مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-035-8
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٠٨

المغرب والمشرق ، وعلى الأخصّ من ماوراء النهر بغية تكوين جيش مطيع ينزل على إرادته على الدوام ، غير أنّ تكاثر هذا الجيش الغريب في العاصمة القديمة بغداد ـ والمزدحمة بالسكان يؤدّي إلى حدوث بعض الوقايع بين العساكر والأهلين فيقرّر الخليفة إزاء هذا الحال إحداث عاصمة جديدة بعيدة عن القديمة ينتقل إليها بعساكره وقوّاده ووزرائه وكتّابه وأتباعه ويدعو الناس إليها.

فيمضي الخليفة في تحقيق فكرته هذه بعزم قويّ وفق خطّة محكمة فينتخب موقع سامرّاء بعد التحرير والبحث ، ومع هذا لم تأت بالفوائد التي قصدها ، فنقول : إنّ المعتصم كان حسب حسابا لكلّ شيء في هذا الباب غير شيء واحد وهو التطوّر الذي يحدث في نفسيّة الجيش بطبيعة الحال عندما يتكوّن أفراده وقوّاده من الغرباء ولو كانوا في الأصل من الأرقّاء.

أراد المعتصم بخطّته هذه أن يتخلّص من مشاغبات الأهالي غير أنّه لم يدرك بأنّ هذه الخطّة ستؤدّي عاجلا أم آجلا إلى جعل الخلافة ألعوبة في أيدي الجنود الغرباء وقوّاده الطامعين ، وهذا ما حدث فعلا ، فقبل أن تمضي عشرون سنة على وفاة الخليفة المعتصم الذي وضع هذه الخطّة وشرع في تطبيقها تفاقمت سيطرة القوّاد ووصلت بهم الجرأة إلى درجة قتل الخليفة المتوكّل قتلا فظيعا ، وبعد ذلك تتابعت الأحداث والاضطرابات ، وأفضت الى قتل الخلفاء وخلعهم ثلاث مرّات متواليات خلال عشر سنوات إلى أن تولّى الخلافة المعتمد ، وبعد أن صرف بعض الجهود في سبيل توطيد دعائم ملكه في سامرّاء نفسها رأى أن ينهي هذه المحاولات كلّها فقرّر أن يترك سامرّاء بالكلّيّة وأن يعيد كرسي الخلافة إلى بغداد بصورة نهائيّة ولذلك نستطيع أن نقول أنّ الخطّه السياسيّة التي وضعها المعتصم والتجربة الاجتماعيّة التي قام بها تنفيذا لهذه الخطّة انتهت بفشل تامّ.

١٨١

العراق ووجه تسميته

قال الحموي في المعجم : العراقان البصرة والكوفة سمّي بذلك من عراق القربة وهو الخرز المثنّى الذي في أسفله أي إنّه أسفله أرض العرب.

وقيل : العراق شاطئ البحر وسمّي العراق عراقا لأنّه على شاطئ دجلة والفرات مدّا حتّى يتّصل بالبحر على طوله ، وأهل الحجاز يسمّونه ما كان قريبا من البحر عراقا.

وقال حمزة : الساحل بالفارسيّة اسمه ايراه الملك فلذلك سمّوا كورة أردشير خره من أرض فارس ايراهستان لقربها من البحر فعربت العرب لفظ ايراه بإلحاق القاف فقالوا أيراق ، ومن كثرة الاستعمال قالوا عراق.

وقال : العراق تعريف ايراف بالفاء ، ومعناه مفيض الماء وحدور المياه ، وذلك أنّ دجلة والفرات بالعراق يقرّ قرارها ويسقي بساتينها.

وقيل : العراق سمّيت بذلك لاستواء أرضها حين خلت من جبال تعلوه وأودية تنخفض والعراق الاستواء في كلامهم كما قال الشاعر :

سقتم إلى الحقّ معا وساقوا

سياق من ليس لها عراق

١٨٢

حدّ العراق

أمّا حدّه من حديثة موصل طولا إلى عبّادان ، ومن العذيب بالقادسيّة إلى حلوان ، هذا حدّ السواد فيكون طوله مائة وستّين فرسخا ، وكانت السواد تعرف بميان روزان معناه بين الأنهر ، وكانت غلاة السواد تجري على المقاسمة في أيّام ملوك فارس إلى ملك قباذ بن فيروز ، فإنّه مسحه وجعل على أهله الخراج.

ويقال : إنّ أوّل من سكن السواد وعمّرها نوح النبي عليه‌السلام حين نزلها عقب الطوفان طلبا للرفاه فأقام بها وتناسلوا فيها وكثروا من بعد نوح عليه‌السلام وملكوا عليهم ملوكا وابتنوا بها المدائن ، واتصلت مساكنهم بدجلة والفرات إلى أن بلغوا من دجلة إلى أسفل كسكر ومن الفرات إلى ماوراء الكوفة وموضعهم هذا يقال له السواد ، وكانت الملوك تنزل بابل ، وكان الكلدانيّون جنودهم فلم تزل مملكتهم قائمة إلى أن قتل دارا وهو آخر ملوكهم ، ثمّ قتل منهم خلق كثير فذلّوا وانقطع ملكهم وكانت ملوك فارس إذا عنى بناحية من الأرض وعمرها سمّاها باسمه ، وكانوا ينزلون السواد ، لمّا جمع الله في أرضه من مرافق الخيرات وما يوجد فيها من غضارة العيش وطيب الهواء.

فضل العراق وأهله

قال المسعودي في مروج الذهب : قال بعض الحكماء في وصف العراق : إنّها منار الشرق ، وسرّة الأرض وقلبها ، إليه تحادرت المياه ، وبه اتصلت النضارة ، وعنده وقف الاعتدال ، وصفت أمزجة أهله ، ولطفت أذهانهم ، وأحدّت خواطرهم ، واتصلت مسرّاتهم فظهر منهم الدهاء ، وقويت عقولهم ، وثبتت بصائرهم ، وقلب

١٨٣

الأرض العراق ، وهو المجتبى من قديم الزمان ، وهو مفتاح الشرق ، ومسلك النور ، ومسرح العينين ، ومدّنه المداين وما والاها ، ولأهله أعدل الألوان ، وأنقى الروائح ، وأفضل الأمزجة ، وطواع القرائح ، وفيهم جوامع الفضائل ، وفوائد المبرّات ، وفضائله كثيرة لصفاء جوهره ، وطيب نسيمه ، واعتدال تربته ، وإغداق الماء عليه ، ورفاهيّة العيش به.

وقال الحموي في المعجم عند ذكره للعراق : والعراق أعدل أرض الله هواء ، وأصحّها مزاجا وماء ، فلذلك كان أهل العراق هم أهل العقول الصحيحة والآراء الراجحة ، والشهوات المحمودة ، والشمائل الظريفة ، والبراعة في كلّ صناعة ، مع اعتدال الأعضاء ، واستواء الأخلاط ، وسمرة الألوان ، وهم الذين أنضجتهم الأرحام ، فلم تخرجهم بين أشقر وأصهب وأبرص ، كالذي يعتري أرحام نساء الصقالبة في الشقرة ، ولم يتجاوز أرحام نسائهم في النضج إلى الإحراق ، كالزنج والنوبة والحبشة ، الذين حلك لونهم ، ونتن ريحهم ، وتفلفل شعرهم ، وفسدت آراؤهم وعقولهم ، فمن عداهم بين خمير لم ينضج ، ومجاوز للقدر حتّى خرج عن الاعتدال.

قالوا : وليس بالعراق مشتى كمتشى الجبال ولا مصيف كمصيف عمّان ، ولا صواعق كصواعق تهامة ، ولا دماميل كدماميل الجزيرة ، ولا جرب كجرب الزنج ، ولا طواعين كطواعين الشام ، ولا طحال كطحال البحرين ، ولا حمى كحمى خيبر ، ولا زلزلة كزلزال سيران ، ولا كحرارات الأهواز ، ولا كأفاعي سجستان ، وثعابين مصر ، وعقارب نصيبين ، ولا تلوّن هوائها كتلوّن هواء مصر.

وقال في حرف السين : سواد اسم لرستاق العراق وضياعها التي افتتحها المسلمون على عهد عمر بن الخطّاب والعراق ، سمّي بذلك لسواده بالزرع والنخيل والأشجار ؛ لأنّ العرب إذا خرجوا من أرضهم وظهرت لهم خضرت الزرع

١٨٤

والأشجار يسمّونه سوادا ، والسواد الاخضرار ، كما قال الفضل بن عبّاس بن عتبة وكان أسود :

وأنا الأخضر من يعرفني

أخضر الجلدة من نسل العرب

وكانت ملوك فارس ينزلون السواد لما جمع الله في أرضه من مرافق الخيرات وما يوجد فيها من غضارة العيش ، وخصب المحل ، وطيب المستقرّ وسعة ميرها من أطعمتها وأوديتها وعطرها ولطيف صناعتها ، وكانوا يشبّهون السواد بالقلب ، وسائر الدنيا بالبدن ، وكذلك سمّوه دل ايران شهر ، أي قلب ، وايران شهر الاقليم المتوسط بجميع الأقاليم ، وإنّما شبّهوه بذلك لأنّ الآراء تشعّبت عن أهله بصحّة الفكر والرؤية كما تتشعّب عن القلب بدقائق العلوم ولطائف الآداب والأحكام ، وخصب بلاد العراق بسهولة لا عوائق فيها ، ولا شواهق تشينها ، ولا مفاوز موحشة ، ولا براري منقطعة عن تواصل العمارة ، وكانت الأنهار المطّردة من رساتيقها وبين قرارها ، مع قلّة جبالها وآكامها ، وتكاثف عمارتها ، وكثرة أنواع غلّاتها وثمارها ، والتفاف أشجارها وعذوبة مائها ، وصفاء هوائها وطيب تربتها ، مع اعتدال طينتها ، وتوسّط مزاجها ، وكثرة أجناس الطير والصيد في ظلال أشجارها ، من طائر بجناح ، وماش على ظلف ، وسابح في بحر.

قد أمنت ممّا تخافه البلدان من غارات الأعداء ، وبوائق المخالفين مع ما خصّت به من الرافدين دجلة والفرات ، إذ قد اكتنفاها لا ينقطعان شتاءا ولا صيفا على بعد منافعهما في غيرها فإنّه لا ينتفع منها بكثرة فائدة حتّى يدخلاها فتسيح مياههما في جنباتها ، وتنبطح في رساتيقها ، فيأخذون صفوه هنيئا ويرسل كدره وأجنه إلى البحر لأنّهما يشتغلان عن جميع الأراضي التي يمرّان بها ولا ينتفع بهما في غير السواد إلّا بالدوالي بمشقّة وعناء ، بخلاف أرض العراق لأنّ بها يقرّان قرارهما ويسقيان بساتينها ، وتسيح في رساتيقها وحدائقها.

١٨٥

قال اليعقوبي في البلدان (١) يصف بغداد والعراق : إنّ بغداد وسط الدنيا لأنّها على ما أجمع عليه قول الحساب وتضمّنته كتب الأوائل من الحكماء في الإقليم الرابع وهو الإقليم الأوسط الذي يعتدل فيه الهواء في جميع الأزمان والفصول فيكون الحرّ بها شديدا في أيّام القيظ ، والبرد شديدا في أيّام الشتاء ، ويعتدل الفصلان الخريف والربيع في أوقاتهما ، ويكون دخول الخريف إلى الشتاء غير متبائن الهواء ، ودخول الربيع إلى الصيف غير متبائن الهواء ، وكذلك كلّ فصل ينتقل من هواء إلى هواء ، ومن زمان إلى زمان ، فلذلك اعتدل الهواء ، وطاب الثرى ، وعذب الماء ، وزكت الأشجار ، وطابت الثمار ، وأخصبت الزروع ، وكثرت الخيرات ، وقرب مستنبط معينها ، وباعتدال الهواء وطيب الثرى وعذوبة الماء حسنت أخلاق أهلها ، ونضرت وجوههم ، وانفتقت أذهانهم ، حتّى فضّلوا الناس في العلم والفهم والأدب والنظر والتميز والصناعات والمكاسب ، والحذق بكلّ مناظرة ، وإحكام كلّ مهنة وإتقان كلّ صناعة ، فليس عالم أعلم من عالمهم ، ولا أروى من راويهم ، ولا أجدل من متكلّمهم ، ولا أعرب من نحويهم ولا أصحّ من قاريهم ، ولا أمهر من متطبّبهم ، ولا أحذق من مغنّيهم ، ولا ألطف من صانعهم ، ولا أكتب من كاتبهم ، ولا أبين من منطيقهم ، ولا أعبد من عابدهم ، ولا أورع من زاهدهم ، ولا أفقه من حاكمهم ، ولا أخطب من خطيبهم ، ولا أشعر من شاعرهم ، ولا أفتك من جنديهم.

إلى أن قال : فلمّا أفضت الخلافة إلى ولد العبّاس بن عبد المطّلب عرفوا بحسن تميزهم وصحّة عقولهم وكمال آرائهم فضل العراق وجلالتها وسعتها ووسطها للدنيا وأنّها ليست كالشام الوبيئة الهواء ، الضيّقة المنازل ، الحزنة الأرض ، المتصلة الطواعين ، الجافية الأهل. ولا كمصر المتغيّرة الهواء ، الكثيرة الوباء ، التي هي بين

__________________

(١) البلدان : ٣.

١٨٦

رطب عفن كثير البخارات الرديّة التي تولد الأدواء وتفسد الغذاء ، وبين الجبل اليابس الصلد الذي ليبسه وملوحته وفساده لا ينبت فيه خضر ولا ينفجر منه عين ماء. ولا كأفر يقيّة البعيدة عن جزيرة الإسلام ، ولا عن بيت الله الحرام الجافية الأهل ، الكثيرة العدوّ ، ولا كأرمينيّة النائية الباردة الصردة الخزنة التي يحيط بها الأعداء من جميع أطرافها عدوّ كاب ومحارب حرب ، ولا مثل كور الجبل الحزنة الخشنة المثلّجة دار الأكراد الغليظي الأكباد ، ولا كأرض خراسان الطاعنة في مشرق الشمس التي يحيط بها من جميع أطرافها عدوّ كلب ، ومحارب حرب ، ولا كالحجاز النكدة العيش ، الضيّقة المكسب ، التي قوت أهلها من غيرها ، ولا كالتبّت التي بفساد هوائها وغذائها تغيّرت ألوان أهلها وصغرت أبدانهم ، وتجعّدت شعورهم ، فلمّا علموا أنّها أفضل البلدان نزلوها مختارين لها.

فضل سامرّاء على سائر بلدان العراق

سمعت آنفا أنّ المسعودي واليعقوبي وصفوا العراق بكلّ وصف جميل ، وفضّلوه على جميع الأقطار ، وشبّهوه بالقلب وسائر الدنيا بالبدن. ولا ريب أنّ سامرّاء قلب العراق ، ومعنى قولنا أنّ سامرّاء قلب العراق إنّه لا من جهة المساحة بل من جهة كونها أفضل أراضي العراق ، وبما سبق من فضل العراق أنّ سامرّاء من أطيب بلاد الله تربة ، وأعذبها ماء ، وأحسنها هواء ، وأقلّها داء ، وأصفاها جوّا ، وأوسعها فضاء ؛ لأنّ الناس اتفقت كلمتهم على أنّ سامرّاء أحسن بلاد العراق هواء وأطيبها وهو معلوم بالضرورة والوجدان لا يحتاج إلى إقامة برهان ، ومن الآسف أنّها اليوم من أخرب بلاد العراق ، وأوحشها دارا ، وأفقرها أهلا ، فسبحان الله الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

١٨٧

فضل سامرّاء على بغداد

قال الحموي في المعجم في حرف السين عند ذكره سامرّاء : كتب عبد الله بن المعتزّ إلى بعض إخوانه يصف سرّ من رأى ويذمّ بغداد وأهلها ويفضّل سامرّاء : كتبت إليك من بلدة ـ إلى أن قال : ـ تطير بها أجنحة السرور ، ويهب فيها نسيم الحبور (١) ، فالأطراف على المسرّة ، والنظر إلى ميرة ، قبل أن نحب (٢) مطايا الميرة (٣) وتسفر وجوه الخدر ، ومازال الدهر مليّا بالنوائب ، طارقا بالعجائب ، يؤمن يومه ، ويغدر غده ، على أنّها وإن جفت معشوقة السكنى ، وحبيبة المثوى ، كوكبها يقضان ، وجوّها عريان ، وحصاها جوهر ، ونسيمها معطّر ، وترابها مسك أذفر ، ويومها غداة ، وليلها سحر ، وطعامها هنيء ، وشرابها مريء ، وتاجرها مالك ، وفقيرها فاتك. لا كبغداد كم الوسخة السماء ، الرمدة الهواء ، جوّها نار ، وأرضها خبار (٤) ، وماؤها حميم ، وترابها سرجين ، وحيطانها نزوز ، وتشرينها تموز ، فكم في شمسها من محترق ، وفي ظلّها من عرق ، ضيّقة الديار ، قاسية الجوار ، ساطعة الدخان ، قليلة الضيفان ، أهلها ذئاب ، وكلامهم سباب ، وسائلهم محروم ، ومالهم مكتوم ، لا يجوز إنفاقه ، ولا يحلّ حناقه ، حشوشهم مسائل ، وطرقهم مزابل ، وحيطانهم أخصاص ، بيوتهم أقفاص ، ولكلّ مكروه أجل ، وللبقاع دول.

وقال الآخر يصف سرّ من رأى في أرجوزة له :

لست ترى في أهلها سقيما

طوبى لمن كان به مقيما

__________________

(١) أي : السرور.

(٢) النحب هنا السير السريع ، ونحب السفر فلان أجهده ، وسير متحّب كمحدّث سريع.

(٣) الميرة وهو جلب الطعام وكلّ ذلك كناية من رفاهيّة العيش.

(٤) لين الأرض ليس بأفهار ورمال.

١٨٨

وسرّ من رأ بلدة لطيفة

بديعة شايقة شريفة

أنيقة أنيسة بديعة

رشيقة نفيسة منيعة

ذات فضاء يشرح الصدورا

ويورث النشاط والسرورا

هواؤها من الوباء جنّة

كأنّها من نفحات الجنّة

قال الحسين بن الضحّاك يصف سامرّاء والاشتياق إليها :

سرّ من را أسر من بغداد

فاله عن بعض ذكرها المعتاد

حبّذا مسرح لها ليس يخلو

أبدا من طريدة وطراد

ورياض كأنّما نشر الزهر

عليها محبر الأبراد

واذكر المشرف المطلّ من التلّ

على الصادرين والورّاد

وله في سامرّا أيضا :

على سرّ من را والمصيف تحيّة

مجلّلة من مغرم بهواهما

ألا هل لمشتاق ببغداد رجعة

تقرّب من ظليهما وذراهما

وقولا لبغداد إذا ما تنّسمت

على أهل بغداد جعلت فداهما

أفي بعض يوم شفّ عيّني بالقذا

حرورك حتّى رابني ناظراهما

أضف إلى فضل سامرّاء على بغداد أنّ سامرّاء مصونة عن الغرق بخلاف بغداد فإنّها في كلّ سنة عند فيضان الماء مهدّدة بالغرق لا يقرّ لأهلها قرار ، ولا يهنأ لهم عيش.

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء : في سنة سبعين ومائتين جاء الماء من دجلة إلى الكرخ فهدم سبعة آلاف دار.

وقال في سيرة المعتضد : وفي سنة إحدى وتسعين ومائتين زادت دجلة زيادة لم ير مثلها وبلغت الزيادة إحدى وعشرين ذراعا.

وقال ابن الأثير الجزري في الكامل : تهدّمت الدور التي على شاطئها بالعراق.

١٨٩

وقال القرماني في أخبار الدول : وفي سنة اثنتين ومائتين زادت دجلة زيادة عظيمة حتّى خربت بغداد وبلغت الزيادة إحدى وعشرين ذراعا.

وقال السيوطي أيضا في تاريخ الخلفاء : وفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة غرقت بغداد غرقا عظيما ، وغرق الناس والبهائم ثمّ انهدمت الدور.

وقال في سيرة القائم بأمر الله : في سنة ستّ وستّين وأربعمائة كان الغرق العظيم ببغداد وزادت دجلة ثلاثين ذراعا ولم يقع مثل ذلك قطّ وهلكت الأموال والأنفس والدوابّ ، وركبت الناس في السفن وأقيمت الجمعة في الطيّار على وجه الماء مرّتين ، وانهدم مائة ألف دار أو أكثر.

وقال ابن الفوطي في الحوادث الجامعة : وفي سنة ستّ وأربعين وستّمائة زادت دجلة زيادة عظيمة أغرقت الجانب الغربي من بغداد ومحلّة الحربيّة والكرخ ومارستان وقصر المنصور ودار بختيار والسوق بأسره من رباط الخلاطيّة إلى القنطرة والشيخ معروف الكرخي وقطعة من سور المشهد الكاظمي على ساكنه السلام ، وجامع الحربيّة بأسره ومسجد العشائر ، وتلف من الأمتعة والغلّات شيء كثير ، ونبع الماء من أساس حائط المستنصريّة ، وامتلأت الطريق ، وامتنع الناس من الجواز هناك ، ثمّ زادت دجلة في ذي الحجّة زيادة مفرطة أعظم من الأولى ، فأحاط الماء ببغداد وكان الهواء شديدا ، فرمى ما بين يديه من الحيطان والخانات ، فلم يبق به دار إلّا هدمها ، ولم يتمكّن أحد من أهل هذه المواضع من نقل شيء ممّا لهم بها ونجوا بأنفسهم ووصل الماء إلى البدريّة ودار الوزير وباب العامّة ، وانهدمت بأسرها ، وأقام الماء في المدرسة النظاميّة ستّة أذرع ، وغرقت محلّة الرصافة ، ووقع أكثر دورها وسورها ، وغشي قبور الخلفاء. وأمّا الجانب الغربي فغرق بأسرها ، وأمّا المشهد الكاظمي على ساكنه السلام فإنّه هدم سوره ودوره ، فأقام الماء على الضريحين الشريفين بحيث لم يبين من الرمّاتين سوى رؤوسهما.

١٩٠

وزاد في ريّ سامرّاء (١) وقال : فقد نقل المؤرّخون عدّة حوادث تتعلّق بغرق بغداد الشرقيّة بسبب انبثاق السدّ الذي في صدر القورج. قال ابن الأثير في حوادث سنة ٤٦٦ هجري : في هذه السنة غرق الجانب الشرقي وبعض الغربي في بغداد وسببه أنّ دجلة زادت زيادة عظيمة وانفتح القورج عند المسنّاة المعزية (سمّيت هذه المسنّاة بالمعزية نسبة إلى منشأها معزّ الدولة البويهي) وجاء في الليل سيل عظيم وطفح الماء من البرية مع ريح شديدة ، وجاء الماء إلى المنازل من فوق ونبع من البلاليع والآبار بالجانب الشرقي وهلك خلق كثير تحت الهدم وشدّت الزواريق تحت التاج خوف الغرق ، وقام الخليفة بتضرّع ويصلّي وعليه البردة وبيده القضيب.

وهناك حادثة ثانية ذكرها ابن الجوزي في كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم فقال ما نصّه : وفي ثامن عشر ربيع الأوّل من سنة ٥٥٤ كثر الماء بدجلة وخرق القورج وأقبل إلى البلد فامتلأت الصحاري وخندق السور وأفسد الماء السور ففتح فيه فتحة يوم السبت تاسع عشر ربيع فوقع بعض السور عليها فسد بها ثمّ فتح الماء فتحة أخرى فأهملوها ظنّا أنّها تنفّس عن السور لئلّا يقع فغلب الماء وتعذّر سدّه فغرق قراح ظفر والأجمة والمختارة والمقتديّة ودرب القيار وخرابة ابن جردة والريان وقراح القاضي وبعض القطيعة وبعض باب الأزج وبعض الظفريّة ، ودبّ الماء تحت الأرض إلى أماكن فوقعت.

قال المصنّف : وخرجت من داري بدرب القيار يوم الأحد وقت الضحى فدخل إليها الماء وقت الظهر فلمّا كانت العصر وقعت الدور كلّها وأخذ الناس يعبرون إلى جانب الغربي فبلغت المعبرة دنانير ولم يكن يقدر عليها ثمّ نقص الماء يوم الإثنين

__________________

(١) ريّ سامرّاء : ٢٢٧.

١٩١

وسدّت الثلمة وتهدّم السور وبقي الماء الذي في داخل البلد يدبّ في المحال فما رأيت حائطا قائما ولم يعرف أحد موضع داره إلّا بالتخمين ، وإنّما الكلّ تلال ، فاستدللنا على دارنا بمنارة المسجد فإنّها لم تقع ، وغرقت مقبرة الإمام أحمد وغيرها من الأماكن والمقابر ، وانخسفت القبور المبنية ، وخرج الموتى على رأس الماء ، وكانت آية عجيبة.

وقريب من هذا ذكره ابن العبري عن الفيضان المذكور ثمّ أطال الكلام في حوادث الواقعة من ناحية الغرق إلى أن قال : وكلّ من له ولد صغير حمله على كتفه وهم يتسغيثون ويضجّون محوّلوا إلى الحلبة وقد ذهب كلّ ما كان عندهم وضربت لهم الخيم بها وتلف من الناس شيء كثير ، وأمثال ذلك إلى يومنا هذا أكثر من أن يحصى. أضف إلى ذلك ما فيها من الغارات والفتن والملاحم.

وأمّا سامرّاء فخلو عن ذلك كلّه حتّى أنّ بعض الأطبّاء يفضّلون سامرّاء على همدان مع أنّها أطيب بلاد ايران وأنزهها ، ولها حدائق مشحونة بالأوراد والأزهار التي لا يوجد في غيرها في الفصول الأربعة. ويقولون : إنّ هواء سامرّاء دواء للمرضى ، وشدّة برودة همدان في أيّام الشتاء مانع عن اعتدال المزاج.

قال الحموي في المعجم عند ذكره همذان : ذكر الحسين بن أبي سرح في همذان مقالة منها : يا أهل همذان ، وجوهكم مائلة ، وأنوفكم سائلة ، وثيابكم وسخة ، وروائحكم قذرة ، ولحاؤكم دخانية ، وسلّط الله على همذان الزمهرير الذي يعذّب به أهل جهنّم ، وما أكثر ما يحتاج الناس فيها من الدثار والمؤن المجحفة ، فما أكدر هواءها وأشدّ بردها وأذاها ، وأقلّ خيرها ، وأكثر شرّها ، تخسف فيها الآبار ، وتفيض المياه ، وتهيج الرياح العواصف ، وتكون فيها الزلازل والخسوف والرعود والبروق والثلوج ، فيقطع عند ذلك السبل ويكثر الموت ، ويضيق المعاش ، والناس في جبلكم هذا في جميع أيّام الشتاء يتوقّعون العذاب ، ويخافون السخط والعقاب ،

١٩٢

ثمّ يسمّون الشتاء العدوّ المحاصر ، وإنّ بلدكم هذا أشدّ البلدان بردا ، وأكثرها ثلجا.

وأمّا سامرّاء أضف إلى ذلك ما فيها من المشاهد المتبرّكة التي لا يقاس بها بقعة من بقاع الدنيا كما أسلفنا لك ، ولقد أجاد شيخنا العلّامة الخبير الشيخ محمّد السماوي في وشايح السرّاء (١) بقوله :

لكن بيوت أذن الله بأن

ترفع قد سمت على طول الزمن

فلم تزل وشأنها معظم

وعقدها بين الورى منظم

وما أراد الله جلّ شأنا

كان وإن غاظ العدى وشانا

فكم رأوا إطفاء ذاك النور

وقد أبى الله سوى الظهور

ولا مردّ للذي يريده

تغضب أو ترضى به عبيده

وأصبح النور بذاك البيت

يسقى بنور الله لا بالزيت

يا لك بيتا ضمّ روح المصطفى

وظهر المصباح فيه واختفى

بيتا كريما في ثنايا الدار

ينفح بالمسك الفتيت الداري

بيتا تعلّقن به الأرواح

فهي به الغدوّ والرواح

بيتا له تحجّ كلّ وقت

بحافر الوداد دون مقت

تزوره طوائف الأملاك

وتستدير فيه كالأفلاك

تزوره وتستمدّ الأنبيا

وتستمدّ وتزور الأوصيا

تزوره وتطلب الملوك

من فيضه والقرم والصعلوك

وذكر أحمد سوسه في المجلّد الأوّل من كتابه ريّ سامرّاء (٢) : ومدينة سامرّاء لها منزلة جليلة لأنّك تجد فيها ضريحي الإمام علي الهادي وولده الحسن العسكري في

__________________

(١) وشايح السرّاء : ٥.

(٢) هامش كتاب الآثار العراقيّة عن كتاب ريّ سامرّاء ١ / ٥١.

١٩٣

حضرة عظيمة وسط صحن كبير مسوّرة طلي قبّته بالذهب السلطان ناصر الدين شاه سنة ١٢٨٥ هجري كما هو مدوّن على أركان القبّة.

أقول : صفة بناء القبّة ذكرناها في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

موقعيّة سامرّاء للعمارة

جاء في كتاب الآثار العراقيّة (١) : إنّ الأراضي التي انتخبها المعتصم لتشييد المدينة الجديدة كانت منبسطة وواسعة ولم يكن فيها من المباني القديمة ما يعرقل خطط المباني الجديدة ولا من التلول والوديان ما يحدّد ساحات البناء ، فكان باستطاعة الخليفة أن يجعل القطايع كبيرة وفسيحة ، والطرق عريضة وطويلة ، ويمدّد الشوارع ويوسّع المدينة ، وإنّ المواد الإنشائيّة الزخرفيّة للبناء كانت مبذولة في سامرّاء فكان باستطاعة بنائي الدور أن لا يتباعدوا عن مقتضيات البداعة وأن يستعملوا المواد المبذولة في محيطهم ويظهروا قوّة ابتكارهم في كيفيّة استفادتهم من خواصّ تلك الموادّ في الزخرفة والبناء ، ومن حسن حظّهم أنّ الطبيعة في سامرّاء كانت مساعدة على كلّ ذلك مساعدة كبيرة ؛ لأنّ موقع المدينة يرتفع عن الضفة الأخرى بعض الارتفاع ، والطبقة الترابيّه فيه تكون قشرة قليلة الثخن تستر طبقة صخريّة فالأرض لا تتعرّض إلى خطر الغرق حتّى في أشدّ حالات الفيضان كما تبقى مصونة من الرطوبة على الدوام.

وفي سامرّاء مناطق طينيّة واسعة تساعد على صنع اللبن الجيّد وأتربة كلسية كثيرة تصلح لتحضير الجصّ القوي فباستطاعة البنّائين أن يستفيدوا من هذه الشروط المساعدة فإنّهم يستطيعون أن يبنوا المباني الكبيرة باللبن دون أن يخشوا

__________________

(١) الآثار العراقيّة : ٣٥.

١٩٤

تأثير الرطوبة والمياه عليها كما أنّهم يستطيعون أن يضمنوا متانة تلك الأبنية باستعمال الجصّ كمونة لاحمة بين قطعات اللبن وسافاتها ، وبعقد الطوق بالآجر أو بطابوقات مصنوعة من الجصّ.

وفي الأخير ، إنّهم يستطيعوا أن يستروا رداءة مادة البناء بطلاء الجدران بالجصّ ولهذا كان من الطبيعي أن تزدهر في سامرّاء صنعة الزخرفة الجصيّة ازدهارا كبيرا ، وتولد طرازا خاصّا مع أشكال لا تعدّ ولا تحصى.

موقع سامرّاء في عصر ما قبل التاريخ

ذكر الدكتور أحمد سوسه في المجلّد الأوّل من كتابه ريّ سامرّاء وقال : وقد عثرنا أثناء تدقيقاتنا لآثار سامرّاء على فخار يعود إلى عصر ما قبل التاريخ وذلك في التلّ المعروف باسم تلّ الصوان الواقع على نهر دجلة جنوب سامرّاء في جوار منارة القائم ، وبعد الاتصال بالبروفسور هرتسفيلد وإعلامه بذلك كتب إلينا مؤيّدا ما توصّلنا إليه من وجود هذا الفخار في المكان المذكور ، وأضاف إلى تأييده هذا قائلا بأنّ هذه الآثار هي من بقايا مقابر قديمة ترجع إلى عصر ما قبل التاريخ وليس فيها ما يدلّ على بقايا أبنية تعود إلى هذا العصر.

فيتّضح ممّا تقدّم أنّ المنطقة التي أنشئت فيها مدينة سرّ من رأى العبّاسيّة كانت مأهولة منذ أقدم الأزمنة وترجع حضارتها إلى عصور سحيقة في التاريخ.

ولذلك إنّ ما جاء في نشريّة مديريّة الآثار القديمة العامّة عن حفريّات سامرّاء (١) من أنّ أطلال سامرّاء تعود إلى دور معيّن محدود لم يسبقه دور بناء أقدم منه لا يصحّ قبوله بعد.

__________________

(١) نشريّة مديريّة الآثار القديمة ١ / ٤.

١٩٥

العثور على الآثار القبتاريخيّة التي مرّ ذكرها

قال (١) : أجريت أعمال السير (التنقيب الأركيولوجي) في سامرّاء من قبل الدكتور هرتسفيلد في هوسم ١٩٣٠ م إلى ١٩٣١ م ضمن نطاق المقبرة التي كانت قد ظهرت للعيان في بقعة شبتة (٢) الحاوي (٣) المطلّة على نهر دجلة والواقعة في القرب شريعة باب الناصريّة شمالي سامرّاء الحالية على مسافة ميل واحد من بيت الخليفة جنوبا وذلك نتيجة تنقيب سابق كان الدكتور هرتسفيلد قد قام به في سنة ١٩١٢ إلى ١٩١٣ ميلادي فثبت في نهاية تلك الأعمال أنّ كلّا من القبور والفخار المصبوغ الذي وجد فيها يعود إلى أزمان الدور الحجري المتأخّر أو العصر الحجري الحديث (العصر النيوليثي) وربّما كان يمثّل نوعا من ذلك الفخار الذي يعود إلى الإيرانيّين الذين عاشوا في عصور ما قبل التاريخ .. إلى آخر كلامه.

وقال (٤) : إنّ الفرس اتخذوا موقع سامرّاء مركزا عسكريّا حيث أنشأوا فيه الحصن المعروف باسم حصن سومير وهو الحصن الذي جاء ذكره بمناسبة تراجع الجيوش الرومانيّة بعد مقتل جوليان سنة ٣٦٣ ميلادي.

سامرّاء الجديدة وهيئتها الحاضرة

جاء في كتاب الآثار العراقيّة (٥) : تبعد سامرّاء عن بغداد نحو مائة وعشرين

__________________

(١) ريّ سامرّاء ١ / ٥٢.

(٢) الحدّ المرتفع للحاوي.

(٣) محمد النباع.

(٤) نفسه : ٥٦.

(٥) الآثار العراقيّة : ١.

١٩٦

كيلومترا يستطيع المسافر أن يقطعها بالقطار في مدّة أربع ساعات أو السيّارة في نحو ساعتين ونصف أو ثلاث ساعات وتقع محطّة قطار سامرّاء في الجهة الغربيّة من نهر دجلة على بعد أربعة كيلومترات من ضفتها ، ومع هذا هناك خطّ فرعيّ يوصل القطار إلى الشاطي فلم يترك على المسافر إلّا العبور إلى الضفة الشرقيّة بالزورق ، أمّا طريق السيّارات فيمرّ من مخافر ومحطّات التاجي ، والمشاهدة والناذريات ، وسميكة ، وبلد ، والاصطبلات إلى أن يصل الجسر الذي يربط ضفتي النهر فيدخل المدينة الحالية.

وقال (١) : تقع مدينة سامرّاء الحاليّة في الجهة الشرقيّة من نهر دجلة على بعد نصف كيلومتر من ضفتها ، والمدينة الحالية مسوّرة بسور مضلّع على شكل يميل إلى الاستدراة يبلغ طول محيط السور المذكور كيلومترين ولا يتجاوز قطره الأعظم ستّمائة وثمانين مترا ، والمساكن والحوانيت متكاثفة داخل السور في دروب ضيّقة مجتمعة حول الجامع الذي يحتوي على غيبة المهدي (٢) وضريح الإمامين علي الهادي والعسكري عليهما‌السلام.

ولسور المدينة أربعة أبواب : باب القاطول في الغرب ، وباب الناصريّة في الشمال ، وباب بغداد في الشرق ، وباب الملطوش في الجنوب ، ولقد هدم باب القاطول قبل بضع سنوات ، وبنيت دائرة الحكومة والمدرسة الابتدائيّة ودائرة البلديّة ، والمستشفى ، خارج السور على طرفي الطريق الممتدّ من باب القاطول إلى الشريعة والمعبر والجسر كما بنيت على ضفتي النهر بناية تحتوي على مضخّات الماء ومكائن الكهرباء وأسّست خلف ذلك حديقة للبلديّة ، وقد أخذ الناس يبنون

__________________

(١) نفسه : ٥.

(٢) لقد نشرت دائرة الآثار القديمة رسالة خاصّة عن باب الغيبة ضمنتها معلومات وافية وصورا عديدة للجامع المذكور وسرداب الغيبة.

١٩٧

بعض الدور في العرصات الواقعة بين السور وبين شاطئ النهر وكذلك هدم باب الملطوش وبني خارجه مسلخ ومذبحة ، وأمّا باب بغداد فقد حوّل إلى متحف محلّي تعرض فيه نماذج من الآثار المستخرجة من الحفريّات التي تقوم بها مديريّة الآثار القديمة في أطلال سامرّاء.

وجاء أيضا في الكتاب المذكور (١) تحت عنوان «أطلال المدينة القديمة» : إنّ مدينة سامرّاء الحالية مبنية على أطلال مدينة سرّ من رأى القديمة ومحاطة بها من كلّ الجهات وتمتدّ أطلال المدينة القديمة على طول نهر دجلة الى أبعاد شاسعة وتصل من جهة الجنوب إلى محلّ قريب من فم نهر «القائم» ومن جهة الشمال إلى صدر نهر الرصاص ، ولذلك يبلغ طول الأطلال نحو أربعة وثلاثين كيلومترا ، تقع ثمانية منها جنوب المدينة الحالية والبقيّة في شمالها.

__________________

(١) نفسه : ٧.

١٩٨

ثمّ إنّ سامرّاء الحاليّة تواردت عليها بعد تمصيرها أدوار مختلفة وحالات متبائنة من كثرة السكّان وقلّتهم وحركة الهجرة إليها ووقوفها ، ففي بعض أدوارها انحطّت ووقفت حركة السير إليها ، والمجاورة بها ، حتّى أنّ في بعض الأحيان عطّلت البلدة وذهبت نضارتها وكادت تكون نسيا منسيّا كما في أخريات الحرب العامّة الأولى ، واليوم وهو سنة ألف وثلاثمائة وأربع وخمسين أصبحت سامرّاء كالقرية لا يتجاوز أهلها عن ستّة آلاف نسمة ، وليس فيها من العمارات والأبنية الجليلة ما يستحقّ الذكر سوى الروضة البهيّة للعسكريّين عليهما‌السلام الآتي ذكرها بصورة تفصيليّة.

وسوى الجسر الموجود حال التاريخ وكان قبل ذلك يعبرون بتوسط الزوارق إلى أن دخل سامرّاء الإمام المجدّد آية الله الحاج ميرزا محمّد حسن الشيرازي عطّر الله مرقده فلمّا استقرّ به الدار عقد جسرا على شطّ سامرّاء وأنفق عليه ألف ليرة عثمانيّة فاستراح الناس عند فيضان الماء إلّا أنّ هذا العمل يزاحم بعض منافع أصحاب الزوارق فكسروه وقالوا : ذهب به الماء فعاد الأمر كما كان إلى أنّ الحكومة العراقيّة عقدت جسرا ثابتا على شطّ المسيّب فنقلوا جسر العتيق إلى سرّ من رأى وكان الأمر كذلك.

تاريخ الجسر الموجود

إلى أن انتضى سيف عزم الحكومة العراقيّة بإنشاء جسر ثابت على شطّ سامرّاء في سنة ١٩٥٢ ميلادي في عصر نوري سعيد رئيس الوزراء فأعلنت المناقصة على الشركات الدوليّة وأخيرا فازت بها شركت أف كم باني زبلن الألماني بكلفت إحدى عشر مليون دينار وتمّ العمل خلال خمس سنوات على أحسن صورة وأحكم بنيان والاستفادة الذي يستفيد منه العراق هي تخزين المياه الزائدة في وادي

١٩٩

الثرثار الذي يمتدّ طوله حتّى يصل وادي الشام شرقا وأهوار الجنوب في العراق ويوزع تلك المياه الزائدة المخزونة على الأراضي التي تكون سطحها أعلى من مستوى سطح النهرين.

وهناك سدّة أخرى يعرف بالشلّال حيث أنّه مجهّز بتربيدات الكهر مائيّة تعمل على المياه المضغوطة المتّجهة نحوها ، وكان هذا الشلّال لم يتمّ في ذلك الحين وأخيرا بوشر في العمل فيها بموجب مناقصة شركت أف كم باني زبلن بكلفة ستّة ملايين ومأتين وخمسين ألف دينار في عصر الجمهوريّة العراقيّة.

سور سامرّاء

تقدّم آنفا أنّ سور سامرّاء مضلّع على شكل يميل إلى الاستدراة يبلغ طول محيط السور المذكور كيلومترين ولا يتجاوز قطره الأعظم ستّمائة وثمانين مترا. وهيئته مثمّن في نهاية اللطافة مبنى من الجصّ والآجر ، ارتفاعه سبعة أمتار ، وكان له تسعة عشر برجا ، وكان له أربعة أبواب : باب القاطول في الغرب ، وباب الناصريّة في الشمال ، وباب بغداد في الشرق ، وباب الملطوش في الجنوب.

بدء بناء سور سامرّاء

أوّل من أسّس سور سامرّاء الملك المؤيّد أبو شجاع فنا خسرو عضد الدولة الديلمي الرابع من ملوك آل بويه المتوفّى سنة ٣٧٢ ، أسّسه في سنة ثمان وستّين وثلاثمائة ، وإلى ذلك أشار العلّامة الخبير الشيخ محمّد السماوي في وشايح السرّاء بقوله :

ثمّ أتاها ابن أخيه العضد

وجاد للبناء فيما يجد

٢٠٠