمله وكان ذلك في حدود سنة ألف ومائتين وثمان وخمسين على ما جاء في كتاب «الظلّ الممدود» المطبوع للسيّد مفتي مير محمّد عبّاس الهندي.

ويستفاد من الكتاب المذكور أنّ الملك المفخّم النوّاب الأعظم أمجد علي شاه وأباه واجد علي شاه من رجال الشيعة العظام ، كانا كثيري الإحسان للعلماء والطلّاب ، وكان النوّاب المذكور قد أرسل النقود إلى العلّامة الشهير السيّد إبراهيم الحائري صاحب كتاب «ضوابط الأصول» فتوجّه السيّد إلى سامرّاء لعمارة سورها إلى أن أتمّه وأكمله بأحسن وجه.

ثمّ الحكومة العربيّة أرادت أن توسّع البلدة فأمرت بهدم السور في شهر المحرّم سنة ١٣٥٦ ففي خلال عملهم بهدم السور اجتمع أهالي سامرّاء وقدّموا مضابط إلى أولياء الأمر ببغداد مستنكرين العمل المذكور ، فأجابوهم : إنّكم إذا أثبتّم أنّ السور وقف للعسكريّين عليهما‌السلام عن مصادر تاريخيّة فإنّا نوقف العمل فاستخبروني وطلبوا منّي مصادر وثيقة تاريخيّة وكنت أقدّم في الجواب رجلا وأؤخّر أخرى ،

٢٠١

فلمّا ألحوّا في الطلب أرشدتهم الى شيخي الأستاذ الخبير الشيخ آقا بزرك الطهراني صاحب الذريعة ، فأجابهم بما هذا لفظه :

«إنّي لم أطّلع على ورقة وقفيّة مسجّلة بخطوط الأعاظم والأعيان مذكور فيها خصوصيّات الوقف لهذا السور ولا أظنّ أحدا يدّعي الاطّلاع على مثل ذلك في وقفيّة أو وقفيّة العمارات الحادثة في سامرّاء في عصر سليمان باشا وهي سنة ١٢٠٢ وما بعدها على ما ذكره السيّد عبد اللطيف الجزائري في كتابه تحفة العالم المطبوع (١) الفارسي ، نعم رأيت في مصادر تاريخيّة مطبوعة ما يستفاد من مجموعه أنّ السيّد إبراهيم بن محمّد باقر الموسوي القزويني الحائري المتوفّى بها سنة ١٢٦٢ الرئيس الكبير الزعيم للشيعة في عصره كانت تجبى إليه الأموال من بلاد إيران وغيرها ولا سيّما من بلاد الهند لصرفها في الفقراء والطلّاب وعمارة المشاهد ، وصورة المراسلات الجارية بينه وبين السيّد حسين ابن السيّد دلدار علي اللكهنوي أدرجها السيّد مفتي ير محمّد عبّاس في كتابه «الظلّ الممدود» المطبوع ، وفيها ذكر بعض الأموال المرسلة من الهند إلى السيّد إبراهيم للفقراء وعمارة مشهد مسلم وهاني رضي‌الله‌عنهما في الكوفة وغير ذلك.

وفي «قصص العلماء» المطبوع الفارسي لميرزا محمّد التنكابني المؤلّف سنة ١٢٩٠ ذكر (٢) أنّ فلوس الهند التي تجبى إليه في كلّ سنة كانت تزيد على عشرين ألف دينار أي عشرين ألف مثقال ذهب في ذلك العصر ، وفي ص ٤ لم يعيّن المقدار ولكنّه ذكر أنّه كانت تأتيه الأموال من الهند ليصرفها في الفقراء وعمارة المشاهد المشرّفة ، وهنا صرّح بأنّ السيّد إبراهيم قد سعى وبذل جهده حتّى تمّم بناء قلعة

__________________

(١) تحفة العالم : ٨٨.

(٢) قصص العلماء : ٩.

٢٠٢

سامرّاء ، والقلعة في لسان الفرس هو سور البلد ، ولم يعيّن هنا سنة البناء والتتميم لكنّه أشار إلى تاريخه (١).

وكذا ذكر تاريخ ذهاب السيّد إبراهيم إلى سامرّاء لأجل العمارة في المجلّد الأوّل ص ٢٣٣ من كتاب «نامه دانشوران» الفارسي المطبوع بطهران سنة ١٢٩٦ بما ملخّصه أنّ السيّد إبراهيم خرج من كربلا متوجّها إلى سامرّاء لأجل العمارة بها في أوان شرارة أهالي كربلا وفسادهم وهتكهم ، وبعد خروج السيّد ، صدر الأمر من الباب العالي العثماني بتأديب الأشرار فصار ما صار ، وكان ذلك في سنة ١٢٥٨ الموافق للفظ «غد بردم».

وفي أوّل روضات الجنّات المطبوع ذكر في ترجمة السيّد إبراهيم أنّه ألّف كتابه «نتايج الأصول» المطبوع في أيّام مهاجرته إلى سامرّاء وقد فرغ من تأليفه سنة ١٢٥٣ ، فظهر أنّه تكرّر الذهاب منه إلى سامرّاء في تلك المدّة وكان بناء السور بين هذين التاريخين تقريبا.

وقد أدركنا من أهل سامرّاء من معمّريهم من كان في ذلك العصر من العمّال المشتغلين في بناء السور وكان يحدّث الناس بأحاديث السيّد إبراهيم وغيره ، فلا شبهة في أنّه أجرى بناء السور في سبيل الله من السيّد إبراهيم الذي هو أكبر علماء الشيعة في عصره وأعلمهم بالأحكام ، أخرج عين المال من نفسه وعن باذله وجعله في سبيل الله ، وهذا العمل في الخارج هو عمل الواقفين والوقف هو حبس العين وتسبيل المنفعة وقد عمله السيّد المذكور قطعا» انتهى.

ثمّ إنّ العلّامة الكبير فقيه الشيعة اليوم والمرجع العام السيّد أبو الحسن الأصفهاني أدام الله وجوده قصد زيارة الإمامين عليهما‌السلام في سامرّاء في شهر رمضان

__________________

(١) نفسه : ٨.

٢٠٣

ودخلها يوم التاسع عشر منه سنة ١٣٥٦ وبقي فيها شهرا كاملا ، وكان يوم دخوله يوما مشهودا ، فجرى في مجلسه العام قضيّة سور سامرّاء ، فقال دام علاه : لا شبهة في وقفيّة سور سامرّاء ولا يعتبر فيه صيغة الوقف أن تكون عربيّة ، والظاهر كفاية المعاطاة في مثل المساجد والمقابر والطرق والشوارع والقناطر والربط المعدّة لنزول المسافرين والأشجار المغروسة لانتفاع المارّة بظلّها ، وسور سامرّاء من هذا القبيل حيث عيّن بانيه قطعة من الأرض وخلّى بينها وبين المسلمين ، وعلى طبق كلامه هذا أفتى في باب الوقف من رسالته الكبيرة «وسيلة النجاة» (١).

نبذة من حياة السيّد إبراهيم المذكور

وبمناسبة ذكر السيّد إبراهيم الساعي في بناء السور المذكور نورد لك نبذة من حياته الشريفة.

قال العلّامة السيّد محمّد باقر الخوانساري في روضات الجنّات في ترجمته السيّد الجليل الفاضل الفاخر إبراهيم ابن المرحوم السيّد محمّد باقر الموسوي القزويني المجاور بالحائر الطاهر : هو من أجلّة علماء عصرنا ، وأعزّة فضلاء زماننا ، لم أر مثله في الفضل والتقرير ، وجودة التحبير ، ومكارم الأخلاق ، ومحامد السياق ، والإحاطة بمسائل الأصول ، والمتانة فيما يكتب أو يقول ، انتقل مع أبيه المبرور من محالّ دار السلطنة قزوين الى محروسة قرمسين ، وقرأ مبادئ العلوم على من كان فيها من المدرّسين ، وكان بها إلى أن حرّكته الغيرة العلويّة وحدّة الهمّة الهاشميّة على العروج إلى معالم العلم والدين ، والخروج عن مدارج أوهام المبتدين ، والولوج في مناهج أعلام المجتهدين ، فودّع من هنالك أباه ، وشفّع رضا الله تعالى برضاه ، هاجر ثانية الهجرتين ، وسافر إلى تربة مولانا الحسين عليه‌السلام وأخذ في التلمّذ على أفاضل

__________________

(١) ثمّ إنّ الحكومة لأجل توسيع البلد هدمه تدريجا.

٢٠٤

المشهدين ، والأخذ من الأماجد المجتهدين ، فمن أكثر عليه الاشتغال بالحائر المقدّس في مراتب الأصول رئيس الأصوليّين النبلاء الفحول ، بل الجامع بين المعقول والمنقول مولانا شريف الدين محمّد بن المولى حسنعلي الآملي المازندراني الأصل الحائري المسكن والمدفن في حدود سنة ١٢٤٦ ، وهذا الشيخ هو الذي ملأ الأصقاع آثار تأسيسه ، وقرع الأسماع أصوات تدريسه ، فبلغ أمر سيّدنا المشار إليه من التلمّذ البالغ الكثير على هذا الأستاذ المعظّم إلى حيث كان يدرّس في حياته ، وتهوي إليه أفئدة الطلّاب قبل وفاته ، وأخذ الفقه كما شاء وأراد من فقهاء النجف الأشرف وخصوصا عن شيخه الأفقه الأفخر الشيخ موسى بن جعفر الكبير فقد تلمّذ عليه كثير ، وهو الآن فالحمد لله واحد زمانه في شريف مكانه ، وأنهي إليه الرياسة التدريس على حسب شأنه ، بحيث يشدّ إلى سدّة العليّة رواحل الآمال من كلّ بلد سحيق ، وتلوي إلى عتبته المنيعة أعناق الأماني من كلّ فجّ عميق. لا زال رياض الفضل بنضارة علمه ممرعة ، وحياض الشرع من غزارة فضله مترعة ، ما طلع طالع الإقبال ، وخطر خاطر بالبال.

ثمّ إنّ له من التصنيفات الرائقة والتأليفات الفائقة كتاب «ضوابط الأصول» على أكمل تفصيل ، وكتاب «دلائل الأحكام» في أجود تدليل. وكتاب «نتائج الأفكار» في الأصول مبتنيا على مائة وخمسين فصلا من الفصول كتبه في أيّام هجرته إلى زيارة سيّدينا العسكريّين عليهما‌السلام من ظهر القلب وبدون المراجعة إلى شيء من أساطين الفنّ. وقد كنت كتبت على ظهر نسخته دام ظلّه أبياتا قد ألهمني الله إيّاها في وصف الكتاب لأنّي انتسخت بخطّي من نسخة الأصل ، ومن جملتها :

هذا جمال دفاتر الأخبار

هذا ثمال أفاضل الأدوار

هذا سلافة عصرهم من أسرهم

فيه الكفاية عن عنا الأسفار

لا يعتري ظفر الخصومة متنه

إلّا بردّ الخصم ردّ خسار

٢٠٥

عمّ الخلائق نفعه من حينه

رغما لكلّ مخلّط أخباري

هذا هدى ويريد من لا يهتدي

بهداه رجسا صالحا للنار

خير الكلام بيانه الوافي وفي

أبياته لدقائق الأسرار

الفضل مختوم به وختامه

مسك فذق فلنعم عقبى الدار

أفكاره فازت بكلّ كريمة

فأتى الكتاب «نتائج الأفكار»

آبار سامرّاء ونواحيها

المراد بها أنّ عشيرة أو عشيرتين تنزل في ناحية وكان لهم دالية أو ناعور أو مضخة ماء ويضاف كلّا منها إليهم ، ويعرف كلّ واحد منها باسم خاص ، منها بئر العجم ، بئر أبو فراج ، بئر القادسية ، بئر چرد البركات ، بئر چرد المعمار ، بر أتك الهوى ، بئر بحيرة ، بئر الكوش ، بئر تلّ الأسود ، بئر الثنية ، بئر حويفة ، بئر حاجي علي ، بئر أبو ذكر ، بئر أم جدح ، بئر جمعة ، بئر أبو درج ، بئر أبو رف ، بئر الأعصام ، بئر الجمل ، بئر الأملح ، بئر أمّ الغربان ، بئر أمّ الحات ، بئر الحدامات ، بئر الجباريات ، بئر الحلواني ، بئر أمّ سليم ، بئر أبو مشاعل ، بئر أبو عيسى ، بئر سويدة ، بئر البرسة ، بئر أشناس ، بئر أبو دلف ، بئر شيخ ولي ، بئر الحراريح ، بئر تلّ النبات ، بئر جويزرا ، بئر طارميّة ، بئر تلّ الذهب ، بئر جيزانيّة ، بئر أستاد عبد الله ، بئر بني سعد ، بئر حويصلات ، بئر تلّ مسايح ، بئر أمّ الطلّاب ، بئر طويرانيّة ، بئر أمّ الجماجم ، بئر أبو فصلة ، بئر أبو حيّه ، بئر أبو لوحة ، بئر أبو جوابي ، بئر أبو جم ، بئر الخاتونيّات ، بئر خرّ الصاف ، بئر الخضر ، بئر خان مشاهد ، بئر الداير ، بئر الدناقيز ، بئر الدكّة ، بئر دل سالم ، بئر دماس ، بئر دور العرياني ، بئر الرجم ، بئر زرير ، بئر زلزاليات ، بر زنكور ، بئر عسيلة ، بئر سرابس ، بئر سور الوسطاني ، بئر سور عيسى ، بئر شريعة غزال ، بئر عين الجمل ، بئر الشوكة ، بئر صخير ، بئر

٢٠٦

علّاوي ، بئر علي شوش ، بئر عيث ، بئر الفضيلات ، بئر قطرة ، بئر محيجر ، بئر المزيحة ، بئر المقليات ، بئر مكاك ، بئر معيجل ، بئر النازوز ، بئر الناذري ، بشر هويجة ، بئر هاوي ، بئر المنقور ، بئر ضلوعيّة ، وغيرها من الآبار.

وتقدّم من اليعقوبي في البلدان أنّ العمارة اتصلت بين بغداد وسرّ من رأى في البحر والبرّ يعني دجلة وجانبى دجلة ، وبما أنّ العراق اشتهرت بين العرب بجمالها الفتّان وزخرفها الجذّاب ومواقعها النزهة وقصورها الشاهقة القامرة وسارت الركبان بذكرها لوجودها في آخر ريف العراق قريبة من البادية على طريق القوافل ومسير القبائل وللصلات القوميّة بين سكّانها وسكّان جزيرة العرب ولذلك قلّما يوجد الخراب فيها بخلافها في هذه الأعصار. ويرشدنا آثار البناء والعمارات الموجودة عند الآبار المزبورة إلى أنّ هذه الأراضي كلّها أو بعضها كانت معمورة حتّى قبل الإسلام كما صرّح بذلك الأستاذ يوسف رزق الله في تاريخ الحيرة (١) قال : لمّا حدث سيل العرم وكان في أواخر القرن الأوّل للميلاد أو أوائل القرن الثاني تمزّقت عرب اليمن من مدينة مأرب إلى العراق والشام فكانت تنوخ وهم حيّ من أحياء الأزد ممّن تمزّق إلى العراق ، وهذا الاسم مشتقّ من التنويخ بمعنى الإقامة ، فكان أوّل من اختطّها منهم مالك بن زهير ، واجتمع إليهم لمّا ابتنوا بها المنازل ناس كثير من سقاط القرى. وذكر حمزة الأصفهاني أنّ الأزد ساروا بعد ذلك إلى العراق مع مالك بن فهم الأزدي وجعلوا الحيرة عاصمة ملكهم وحصلت لهم سلطة واسعة النطاق هذا بعد الميلاد ، وأمّا قبله أسّسوا أقدم مملكة في بابل سنة ألف ومائتين بعد الهبوط وقبل الميلاد ومدّت أطناب ملكهم في شرق الدنيا وغربها فضلا عن سامرّاء ونواحيها.

وقال أيضا (٢) : أضحت الحيرة بعد عهد جذيمة الأبرش مركزا مهمّا للعرب ،

__________________

(١) تاريخ الحيرة : ١١٥.

(٢) نفسه : ٨.

٢٠٧

وجاء تبّع وهو سعد بن أبي كرب إنّه نزل بالعراق ومرّ بالحيرة وخلّف قوما من الأزد وجذام وقضاعة وطيّ وكلب وسكون وأياد وكان منهم فرق مبثوثة في الشمال في أطراف الحضرموت ومافوقه وفي الوسط والجنوب في الحيرة والأنبار والأبلة وغيرها من مذحج وحمير وبكر وتغلب وربيعة أنمار وتميم وبنو العبيد وبنو أسد وبنو بهراء وبنو صالح وبنو يزيد إلى أن خاف ملوك الفرس حتّى أنّ أردشير مؤسّس الدولة الساسانيّة ضيّق الخناق عليهم فكرهت قضاعة الإقامة في العراق فهاجر قوم إلى الشام. وإنّ سابور ذا الأكتاف قتل مائة ألف رجل من قضاعة وأفنى قبائل كثيرة كالعبيد ، وأصيب قبائل حلوان ، وانقرضوا فقتل منهم من انتجع بلاد فارس أبرح القتل ، وغزاهم في بلادهم وأسر منهم أعنف الأسر ، ونزع أكتاف رؤوسهم ، ونقل جملة منهم إلى الأنبار إلى «بقّة» و «العقير» وحفر خندقا في برية الكوفة بينه وبين العرب ، وبنى مدينة هفّة (١) وأسكنها أيادا لمّا قتل منهم من قتل في مدينة شالها (٢) وخشي أمرهم كسرى أنوشيروان وحفر خندقا من هيت يشقّ طرف البادية إلى كاظمة.

ويقول عمر بن آلة في انقراض قبائل العبيد :

ألم يحزنك والأنباء تنسى

بما لاقت سراة بني العبيد

ومصرع ضيّزان وبني أبيه

وأحلاس الكتائب من تزيد

فهدم من أواسي الحصن صخرا

فكان ثفاله برّ الحديد

وقال المسعودي في مروج الذهب : كان شدّاد بن عامر من العرب العاربة وإنّ ملكه احتوى على سائر ممالك العرب ، وله كان مسير في الأرض ومطاف في البلاد وبأس عظيم في ممالك الدنيا وغيرها من ممالك الشرق.

__________________

(١) هفّة مدينة قديمة كانت في طرف السواد بناها سابور ذو أكتاف وأثرها باق.

(٢) شالها مدينة قديمة كانت بأرض خرّبها أياد. (المراصد)

٢٠٨

المعجم الهجائي لذكر البقاع والأمكنة في سامرّاء ونواحيها

حاضرها وماضيها

نذكر هاهنا زيادة على ما تقدّم ما عثرنا عليه من الأمكنة والبقاع فيها كي يعلم موقعيّة سامرّاء وأراضيها مستنهضين همم الراغبين إلى عمارتها ، وللساعين لشتييدها ، وإليك أسماؤها على ترتيب حروف الهجاء.

أبو دلف

اسم موضع في شرقي سامرّاء القديمة وشمالي سامرّاء الحالية على بعد خمسة عشر كيلومترا ولم يبق منه إلّا الجامع والمأذنة.

جاء في كتاب الآثار العراقيّة (١) : يشبه جامع أبي دلف جامع سامرّاء شبها كبيرا من حيث التخطيط العام وهو أيضا مستطيل الشكل ، ذو صحن مكشوف محاط من جهاته الأربع بأروقة كما أنّ مأذنته أيضا ملويّة الشكل ذات مرقاة خارجيّة ، وفي الأخير فإنّه محاط أيضا بساحة فسيحة مسوّرة. وأمّا الفروق التي تميّز هذا الجامع من المسجد الجامع المتوكّل فتنحصر في الأبعاد وعدد الأروقة وفي كيفيّة التسقيف. طول جامع أبي دلف مائتان وخمسة عشر مترا ، وعرضه مائة وثمانية

__________________

(١) الآثار العراقيّة : ٦٦.

٢٠٩

وثلاثون مترا ، مأذنته تبعد عن الجدار الشمالي خمسة كيلومترات وتسعة أعشار المتر ، وأمّا عدد الأروقة فهو سبعة في الجنوب وثلاثة في الشمال واثنان في كلّ من الشرق والغرب ، وأعمدة الجامع ترتبط بعضها ببعض بطوق معقودة ، وسقفه كان يستند بطبيعة الحال إلى هذه الطوق والعقادات ، غير أنّ منظر بقايا هذا الجامع يختلف عن منظر بقايا المسجد الجامع اختلافا كلّيّا بالرغم من المشابهة الأساسيّة التي ذكرنها آنفا ؛ لأنّ أعمدته واروقته قاومت الخراب أكثر من جدرانه ، فأصبحت الأقسام الشاخصة منها أكثر من الأقسام الشاخصة من الجدران ، والسبب في ذلك هو أنّ الجدران بنيت باللبن على الأكثر في حين أنّ الأعمدة جعلت ضخمة بوجه عام لكي تستطيع أن تحمل الطوق والعقادات.

٢١٠

وفي ريّ سامرّاء (١) قال : تعدّ بقايا جامع أبي دلف القائمة خارج حدود مدينة المتوكليّة في نهاية الشارع الأعظم شمالا من أبرز الخرائب في منطقة المتوكليّة.

إلى أن قال : أمّا الجامع فيشبه جامع الملويّة الذي بناه المتوكّل في شرقيّ سرّ من رأى في أوّل طرف الحير شبها كبيرا ؛ فهو مستطيل الشكل أيضا ، طوله ١٥٨ متر ، وعرضه ١٠٨ متر ، وله صحن مكشوف محاط من جهاته الأربع بأروقة ، وإلى جانبه مأذنته ملويّة الشكل أيضا ذات مرقاة خارجيّة يبلغ ارتفاعها من مستوى التبليط حتّى القمّة المتهدّمة نحو ١٦ متر.

ثمّ إنّ صاحب كتاب الآثار زعم أنّ بناء الجامع المذكور من أبنية المتوكّل ونسبه إلى اليعقوبي وقال : جامع أبي دلف بناه جعفر المتوكّل وسمّاه باسمه كما جاء ذكره في كتاب اليعقوبي ، وليس في اليعقوبي لفظ «وسماّه باسمه».

__________________

(١) ريّ سامرّاء ١ / ١٣٧.

٢١١

قال اليعقوبي في البلدان (١) : وبنى المسجد الجامع في أوّل الحير في موضع واسع خارج المنازل لا يتصل به شيء من القطايع والأسواق ، وأتقنه ووسّعه وأحكم بناه وجعل فيه فوّارة ماء لا ينقطع ماؤها ، وهذا التفصيل يناسب جامع الملويّة أضف إلى ذلك أنّا لم نعرف رجلا مشتهرا بهذه الكنية غير أبي دلف قاسم بن عيسى العجلي المتوفّى سنة خمس وعشرين ومائتين في خلافة المعتصم.

والذي يقوى في النظر أنّه أسّس هذا الجامع والمأذنة وأقطعه المعتصم. ومن المستبعد غاية البعد أنّ المعتصم أقطع جميع قوّاده ومماليكه ولم يجعل لأبي دلف قطيعة مع أنّه كان من أعظم قوّاده واشهر أمراء عساكره. وإليك أنموذجا من مآثر أبي دلف وفضائله مستندين في نقلها على المصادر الوثيقة.

مآثر أبي دلف قاسم بن عيسى العجلي

ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه : القاسم بن عيسى بن إدريس العجلي أبو دلف ، أمير الكرج ، كان شاعرا ، أديبا ، سمحا ، جوادا ، بطلا ، شجاعا ، ورد بغداد دفعات ، وبها مات سنة ٢٢٥.

وقال ابن خلّكان في وفيات الأعيان في حرف القاف : أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي ، كان أحد قوّاد المامون ثمّ المعتصم من بعده ، وكان كريما سريّا جوادا ممدوحا شجاعا مقداما ، ذا وقايع مشهورة ، وصنايع مأثورة ، أخذ عنه الأدباء والفضلاء ، وله صنعة في الغناء ، وله من الكتب كتاب البزاة والصيد ، وكتاب السلاح ، وكتاب النزهة ، وكتاب سياسة الملوك ، ولقد مدحه أبو تمام الطائي بأحسن المدائح ، ثمّ ساق الكلام إلى ما هو صريح في تشيّعه.

__________________

(١) البلدان : ٣٢.

٢١٢

وعن إرشاد الديلمي عن الإمام أبي محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام قال : إنّ أبا دلف الذي كان من أعاظم الأمراء وكان مشهورا بالجود تصدّق يوما بجلّة من التمر وكان عدد ما فيها ثلاثة آلاف وستّين تمرة ، فعوّضه الله ثلاثة آلاف وستّين قرية بكلّ تمرة قرية.

قال القاضي في مجالسه : الأمين المؤيّد باللطف الخفي والجلي ، أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي ، كان من بيوت الجود والكرم ، ومن أعاظم الأمراء في خلافة المأمون والمعتصم ، ويقتبسون السلاطين من أنوار فضله ، ويأخذون من رأيه في السياسة المدنيّة ، ويطيعونه بما يعطيهم من مشورته ، ويخضعون له الفضلاء والحكماء ويقدّمونه على جميع الفصحاء والشعراء والأجواد. وقد اشتهر صيت جوده وسخائه على الأقطار ، وعلا قدره على الأقدار ، وكان للظالم خصما وللمظلوم عونا ، وكان يستأنس مع الفقراء وأرباب الحوائج ، مع حشمته وجلالة قدره وهيبته ، وربّما ينحل من بنان بيانه عقد المشكلات ، ويوضح من بركات فضله حقايق المعضلات. ومن آثار شجاعته وبسالته ما هو مشهور في الأساطير والمطوّلات. ثمّ أخذ في ذكر مآثره وإثبات تشيّعه.

وقال ابن عبد ربّه في العقد الفريد : دخل أبو دلف على المأمون وقد كان عتب عليه ثمّ أقاله ، فقال له : يابن عيسى ـ وقد خلا مجلسه ـ قل يا أبا دلف ، وما عسيت أن تقول وقد رضي عنك أمير المؤمنين وغفر لك ما فعلت. فقال : يا أمير المؤمنين.

ليالي تدني منك بالبشر مجلسي

ووجهك من ماء البشاشة يقطر

فمن لي بالعين التي كنت مرّة

إليّ بها في سالف الدهر تنظر

قال المأمون : لك بها رجوعك إلى مناصحتك وإقبالك على طاعتك ، ثمّ عاد له إلى ما كان عليه.

وقال له المأمون يوما : أنت الذي تقول : ما أراك قدمت لحقّ طاعة ، ولا قضيت

٢١٣

واجب حرمة؟ قال : يا أمير المؤمنين ، إنّما هي نعمتك ونحن فيها خدمك ، وما إراقة دمي في طاعتك إلّا بعض ما يجب لك.

ودخل أبو دلف على المأمون فقال : أنت الذي يقول فيك ابن جبلة :

إنّما الدنيا أبو دلف

بين باديه ومحتضره

فإذا ولّى أبو دلف

ولّت الدنيا على أثره

فقال : يا أمير المؤمنين ، شهادة زور ، وكذب شاعر ، وملق مستجدّ ، ولكنّي الذي يقول فيه ابن أخيه :

ذريني أجول الأرض في طلب الغنى

فما الكرج الدنيا ولا الناس قاسم

قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد : خرجت رفقة إلى مكّة وفيها أبو دلف القاسم بن عيسى ، فلمّا تجاوزت الكوفة حضرت الأعراب وكثرت تريد اغتيال الرفقة فتسرّع قوم إليهم فزجرهم أبو دلف وقال : مالكم ولهذا؟ ثمّ انفصل بأصحابه فعبّأ عسكره ميمنة وميسرة وقلبا فلمّا سمع الأعراب أنّ أبا دلف حاضر انهزموا من غير حرب ، ثمّ مضى بالناس حتّى حجّ فلمّا رجعوا أخبرت القافلة بأنّ الأعراب قد احتشدوا احتشادا عظيما وهم قاصدون القافلة ، وكان في القافلة رجل أديب شاعر في ناحية طاهر بن الحسين ، فكتب إلى أبي دلف بهذه الأبيات :

جرت بدموعها العين الذروف

وظلّ من البكاء لها حليف

أبا دلف وأنت عميد بكر

وحيث العزّ والشرف المنيف

تلاق عصابة هلكت فما أن

بها ألّا تداركها خفوف

كفعلك في البدى وقد تداعت

من الأعراب مقبلة زحوف

فلمّا أن رأوك لهم حليفا

وخيلك حولهم عصبا عكوف

ثنوا عنقا وقد سخنت عيون

لما لا قوا وقد رغمت أنوف

فلمّا قرأ أبو دلف الأبيات أجاب عنها بغير إطالة فكر ولا رويّة ، فقال :

٢١٤

رجال لا تهولهم المنايا

ولا يشجيهم الأمر المخوف

وطعن بالقنا الخطّيّ حتّى

تحلّ بمن أخافكم الحتوف

ونصر الله عصمتنا جميعا

وبالرحمان ينتصر اللهيف

وقال : أنشد محمّد بن القاسم بن خلّاد في شجاعة أبي دلف :

وإذا بدا لك قاسم يوم الوغى

يختال خلت أمامه قنديلا

وإذا تلذّذ بالعمود ولينه

خلت العمود بكفّه منديلا

وإذا تناول صخرة ليرضّها

عادت كثيبا في يديه مهيلا

قالوا وينظم فارسين بطعنة

يوم اللقاء ولا يراه جليلا

لا تعجبوا لو كان مدّ قناته

ميلا إذا نظم الفوارس ميلا

قال : وأنشد بكر بن النطاح أبا دلف :

مثال أبي دلف أمّة

وخلق أبي دلف عسكري

وإنّ المنايا إلى الدارء

ين بعين أبي دلف تنظر

فأمر له بعشرة آلاف درهم فمضى فاشترى بها بستانا بنهر الأبلة ثمّ عاد من قابل فأنشده :

بك ابتعت في نهر الأبلّة جنّة

عليها قصير بالرخام مشيد

إلى لزقها أخت لها يعرضونها

وعندك مال للهبات عتيد

فقال له أبو دلف : بكم الأخرى؟ قال : بعشرة آلاف ، قال : ادفعوها إليه. ثمّ قال له : لا تجئني من قابل فتقول لزقها أخرى فإنّك تعلم أنّ لزق كلّ أخرى أخرى متّصلة إلى ما لا نهاية له.

وقال الخطيب أيضا : أتى جعيفران أبا دلف يستأذن عليه وعنده أحمد بن يوسف ، فقال الحاجب : جعيفران الموسوس بالباب. فقال أبو دلف : ما لنا وللمجانين؟ فقال له أحمد بن يوسف : أدخله ، فلمّا دخل قال :

٢١٥

يابن أعزّ الناس مفقودا

وأكرم الأمّة موجودا

لمّا سألت الناس عن واحد

أصبح في الأمّة محمودا

قالوا جميعا إنّه قاسم

أشبه آباء له صيدا

قال : أحسنت والله ، يا غلام أكسه وادفع إليه مائة درهم. فقال : مره ـ أعزّك الله ـ أن يدفع إليّ خمسة منها ويحفظ الباقي لي. قال : ولم؟ قال : لئلّا تسرق منّي أو يشتغل قلبي بحفظها. قال : قال غلام ، ادفع إليه كلّما جائك خمسة دراهم إلى أن يفرق ببيننا الموت. قال : فبكى جعيفران ، فقال له أحمد بن يوسف : ما يبكيك؟ فقال :

يموت هذا الذي تراه

وكلّ شيء له نفاد

لو كان شيء له خلود

عمر ذا المفضل الجواد

وقال : قال العتابي : اجتمعنا على باب أبي دلف جماعة من الشعراء فكان يعدنا بأمواله من الكرج وغيرها فأتته الأموال فبسطها على الأنطاع وأجلسنا حولها ودخل علينا فقمنا إليه فأومأ إلينا أن لا نقوم إليه ، ثمّ اتكأ على قائم سيفه ، ثمّ أنشأ يقول :

ألا أيّها الزوّار لا يد عندكم

أياديكم عندي أجلّ وأكبر

فإن كنتم أفردتموني للرجا

فشكري لكم من شكركم لي أكثر

كفاني من مالي دلاص وسابح

وأبيض من صاف الحديد ومغفر

ثمّ أمر بنهب تلك الأموال فأخذ كلّ واحد على قدر قوّته.

وقال بسنده عن أبي عبد الرحمان التوزي قال : استهدى المعتصم من أبي دلف كلبا أبيض كان عنده ، فجعل في عنقه قلادة كيمخت أخضر وكتب عليها :

أوصيك خيرا به فإنّ له

خلائقا لا أزال أحمدها

يدلّ ضيفي عليّ في ظلم الليل

إذا النار نام موقدها

وقال بسنده عن أبي بكر الصولي قال : تذاكرنا يوما عند المبرّد الحظوظ

٢١٦

وأرزاق الناس من حيث لا يحتسبون ، قال : هذا يقع كثيرا ، فمنه قول ابن أبي فنن في أبيات عملها المعنى أراده :

مالي ومالك قد كلّفتني شططا

حمل السلاح وقول الدارعين قف

أمن رجال المنايا خلتني رجلا

أمسى وأصبح مشتاقا إلى التلف

يمشي المنون إلى غيري فأكرهها

فكيف أسعى إليها بارز الكتف

أم هل حسبت سواد الليل شجّعني

أو أنّ قلبي في جنبي أبي دلف

فبلغ هذا الشعر أبا دلف فوجّه إليه أربعة آلاف درهم جاءته على غفلة.

وقال بسنده عن أبي تمام الطائي يقول : دخلنا على أبي دلف أنا ودعبل بن عليّ وبعض الشعراء ـ أظنّه عمارة ـ وهو يلاعب جارية بالشطرنج ، فلمّا رآنا قال : قولوا :

ربّ يوم قطعت لا بمدام

بل بشطرنجنا نجيل الرخاخا

ثمّ أجيزوا. فبقينا ينظر بعضنا إلى بعض ، فقال : لم لا تقولون :

وسط بستان قاسم في جنان

قد علونا مفارشا ونخاخا

وحوينا من الظباء غزالا

طريا لحمه يفوق المخاخا

فنصبنا له الشباك زمانا

ونصبنا مع الشباك فخاخا

فأصدناه بعد خمسة أشهر

وسط نهر يشخّ ماه شخاخا

قال : فنهضنا عنه ، فقال : إلى أين؟ مكانكم حتّى نكتب لكم بجوائزكم. فقلنا : لا حاجة لنا في جائزتك ، حسبنا ما نزل بنا منك اليوم ، فأمر بأن تضعف لنا.

قال : وعن إبراهيم بن الحسن بن سهل أنّه قال : كنّا في موكب المأمون فترجّل له أبو دلف ، فقال له المأمون : ما أخّرك عنّا؟ فقال : علّة عرضت لي. فقال : شفاك الله وعافاك ، اركب ، فوثب من الأرض على الفرس ، فقال له المأمون : ما هذه وثبة عليل. فقال : بدعاء أمير المؤمنين شفيت.

٢١٧

قال : وعن أبي هفّان إنّه قال : كان لأبي دلف العجلي جارية تسمّى جنان ، وكان يتعشّقها ، وكان لفرط فتوّته وظرفه يسمّيها صديقتي ، فمن قوله فيها :

أحبّك يا جنان وأنت منّي

مكان الروح من جسد الجبان

ولو أنّي أقول مكان روحي

خشيت عليك بادرة الزمان

لأقدامي إذا ما الخيل كرّت

وهاب كماتها حرّ السنان

قال : وعن إدريس بن معقل إنّه قال : اجتمع على باب أبي دلف جماعة من الشعراء فمدحوه فتعذّر عليهم الوصول إليه وحجبهم حياء لضيقة نزلت به ، فأرسل إليهم خادما له يعتذر إليهم ويقول : انصرفوا في هذه السنة وعودوا في القابل فإنّي أضعّف لكم العطيّة وأبلّغكم الأمنية ، فكتبوا إليه :

أي هذا العزيز قد مسّنا الد

هر بضرّ وأهلنا أشتات

وأبونا شيخ كبير فقير

ولدينا بضاعة مزجاة

قلّ طلّابها فبارت علينا

وبضاعاتنا بها الترّهات

فاغتنم شكرنا وأوف لنا الكيل

وتصدّق علينا فإنّنا أموات

فلمّا وصل إليه الشعر ضحك وقال : عليّ بهم ، فلمّا دخلوا قال : أبيتم إلّا أن تضربوا وجهي بسورة يوسف ، فو الله إنّي لمضيّق ولكنّي أقول كما قال الشاعر :

لقد خيّرت إنّ عليك دينا

فزد في رقم دينك واقض ديني

يا غلام ، اقترض لي عشرين ألفا بأربعين وفرّقها فيهم.

انتهى ما لخّصناه من تاريخ الخطيب.

وفي وفيات الأعيان لابن خلّكان : إنّ بكر بن نطاح مدح أبا دلف وفيه يقول :

يا طالبا للكيمياء وعلمه

مدح ابن عيسى الكيمياء الأعظم

لو لم يكن في الأرض إلّا درهم

ومدحته لأتاك ذاك الدرهم

ويحكى إنّه أعطاه على هذين البيتين عشرة آلاف درهم فأغفله قليلا ، ثمّ دخل

٢١٨

عليه وقد اشترى بتلك الدراهم قرية في نهر الأبلة فأنشده ما تقدّم ذكره ، فقال فيه بكر بن نطاح :

وتيقّن الشعراء أنّ رجاءهم

في مأمن بك من وقوع الياس

ما صحّ علم الكيمياء لغيرهم

فيمن عرفنا من جميع الناس

تعطيهم الأموال في بدر إذا

حملوا الكلام إليك في قرطاس

وكان أبو دلف قد لحق أكرادا قطعوا الطريق في عمله ، فطعن فارسا فنفذت الطعنة إلى أن وصلت إلى فارس آخر وراءه رديفه فنفذ إليه السنان فقتلهما ، وفي ذلك يقول بكر بن نطاح :

* وإذا بدالك قاسم يوم الوغى*

إلى آخر الأبيات المتقدمة. وكان أبو دلف لكثرة عطائه قد ركبته الديون واشتهر ذلك عنه ، فدخل عليه بعضهم وأنشده :

أيا ربّ المنائح والعطايا

ويا طلق المحيّا والدين

لقد خبّرت أنّ عليك دينا

فزد في رقم دينك واقض ديني

فوصله وقضى دينه. ودخل عليه بعض الشعراء فأنشده :

الله أجرى من الأرزاق أكثرها

على يديك تعلم يا أبا دلف

ما خطّ لا كاتباه في صحيفته

كما تخطّط لا في سائر الصحف

قال ابن خلّكان : ومدائحه كثيرة. وله أيضا أشعار حسنة ولو لا خوف التطويل لذكرت بعضها. وكان أبوه قد شرع في عمارة مدينة كرج وأتمّها وكان بها أهله وعشيرته وأولاده.

والكرج ـ بفتح الكاف والراء وبعدها جيم ـ وهي مدينة بالجبل بين أصبهان وهمذان.

قال : وروي أنّ الأمير علي بن ماهان صنع مأدبة لمّا قدم أبو دلف من الكرج

٢١٩

ودعاه إليها وكان قد احتفل بها غاية الاحتفال فجاء بعض الشعراء ليدخل دار عليّ ابن عيسى فمنعه البوّاب فتعرّض الشاعر لأبي دلف وقد قصد دار عليّ بن عيسى وبيده جزأ فناوله إيّاها فإذا فيها مكتوب :

قل له إن لقيته

متثآن مأدبة بلا وهج

جئت في ألف فارس

لغداء من الكرج

ما على الناس بعدها

في الدناءات من حرج

فرجع أبو دلف وحلف إنّه لا يدخل الدار ولا يأكل شيئا من طعامه.

قال : ورأيت في بعض المجاميع أنّ هذا الشاعر هو عباد بن حريش وكانت المأدبة ببغداد.

قال : ورأيت في بعض المجاميع أيضا أنّ أبا دلف لمّا مرض مرض موته حجب الناس عن الدخول عليه لثقل مرضه فاتفق إنّه أفاق في بعض الأيّام فقال لحاجبه : من بالباب من المحاويج؟ فقال : عشرة من الأشراف وقد وصلوا من خراسان وهم بالباب عدّة أيّام لم يجدوا طريقا ، فقعد على فراشه واستدعاهم ، فلمّا دخلوا رحّب بهم وسألهم عن بلادهم وأحوالهم وسبب قدومهم ، فقالوا : ضاقت بنا الأحوال وسمعنا بكرمك فقصدناك ، فأمر خازنه بإحضار بعض الصناديق وأخرج منه عشرين كيسا في كلّ كيس ألف دينار ودفع لكلّ واحد منهم كيسين ، ثمّ أعطى كلّ واحد مؤنة طريقه ، وقال لهم : لا تمسّوا الأكياس حتّى تصلوا بها سالمة إلى أهلكم واصرفوا هذا في مصالح الطريق. ثمّ قال : ليكتب لي كلّ واحد منكم خطّه أنّه فلان ابن فلان حتّى ينتهي إلى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ويذكر جدّته فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ ليكتب : يا رسول الله ، إنّي وجدت إضاقة وسوء حال في بلدي وقصدت أبا دلف العجلي فأعطاني ألف دينار كرامة لك وطلبا لمرضاتك ورجاء لشفاعتك ، فكتب كلّ واحد منهم ذلك وتسلّم الأوراق وأوصى من يتولّى تجهيزه

٢٢٠