مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-035-8
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٠٨

ابن يوسف الكوفة في سنة أربع وسبعين قيل له : إنّ بين الحيرة والكوفة دير الهند بنت النعمان وهي فيه ينبغي أن نذهب إليها ونرى رأيها وعقلها فإنّها بقيّة ، فركب والناس معه حتّى أتى الدير فقيل لها : هذا الأمير الحجّاج بالباب ، فأطلعت من ناحية الدير فقال لها : يا هند ، ما أعجب ما رأيت؟ قالت خروج مثلي إلى مثلك فلا تغترّيا حجّاج بالدنيا فإنّا أصبحنا ونحن كما قال النابغة :

رأيتك من تعقد له حبل ذمّة

من الناس يأمن سرحه حيث أربعا

ولم تمس إلّا ونحن أذلّ الناس ، وكلّ إناء امتلأ إلّا انكفأ ، فانصرف الحجّاج وبعث إليها من يخرجها من الدير ويستأديها الخراج ، فأخرجت مع ثلاث جوار من أهلها ، فقالت إحداهنّ في خروجها :

خارجات يسقن من دير هند

مذعنات بذلّة وهوان

ليت شعري أوّل الحشر هذا

أم محا الدهر عثرة الفتيان

فشدّ فتى من أهل الكوفة على فرصة فاستنقذهنّ من رجال الشرطة وتغيّب ، فبلغ الحجّاج شعرها وفعل الفتى فقال : إن أتانا فهو آمن وإن ظفرنا به قتلناه ، فأتاه الفتى ، فقال له : ما حملك على ما صنعت؟ قال : الغيرة ؛ فوصله وخلّاه.

وكان سعد بن أبي وقّاص حين فتح العراق أتى هندا إلى ديرها فخرجت إليه فأكرمها وعرض عليها نفسه في حوائجها ، فقالت : سأحيّيك بتحيّة كانت ملوكنا تحيّي بها ، لا مسّتك يد نالها الفقر بعد الغنى ، ولا مسّتك يد نالها غنى بعد فقر ، ولا جعل الله لك إلى لئيم حاجة ، ولا نزع الله عن كريم نعمة إلّا جعلك سببا لردّها عليه. ثمّ جائها المغيرة لمّا ولّاه معاوية الكوفة فاستأذن عليها ، فقيل لها : أمير هذه البلدة بالباب ، فقالت : قولوا له : من أولاد جبلة بن أيهم أنت؟ قال : لا. قالت : فمن ولد المنذر بن ماء السماء؟ قال : لا. قالت : فمن أنت؟ قال : المغيرة بن شعبة الثقفي. قالت : فما حاجتك؟ قال : جئتك خاطبا. قالت : لو جئتني لجمال أو حال لأجبتك

١٦١

ولكن أردت أن تتشرّف بي في محافل العرب فتقول : نكحت بنت النعمان المنذر وإلّا فأيّ فخر في اجتماع أعور وعمياء؟! فبعث إليها قال : كيف كان أمركم؟ قالت : سأختصر لك الجواب : أمسينا مساء وليس في الأرض عربيّ إلّا وهو يرغب إلينا ويرهبنا ، ثمّ أصبحنا وليس أحد إلّا ونحن نرغب إليه ونرهبه.

فقال مغيرة لبنت النعمان : فما كان أبوك يقول في ثقيف؟ قالت : اختصم عليه رجلان منهم في شيء أحدهما ينتمي إلى أياد والآخر إلى بكر بن هوازن ، فقضى به للأيادي وقال :

إنّ ثقيفا لم تكن هوازنا

ولم تناسب عامر أو مازنا

فقال المغيرة : أمّا نحن فمن بكر بن هوازن فليقل أبوك ما شاء.

قال : فأرسل إليها خمسين دينارا.

٤٩ ـ دير الخنافس

وهو بين الموصل وبلد كبير كثير الرهبان ، له يوم في السنة يجتمع الناس إليه من كلّ موضع فتظهر فيه الخنافس ذلك اليوم حتّى تغطّي حيطانه وسقوفه وأرضه ويسودّ جميعه منها ، فإذا كان اليوم الثاني وهو عيد الدير اجتمعوا إلى الهيكل وقدّسوا وتقرّبوا وانصرفوا وقد غابت الخنافس حتّى لا يرى منها شيء إلى ذلك الوقت.

٥٠ ـ دير القيارة

وهو على أربع فراسخ من الموصل في الجانب الغربي من أعمال الحديثة مشرف على دجلة ، تحته عين قير وهي عين تفور بماء حارّ تصبّ في دجلة ويخرج منه القير ، فمادام القير في مائه فهو ليّن يمتدّ فإذا فارق الماء وبرد جفّ. وهناك قوم

١٦٢

يجتمعون فيجمعون هذا القير يغرفونه من مائه بالقيفاف ويطرحونه على الأرض وله قدور حديد كبار وينخل له الرمل فيطرح عليه بمقدار يعرفونه ويوقد تحته حتّى يذوب ويختلط بالرمل وهم يحرّكونه تحريكا دائما وإذا بلغ حدّ استحكامه قلّب على الأرض قطعا مجمّدة ويصلب ويحمل إلى البلدان ، فمنه تقبر السفن والحمّامات وغير ذلك ممّا يستعمل فيه القير.

٥١ ـ دير قوما

وقيل : مرقوما. وقيل : مرثوما. وهو بميافارقين على فرسخ منها في جبل عال ، له عيد يجتمع الناس إليه وهو مقصود لذلك ، وتنذر له النذور ، وتحمل إليه من كلّ موضع ، ويقصده أهل البطالة والخلاعة للشرب فيه ، وتحته برك يجتمع فيها ماء الأمطار. ومرقوما هو الشهيد الذي فيه يزعم النصارى أنّ له سبعمائة سنة وأنّه ممّن شهد المسيح وهو في خزانته خشب لها أبواب تفتح أيّام أعيادهم فيظهر منه نصفه الأعلى وهو قائم وأنفه وشفته العليا مقطوعان ، وذلك أنّ امرأة احتالت حتّى قطعت أنفه وشفته ومضت بهما فبنت عليهما ديرا في البريّة في طريق تكريت.

٥٢ ـ دير باطا

وهذا الدير بين الموصل وهيت وتكريت ، وهو دير حسن عامر في أيّام الربيع ، وله باب حجر ذكر النصارى أنّ هذا الباب يفتحه الواحد والاثنان حتّى يتجاوز السبعة فإن تجاوزوا السبعة لم يقدروا على فتحه ألبة ، فكان الطلّسم يمنع الطامعين وإن كانوا جماعة كبيرة من دخول هذا الدير وذكروا أيضا أنّ فيه غرابين تتناسل هناك لا يخلو منها فربّما طرقه اللصوص فدخلوه فإن حصل فيه أحد صعد الغرابان

١٦٣

على الدير فإذا أقبل إليه أحد ممّن يطرقه أو يقصده تلقاه الغرابان يصيحان في وجهه.

٥٣ ـ دير زرارة

وهو دير حسن بين جسر الكوفة وحمّام أعين وهو موضع نزه حسن كثير الحانات والشراب ، عامر بمن يطرقه ، لا يخلو ممّن يطلب اللعب واللهو ويؤثر البطالة ، وهو من المواطن المستصلحة لذلك.

أقول : إنّ الشابشتي ذكر هنا فضايح من أصحاب المجون والخلاعة.

٥٤ ـ دير عمر مريونان

وهذا الدير بالأنبار على الفرات وهو دير حسن كبير كثير القلايات والرهبان. والأنبار مدينة كانت على الفرات في غربيّ بغداد من ناحية سامرّاء ، بينهما عشرة فراسخ ، وكانت الفرس تسمّيها نيروز سابور ، وأوّل من عمّرها سابور بن هرمز ذو الأكتاف ، ثمّ جدّدها أبو العبّاس السفّاح وبنا بها قصورا وأقام بها إلى أن مات.

٥٥ ـ دير قنّى

على وزن صغرى ، وهذا الدير على ستّة عشر فرسخا من بغداد ، منحدرا في الجانب الشرقيّ ، وبينه وبين دجلة ميل ونصف ، وبينه وبين دير عاقول بريد ، وهو دير حسن نزه عامر ، وفيه مائة قلاية لرهبانه والمتبتّلين فيه ، لكلّ راهب قلاية وهم يتبايعون هذه القلالي بينهم من ألف دينار إلى مأتي دينار إلى خمسين دينار ، وحول كلّ قلاية بستان فيه من جميع الثمار والنخل والزيتون ، وتباع غلّته من مأتي

١٦٤

دينار إلى ثلاثمائة أو أربعة ، وكان فيه أعاجيب كما كان في دير باطا ، وتقدّم شيء من ذلك.

وفيه أعجوبة أخرى ما ذكره الشابشتي أيضا تحت بيعة أبي هور وهي أنّ من كانت به خنازير يقصد بيعة أبي هور ليعالج فيأخذ رأس الموضع فيضجعه ويأتيه بخنزير فيرسله على موضع الوجع فيأكل الخنزير الذي فيه لا يتعدّى ذلك الموضع فإذا تنظف الموضع ذرّ عليه من رماد خنزير فعل مثل هذا الفعل من قبل ومن زيت قنديل البيعة فبرأ ثمّ يؤخذ ذلك الخنزير فيذبح ويحرق ويعدّ رماده لمثل هذه الحالة. وعليه سور عظيم يحيط به ، وفي وسطه نهر جار ، وعيده الذي يجتمع الناس إليه عيد الصليب ، وقد وصفه الشعراء ، ولابن جمهور فيه :

يا منزل اللهو بدير قنا

قلبي إلى تلك الربى قد حنا

سقيا لأيّامك لمّا كنا

نمتار منك لذّة وحسنا

وفي حاشية على الشابشتي قال : إنّ مار ماري كان من أبناء المائة الأولى للميلاد أسّس دير قنى والسبب في ذلك أنّ امرأة نبيلة تدعى قونى أصيبت بالبرص فشفاها ماري بأعجوبة فقابلت إحسانه بأن وهبته كثيرا من ضياعها وأراضيها لكنّه اقتصر من ذلك كلّه على بيت النار المجوسي فشيّد فيه ديرا هو دير قنى ، ولمّا مات ماري دفن في هذا الدير ، ومن ثمّ أصبح مدفنا لكثير من جثالقة المشرق ، وأنشأت مار ماري مدرسة عرفت به أسكول مارماري ، وممّن نشأ فيها العالم المنطقي متّى بن يونس ذو المؤلّفات الكثيرة ، وأيشو عياب القناعي الذي صار قسّا وبنى دير الأسكول بعد ذلك ، وكانت اللغة العربيّة والسريانيّة واليونانيّة تدرس في هذه المدرسة ، هذا إلى ما كان يدرس فيها من أصناف العلوم والفنون كالنحو والمنطق والشعر والهندسة والموسيقى والفلك والطبّ والفلسفة وعلوم الدين ، وكان فيها خزانة كتب حافلة تضمّ أمّهات التآليف التي كانت متداولة في ذلك العصر.

١٦٥

وقال الياقوت المتوفّى سنة ٦٢٦ : وأمّا الآن فلم يبق من هذا الدير غير سوره ، وفيه رهبان صعاليك وكأنّه خرب بخراب النهروان.

أقول : هذا آخر ما أردنا نقله من كتاب ديارات أبي الحسن الشابشتي ملخّصا ، وتركنا أكثر ما نقله من الديارات والقصور والأبنية الجليلة التي ليس لها أثر في يومنا هذا. وذيّل كتاب الديارات للشابشتي كور كيس عوّاد وأضاف عليه عدّة ديارات التي لم يذكرها الشابشتي. وكتاب الديارات كتاب عميق في فنّه ومفيد لأهله غير أنّا لسنا من أهله ولا يفيدني مطالبه إلّا عبرة وتذكرة في أحوال الماضين كيف صارت قصورهم قبورا ، وجمعهم بورا ، وأملهم عزورا ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أصبحت أصواتهم هامدة ، ورياحهم راكدة ، وأسادهم بالية ، وديارهم خالية ، وآثارهم عافية ، فاستبدلوا بالقصور المشيّدة والنمارق الممهّدة الصخور والأحجار المسندة ، والقبور اللاطئة الملحدة التي قد بني بالخراب فنائها ، فمحلّها مقترب ، وساكنها مغترب ، بين أهل محلّة موحشين ، وأهل فراغ متشاغلين ، لا يستأنسون بالأوطان ، ولا يتواصلون تواصل الحيران ، على ما بينهم من قرب الجار ، ودنوّ الدار ، وكيف يكون بينهم تزاور وقد طحنهم بكلاكله البلى ، وأكلتهم الجنادل والثرى.

أين الملوك الذي عن حفظها غفلت

حتّى سقاها بكأس الموت ساقيها

تلك المداين في الآفاق خالية

عادت خرابا وذاق الموت بانيها

أموالنا لذوي الورّاث نجمعها

ودورنا لخراب الدهر نبنيها

يابن آدم ، تفكّر وقل أين ملوك الدنيا وأربابها الذين عمروا خرابها ، واحتفروا أنهارها ، وغرسوا أشجارها ، ومدّنوا مداينها ، فارقوها وهم كارهون ، وورثها قوم آخرون ، ونحن عمّا قليل لاحقون.

يابن آدم ، أذكر مصرعك وفي قبرك مضجعك وموقفك بين يدي الله ، تشهد

١٦٦

جوارحك عليك يوم تزلّ فيه الأقدام ، وتبلغ القلوب الحناجر ، وتبيضّ وجوه وتسودّ وجوه ، وتبدوا السرائر ، ويوضع الميزان القسط.

يابن آدم ، أذكر أخبار الماضين ومن كان قبلك من آبائك الأوّلين فسر في ديارهم وآثارهم فانظر فيما فعلوا وعمّا انتقلوا وأين حلّوا ونزلوا ، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة وحلّوا ديار الغربة وكأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم ؛ فاصلح مثواك ولا تبع آخرتك بدنياك.

تزوّد من الدنيا فإنّك راحل

وبادر فإنّ الموت لا شكّ نازل

وإن امره قد عاش ستّين حجّة

إلى منهل من ورده لقريب

إذا كانت الستّون عمرك لم يكن

لدائك إلّا أن تموت طبيب

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : يهرم ابن آدم ويبقى معه اثنان : الحرص وطول الأمل.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة : اتقوا الله فكم من مؤمن آمالا لا يبلغه ، وجامع مالا لا يأكله ، ولعلّه من باطل جمعه ، ومن حقّ منعه ، أصابه حراما ، وورثه عدوّا ، فاحتمل إصره وباء بوزره ، وورد على ربّه خاسرا آسفا لاهفا ، قد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.

وأنشد بعضهم :

ويمسي المرء ذا أجل قريب

وفي الدنيا له أمل طويل

ويعجل للرحيل وليس يدري

إلى ماذا يقرّبه الرحيل

وقال آخر :

يا أيّها المطلق آماله

من دون آمالك آجال

كم أبلت الدنيا وكم جدّدت

فينا وكم تبلى وتغتال

وكتب بعضهم إلى ملك يعظه : أيّها الملك ، اعدل برعيّتك وارحم من كان تحت يدك ، ولا تتجبّر عليهم ، ولا تعلو قدرك ، ولا تنس قبرك الذي هو منتهى أمرك ؛

١٦٧

فإنّ الموت يأتيك وإن طال عمرك ، والحساب أمامك ، والقيامة موعدك ، وقد كان هذا الأمر الذي أنت فيه بيد غيرك ، فلو بقي له لم يصل إليك ، وسينتقل عنك كما انتقل عنه ، وإنّه لا يبقى لك ولا تبقى له ، فقدّم لنفسك خيرا تجده محضرا ، وتزوّد من دار الغرور لدار الفرح والسرور ، واعتبر بمن كان قبلك ممّن خزن الأموال وكثّر الأقلال وجمع الرجال فلم يستطع دفن المنيّة ، ولا ردّ الرزيّة ، فلا تغترّ بدنيا الدنيّة واعتبر بقول القائل :

وكيف يلذّ العيش من كان موقنا

بأنّ المنايا بغتة ستعاجله

وكيف يلذّ النوم من كان مؤمنا

بأنّ إله الخلق لا بدّ سائله

وكيف يلذّ العيش من كان صائرا

إلى جدث يبلى الثياب منازل

وكيف يلذّ النوم من أثبتوا له

مثاقيل أوزان الذي هو فاعله

فنرجع إلى ما كنّا فيه بأنّ كثرة الديارات في أراضي العراق سيّما في نواحي سامرّاء ليس إلّا لطيب هوائها وعذوبة مائها وقلّة دائها.

وأيضا يدلّ هذا على انتشار النصرانيّة في تلك الديار ، ثمّ اندرست النصرانيّة منها على توالي القرون ، وعفت آثارها فيها ، وأقفرت من كلّ أنيس في هذا الوقت إلّا الصدى والبوم.

وفي تاريخ الحيرة أيضا : وكان في العراق الدين السائد النصرانيّة في القرن الأوّل من ميلاد المسيح بعد أن كانوا وثنيّين ، ثمّ فشت فيهم الأديان المختلفة من عبادة الأوثان والقمر وغيرها ، وكان لجذيمة الأبرش صنمان يقال لهما ضيزمان مكانهما كان معروفا بالحيرة ، وكان هذان الصنمان باقيين حتّى أيّام المنذر الأكبر اتخذهما بباب الحيرة يسجد لهما من دخل امتحانا للطاعة ، وكان في الحيرة صنم آخر اسمه «سبد» ، يحلفون به ويقولون : وحقّ سبدكما أنّهم يعبدون العزّى وهي الزهرة.

وطائفة من أهل العراق يعبدون القمر أخذوها من الصائبة.

١٦٨

كما أنّ المانويّة تفشّت بين ظهراني القوم إلى أن ظهرت المزدكيّة في فارس في أيّام قباذ الساساني سنة ٥٢٩ ميلادي ، وشايعها الناس من كلّ طبقة ، وإنّ بها جماعة من العرب منهم الحارث ابن عمرو بن حجر الكندي فآنس قباذ منه لعمله هذا وامتعض من ملك الحيرة المنذر الثالث بن امرئ القيس لرفضه المزدكيّة فطرده من العرش وأحلّ محلّه الحارث بن عمرو الكندي المزدكي المذهب فدخلت المزدكيّة الحيرة.

وقال صاعد الأندلسي : كانت الزندقة في قريش أخذوها عن أهل الحيرة ثمّ دخل فيها اليهوديّة.

وقال في تاريخ الحيرة أيضا : أمّا النصرانيّة فكانت الدين السائد في الحيرة ودان بها معظم اهاليها من ملوكها وأمرائها ووزرائها ، وانتشرت النصرانيّة في العراق ، وأوّل من تنصّر من ملوك آل نصر بن ربيعة وعمّال ملوك الفرس امرؤ القيس والمنذر بن امرئ القيس ، وفشت النصرانيّة في العراق سنة ٥٩٥ ميلادي وبنوا في حاضرة المملكة الكنائس العظيمة ، وكان معظم نصارى الحيرة نساطرة ، وفي الأنبار بنو اكنيسة ، وكذا في المدائن ، وكثرت الديارات.

وكان في الحيرة بيع جميلة حسنة البنيان مزخرفة بالنقوش والفسيفساء ، وكان يجعلون في حيطان دياراتهم الفسافس وفي سقوفها الذهب والصور ، وكان النعمان يركب في كلّ عيد ومعه أهل بيته عليهم حلل الديباج المذهّب وعلى رؤوسهم أكاليل الذهب وفي أوساطهم الزنانير المفضضة وبين أيديهم أعلام فوقها صلبان ، فإذا قضوا صلاتهم انصرفوا في مستشرفة في النجف.

١٦٩

العثور على بعض الآثار الجليلة في سامرّاء

إنّ ما تقدّم آنفا يعطيك صورة مصغّرة عن الديارات التي كانت في سامرّاء ونواحيها ، وأنّها كانت من الأبنية الجليلة المذهّبة والمفضّضة ، وقد عثر بعض الحفّارين في سامرّاء عند حفره الأرض قدر قامة على محاريب وجفان وأواني منقورة بخطوطهم ، ووجد تمثال هياكلهم في محاريبهم. وفي متحف بغداد نماذج منها.

١٧٠

والسبب في ذلك أنّ عساكر الإسلام لمّا فتحوا العراق ودخلوا المداين شرقا ، والموصل غربا ، تفرّقوا نصارى أيدي سبا إلى ايطاليا ودفنوا أضامهم وهياكلهم وذخائرهم ظنّا منهم أنّهم سيغلبون على المسلمين ويرجعون إلى أوطانهم مطمئنّين. وقد ذكرنا لك آنفا في قصر الجعفري أنّ هرتسفيلد الألماني قد حمل معه ما يربو على مائتي صندوق من الآثار الجليلة منها فصوص ذوات ألوان قد نطقت باللجين المكلّل بينما ترى تموجاتها حمراء ورديّة تراها خضراء زبرجديّة وأحيانا صفراء عسجديّة.

وحدّثني بعض الخبراء بسامرّاء قال : كنت أحفر الأرض لإخراج الآجر فإذا بسرداب كأنّ اليد رفعت عنه الساعة فنظرت فإذا بكوز مختوم عليه فكسرت ختمه فإذا برمل شبه الرماد فتحيّرت ، وكان في سامرّاء سوق اليهود صيّاغ يهودي ، فأريته كفّا منه فقال لي : فأتني به فآخذه ، وأعطاني عشرين روبية انگليزيّة فكدت أن أطير فرحا وسرورا ، ثمّ تبيّن لي بعد ذلك أنّه كان تبرا وكانت قيمته تربو على ألف ألف روبية.

وحدّثني بعض من أثق به من أهل العلم قال : خرجنا يوما مع جماعة من أهالي سامرّاء إلى دور الخلفاء للنزهة واستنشاق الهواء ، فلمّا وصلنا إليها فرشنا وجلسنا وعملنا قليانا نشربه هناك ، ففي خلال ذلك هبّت ريح فقذفت نار رأس القليان ، فقمت أدوّر هناك فوجدت حجرا أملس يبلغ ثلاثين مثقالا تقريبا ، وكان شبه اللوزة ، فوضعته على رأس القليان ، فلمّا فرغنا عن شربه رميت الحجر مع رماده فرأيت لمعانا وبريقا من الحجر ، فمالت نفسي إليه فأخذته فمسحته فإذا بشعاعه وبريقه قد ازداد ، فكتمت ذلك عمّن كان معي حتّى سافرت إلى بغداد وكان لي هناك صديق من الصيّاغين ، فأريته ذلك فقال لي : إنّ ذلك من الجوهر ولكن لا أعرف أنّه من أيّ نوع منه وما قيمته ، فإذا بيهوديّ مرّ عليه فناداه الصيّاغ وأراه

١٧١

الحجر ، فقال اليهودي : اشتريه بأربعمائة روبية. قال : فبعته وكنت فرحا بذلك ، فتبيّن عند الصيّاغ بعد ذلك أنّ قيمته كانت أضعاف ما باعه.

وحدّثني من حدّثه بعض الحفّارين قال : قال لي : كنت أجيرا لرجل أجنبيّ غربيّ فأمرني يوما بحفر موضع في شرقي سامرّاء ، فحفرت فإذا بسرداب قد طلع كأنّ اليد رفعت عنه في الوقت وكان مطليا بالجصّ الأبيض ومنقوشا بنقوش بديعة ، وفيه محراب قبلته على الشرق ، وكان فوق المحراب دكّة فيها صنم على صورة بنت في الرابعة عشرة من عمرها رمادي اللون يلمع في الغاية جالس على سرير من الحجر المنقور البلوري الأصفر ، وفي عنقه قلادة تصل إلى صدره غير أنّي لا أعرفها ، ويلمع بألوان مختلفة ، وكانت رجلاه ممدودتين إحداهما فوق الأخرى ، ومن ركبته إلى عقبه خطوط. فالتفت الرجل الغربي إلى الخطوط فقرأها بجهد

١٧٢

أكيد ، فلمّا فرغ من ذلك أمرني بحفر المحراب الذي عند رجلي المجسّمة فحفرت مقدار شبرين فطلع صندوق من الخشب لم تبله الأرض وبه نجارة بديعة وكان مختوما ، ففرح الرجل الغربي فأمرني بحمل الصنم والصندوق فحملته ، وكان ثقيلا ، فوضعته في السيّارة وسار من وقته وأعطاني خمسين روبيّة ، وكانت أجرتي في كلّ يوم أربعة قرانات.

ونظائر ذلك في سامرّاء ونواحيها لا تعدّ ولا تحصى ، وقد رأينا بعضها عيانا.

١٧٣

أخبار الإمام أبي الحسن عليّ الهادي عليه‌السلام بانحلال سامرّاء وخرابها

روى الصدوق في الأمالي ، والمجلسي في الثاني عشر من البحار ، وابن شهر آشوب في المناقب ، والسيّد هاشم البحراني في معاجز الإمام عليّ الهادي عليه‌السلام من كتابه مدينة المعاجز ؛ مسندا عن أبي محمّد الفحّام عن عمّ أبيه قال : قال يوما الإمام عليّ بن محمّد عليهما‌السلام : يا أبا موسى ، أخرجت إلى سرّ من رأى كرها ولو أخرجت عنها لخرجت كرها. قال : قلت : ولم يا سيّدي؟ قال : لطيب هوائها وعذوبة مائها وقلّة دائها.

ثمّ قال : تخرب سرّ من رأى حتّى لا يكون فيها إلّا خان وبقال للمارّة ، وعلامة تدارك خرابها ـ وفي المناقب : وعلامة خرابها ـ تدارك العمارة في مشهدي من بعدي.

دخلنا كارهين فلها فلمّا

ألفناها خرجنا مكرهينا

ولعمري إنّ هذا الحديث لمن أعلام النبوّة والإمامة حيث أنّه عليه‌السلام أخبر بخراب سامرّاء وانحلالها حين كانت سامرّاء جنّة الدنيا ، وكانت في غاية العمارة والسعة ، وكان طولها أزيد من ثمانية فراسخ ، ثمّ خربت حتّى لا يبقى فيها إلّا خان وبقال للمارّة إلى أن صارت مشهدا للعسكريّين عليهما‌السلام فأخذ يتدارك خرابها إلى يومنا هذا وصارت مهبط الملائكة ووفود الأنبياء عليهم‌السلام كيف لا وهي بقعة من بقاع الجنّة وعرصة من عرصاتها ، وبيت من بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.

١٧٤

أما ترى أنّ عظماء السلف والخلف لم يبق لهم في الأرض أثر مذكور وحفر مشهور يتقرّب الناس إليه نحو فرعون وشدّاد ونمرود وأمثالهم من الأكاسرة والقياصرة والجبابرة من الملوك والسلاطين ، وأمّا أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد امتلأت أقطار الأرض من آثارهم وكلّما تطاولت الدهور زادت مشاهدهم سموّا وذكرها نموّا. ويرى الناس فيها العجائب عيانا ، وهذه سرّ من رأى خربت حتّى ما بقيت فيها عمارة أصلا بعد أن كانت عروس الدنيا ، فلمّا غالب في ثراهما النجمان الإمامان العسكريّان عليهما‌السلام طلعت فيها شموس المعرفة بعد أفولها وأخذت في العمارة بعد خرابها ، وسطعت آثار الفخر والشرف من حيطانها بعد زوالها ، وأضاءت الدنيا بأنوارها بعد غروبها ، ولأجل زيارتهما يشدّون الرحال من أقصى بلاد الدنيا إلى سرّ من رأى ، ولا شكّ أنّ المشاهد المتبرّكة لا يقاس بها بقعة من بقاع الدنيا فإنّ البقاع بحذا فيرها عند المشاهد المتبرّكة كالخزف الذي لا قيمة له. أين الثرى من الثريّا والذرّة من الدرّة؟!

عمروا بأطراف البلاد مقابر

إذ خرّبوا من يثرب أوطانا

قوم لهم في كلّ أرض مشهد

لا بل لهم في كلّ قلب مشهد

ولقد أجاد شيخنا العلّامة الخبير الشيخ محمّد السماوي يقول في وشايح السرّاء (١) :

قد ذكر التاريخ أنّ ثمانية

قد دفنوا بسامرا علانية

وهم ذوو السلطة قبل المعتضد

وتلك من معتصم لمعتمد

فشيدت القباب والمباني

على قبورهم من السلطان

وزخرفت أبنية الضرائح

لكلّ غاد ناظر ورائح

__________________

(١) وشايح السرّاء : ٩.

١٧٥

فما سرى الملوك من سامرّا

إلّا وذاك المشمخرّ خرّا

وأصبحت بيوتهم خرابا

يناعق البوم بها الغرابا

فصعد الطرف بها وصوب

وانظر بعينيك على تلك الترب

فهل ترى من أحد ذي عزّ

أم هل تحسّ لهم من ركز

فهل ترى للقوم فيها أقبرا

تعرف عينا أو تمايز أثرا

وإنّ دار العزّ من بني الرضا

أمست ونور الله فيها قد أضا

تزداد بالرفعة كلّ يوم

وتنتحيها القوم بعد القوم

بيتهم من بعدهم لا يدخل

إلّا بإذن منهم يحصل

كلام الحموي في انحلال سامرّاء

قال في معجم البلدان عند ذكره سرّ من رأى : ولم تزل كلّ يوم سرّ من رأى في صلاح وزيادة منذ أيّام المعتصم والواثق والمتوكّل إلى آخر أيّام المنتصر بن المتوكّل. فلمّا ولّى المستعين وقويت شوكة الأتراك واستبدّوا بالملك والعزل وانفسدت دولة بني العبّاس لم تزل سرّ من رأى في تناقص للاختلال الواقع في الدولة بسبب العصبيّة التي كانت بين أمراء الأتراك إلى أن كان آخر من انتقل إلى بغداد من الخلفاء وأقام بها وترك سرّ من رأى بالكلّيّه المعتضد بالله فخربت حتّى لم يبق منها إلّا موضع المشهد الذي تزعم الشيعة أنّ به سرداب القائم المهدي ومحلّة أخرى بعيدة منها يقال لها كرخ سامرّاء ، وسائر ذلك خراب يستوحش الناظر إليها بعد أن لم يكن في الأرض كلّها أحسن منها ولا أجمل ولا أعظم ولا آنس ولا أوسع ملكا منها ؛ فسبحان من لا يزول ولا يحول.

قال : وذكر الحسن بن أحمد المهلّبي في كتابه المسمّى بالعزيزي قال : وأنا اجتزت

١٧٦

بسرّ من رأى منذ صلاة الصبح في شارع واحد مادّا عليه من جانبيه دور كأنّ اليد رفعت عنها للوقت لم تعدم إلّا الأبواب والسقوف ، فأمّا حيطانها فكالجدّد ، فما زلنا نسير إلى بعد الظهر حتّى انتهينا إلى العمارة منها وهي مقادر قرية يسيرة في وسطها ثمّ سرنا من الغد على مثل تلك الحال فما خرجنا من آثار البناء إلّا نحو الظهر ، ولا شكّ أنّ طول البناء كان أكثر من ثمانية فراسخ.

كلام ابن المعتز في انحلال سامرّاء

قال في المعجم عند ذكره سامرّاء : كتب عبد الله بن المعتزّ إلى بعض إخوانه يصف سرّ من رأى ويذكر خرابها : كتبت إليك من بلدة قد أنهض الدهر سكّانها وأقعد جدرانها ، فشاهد اليأس فيها ينطق ، وحبل الرجاء فيها يقصر ، فكأنّ عمرانها يطوى ، وكأنّ خرابها ينشر ، وكلفت إلى الهجر نواحيها ، واستحثّ باقيها إلى فانيها ، وقد تمزّقت بأهلها الديار ، فما يجب فيها حقّ الجوار ، فالظا عن منها ممحوّ الأثر ، والمقيم بها على طرف السفر ، نهاره أرجاف (١) ، وسروره أحلام (٢) ، ليس له زاد فيرحل ، ولا مرعى فيرتع ، فحالها تصف للعيون الشكوى ، وتشير إلى ذمّ الدنيا بعد ما كانت بالمرأى القريب جنّة الأرض ، وقرار الملك ، تفيض بالجنود أقطارها ؛ عليهم أردية السيوف (٣) وغلائل الحديد ، كأنّ رماحهم قرون الوعول ، ودروعهم زبد السيول ، على خيل تأكل الأرض بحوافرها ، وتمدّ بالنقع سائرها ، قد نشرت في وجوهها غررا كأنّها صحائف البرق ، وأمسكها تحجيل كأسورة اللجين ،

__________________

(١) الاضطراب والتزلزل.

(٢) لا يرى السرور إلّا في النوم.

(٣) بطائن تلبس تحت الدرع ويطلق على الدروع أيضا.

١٧٧

ونيطت (١) عذارا كالشنوف (٢) في جيش يتلقف لأعدائه أوائله ، ولم ينهض أواخره ، وقد صبّ عليه وقار الصبر ، وهبّت له روائح النصر ، يصرفه ملك يملأ العين جمالا والقلوب جلالا ، والناس في دهر غافل ، قد اطمأنّت بهم سيره ، والدهر يسير بالمقيم ، يمزج البؤس بالنعيم ، وبعد اللجاجة انتهاء والهمّ إلى فرج ، ولكلّ سائلة قرار ، وبالله أستعين ومحمود على كلّ حال.

قال : وكان ابن المعتزّ مجتازا بسامرّاء متأسّفا عليها وله فيها كلام منثور ومنظوم في وصفها. ولمّا استدبر أمرها جعلت تنقض وتحمل أنقاضها إلى بغداد ويعمر بها. فقال ابن المعتزّ :

قد أقفرت سرّ من رأى

وما لشيء دوام

فالنقض يحمل منها

كأنّها آجام

ماتت كما مات فيل

تسلّ منه العظام

قال : وحدّثني بعض الأصدقاء قال : اجتزت بسامرّاء فرأيت على وجه حائط من حيطانها الخراب مكتوب :

حكم الضيوف بهذا الربع أنفذ من

حكم الخلائف آبائي على الأمم

وكلّ ما فيه مبذول لطارقه

ولا زمام به إلّا على الحرم

وقال ابن المعتزّ :

غدت سرّ من رأ في العفاء فيالها

«قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل»

وأصبح أهلوها شبيها بحالها

«لما نسجتها من جنوب وشمأل»

إذا أمروا منهم شكا سوء حاله

«يقولون لا تهلك أسى وتجمّل»

__________________

(١) من ناط ينوط نوطا أي علقة.

(٢) بالكسر من اللجام ما سال على خدّ الفرس. والشنوف جمع شنف وهو القرط.

١٧٨

ونقل عن كشكول شيخنا البهائي قدس‌سره أنّه قال : ولقد أخبرني بعض الفضلاء أنّه رأى في مجموع أنّ بعض الأدباء اجتاز بدار الشريف الرضي مؤلّف نهج البلاغة رحمه‌الله بسامرّاء وهو لا يعرفها ، وقد أخنى عليها الزمان ، وذهبت بهجتها وخلقت ديباجتها ، وبقايا رسومها تشهد لها بالنضارة ، وحسن البشارة ، فوقف عليها متعجّبا من صروف الزمان ، وطوارق الحدثان ، وتمثّل بقول الشريف الرضي :

ولقد وقفت على ربوعهم

وطلولها بيد البلا نهب

فبكيت حتّى ضجّ من لغب

نضوى ولجّ بعذلي الركب

وتلفّتت عنّي فمذ خفيت

عنّي الديار تلفّت القلب

فقيل له : هل تعرف صاحب هذه الدار؟ قال : لا. قال : هو لصاحب هذه الأبيات.

نقل هذه الحكاية السيّد العلّامة محمّد باقر الخوانساري في روضات الجنّات وقال : اجتاز بدار الشريف ببغداد .. الخ. وهو أقرب إلى الصحّة لأنّه قدس‌سره لم يعهد له دار بسامرّاء لأنّه ولد سنة تسع وخمسين وثلاث مائة وخربت سامرّاء في سنة تسع وسبعين ومائتين ، والله تعالى أعلم.

سبب انحلال سامرّاء وخرابها

جاء في كتاب الآثار العراقيّة القديمة (١) ذكر مقالة تحت عنوان «قصّة سامرّاء» ننقل النقاط الرئيسيّة منها التي تناسب المقام.

قال : قصّة مدينة سامرّاء من أغرب وأمنع قصص المدن في التاريخ ؛ قطعة أرض قفراء على ضفة مرتفعة من نهر دجلة ، لا عمارة فيها ولا أنيس بها إلّا دير

__________________

(١) الآثار العراقيّة القديمة : ٢٩.

١٧٩

النصارى ، تتحوّل في مثل لمح البصر إلى مدينة كبيرة لتكون عاصمة لدولة من أعظم الدول التي عرفها التاريخ في دور من ألمع أدوار سؤددها ، تنمو هذه المدينة الجديدة وتزدهر بسرعة هائلة لم ير التاريخ مثلها في جميع القرون السالفة ولم يذكر ما يماثلها بعض المماثلة إلّا في القرن الأخير في بعض المدن التي نشأت تحت ظروف خاصّة في بعض الأقسام من العالم الجديد ، غير أنّ هذا الازدهار العجيب لم يستمرّ مدّة طويلة ؛ لأنّ المدينة تفقد صفة العاصمة التي كانت علّة وجودها وعامل كيانها قبل أن يمضي نصف قرن على نشأتها ، فتأخذ في الاقفرار والاندراس بسرعة هائلة لا تضاهيها سرعة ، وبعد أن كان الناس يسمّونها باسم سرّ من رأى أضحوا يسمّونها ساء من رأى ، وبعد أن كان الشعراء يتسابقون في مدح قصورها أخذوا يسترسلون في رثاء أطلالها.

وفي الواقع ماتت سامرّاء ميتة فجائيّة بعد عمر قصير لم يبلغ نصف القرن ، وأمست رموسا وأطلالها هائلة تمتدّ اليوم أمام أنظار الزائر ، وتتوالى تحت أقدام المسافر ، إلى أبعاد شاسعة لا يقلّ امتدادها عن الخمسة وثلاثين من الكيلومترات ، وعندما يتجوّل المرأ بين هذه الأطلال المترامية الأطراف ويتأمّل في السرعة العظيمة التي امتاز بها تأسيس مدينة سامرّاء وتوسّعها من جهة واقفرارها من جهة أخرى لا يتمالك نفسه من التساؤل عن العوامل التي سيطرت على مقدّرات هذه المدينة العظيمة ، وصيّرت قصّة حياتها بهذا الشكل الغريب.

وإنّ العوامل السياسيّة التي لعبت دورا هامّا في هذا المضمار لم تكن كثيرة التعقيد بل إنّها تتجلّى لنا بكلّ وضوح عندما نلقي نظرة عامّة على أهمّ الحوادث التي وقعت في عهود الخلفاء الثمانية الذين توالوا على أريكة الخلافة العبّاسيّة في سامرّاء وإيجاد الخليفة المعتصم ـ وهو ابن هارون الرشيد ـ مشاكل كبيرة في إدارة البلاد فيرى أن يتغلّب عليها باستخدام جيش من الموالي والمماليك فيكثر من شراء الغلمان من بلاد

١٨٠